الفتور أسبابه ومظاهره وعلاجه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان طاقة عظيمة، يستطيع بها تذليل الصعاب وتحقيق المهام، وهذه الطاقة إما أن تكون عامل بناء وإما أن تكون عامل هدم، فإذا استغلها الإنسان فيما خلقت من أجله كانت عامل بناء، فإذا كان الإنسان يعلم أن ما آتاه الله من قوة هو من نعمة الله عليه، وينبغي أن يصرفه في مرضاة الله الذي خلقه وفيما شرع الله له، فيبني مستقبله وحياته؛ فهو في هذه الحياة سعيد؛ لأنه أدى المهمة التي من أجلها ابتعث إلى الأرض وأنزل إليها، وهو في الآخرة سعيد؛ لأنه قدم لنفسه ما يرضيه ويرجح حسناته عند العرض على الله، وعند وزن الأعمال في ميزان القسط، وإذا أهمل هذه الطاقة فلم يستغلها كان من الخاسرين المغبونين، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ ).

وإذا استغلها في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى فإنه بذلك يكون من الغاوين، الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم، وخصهم بأنواع الفضل؛ فصرفوه في عداواته، ولا يضرون إلا أنفسهم، وهم الأشقياء في الحياة الدنيا؛ لأنهم يعالجون ما يغلبهم، فهم بذلك يعادون قدرة الله القدير، العليم، المهيمن، الجبار، ولا يمكن أن يغير أحد شيئاً من قضائه وقدره، فأمره نافذ وسلطته دائمة، وهم بذلك أشقياء في الآخرة أيضاً؛ لأنهم سيجدون سيئاتهم أرجح من حسناتهم عند الوزن وعند العرض على الله سبحانه وتعالى.

إذا عرف الإنسان هذا وآمن به فإن عليه أن يراجع مسيرته في هذه الحياة، وعمله فيها حتى يقوم سلوكه وأداءه، هل هو من الذين يستغلون الطاقات التي أودعها الله تعالى، أو ليس ممن يستغلونها؟ وإذا كان من المستغلين لها فهل هو ممن يستغلها في الخير، أو هو ممن يستغلها في الشر؟ لا بد أن يقوم الإنسان سلوكه وأداءه بناءً على هذه المعايير الواضحة وهذا الميزان الفاصل.

وإذا وفق الإنسان لهذا التقويم فسيجد أن كثيراً من المنعرجات في حياته تشكك، فقد يكون الإنسان في بعض الأوقات من المستغلين لها في الطاعة، وقد يكون في بعضها من المستغلين لها في المعصية، وقد يكون في بعض الأوقات من المعطلين لها الذين لا يستغلونها، وهذه المنعرجات في طريق الإنسان وحياته تؤثر فيها عوامل داخليه، وعوامل خارجية؛ فيحتاج الإنسان إلى التطلع لها ومعرفتها للنجاة من غوائلها، فالإنسان يسير في طريق محفوف بالمخاطر والأشواك، وهو محتاج إلى ما يعينه في طريقه، وما يقوم سلوكه ويمنعه من الانحراف عن هذا الصراط الدنيوي، الذي هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الدنيوي المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والصراط الأخروي ( جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، فناج مسلم ، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم )، لكنه بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، وبقدر نجاته من هذه الغوائل والعقبات تكون نجاته كذلك من عقبات الصراط وكلاليبه يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن للصراط نكبات كشوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ ) فهذه النكبات يمكن أن يكون مثالها ما يحصل للإنسان من انحرافات في حياته، وانزلاقات بسبب هذه العوامل التي بعضها داخلي في نفسه، وبعضها خارجي بمحيطه.

من النكبات التي تصيب الإنسان السائر على طريق الحق بعد أن يتوجه إلى الله وبعد أن يعرف طريق الاستقامة نكبة تسمى (الفتور)، وهذه النكبة لا بد من التفصيل فيها لكثرة انتشارها فقد أصبحت ظاهرة لدى الناس، منتشرة في سلوكهم وحياتهم، فكثير من الناس يظن أن الفتور معناه استغلال الطاقة وانتهاؤها وهذا يقع في أمور الدنيا وأمور الدين، وحينئذ الإنسان معذور لأنه كالعلبة التي فتحت فاستغل ما فيها ثم رميت في القمامة بعد ذلك، لكن هذا غير صحيح؛ لأن الواقع أن للإنسان مادة تزيد نشاطه وطاقته، فكلما استغل شيء من الطاقة كلما ازداد.

كما قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، فليس الإنسان كعلبة اللبن أو الماء التي يستغل الإنسان ما فيها ثم يرميها في القمامة، بل له مادة يزيد بها، وهذه المادة وقودها إيمانه، ودافعها عقيدته، فإذا كان مؤمناً بالله تعالى مخلصاً له؛ فهذا الإيمان يربو بأصحابه وينتفع به في حال الحياة وفي حال الممات، ففي حال الحياة خص الله المؤمنين بنوعين من أنواع القدر، هما أعظمه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! كل أمر المؤمن له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، نوعان من أنواع القدر: القدر الحلو، والقدر المر، مختصان بالمؤمنين ( وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).

وبهذا يستطيع الإنسان أن يتغلب على كل النوازع؛ لأن ما يصيبه في هذه الحياة إما أن يكون موافقاً، وإما أن يكون مما يخالفه؛ فإن كان مما يوافق هواه فلا بد أن يشكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن إيمانه يقتضي منه ذلك، وإن كان مما يخالف هواه فلا بد أن يصبر لله؛ لأن إيمانه يقتضي منه ذلك، ومن هنا فهو سعيد على كلا الاحتمالين يعلم أن الجميع من عند الله؛ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7]، فهو يرحب به ويحبه غاية المحبة، لا يمكن أن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، وهو مؤمن أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ويعلم أنما قد قدر عليه قد كتب قبل ميلاده وأثبت في أم الكتاب لا محو فيها ولا تبديل؛ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].

وهو بذلك ينظر إلى ما يتعاقب عليه من الأمور على أنها من قدر الله فهي تزيده إيماناً ويقيناً، فتقلب الليل والنهار مذكر له، وتقلب السراء والضراء مذكر له، وتقلب الصحة والمرض مذكر له، وتقلب الحياة والموت مذكر له؛ فكل ذلك أحوال تعتريه وهو يعلم أنها في طريقه مذكرة له بالله، دافعة له إلى الازدياد من الإيمان والتقوى والإخلاص.

كذلك في أمور الدنيا هو أيضاً ذو مادة تزيده وهي شكره لله تعالى؛ لأن ما يناله في هذه الحياة الدنيا من الطاقات سواءً كان ذلك سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو جوارح أو تفكيراً يعلم أنها نعم تتصبب عليه من عند الملك الديان سبحانه وتعالى، فهو يشكرها لله تعالى حق الشكر فتزداد على الشكر، فنعم الله تعالى صابغة وهي تزداد على الشكر، كلما شكر الإنسان ازدادت النعم؛ ولذلك لا يستطيع الإنسان أن يحصرها بالعد؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53].

ثم إن المؤمن على هذا الوجه دافعه للاستمرار هو عقيدته؛ لأنه يفرق بين القدر والشرع؛ فيعلم أن القدر خطاب من عند الله وعلم من علمه، تعبدنا بجهله ولم يكلفنا به وهو نافذ ماضي لا نستطيع نحن تغيير شيء منه، وأما الشرع فهو خطاب من عند الله وعلم من علمه تعبدنا بعلمه وكلفنا به؛ فالتكليف في الشرع لا في القدر والقدر يجب الإيمان به لكن لا يجب العمل به؛ لأنه مجهول بالنسبة للإنسان، والشرع وجب الإيمان به والعمل به أيضاً على مقتضى ما علمه الإنسان منه، ومن هنا فإنه يعمل على مقتضى الشرع وينتظر القدر، أما الإنسان الذي لا يعمل للموت في حياته ويعطل أعماله؛ لأنه يعتمد على سابقة القدر وما كتب فذلك دليل على الخذلان وسوء الخاتمة، بل لا بد أن يعمل على مقتضى الشرع؛ فهو يصلي ويصوم، ويذكر الله ويقرأ القرآن، ويباشر أعماله الدنيوية، ويؤدي الحقوق التي عليه وهو مع ذلك ينتظر قدر الله، ويعلم أن الموت آت لا محالة، وأن العرض على الله قريب، وكل جمعة ينتظر قيام الساعة ويعلم أنها أدهى وأمر، وينتظر خروج المسيح الدجال ويعلم أنه شر غائب ينتظر، وبذلك يكون مراقباً للقدر مراقبة انتظار، ومراقب للشرع مراقبة عمل؛ فينتظر أن يسمع منادي الله إلى الصلاة، يقول: حي على الصلاة.. حي على الفلاح؛قدر مراقبة أنتظار لدجال فيبادر ليكون من الصف الأول، وإن فاته كان من الصف الثاني وهكذا، وينتظر أيضاً أوقات العبادات الأخرى كل ما حان وقت شغله فيما فرض عليه في ذلك الوقت أو سن له أو ندب، ويراقب أيضاً نواهي الله، فكل ما عرضت عليه نفسه أو شيطانه أو إخوانه منهي من مناهي الله اجتنبه وابتعد منه وسد الباب دونه بالكلية، وإن استزله الشيطان فوقع في شيء من ذلك كان من المبادرين إلى التوبة المسارعين إليها قبل أن يسخط الله عليه؛ وبهذا فإن عقيدة المسلم هذه هي وقود له ودافع على الاستمرار في عمله، سواءً كان ذلك العمل عمل دنيوي أو أخروي.

إن من نقص إيمانه فإنه لا يجد الدافع ولا الوقود؛ فالدافع أولاً منتقص لديه لا يجد ما يقدمه عن مكانه فهو في مكانه، إنما يتعود على عادات يرثها عن الناس لا يعرف له مدلولاً ولا معنىً، رأى الناس يصلون فحاكاهم في الصلاة، ورآهم يجمعون الدنيا فجمعها كما يجمعون، ومن هنا لا يميز بين الصحيح من الصلاة والباطل، ولا يميز بين الحلال من الكسب والحرام؛ فهو سائر في ذلك الطريق تقليداً، ويوشك إذا سأله الملائكة في قبره أن يقول: ( ها.. ها! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )، وليس له وقود في طريقه؛ لأنه يباشر عمله الدنيوي لمجرد تقليد؛ فهو لا يدرك معناه ولا قيمته، فيعمل حتى إذا تعب توقف، وإذا انسد الأفق أمامه في باب من الأبواب تراجع ولام نفسه، وجعل ذلك مصيبة يحملها هماً على نفسه بخلاف ما سبق للمؤمن؛ فإنه إذا أصابه مصيبة صبر فكان خيراً له.

وكذلك فإن ناقص الإيمان في هذا الباب أيضاً عرضة للاعتراض على الله سبحانه وتعالى؛ لأن عقيدته ضعيفة، فإذا أصيب بمرض في بدنه، ونقص في رزقه، أو أي عارض من هذه العوارض المتعاقبة لم يجعل ذلك مذكراً بالله بل جعله اعتراضاً على الله في قدره وانتقاداً لحكمه، نسأل الله السلامة والعافية! وهو بذلك لا يضر إلا نفسه؛ لأن القدر ماضي وأمر الله لا معقب له؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

ومن هنا فالأعراض التي تصيبه كثيرة فهو في هم وغم؛ لإصابته بالحسد مثلاً، فهو حسود كل ما رأى نعمة من نعم الله على عبد من عباد الله أصيب بالغم؛ لأنه يحسد الآخرين على نعم الله عليهم، وبذلك يعيش في الهم والغم الدائم؛ لأن نعمة الله سابغة لا نهاية لها؛ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:20]، وكذلك هو في هم وغم من أمور الدنيا كلما فسد شيء من أعراضها أو أصيب بنكبة فيها فسرق له متاع أو ضاع منه شيء أو فشل مشروع من مشروع حياته أو فقد وظيفة أو مالاً جعل ذلك هماً عظيماً، وشعر به، فهو يشعر بمصائبه الدنيوية فيحملها هماً وغماً، ويعيش بها كدراً في هذه الحياة ومشقة واعتراضاً، ولا يشعر كثيراً بمصائبه الدينية، فإذا تخلف عن الصلاة ففاتته أربع ركعات لم يشعر بهذه المصيبة، وإذا تصرف على غير علم وهي مصيبة دينية عظمى لم يشعر بها، وقد قال أحد الحكماء:

ذهب الرجال المرتجى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر

وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور

أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر

فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر

فيحتاج الإنسان إذاً إلى معرفة حاله وقياسه، وإذا استمعنا جيداً إلى مظاهر هذا المرض الذي هو الفتور، فكل واحد منا بالإمكان أن يقيم فحصاً لنفسه هل هو مصاب بهذا المرض أو غير مصاب به، ثم بعد ذلك ينبغي أن نستمع أيضاً إلى مخاطره والتنفير منه وذكر ضرره، ثم ينبغي بعد هذا أن نتعلم أشفيته وما يتعلق بعلاجه؛ ليكون ذلك معيناً لمن اكتشف منا هذا المرض في نفسه قبل أن يتفاقم ويزداد.

إن مظاهر هذا المرض كثيرة فمنها:

التذبذب بين الطاعة والمعصية

أن يكون الإنسان في فترات يقبل على الله سبحانه وتعالى ويزداد من الطاعات، ثم يتراجع بعد الطاعة إلى المعصية فيكون متذبذباً، وليس ثابتاً في مستوى إيماني يسمح له بالاستمرار والزيادة، بل هو مذبذب، هو مع المصلين في المسجد وهو مع المرابين في السوق، هو مع الذاكرين الله تعالى أو الحاضرين للدرس في وقت الدرس ولكنه مع ذلك مع الفاشلين المفسدين لأوقاتهم وأعمارهم في غير طاعة الله في وقت آخر، وهذا المظهر بلية عظيمة ووصف من أوصاف المنافقين فقد قال الله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[النساء:143].

وكذلك من مظاهر هذا التذبذب أن يكون الإنسان في رمضان من المحافظين على أداء الصلاة في جماعة ومن المحافظين على قيام الليل، فإذا خرج رمضان كأنه لا يعرف الله إلا فيه؛ فانقطع عن ذلك وتراجع عما كان عليه.

وكذلك من مظاهر هذا أن يجد الإنسان نفسه منقادة في أوقات ما إلى بعض الطاعات ويجدها كسلى عن ذلك في أوقات أخرى؛ فيبدأ مثلاً مشروعاً علمياً في علم من العلوم وسرعان ما ينافس الطالبين الجادين في ذلك، ثم ينكفئ يعد ذلك على أعقابه وينقطع بالكلية، فمن رآه في وقت شرته وإقباله يقول: هذا طالب علم جاد، وإذا رآه في المقابل قال: هذا بهيمة لم يخطر طلب العلم على قلبه قط، فهو معرض عن ذلك بالكلية لا يسأل عنه ولا يبالي به باله.

الانقطاع عما اعتاده من أعمال البر

ومن مظاهر الفتور كذلك: الانقطاع عما تعوده الإنسان من أعمال البر، فالإنسان إذا تعود عادة من أعمال البر ينبغي أن يحافظ عليها؛ لأنها مستوى من العلاقة بالله وصل إليها ووفق إليها، فينبغي ألا يقطعه لأي سبب من الأسباب، ولذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حصلت قضية الإفك ونقل الكلام فيها عن مسطح وهو قريب له كان ينفق عليه، وهو من فقراء المهاجرين، تألى أبو بكر ، أي: أقسم على ألا ينفق على مسطح بعد ذلك اليوم؛ فعاتبة الله على ذلك في القرآن فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22]، فقال أبو بكر : (بلى أنا أحب أن يغفر الله لي) فكفر عن يمينه وأعاد النفقة إلى مسطح كما كان ينفق عليه.

فلا بد أن يستشعر المسلم أنه إذا وصل إلى طاعة من الطاعات ووفق لها ينبغي أن يجعلها عادة دائمة، فهي علاقة بينه وبين الله لا ينبغي أن يقطعها لوجه من الوجوه؛ ولذلك فإن الأسوة والقدوة محمد صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، إذا عمل طاعة في وقت من الأوقات لم يتركها، وبين لنا أهمية الدوام على الطاعة فقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها)، وقال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، فالعمل الدائم ولو كان قليلاً أحب إلى الله؛ لأنه علاقة مستمرة بين الله وبين عبده لا تنقطع، بخلاف العمل المتقطع ولو كان كثيراً؛ فإن صاحبه في وقته قطع أشواطاً في الإيمان ثم تراجع بعد ذلك على أعقابه بترك هذا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله بن عمر قيام الليل بعد )، وقال: ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم.

فلذلك لا بد أن يعلم الإنسان أن كل طاعة وفق لها في علاقته بالله عز وجل ينبغي أن يحافظ عليها غاية المحافظة، إن أي إنسان اكتسب صديقاً وفياً صالحاً ينبغي أن يحافظ على علاقته به، وإذا كان هو من أهل الرشد فسيحافظ على تلك العلاقة ولا يمكن أن يقطعها، والعمل الصالح هو الصديق الوفي؛ لأنه المستمر مع الإنسان في حياته وبعد مماته، وهو رفيقه في غربته ووحشته في القبر، ( يأتيه في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول: أبشر بخير؛ فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنسك في غربتك )، فلذلك ينبغي للإنسان أن يحافظ على هذا العمل الصالح الذي هو أنيسه في غربته، وصاحبه في وحشته، فلا ينبغي أن يقطع منه شيئاً بعد أن وفق له، ومن ذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا وفق الإنسان لشيء منها فينبغي أن يجعله ديمة، وألا ينقطع عنه إلا مكرهاً، وأن يحافظ عليه بكل وجه يستطيع المحافظة عليه به، وانقطاعه عن ذلك بعد أن وصل إلى هذا المقام إنما هو تراجع مضر بإيمانه، ومضر بنعمة الله عليه التي قيدها شكرها وشكرها هو صرفها في مرضات الله.

استعجال قطف الثمار

وكذلك من مظاهر الفتور: الاستعجال، بأن يكون الإنسان يريد اقتطاف الثمار عاجلاً؛ فكلما بدأ مشروعاً ولم تظهر له نتيجة عاجلة فيه تركه وذهب إلى مشروع آخر، كالذي يطلب باباً من أبواب العلم فيفتتح ذلك الباب ثم سرعان ما يتركه ويذهب إلى باب آخر، أو يجلس للطلب على عالم من العلماء أو مكان من أمكنة العلم ثم ينتقل عنه إلى مكان آخر، فلا يزال متنقلاً يضيع أوقاته في غير طائل، فهذا من المستعجلين الذين يريدون قطف الثمرة قبل أن يبدو صلاحها؛ فلذلك يصابون بالدمان، وهو الآفة التي تصيب الثمرة قبل بدو صلاحها.

وهذا النوع من الناس يتذبذبون أيضاً حتى في أمور الدنيا؛ فيشتغلون بنوع من المكاسب ولكنهم يردون المتجر الرابح الذي لا تبور تجارته أبداً، وفيه الأرباح الطائلة؛ فلذلك إذا رأوا صاحب تجارة قد اكتسب منها مكاسب وهم يعلمون أنها بقدر الله ورزقه كان ذلك سبب منهم للتخلص مما معهم والذهاب إلى الباب الذي فتحه ذلك الشخص ومحاكاته فيه، ثم إذا لم ينجحوا فيه تحولوا أيضاً إلى باب آخر.. وهكذا فلا يستقرون على حال من الأحوال.

حصول الإعياء عند أداء العمل

كذلك من مظاهر هذا الفتور ما يجده الإنسان من الأعياء عند أداء العمل؛ فالمؤمن الصادق غير المصاب بهذا المرض إذا أنتهى من عبادة من العبادات أو عمل من الأعمال بدأ علم أخر وكان ذلك العمل السابق عوناً له على استئناف عمله الجديد كما قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8]، إذا فرغت، أي: من عبادة من العبادات؛ فانصب، أي: ابتدئ عبادة أخرى، وبذلك فحالهم كحال المصلي، إذا أكمل ركعة زادت الركعة التي بعدها حسناً، إلى أن يسلم، فالصلاة أيضاً بعدها الذكر، فكل ذكر عون على الذكر الذي بعدة إلى أن يكمل أذكار ما بعد الصلاة وهكذا.

فهذا النوع من المستمرين على الطاعات يجدون لذة الطاعة ويجعلون الطاعة عوناً على التي بعدها، فكلما ازدادوا إقبالاً على الطاعة ازدادوا سرعة في الاستمرار، كحال سائق السيارة فإن بداية انطلاقه يكون على السرعة البطيئة، ثم على التي فوقها، ثم على الثالثة، ثم يصل إلى الرابعة، ثم إلى الخامسة حيث تخف السيارة وتهون مؤنتها ويسهل عليه الانطلاق بسرعة هائلة؛ فكذلك من لا يجد الفتور، وإن بدأ نشاطه ضعيفاً في البداية فسيعينه جده وتشميره، وإخلاصه لزيادة ذلك النشاط والإقبال فيه، ومن هنا فهو كالصاعد في السلم كلما صعد درجة زادته تجربة ومهارة، فيرتقي إلى التي فوقها بنشاط أكثر من نشاطه عند الدرجات الأولى من السلم.

تغير الإنسان بسبب تغير أحواله

كذلك من مظاهر الفتور ما يحصل للإنسان عند ما يتغير شيء من أحواله التي كان يعيش فيها من التراجع فإذا كان الإنسان طالباً من الطلاب فكان نشيطاً في عمل من الأعمال عبادة أو دعوة أو غير ذلك، أو حتى في عمل دنيوي؛ فلما تخرج وأصبح طالباً للعمل وجد نفسه في بيئة مختلفة عن بيئة الطلاب فتراجع عما كان عليه، وبدأ يترك ما كان يقوم به، وإذا توظف أيضاً وجد نفسه في بيئة مغايرة لبيئته السابقة فاختل نظام عمله، وإذا نقل من مكان إلى مكان في إطار عمله تغير حاله، ومثل ذلك من تتبدل عليه الصحبة فهو مع هذه الصحبة التي يألفها وتألفه من الصالحين المحافظين على قيام الليل وصيام النفل، والذكر وختم القرآن، والدعوة إلى الله تعالى، فإذا تبدلت عليه هذه الصحبة وانتقل من مكان إلى مكان أو فقد من كان يذكره ويساعده؛ وجد نفسه متراجعاً منطوياً على نفسه، لا يقدم ولا يؤخر، وهذا الشخص سيكون حينئذ عبد العصا، يحتاج إلى أن ترفع العصى على رأسه في كل الأمور، وبئس هو حينئذ؛ لأنه يحتاج إلى المتابعة في كل الأحيان، ومن المعلوم لدى أهل الإدارة أن ذي الطاقة الناجحة لا يحتاج إلى المتابعة؛ لأن المتابعة جهد متكرر، فما تنتجه أنت بالمتابعة ليس عملك وحدك بل هو عملك وعمل مديرك الذي يتابعك، بخلاف من يغني عن المتابعة إذا وكل إليه شيء قام به على أحسن الوجوه، فقد وفر لنا جهداً من كان سيتابعه ويديره؛ ولذلك يقول الحكيم:

لعمرك ما إن أبو مالك بواه ولا بضعيف قواه

ولا بألد له لوثة يعادي أخاه إذا ما نهاه

ولكنه هين لين كعالية الرمح سهل مطاه

إذا سسته سست مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه

أي: إذا وكل إليه شيء قام به على أحسن الوجوه، وكما قال الآخر:

فتى قُدّ قَدّ السيف لا متضائل ولا رهل لباته وبآدله

يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهو حامله

إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله

فالنوع الأول من الناس الذين لا يغنون عن المتابعة حالهم حال الذي يقول فيه الشاعر:

فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة

فلا هو يزيد بل هو عناء، ومشقة وبالأخص في أوقات الانشغال؛ لأنهم يجدونه عناءً وكلاً عليهم، يحملونه معهم، فإذا كان الإنسان عني عن المتابعة فيوكل إليه أمر نفسه ويعلم أنه سينجز إضافة إلى ذلك أكثر مما يتوقع؛ وبهذا لا يمكن أن يحتاج إلى راع ولا مقوم، فهو يؤدي عمله على أحسن الوجوه؛ لأنه قد رآه من قبل.

والتواكل أو انتظار الأمر والمقارنة بين الأخذ والعطاء صفة ذميمة، فالإنسان الذي يقول: ما علمت هذا، أو لا أستطيع أن أفعل حتى أأمر، أو أحتاج إلى موجه، مثله مثل الصبي الذي تضع له أمه اللقمة في فيه، ولكنه لا يستطيع مضغها حتى تعلمه المضغ، ماذا يفعل بعد ذلك؟ هل يحتاج أيضاً إلى تعليم الابتلاع؟! إن الإنسان فعلاً يمكن أن يتردد حتى يرى الطريق، لكن إذا رأى الطريق ينبغي أن ينطلق ويتوكل على الله ولا يحتاج حينئذ إلى متابع، ولا من يقوم له خطواته ويريه أين يضع رجله، بل عليه أن يتوكل على الله وينطلق ويبدع في طريقه.

التردد وعدم الثقة بالنفس

كذلك فإن من مظاهر الفتور التردد وعدم الثقة بالنفس أو بالآخرين، فالإنسان المتردد في الأعمال الذي لا يقدم على خطوة إلى بعد كثير من التردد حتى يفوت الأوان هذا مصاب بمرض الفتور؛ لأنه قد جرب تجارب فاشلة فظن كل التجارب كذلك، والإنسان الذي لا يستفيد من التجارب ولا يجعلها عوناً له على الاستمرار لا يمكن أن ينجح في هذه الحياة؛ لأن مبناها على التجارب الفاشلة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).

ومن هنا يحتاج الإنسان إلى كثير من التجارب الفاشلة وهي التي تعينه وتقويه، وقد ذكرت لكم من قبل أن الله تعالى ضرب مثلاً لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل وهذا المثل عجيب جداً فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ[الفتح:29]، فالسنبلة التي تحمل الحبة ضعيفة نحيفة تفيئها الريح أينما تفيأت، وتحتاج إلى داعم لها ومساند لها من كل وجه فيخرج الشطء في أطرافها وجوانبها، وهو سنابل لا تحمل حباً ولكنها تتولى الضربات وتتحملها، وكذلك تنشغل بها الطفيليات فلا تصل إلى السنبلة التي تحمل الحب، وتقوي جذع السنبلة التي تحمل الحب؛ فلا تكسره الرياح، ومن هنا فالتجارب الفاشلة هي وقاية للتجربة ناجحة، وأهل الهمم كلما جربوا تجربة زادتهم عزيمة وقوة إلى الأمام، ولذلك فإن العلامة المختار ... رحمه الله، لما درس الآجرومية فقرأها من أولها إلى آخرها المرة الأولى فلم يفهمها والمرة الثانية فلم يفهمها خرج كئيباً حزيناً، فجلس تحت ظل شجرة فرأى نملة تصعد محاولة الوصول إلى قطعة صغيرة من الشحم على عود، فصعدت وسقطت، ثم صعدت مرة أخرى وسقطت، ثم في الثالثة، والرابعة، والخامسة، وفي السابعة وصلت؛ فقال: لن تكون هذه النملة أقوى همة مني! فاستمر في مشروعه حتى أصبح علم هذه البلاد وخليفة سيبويه فيها في النحو والصرف.

وكذلك فإن العلامة ابن عبد الودود رحمه الله تعالى لما خرج مع الشيخ محمد بن محمد سالم رحمهم الله وأولاده لطلب العلم اتجهوا إلى الشمال وانطلقوا في منتجعهم، وهم أهل بادية يسرعون بشد السير وليس له هو ما يركبه، فانطلق على آثارهم فانقطع عنه الركب، وحال بينه وبينهم الآل وشدة الحر، وليس له زاد ولا شراب فرأى إبلاً من بعيد، وقد كاد يسقط من العطش، فاتجه إليها فوجدها إبلاً لقوم آخرين، ليسوا من جنس مشايخه ولا بهم رأفة ولا رحمة على هذا الطالب الغريب؛ فاضطر لمحاذاة هذه الأبل فسار معهم وقد آذوه إيذاءً شديداً، فنزلوا على بئر في آخر الليل يسقون منها إبلهم، فجلس هو وقد أعيا غاية الإعياء وسقطت أظافره من شدة ما لقي من الحجارة ونكبها، فلما جلس أتاه أحدهم فرفسه برجله في خصره، وقال: قم! باشر شيئاً من أعمال السقي؛ فراجع نفسه وقال كلمة حكيمة، قال: (نكس ... الدهر ...)، ومعنى هذه الجملة: أن تقلبات الدهر وما فيه من النكبات تصيب الإنسان العاقل، ولكنها إنما يتراجع أمامها من كان ضعيف الهمة، فهو لا يمكن أن تضعف همته أمام هذه النكبات، ومن هنا فإنه مصمم على الاستمرار حتى ينال قصده وما يريده.

وكذلك تتكرر هذه التجربة أيضاً مع الشيخ محمد علي رحمة الله عليه في وقت الطلب، كان مع الشيخ ابن عبد الودود وكان في مكان قليل الماء، فبدأ الطلاب يبحثون عن الماء والعشب، فقال الشيخ محمد علي :

يا راجياً من شيخنا نيل المنى لا تعجلن فهاهنا امكث أزمنا

واصبر على قسم المنا فككوثر من دون إدراك المنى قسم المنا

قسم الماء بالمنا، أي: صبه على الحجر حتى يواريه، يفعل هذا في وقت شدة الظمأ للراكبين في المفازة، يقسمون الماء بالمنا، بالمكيال؛ فقال:

واصبر على قسم المنا فككوثر من دون إدراك المنى قسم المنا

إذا كان إدراك المنى يتم نيله بقسم المنا فهو بمثابة الكوثر، ولذلك فقد كان آباؤكم وأسلافكم في هذه البلاد يصبرون على طلب العلم بشكل عجيب جداً؛ فيلقون من المشاق والأسفار والجوع والعطش الشيء الكثير جداً، ومعا ذلك لا يعدون هذا شيئاً في سبيل ما هم بصدده حتى يصلوا إلى أهدافهم، ويحققوا آمالهم، وقبلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا المشارق والمغارب، لا يعتمدون على قوة السلاح ولا على كثرة العدد، وإنما زادهم إيمانهم وتحملهم وصبرهم المشاق، فهم مشمرون كما عودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم أحد وقتل من الصحابة رضوان الله عليهم من قتل، ورجعت قريش وهي تظن أنها قد هزمت المسلمين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يلي أحد في الناس بالغزو في آثار قريش، ونادى مناديه ألا يصحبه إلا من صحبه في الأمس؛ فخرج في أثرهم فارتاع قريش لذلك فعرفوا أن المؤمنين لا تلين لهم قناة، وأن المصيبة لا تزيدهم إلا جلداً وصبراً؛ فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين أن يخرجوا معه في غزوة حمراء الأسد، وأمر ألا يخرج معه إلا من كان خرج معه بالأمس أي يوم أحد، ولم يأذن لأحد تخلف عنه بالأمس إلا لـجابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما وذلك أنه قال له أبوه يوم أحد: يا بني إنما هي جنة؛ فلو كان غير الجنة آثرتك، وإن لنا تسع نسوة - هن أخواته - ولا كاسب لهن غيري ولا غيرك فآثرني بالغزو، فآثر أباه فقتل أبوه يوم أحد شهيداً، فجاء جابر فقال يا رسول الله: لقد علمت ما تخلفت بالأمس إلا لأمر أبي، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه يوم حمراء الأسد؛ فهذا يدلنا على قوة الهمم والمواصلة، كلما جاءت النكبات كلما ازدادت الصلابة والعزيمة.

الانزواء والألم عند حصول الإخفاقات

ومن مظاهر الفتور كذلك ما يحصل للإنسان من الانزواء والانطواء والألم إذا أخفق في أية مهمة يقوم بها، إن من يعتمد على حوله وقوته، وينسى اعتماده على الله وتوكله عليه هو الذي يأسف لهذه المصائب؛ لأنه يظن أنها ضربة لازب، وأنها مستمرة معه؛ لأنه اعتمد على حوله وقوته، وهما ضعيفان لا يمكن أن يؤديا أية مهمة، أما المؤمن الذي يبرأ من حوله وقوته إلى الله تعالى، ويتوكل على الله في كل أموره، ويباشر الأسباب مؤمناً بأنها لا يمكن أن تحقق إلا ما كتبه الله تعالى؛ فإنه لا يصاب بهذا الإحباط ولا بهذا الإخفاق؛ فإذا أصيب بفشل في أية مهمة لم يندم على ذلك، وعلم أن ذلك خير، ومن هنا فهو ينتظر فرصة أخرى ليبدي عملاً أحسن من العمل السابق، وليواصل مشروعه بنفس طموحه مهتماً، ولا يمكن أن يرضى بالتراجع لأتفه الأسباب؛ ولذلك فقد قال أبو العتاهية في مدحه للمهدي خليفة المسلمين:

أتته الخلافة منقادة إليه تجرجر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

فإنه استعد لهذا الأمر وأخذه بالجد، فطلبه بوسائله حتى وصل إليه كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله: (إن لي نفس تواقة: تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنالتها، ثم تاقت إلى الجنة).

الشعور بفعل جميع المستطاع والركون إلى العجز

كذلك من مظاهر الفتور أن يشعر الإنسان بأنه قد استغل كل ما يستطيعه فيبقى عاجزاً مقتنعاً بأن يكون كلاً على الآخرين، سواءً كان ذلك في أمور الكسب الدنيوي أو كان في أمور الدين، فالإنسان المهزوم في أمور الدين الذي يظن أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن الأمر لا يمكن أن يزداد إلا شدة وسوءً، ومن هنا إذا رأى أي داع إلى طريق الحق أو أي عامل للإسلام حاول أن يثنيه عن مراده، وأن يقول له: ماذا تستطيع أن تؤدي وليس لك طاقة ولا قوة؟! فهزيمته يريد أن يصدرها على الآخرين؛ لأنه انهزم ولم يستطع أداء الحق بنصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع تحمل المسئولية التي افترض الله عليه وبايعه عليها فظن أن من مهمته بعد هذا الفشل أن يثني الآخرين عن ذلك، وأن يحول بينهم وبينه تارة بلسان الحكمة والنصيحة، وتارة بالإشفاق على الدين نفسه، وتارة بمجرد منطق الهزيمة أمام الآخرين فيقول: ماذا تريد أن تعمل؟! إنما تقوم بمغامرة ومخاطرة لا يترتب عليها شيء، وسيكون ضررها أكثر من نفعها، وما يدريك يا أخي أن المأمور به شرعاً يجب إعماله وعلى الله النجاح بعد ذلك.

ومن هنا فعمل الدنيا والآخرة مثاله الحرث، فالإنسان يشق الأرض، ويرمي فيها الحبوب التي هي نفقته، وهو لا يدري هل ستخرج من الأرض نباتاً أو لا تخرج؛ لأنه لا يستطيع إنباتها؛ فالله تعالى هو الذي ينبتها أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ[الواقعة:63-64]، إنما يزرعه الله سبحانه وتعالى ويخرجه نباتاً إذا شاء ذلك، وهو الذي يسقيه ويعلم ما يخرج منه، فذلك كله مآله إلى الله سبحانه وتعالى الذي يعلم مصير الأمور ومآلها، والإنسان إذا كان يفكر في متابعة هذه الجزئيات والتدقيق فيها؛ فسيعيش مع الأوهام كل أوقاته، وإذا عاش الإنسان مع الأوهام فسيكون خائفاً دائماً؛ فيظن أن كل من حوله غير مخلصين وغير صادقين، ويظن أنه بأي تصرف سيكون معيناً على استئصال الدين، وأنه لن يتصرف إلا تصرفاً أرعناً، لا يأتي بنتيجة، وهذه هي الهزيمة التي أصابت اليهود عليهم لعنة الله؛ فتراجعوا عن تحمل أعباء الرسالات السماوية، ولم يسلكوا طرق الأنبياء؛ فلم يستفيدوا شيئاً من الانتصار الذي حققه الله لهم على فرعون وجنوده، بل عندما دعوا للجهاد في سبيل الله وقد نصرهم الله على عدوهم، ورأوا انتصار الله لهم وهم ينظرون وقد قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:61-62].

مع ذلك لما فرض الله عليهم الجهاد ودخول أريحاً؛ قالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، فبسبب فتورهم وهزيمتهم لم يستطيعوا أن يباشروا الأسباب وأن يقوموا بأي عمل؛ لأنهم أصيبوا بنقص الثقة في أنفسهم وفي الآخرين، فهم لا يثقون بأنفسهم حتى يقوموا بأي عمل، ولا يثقون بالآخرين أنهم سيؤدون ما عجز عنه هؤولا، بخلاف أهل الإيمان فإن كل مؤمن يتوقع من أخيه أكثر مما لديه هو؛ لأنه يعرف عيوب نفسه ويستر عن نفسه عيوب أخيه، فأهل الإيمان كل إنسان منهم يعتقد الفضل في صاحبه وأنه خير منه؛ وبذلك يتواضعون لله سبحانه وتعالى، وتحصل الثقة في ما بينهم والإخاء، ويقع التكامل، بخلاف أهل الفتور فإن كل إنسان منهم تنطمس بصيرته بكثرة ما يتراكم فيها من العيوب والأمراض؛ فينظر إلى الآخرين من نظارات سوداء، كل ما يقع عليه بصره يكون أسود لديه كما قال أبو الطيب :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم

وعادى محبيه بقول عدوه فأصبح في ليل من الشك مظلم

ومن هنا فإن أهل الفتور يظنون أن انتفاشة الباطل وانتفاخته ستستمر، ويظنون أن المسلمين لا يمكن أن ينتصروا على الكافرين أبداً، ويظنون ظن السوء؛ فيظنون أن قوة أمريكا مثلاً لا حدود لها ولا نهاية لها ولا يمكن أن تتراجع أبداً، وينسون مصارع الأمم السابقة؛ أين عاد وثمود، وقوم نوح وقوم لوط؛ وأين فرعون ذو الأوتاد؟! أين الأمم السابقة؟!

كذلك فإنهم أيضاً يظنون أن المؤمنين لا يزالون على ما نرى من التخالف والتخاذل والتقاطع والبغضاء، وأن هذه الأمة لا يمكن أن ترجع أمة واحدة تحت خلافة راشدة أبداً؛ لأنهم رأوا الحدود المحددة، ورأوا الدول القائمة والبرلمانات والحكومات، والمؤسسات الزائفة؛ فظنوا أنها دليل على الاستمرار والبقاء، وبذلك نسوا أن هذه الأمة ذات تاريخ طويل وأنها كانت أمة واحدة، وحدها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم استمرت أمة واحدة في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد من بعدهم من ولاة أمور المسلمين، وما تفرقت كلمتها وتقطعت إربا إرباً إلا قبل حوالي سبعين سنة فقط بآخر سقوط خلافة بني عثمان، فهل ألف وثلاثمئة سنة أبلغ أم سبعون سنة؟! إذا كان المعيار معيار العقل والقياس؛ فلا شك أن ألفاً وثلاثمئة سنة ينبغي أن تكون أطول تجربة من مجرد سبعين سنة.

كذلك فإنهم يظنون أن ميزان القوى إنما هو راجع إلى الأمور المادية وأنها محصورة في يدي الدول السبع المصنعة الكبرى، فيرون أن التصنيع والتكنلوجيا من خصائص هذه الدول ولا يمكن أن تتقدم دولة أخرى؛ فسيبقى العالم دائماً سائراً في فلك هذه الدول، وستبقى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن دائمة العضوية، وينسون أن الدوام والبقاء لله الواحد الأحد وحده، وأن أمور هذه الدول متقلبة؛ فبريطانيا اليوم دولة صغيرة الحجم مساحتها صغيرة، وقد كانت من قبل مملكتها لا تغرب عنها الشمس! وتقلبات الدهر هكذا، كنا قبل عشر سنوات نقارن الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة الأمريكية، ونرى أرض الاتحاد السوفيتي أكبر من أرض أمريكا، وشعبه أكثر من شعب أمريكا، والقوة العسكرية موازية للقوة العسكرية، بل كان كثير من الناس يرون قوة المعسكر الشرقي؛ لأنها منبنية على الفكر والأيدلوجية الجديدة بخلاف المعسكر الغربي؛ فقوته مبنية على الأيدلوجية القديمة وهي الرأسمالية، وقد شاهدنا انهزام الأيدلوجية الجديدة - وهي الشيوعية - فبقيت أثراً بعد عين، وتقطع الاتحاد السوفيتي إرباً إرباً وزالت قوته، وتحكمت أمريكا في سياسة موسكو، فكل هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى سيغير هذا الحال ويزيله، فالذي فكك الاتحاد السوفيتي قادر على تفكيك أمريكا وغيرها.

وهذه الأمثلة الواقعية لا يستطيع أحد إنكارها في واقع الناس، والذي يصاب بالفتور أمام طغيان المادة سينظر إلى الأمور كلها بهذا المقياس، ويتجاهل وينسى أن القوة لله سبحانه وتعالى وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأن تقليبه للأمور بين الكاف والنون؛ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، فلا يمكن أن يعجزه شيء من خلقه، وسنته ماضية، وسنن الله سبحانه وتعالى لا مبدل لها، وقد علمنا من سنن الله تعالى أن الطغيان يوصل إلى الهاوية، وأن الغلبة في هذه الحياة الدنيا دليل على وصول المخلوق إلى نهايته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه).

الاغترار بموازين القوة المادية

كذلك من مظاهر الفتور ما يقع للإنسان من الاغترار بموازين القوة المادية، وبالأخص موازين الاقتصاد والعناية بذلك، فالذي يقبل على جمع الدنيا ويهتم بها غاية الاهتمام منطلقاً من فكرة أن المال عصب الحياة، وأنه لا يمكن أن يتصرف أي شيء في هذا الكون إلا بالمال هذا أيضاً قد أصيب بفتور من معالجة أمور الدنيا، فعبد لها وذل لها وانحنى أمامها؛ فارتمى في أحضان الدنيا مقبلاً عليها بالنهم والطمع.

ومن هنا فإن الذين يقبلون على الحياة الدنيا ويرغبون فيها هم من أبنائها ولا يستطيعون تغيير شيء من أمورها، وهم مندفعون في شئون الدنيا إلى النهاية، فلا يعول عليهم، ولا يمكن أن يكون منهم من يغير شئون الحياة، ولا من يغير شئون نفسه.

إن هذه المظاهر الكثيرة من مظاهر الفتور نشهدها في أنفسنا وفي من حولنا؛ فكم شاهدنا من المؤلهين الذي يؤلهون أمريكا، أو يؤلهون التكنلوجيا، أو يؤلهون المال، أو يظنون ظن السوء أن هذه الأمة لا تنتصر أبداً ولا تعود إلى مكانها، وقد سبقهم إلى ذلك المنافقون من قبل؛ فهم الذين كانوا يظنون ظن السوء في العصر الأول عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً إلى خيبر، قالوا: يزعم محمد وأصحابه أنهم سينتصرون على اليهود؛ فهيهات هيهات! لن يعودوا إليكم بعد اليوم، لن يعودوا إليكم بعد اليوم، وهذا هو ظن السوء، وقد قال الله تعالى فيهم: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ[الفتح:6]، وشرح الله هذا الظن بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا[الفتح:12]، لقد ظنوا أن اليهود سيهزمون المسلمين ويقتلونهم، ولا يمكن أن ينقلبوا إلى أهليهم أبداً، ((وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا))[الفتح:12].

أن يكون الإنسان في فترات يقبل على الله سبحانه وتعالى ويزداد من الطاعات، ثم يتراجع بعد الطاعة إلى المعصية فيكون متذبذباً، وليس ثابتاً في مستوى إيماني يسمح له بالاستمرار والزيادة، بل هو مذبذب، هو مع المصلين في المسجد وهو مع المرابين في السوق، هو مع الذاكرين الله تعالى أو الحاضرين للدرس في وقت الدرس ولكنه مع ذلك مع الفاشلين المفسدين لأوقاتهم وأعمارهم في غير طاعة الله في وقت آخر، وهذا المظهر بلية عظيمة ووصف من أوصاف المنافقين فقد قال الله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[النساء:143].

وكذلك من مظاهر هذا التذبذب أن يكون الإنسان في رمضان من المحافظين على أداء الصلاة في جماعة ومن المحافظين على قيام الليل، فإذا خرج رمضان كأنه لا يعرف الله إلا فيه؛ فانقطع عن ذلك وتراجع عما كان عليه.

وكذلك من مظاهر هذا أن يجد الإنسان نفسه منقادة في أوقات ما إلى بعض الطاعات ويجدها كسلى عن ذلك في أوقات أخرى؛ فيبدأ مثلاً مشروعاً علمياً في علم من العلوم وسرعان ما ينافس الطالبين الجادين في ذلك، ثم ينكفئ يعد ذلك على أعقابه وينقطع بالكلية، فمن رآه في وقت شرته وإقباله يقول: هذا طالب علم جاد، وإذا رآه في المقابل قال: هذا بهيمة لم يخطر طلب العلم على قلبه قط، فهو معرض عن ذلك بالكلية لا يسأل عنه ولا يبالي به باله.

ومن مظاهر الفتور كذلك: الانقطاع عما تعوده الإنسان من أعمال البر، فالإنسان إذا تعود عادة من أعمال البر ينبغي أن يحافظ عليها؛ لأنها مستوى من العلاقة بالله وصل إليها ووفق إليها، فينبغي ألا يقطعه لأي سبب من الأسباب، ولذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حصلت قضية الإفك ونقل الكلام فيها عن مسطح وهو قريب له كان ينفق عليه، وهو من فقراء المهاجرين، تألى أبو بكر ، أي: أقسم على ألا ينفق على مسطح بعد ذلك اليوم؛ فعاتبة الله على ذلك في القرآن فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22]، فقال أبو بكر : (بلى أنا أحب أن يغفر الله لي) فكفر عن يمينه وأعاد النفقة إلى مسطح كما كان ينفق عليه.

فلا بد أن يستشعر المسلم أنه إذا وصل إلى طاعة من الطاعات ووفق لها ينبغي أن يجعلها عادة دائمة، فهي علاقة بينه وبين الله لا ينبغي أن يقطعها لوجه من الوجوه؛ ولذلك فإن الأسوة والقدوة محمد صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، إذا عمل طاعة في وقت من الأوقات لم يتركها، وبين لنا أهمية الدوام على الطاعة فقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها)، وقال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، فالعمل الدائم ولو كان قليلاً أحب إلى الله؛ لأنه علاقة مستمرة بين الله وبين عبده لا تنقطع، بخلاف العمل المتقطع ولو كان كثيراً؛ فإن صاحبه في وقته قطع أشواطاً في الإيمان ثم تراجع بعد ذلك على أعقابه بترك هذا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله بن عمر قيام الليل بعد )، وقال: ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم.

فلذلك لا بد أن يعلم الإنسان أن كل طاعة وفق لها في علاقته بالله عز وجل ينبغي أن يحافظ عليها غاية المحافظة، إن أي إنسان اكتسب صديقاً وفياً صالحاً ينبغي أن يحافظ على علاقته به، وإذا كان هو من أهل الرشد فسيحافظ على تلك العلاقة ولا يمكن أن يقطعها، والعمل الصالح هو الصديق الوفي؛ لأنه المستمر مع الإنسان في حياته وبعد مماته، وهو رفيقه في غربته ووحشته في القبر، ( يأتيه في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول: أبشر بخير؛ فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنسك في غربتك )، فلذلك ينبغي للإنسان أن يحافظ على هذا العمل الصالح الذي هو أنيسه في غربته، وصاحبه في وحشته، فلا ينبغي أن يقطع منه شيئاً بعد أن وفق له، ومن ذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا وفق الإنسان لشيء منها فينبغي أن يجعله ديمة، وألا ينقطع عنه إلا مكرهاً، وأن يحافظ عليه بكل وجه يستطيع المحافظة عليه به، وانقطاعه عن ذلك بعد أن وصل إلى هذا المقام إنما هو تراجع مضر بإيمانه، ومضر بنعمة الله عليه التي قيدها شكرها وشكرها هو صرفها في مرضات الله.

وكذلك من مظاهر الفتور: الاستعجال، بأن يكون الإنسان يريد اقتطاف الثمار عاجلاً؛ فكلما بدأ مشروعاً ولم تظهر له نتيجة عاجلة فيه تركه وذهب إلى مشروع آخر، كالذي يطلب باباً من أبواب العلم فيفتتح ذلك الباب ثم سرعان ما يتركه ويذهب إلى باب آخر، أو يجلس للطلب على عالم من العلماء أو مكان من أمكنة العلم ثم ينتقل عنه إلى مكان آخر، فلا يزال متنقلاً يضيع أوقاته في غير طائل، فهذا من المستعجلين الذين يريدون قطف الثمرة قبل أن يبدو صلاحها؛ فلذلك يصابون بالدمان، وهو الآفة التي تصيب الثمرة قبل بدو صلاحها.

وهذا النوع من الناس يتذبذبون أيضاً حتى في أمور الدنيا؛ فيشتغلون بنوع من المكاسب ولكنهم يردون المتجر الرابح الذي لا تبور تجارته أبداً، وفيه الأرباح الطائلة؛ فلذلك إذا رأوا صاحب تجارة قد اكتسب منها مكاسب وهم يعلمون أنها بقدر الله ورزقه كان ذلك سبب منهم للتخلص مما معهم والذهاب إلى الباب الذي فتحه ذلك الشخص ومحاكاته فيه، ثم إذا لم ينجحوا فيه تحولوا أيضاً إلى باب آخر.. وهكذا فلا يستقرون على حال من الأحوال.