واجب المسلم وفريضة الوقت


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نحمد الله تعالى الذي جمعنا في هذه الأيام المباركة التي أنجا فيها موسى وقومه من فرعون وجنوده، ونسأل الله أن يعيد فيها نصره لأوليائه، وأن يعز فيها دينه، وأن يجعلنا أجمعين من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقاموا بما أوجب الله عليهم من الأعمال، ولا شك أنكم في هذه الأيام تسمعون ما يحصل لإخوانكم في غزة، وما كانوا عليه قبل هذه الأيام، فكثير من الناس يظن أن أزمتهم ابتدأت مع هذا الغزو الجديد، وهذا قصور في فهم الواقع وتصوره، بل إن أزمتهم استمرت بالحصار الخانق الحانق، وبالضرب يرزح في داخل السجون منهم آلاف، بالإضافة إلى منع الذين كانوا يعملون من الوصول إلى أعمالهم، وغير ذلك من التجويع، والإذلال، وأنواع الإهانة، ثم بعد ذلك جاء الوقت للانقضاض عليهم لإبادتهم كما تباد الحشرات، وذلك على أيدي أعداء الله من خلقه الذين حكمة الله في خلقهم الأذى، فالله جل جلاله هو الحكيم الخبير، ولا يخلق شيئاً عبثاً، وحكمته في خلق اليهود هي مثل حكمته في خلق السرطان وغيره من الأدواء والأمراض الفتاكة؛ يبتلي بها عباده، فحكمته حصول الأذى، فهم أعداء الله من خلقه قالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].

وهم أعداء رسل الله كما قال الله تعالى: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70].

وهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا قتله خمس مرات، وسحروه، ومالئوا عليه المنافقين والمشركين، وهم أعداء الملائكة الكرام، فإنهم قالوا لرسول لله صلى الله عليه وسلم: ( من يأتيك بالوحي من الملائكة؟ فقال جبريل ، فقالوا: ذلك عدونا من الملائكة )، فأنزل الله في ذلك: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، وهم أعداء كتب الله المنزلة، يحرفون الكلم عن مواضعه، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]، ويفترون على الله الكذب، وهم أعداء المؤمنين بالخصوص، فقد قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:82]، وهم أعداء الاقتصاد، فقد قال الله فيهم: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، وقال: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].

صور من إفساد اليهود

فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من باع بالأسهم، وهم أول من أنشأ القمار، وجعل له دوراً ومقصداً في العالم، وهم أعداء البشرية كلها، ولذلك قال الله تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وكل هذه التهم ثبتت بشهادة الشهيد الحكيم الخبير جل جلاله في محكم تنزيل في كتابه كما تقرءون في صلاتكم، وفي كتاب ربكم جل جلاله: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهي مستمرة فيهم، لكن من حكمة الله أنه وعدهم بدولتين يكثر فيهما فسادهم وبطشهم في الأرض، فالدولة الأولى كانت بدايتها عندما جاهد داود و سليمان ، فأقاما في أرض الشام، وقاتل داود العمالقة، فانتصر عليهم، فلما مات داود و سليمان ومن تبعهما وتولى الأمر ملوك بني إسرائيل فعثوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فسلط الله عليهم بختنصر وغيره من العباد، فأذاقوهم سوء العذاب.

الحكمة من قيام دولة اليهود في فلسطين

ثم بعد ذلك الدولة الثانية وهي هذه التي قامت في أرض فلسطين، وكان من حكمة الله تعالى عندما كتب هذا السرطان على هذه الأمة أنه لم يكن في طرف من الأطراف، فلو أن دولة إسرائيل قامت في موريتانيا أو في إندونيسيا، أو في السودان، أو في أي مكان آخر غير فلسطين من بلاد المسلمين لنسي المسلمون ذلك الطرف كما نسوا الأندلس، وصقلية، وقبرص، وغيرها من البلاد التي كانت يوماً ما حضارةً ومملكةً إسلامية، لكن أراد الله بحكمته ألا يكون مثل هذا الصقع هو الذي تقوم فيه هذه الدولة، فقد زرعها في قلب الأمة الإسلامية في مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبلة الثانية للمسلمين، والمسجد الثالث من المساجد المفضلة، وفي أرض الرباط التي فيها الرباط إلى قيام الساعة، وفي أرض مهاجر المسلمين في آخر الزمان، ومنزل المسيح ابن مريم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه أصحاب: ( إنها ستكون هجرة بعد هجرة، وإن خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون إلى الشام إذا نزل المسيح ابن مريم من مشارق الأرض ومغاربها، و هذه الأرض المباركة بارك الله فيها لأن الله قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وهي أرض الرباط إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين أولئك يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس أو بأكناف بيت المقدس )، أخرجه البزار و الحارث بن أسامة وغيرهما.

جبروت سكان فلسطين

وشاء الله بحكمته البالغة كذلك أن يجعل سكان هذه الأرض جبارين -أي أقوياء- فالجبار هو جذع النخلة القوي كما قال الشاعر:

وجنة ما يذم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحمل محتزم

فالجبار هو جذع النخلة القوي، وسكان تلك الأرض وصفوا على لسان بني إسرائيل بقولهم فيما حكى الله عنهم: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22]، ومعنى ذلك أنهم أهل صبر وقوة وجلد، وهذا ما نشهده اليوم، فلو أن شعباً من الشعوب الأخرى في الأرض ذاق من الأذى والإهانة والتقتيل والتشريد ما ذاقه أهل تلك البلاد لخنعوا وذلوا، ولكنهم أعدوا لذلك، فقويت شوكتهم، وقويت شكيمتهم، وبقوا صابرين على كل ما يعانون من الأذى، ولا يستغرب ممن عادى الله وأنبياءه وملائكته وكتبه ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يفعل ما يفعله اليهود اليوم بالفلسطينيين، فهذا أمر معهود منهم، حاربوا من هو خير من الفلسطينيين، وحاولوا إلحاق الأذى به حتى قال لهم موسى بن عمران : يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، لكن المستغرب هو صمت المسلمين، وعدم مشاركتهم فيما يحصل، وحيادهم وإهمالهم وخذلانهم لإخوانهم، فهذا أمر لا يدل على إيمان، ولا على إسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:75-76]، فهذه الآية مقرعة لكل من تقاعس، أو سولت له نفسه ذلك، فالله يسأل هذا السؤال: (وَمَا لَكُمْ)، وهو سؤال موجه إليكم مع معاشر المسلمين جميعاً، سؤال امتحان من الله ديان السموات والأرض، فيقول: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75]، وأنتم ترون قتل الأطفال وإبادتهم، وقتل النساء وإبادتهن، وتهديمها على رءوس أهلها، وبين الله سبحانه وتعالى ما يحفز لذلك فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وأنتم تعلمون أن الله جل جلاله لو شاء ما خلق إبليس ولا خلق الكفر على وجه الأرض، لو شاء لجعل البشر كالشجر وكالدواب الأخرى، فكانوا جميعاً مسلمين لله، فأنتم تعرفون أن الخلائق التي على وجه الأرض كلها من المسلمين لله إلا بعض الإنس وبعض الجن، فقد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].

سنة التدافع

لو شاء لجعل الناس جميعاً كمن سبقهم من أنواع الخلائق فجعلهم جميعاً ساجدين لله عابدين له، لكنه أراد بحكمته أن يتمايز الناس، وجعل هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وجعل فيها الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، وبنى هذه الدنيا على السنن الكونية المسيرة لها، ومن أهمها سنة التدافع، فإنها سنة ماضية لا يمكن أن تتوقف، إذ لو توقفت لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يكون على الدنيا حزب لله يسعون لإعلاء كلمة الله، والتمكين لدينه في الأرض، وحزب للشيطان يسعون لتحقيق يمين إبليس بإغواء أكثر الناس، وهذان الحزبان لا يمكن أن يقضي أحدهما على الآخر، بل لا بد من استمرر الصراع بينهما حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولو توقف الصراع لحظةً واحدةً لفسدت الأرض؛ لأنه لو غلب حزب الله على حزب الشيطان فلم يبق لحزب الشيطان وجود لاستحق أهل الأرض أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم نجحوا في الامتحان، والدنيا ليست دار قرار، وهي دار أقدار وأقذار وأكدار، فالبقاء فيها محال، فبقاء الحال من المحال، فلو نجحوا في الامتحان وكانوا جميعاً صادقين خاشعين لله جل جلاله لاستحقوا أن ينقلوا عن هذه الدار إلى دار القرار، كما أنه لو غلب حزب الشيطان على الأرض فلم يبق لحزب الله صولة ولا جولة ولا حول ولا دفع لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته، وعاجل عقوبته؛ لأنه جل جلاله يمهل ولا يهمل، وإذا كفر به الناس جميعاً فإنه يحل بهم غضبه، وأخذه الوبيل كما أحل ذلك بقوم نوح ، فأمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12].

وكما فعل بقوم هود حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، فلم تبق منهم باقيةً، وكانوا كجذوع النخل المنقعر.

وكما فعل بقوم صالح حين أرسل عليهم الصيحة فصاح بهم الملك، فانشقت أشغفة قلوبهم فماتوا موتة رجل واحد.

وكما فعل بقوم لوط حين أرسل عليهم الحاصب، فرفع قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض، فجعل عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].

وكما فعل بـفرعون ذي الأوتاد الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) حين التطم عليه وعلى جنوده البحر في لحظة واحدة فلم تبق منهم باقية.

وقد قال بعد أن قص علينا قصص هؤلاء الهالكين في سورة القمر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، (أكفاركم) هل الكفار الذين يعادونكم وتعادونهم وتخالطونهم ويواليهم بعضكم ويخالطهم هل هم خير من أولئكم؟ من قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم موسى ؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، هل أمريكا خير من عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم؟ هل الصهاينة الموجودون الآن في بلاد فلسطين خير من أولئك؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، ثم جاء الالتفات في الخطاب وهو أسلوب بلاغي معروف، يقتضي تغيير الأسلوب، فبعد أن كان الخطاب لمعشر المؤمنين فقال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، نقل الخطاب إلى الكفار مباشرةً فقال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، أم لكم أيها الكفار براءة في الزبر؟ أي: المنزلة من عند الله، أن لا يأخذكم بمثل ما أخذ به السالفين، فأنتم جميعاً تشهدون أن الله ما نقص شيء من قوته بعد أن أهلك أولئك السالفين، وأن أمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وهو قادر على إهلاكهم بأنواع ما لديه من البطش الذي لا يمكن أن يطلع عليه أحد، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور ) وفي رواية: ( حجابه النار )، وفي رواية في غير الصحيح: ( قد احتجب بسبعين حجاباً: حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظةً لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، وسبحات وجهه هي أنوار وجهه الكريم، حتى لو لم يستعمل أي شيء من أنواع البطش الماضي، لو نظر بعين الغضب إلى أهل الأرض لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه جل جلاله، فأنتم تعلمون أن قدرته ما نقصت، وأنه لا يحب الكافرين ولا الظالمين أبداً، وأنه لا يرضى لعباده الكفر، فقد أخبر بذلك في محكم تنزيله، لكنه من حكمته البالغة حكمة الامتحان، وقد بين ذلك في كتابه فقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وانظروا إلى هذا التعميم (كلهم جميعاً)، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:99-101].

وقال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فهو الابتلاء والامتحان، فما يحصل في غزة اليوم إنما هو ابتلاء لحزب الله الذين يؤثرون رضا الله على رضا المخلوقين، ويؤثرون ما عند الله من الباقية الخالدة على ما لديهم من الفانية الزائلة، فأولئك الذين يؤثرون الآجلة على العاجلة سيتقدمون وينجحون في الامتحان ويقولون ما قال موسى بن عمران: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، والذين يؤثرون الحياة الدنيا سينصرفون إليها ولن ينالوا منها إلا ما قدر لهم، وقد قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19].

وكما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، فالذين يريدون رضا الله جل جلاله سيقدمون ما يستطيعون، ولا يكلفون إلا ما يطيقون: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ويجدون فرصتهم في هذا الواقع؛ لأنهم يعرفون أنه ابتلاء وامتحان، وأن الذين يريدون التوظيف يحرصون على وقت الامتحان، ويتمنون تأجيله، فإذا جاء بادروا ولم يفلتوا تلك الفرصة فاهتبلوها فنجح منهم من كتب الله له النجاح.

فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من باع بالأسهم، وهم أول من أنشأ القمار، وجعل له دوراً ومقصداً في العالم، وهم أعداء البشرية كلها، ولذلك قال الله تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وكل هذه التهم ثبتت بشهادة الشهيد الحكيم الخبير جل جلاله في محكم تنزيل في كتابه كما تقرءون في صلاتكم، وفي كتاب ربكم جل جلاله: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهي مستمرة فيهم، لكن من حكمة الله أنه وعدهم بدولتين يكثر فيهما فسادهم وبطشهم في الأرض، فالدولة الأولى كانت بدايتها عندما جاهد داود و سليمان ، فأقاما في أرض الشام، وقاتل داود العمالقة، فانتصر عليهم، فلما مات داود و سليمان ومن تبعهما وتولى الأمر ملوك بني إسرائيل فعثوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فسلط الله عليهم بختنصر وغيره من العباد، فأذاقوهم سوء العذاب.

ثم بعد ذلك الدولة الثانية وهي هذه التي قامت في أرض فلسطين، وكان من حكمة الله تعالى عندما كتب هذا السرطان على هذه الأمة أنه لم يكن في طرف من الأطراف، فلو أن دولة إسرائيل قامت في موريتانيا أو في إندونيسيا، أو في السودان، أو في أي مكان آخر غير فلسطين من بلاد المسلمين لنسي المسلمون ذلك الطرف كما نسوا الأندلس، وصقلية، وقبرص، وغيرها من البلاد التي كانت يوماً ما حضارةً ومملكةً إسلامية، لكن أراد الله بحكمته ألا يكون مثل هذا الصقع هو الذي تقوم فيه هذه الدولة، فقد زرعها في قلب الأمة الإسلامية في مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبلة الثانية للمسلمين، والمسجد الثالث من المساجد المفضلة، وفي أرض الرباط التي فيها الرباط إلى قيام الساعة، وفي أرض مهاجر المسلمين في آخر الزمان، ومنزل المسيح ابن مريم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه أصحاب: ( إنها ستكون هجرة بعد هجرة، وإن خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون إلى الشام إذا نزل المسيح ابن مريم من مشارق الأرض ومغاربها، و هذه الأرض المباركة بارك الله فيها لأن الله قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وهي أرض الرباط إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين أولئك يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس أو بأكناف بيت المقدس )، أخرجه البزار و الحارث بن أسامة وغيرهما.

وشاء الله بحكمته البالغة كذلك أن يجعل سكان هذه الأرض جبارين -أي أقوياء- فالجبار هو جذع النخلة القوي كما قال الشاعر:

وجنة ما يذم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحمل محتزم

فالجبار هو جذع النخلة القوي، وسكان تلك الأرض وصفوا على لسان بني إسرائيل بقولهم فيما حكى الله عنهم: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22]، ومعنى ذلك أنهم أهل صبر وقوة وجلد، وهذا ما نشهده اليوم، فلو أن شعباً من الشعوب الأخرى في الأرض ذاق من الأذى والإهانة والتقتيل والتشريد ما ذاقه أهل تلك البلاد لخنعوا وذلوا، ولكنهم أعدوا لذلك، فقويت شوكتهم، وقويت شكيمتهم، وبقوا صابرين على كل ما يعانون من الأذى، ولا يستغرب ممن عادى الله وأنبياءه وملائكته وكتبه ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يفعل ما يفعله اليهود اليوم بالفلسطينيين، فهذا أمر معهود منهم، حاربوا من هو خير من الفلسطينيين، وحاولوا إلحاق الأذى به حتى قال لهم موسى بن عمران : يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، لكن المستغرب هو صمت المسلمين، وعدم مشاركتهم فيما يحصل، وحيادهم وإهمالهم وخذلانهم لإخوانهم، فهذا أمر لا يدل على إيمان، ولا على إسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:75-76]، فهذه الآية مقرعة لكل من تقاعس، أو سولت له نفسه ذلك، فالله يسأل هذا السؤال: (وَمَا لَكُمْ)، وهو سؤال موجه إليكم مع معاشر المسلمين جميعاً، سؤال امتحان من الله ديان السموات والأرض، فيقول: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75]، وأنتم ترون قتل الأطفال وإبادتهم، وقتل النساء وإبادتهن، وتهديمها على رءوس أهلها، وبين الله سبحانه وتعالى ما يحفز لذلك فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وأنتم تعلمون أن الله جل جلاله لو شاء ما خلق إبليس ولا خلق الكفر على وجه الأرض، لو شاء لجعل البشر كالشجر وكالدواب الأخرى، فكانوا جميعاً مسلمين لله، فأنتم تعرفون أن الخلائق التي على وجه الأرض كلها من المسلمين لله إلا بعض الإنس وبعض الجن، فقد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].