أرشيف المقالات

الدعاء والذكر (1)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الدعاء والذكر (1)

الدعاء ذِكر، والذِّكر لون من ألوان العبادة التي أمَر الله بها عباده في مُحكم كتابه، فقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال - جل جلاله -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [الأحزاب: 41 - 42].
 
ولقد جعَل الله - تبارك وتعالى - ذِكر الله مُطَمْئِنًا للقلوب، فقال: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
 
وحضَّ عبادَه المؤمنين على الدعاء، ووعَدهم بالإجابة، فقال - سبحانه -: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
 
أمرٌ كريم بالدعاء، ووَعْد سَخِي بالإجابة.
 
وقد ذكَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدعاء هو العبادة، فعن النُّعمان بن بَشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدعاء هو العبادة))، ثم قرَأ - صلى الله عليه وسلم - الآية[1].
 
وقد أمَرنا - جل جلاله - أن ندعوه بأن يُطعمنا ويكسونا، ويَهدينا ويغفر لنا؛ قال الله في الحديث القدسي: "يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديته، فاستَهدوني أهدكم، يا عبادي كلُّكم جائع إلاَّ من أطْعَمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلاَّ مَن كَسوته، فاستَكْسوني أَكْسُكم"[2].
 
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس شيء أكرمَ على الله تعالى من الدعاء))[3].
 
وعنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه من لَم يسأل الله، يغضب عليه))[4].
 
وعن أبي مسعود رفَعه: ((سَلوا الله من فضْله؛ فإن الله يحب أن يُسأل))[5].
 
وللذِّكر والدعاء حِكَمٌ كثيرة، نذكر بعضها فيما يأتي:
1- إحكام الصِّلة بين العبد وربِّه، وهذه الصِّلة تُذكِّر العبد بعبوديَّته لله، وتَربط العبد بخالقه، وتُذكِّره بعَظَمته وقُدرته، كما تُذكِّره بضَعف نفسه، وافتقاره إلى الرحمن الرحيم.
 
ومَن ذكَر بارِئَه وعظَمته وقُدرته، واستحضَر ما أمَرَه به ونهاه عنه، امتثَل أمره ونَهيه، وعَمل ونفَّذ؛ رغبة في أن ينال ما أعدَّ له من الثواب العظيم، وخوفًا من أن يُصيبه العذاب الأليم.
 
ومن هنا كان الأبرار الصالحون في ذِكر الله لا يكفُّون - في يقظة - لحظةً عن ترديد ما ورَد عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - من الذِّكر والدعاء.
 
ألْسِنتهم رَطبة بذكر الله، وقلوبهم مُطمئنَّة بهذا الذكر، مُمتلئة بحبِّ الله، وجوارحهم قائمة بامتثال أمره، وحياتهم كلُّها خاضعة لسلطان شرْعه، وقد جعَل - تبارك وتعالى - ذِكر الله في كل حال صفة أُولِي الألباب، فقال - سبحانه -: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191].
 
2- ومن هذه الحِكم رَبْطُ المسلم بعقيدته، وتذكيره بها، ووقايته من الغفلة، فالأذكار توقِظ في نفس المسلم معنى الانتماء، وتَحميه من أن يَستهلكه الاشتغال بالأموال، ومن الإفراط في ممارسة الشهوات المُباحة من النساء وحبِّ البنين، والرغبة في الحصول على الجاه، ونحو ذلك.
 
من أجْل ذلك دعا المسلم أتباعه إلى ترديد أذكار معيَّنة وأدعية محدَّدة في أوقات مختلفة من الصباح الباكر إلى نهاية يوم الإنسان واستغراقه في النوم.
 
فإذا صحا من نومه ذكر الله، فقال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتَنا وإليه النشور.
 
يذكر بهذا الدعاء فضْل الله عليه أن أحياه بعدما أماتَه، فيَحمده ويُثني عليه، ويذكِّر نفسه بالنهاية المحتومة التي لا مفرَّ منها، أنه سيعود إلى ربِّه بعد الموت، ولا مَلجأ من الله إلا إليه.
 
ويُلازمه الدعاء، فإذا دخَل الخلاء قال ذكرًا معيَّنًا، وإذا ذهَب إلى المسجد قال ذكرًا معينًا، وإذا صلَّى قال أذكارًا يكُرِّرها ويردِّدها مرات عديدة، وإذا خرَج من المسجد قال ذكرًا معينًا، وإذا دخَل البيت قال ذكرًا معينًا، وإذا أرادَ الطعام قال ذِكرًا معينًا، وإذا رَكِب الدابَّة قال ذكرًا معيَّنًا، وإذا أمسى قال ذكرًا معينًا، وهكذا حتى يعود إلى بيته، ويأوي إلى فراشه.
 
وقد شرَع له أذكارًا يقولها في أحوال خاصة[6].
 
إنَّ في هذا تذكيرًا له بدينه ومثله.
 
3- ومن هذه الحِكم توفير الغذاء الضروري للرُّوح؛ ذلك لأن الإسلام يرعى في تربية الإنسان الجانب الرُّوحي ويهتم به، كما يرعى الجانب المادي ويهتم به، فالذكر يجعل النفس مستريحة مُشرقة، والقلب صافيًا مُطمئنًّا، ويجعل المسلم ثابتًا أمام العواصف، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الذكر يصله بالله، ويَجعله معه في خطاب لذيذ مُبهج سعيد.
 
وإن كان الذكر والدعاء بحضور قلبٍ وتدبُّر فكرٍ، أورَث صاحبه إخباتًا وخشوعًا، وتذلُّلاً إلى الله وخضوعًا، والتزامًا بأحكام دينه في حياته كلها.
 
4- ومن هذه الحِكم: إراحة المظلوم، والتفريج عن المكروب، ومواساة البائس،؛ ذلك لأنَّ المظلوم يشعر براحة عندما يشكو أمرَه إلى الله، وعندما يدعو على أولئك الذين ظلَموه وعلى الآخرين الذين الْتَجَأ إليهم، فلم يُنصفوه ولَم ينصروه وهم قادرون؛ لأنه يعلم أنَّ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وأنها مستجابة؛ إنه يغدو بعد دعائه مُطمئنًّا إلى نُصرة الله ومعونته.
 
وللبحث صلة.



[1] رواه أبو داود برقْم 1974، والترمذي: "صحيح الترمذي؛ للألباني برقْم 2685"، وابن ماجه 3827، والحاكم 1/ 491، وأخرج الترمذي عن أنس رفعه: ((الدعاء مخُّ العبادة)).


[2] رواه مسلم برقْم 2577، والترمذي 2495، وابن ماجه 4257.


[3] رواه الترمذي برقْم 3370، وابن ماجه 3829، وأحمد 2/ 362، والحاكم 1/490.


[4] رواه الترمذي برقْم 3373.


[5] رواه الترمذي برقْم 3571.


[6] انظر: نصوص هذه الأدعية في كتب الأذكار، ومن أشهرها كتاب الإمام النووي "الأذكار"، وسنعرض لذكر المؤلَّفات في هذه الباب - إن شاء الله تعالى.

شارك الخبر

المرئيات-١