عباد الرحمن [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال تعالى في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وأتى هنا بصيغة "إذا" الشرطية التي تقتضي الجزم بالفعل؛ لأن أدوات الشرط منها ما يقتضي الشك ومنها ما يقتضي الجزم، فـ(إن) تقتضي الشك كما لو قلت: (إن جاء زيد فآذني) معناه: أنك تشك هل سيأتي أم لا يأتي، لكن إذا قلت: (إذا جاء زيد فأخبرني) معناه: أنك تعلم أن زيداً سيأتيك وبينك وبينه موعد محدد، وهذا الفرق بين (إن) و (إذا) فـ(إذا) للمجزوم به و (إن) للمشكوك فيه، وهذا ما ذكره أحد علمائنا بقوله:

سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

أنا إن شككت وجدتموني جازماً وإذا جزمت فإنني لم أجزم

فأجابه أحد علمائنا بقوله:

هذا سؤال غامض في كلمتي شرط وإن وإذا مراد تكلم

إن إن نطقت بها فإنك جازم..

يعني أنها تجزم الفعل.

.. وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

(إذا) لا تجزم إلا في الشعر.

فإذا لما جزم الفتى بوقوعه بخلاف إن فافهم أخيي وفهِّم

فهنا قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وهذا الإنفاق يشمل الإنفاق الواجب؛ كالزكوات والإنفاق على النفس والإنفاق على الأهل وعلى الأولاد وعلى الآباء والأمهات من الفقراء، هذا إنفاق واجب، وكذلك الإنفاق في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله هذا إنفاق واجب، ويشمل الإنفاق المندوب، وهو مثل الصدقات والمواساة والإهداء إلى الناس، ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء )، فهذا من الإنفاق المندوب، إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67] (لم يسرفوا) معناه: لم يبالغوا في الإنفاق، حتى ينفقوا كل شيء ويعودوا بعد ذلك إلى الفقر والحاجة، وهذا السرف مقتض لضعف الإيمان؛ لأن الشخص إذا أسرف في الإنفاق ستؤنبه نفسه، وتندمه على أمر قد أنفقه في سبيل الله، ويكفي ذلك في إبطال العمل، إذا أسرف الشخص في الإنفاق فأنفق راتبه كله في دقيقة واحدة في سبيل الله مخلصاً فيه لله، لا يتركه الشيطان على إخلاصه، فيأتيه عندما تأتيه حاجة ويقول: لو أنك ادخرت بعض راتبك حتى تقضي به حاجتك، فيندمه على أمر قد مضى وانقضى ولا فائدة في ذلك الندم؛ لأنه ندم حيث لا ينفع الندم؛ فلهذا طلب عدم الإسراف مطلقاً، والإسراف يدخل حتى في العبادات وحتى في الأعمال الصالحة.

أنواع الإسراف

فلذلك كان الإسراف متنوع الأقسام: منه الإسراف في المعصية، وهو شره، ولهذا سمي فرعون: وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ[يونس:83]نك

، معناه: من المسرفين في معصية الله.

القسم الثاني: الإسراف في المباحات، وهذا مضرة عظيمة على القلوب وعلى الأبدان أيضاً، مثل الإسراف في المآكل والمشارب ونحوها؛ فهذا السرف مضر على القلوب ومضر على الأبدان، ولهذا ذكر مالك رحمه الله تعالى: أن من دام على أكل اللحم أربعين يوماً لا بد أن يقسو قلبه. فمن واصل أكل اللحم أربعين يوماً سيقسو قلبه؛ لأنه دام على سرور فترة طويلة، والسرور لا يدوم في الدنيا؛ فإذا دام على الشخص قسا قلبه؛ ولهذا ينبغي للشخص في كل فترة أن يلين قلبه بسماع خطبة أو عيادة مريض أو زيارة ميت، حتى يلين قلبه ولا يقسو بالنعم التي يعيش فيها.

القسم الثالث: السرف في العبادات، وهو: الغلو في الدين، أن يجاوز الشخص الحد المطلوب، وهذا يشمل كثيراً من الأنواع؛ فمنه مثلاً: أن يصوم الشخص الدهر كله ولا يفطر، أو أن يقوم الليل كله ولا يرقد، أو أن يذهب للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله عمره كله، ولا يؤدي الواجبات الأخرى، يترك مثلاً الحج ويترك حق الوالدين والزوجة، بحجة الخروج في سبيل الله مثلاً، هذا سرف في العبادة.

كذلك السرف في الإنفاق: في الصدقات مثلاً؛ فقد ثبت أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه جز نخله، فأخرجه جميعاً في سبيل الله في لحظة واحدة، وتصدق به جميعاً، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين له أن عليه حقوقاً واجبة ينبغي أن يؤديها، وثبت في الصحيح أيضاً أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يقوم الليل كله ويصوم النهار كله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: ( لكني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأعاشر النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، وأمره أن يصوم صيام داود، وكذلك أمره أن يقوم ويرقد، وبين له أن لنفسه عليه حقاً، وأن لأهله عليه حقاً.. إلى غير ذلك من الحقوق، فلذلك قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا[الفرقان:67].

التحذير من الإقتار

كذلك في المقابل: وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]؛ فالإقتار من البخل، والإقتار هو: أن يقصر الشخص دون الواجب، يجب عليه أن يؤدي هذا الدين كاملاً إلى صاحبه، فينتقص منه جزءاً وهو قادر على تسديده، يجب عليه أن ينفق على أهله مما ينفق الناس على أهليهم، فيقصر بالنفقة وهو قادر عليها، يجب عليه أن يبذل شيئاً في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه فيبخل بذلك، وإنما يبخل عن نفسه، فهذا هو الإقتار، وقد قرئ في هذه الكلمة قراءتان سبعيتان إحداهما: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، والأخرى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يُقتِروا) فإحداهما من "الإقتار" الفعل الرباعي، والأخرى من "القتر" ثلاثي، ومعناهما واحد، فمعناه: التقصير في الإنفاق عن الحد الواجب أو الحد المندوب.

الوسطية في الأمور كلها

ثم قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقوله: (كان بين ذلك) أي: ثبت واستقر بين ذلك، أي: بين هذين الحالين قوام، وذلك في الأصل يشار بها للمفرد المذكر، لكنها تطلق على الكلية سواءً كانت اثنين أو أكثر؛ فمن إطلاقها على الاثنين قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، معناه: أي: بين ذينك، وكذلك هنا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] أي: بين هذين الوصفين، فيطلق إشارة المفرد على التثنية وعلى الجمع لقصد أنه حقيقة متكيفة، فبين أن بين هذين الطرفين قوام. والمقصود بالقوام: العدل والاعتدال والإنصاف؛ وبين هذين الطرفين وهما الغلو والإسراف والتقصير والتقتير، وبينهما حد وسط وهو القوام من العيش، الذي يكون الشخص فيه قائماً بالحق، عادلاً في التصرف، ينفق ولا يقتر ولا يسرف، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وهذا يشمل الإنفاق من المال والإنفاق من الوقت والإنفاق من الكلام وغير ذلك؛ فمثلاً هذا الكلام ينبغي الاقتصاد فيه، أن لا يكثر الشخص الكلام كثيراً وأن لا يقلل أيضاً كثيراً، حتى ينتقص عن المطلوب، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (أدركت قوماً غير مدفوعين عن ثقة ولا عن علم، فلم أكتب عنهم الحديث؛ لأن أحدهم كان يتكلم في الجمعة كلام الشهر وفي الشهر كلام السنة). فكثرة الكلام تدل على نزق وخفة في العقل، كذلك قلة الكلام جداً عدم استغلال لوسيلة أعطاك الله إياها، وينبغي أن تستغلها في الخير؛ ولهذا يقول الحكيم:

تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت جماد

فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد

الصمت عن غير السداد سداد.

فلهذا كان الاقتصاد أيضاً في الكلام وفي كل الأمور، لا بد أن يكون الشخص مقتصداً في كل الأمور، ولا يدخل في السرف مثلاً استغلال الشخص لما أتاه الله من النعمة، مثلاً: شخص غني لبس ملابس الأغنياء، وكذلك الشخص الفقير إذا لبس ملابس الفقراء لا يلام؛ فهذا الحد الواجب؛ ولهذا قال محمد مولود ولد أحمد فال رحمه الله تعالى في الكفاف:

ثم لباس الشرع تعتريه الأحكام حتم منه ما يقيه

إلى أن يقول:

لباس موسر لباس معسر شح وضد سرف

ثوب السري على الدني خيلاء والضد مهانة والمستجاد القصد

والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

وحسنه يندب للمصلي..

أي: الإمام.

.. وللمؤذن وذات البعل

إلى آخر ما قال.

فكذلك ليس من السرف في هذا الباب ما ينفقه الشخص من الوقت في طلب العلم؛ لأن العلم أفضل ما ينفق فيه الوقت، ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل في أي عبادة يشتغل؟ فقال: (علم يتعلمه، فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به) ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":

والعلم خير من صلاة نافلة فقد غذى الله برزق كافله

فلذلك كان الإسراف متنوع الأقسام: منه الإسراف في المعصية، وهو شره، ولهذا سمي فرعون: وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ[يونس:83]نك

، معناه: من المسرفين في معصية الله.

القسم الثاني: الإسراف في المباحات، وهذا مضرة عظيمة على القلوب وعلى الأبدان أيضاً، مثل الإسراف في المآكل والمشارب ونحوها؛ فهذا السرف مضر على القلوب ومضر على الأبدان، ولهذا ذكر مالك رحمه الله تعالى: أن من دام على أكل اللحم أربعين يوماً لا بد أن يقسو قلبه. فمن واصل أكل اللحم أربعين يوماً سيقسو قلبه؛ لأنه دام على سرور فترة طويلة، والسرور لا يدوم في الدنيا؛ فإذا دام على الشخص قسا قلبه؛ ولهذا ينبغي للشخص في كل فترة أن يلين قلبه بسماع خطبة أو عيادة مريض أو زيارة ميت، حتى يلين قلبه ولا يقسو بالنعم التي يعيش فيها.

القسم الثالث: السرف في العبادات، وهو: الغلو في الدين، أن يجاوز الشخص الحد المطلوب، وهذا يشمل كثيراً من الأنواع؛ فمنه مثلاً: أن يصوم الشخص الدهر كله ولا يفطر، أو أن يقوم الليل كله ولا يرقد، أو أن يذهب للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله عمره كله، ولا يؤدي الواجبات الأخرى، يترك مثلاً الحج ويترك حق الوالدين والزوجة، بحجة الخروج في سبيل الله مثلاً، هذا سرف في العبادة.

كذلك السرف في الإنفاق: في الصدقات مثلاً؛ فقد ثبت أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه جز نخله، فأخرجه جميعاً في سبيل الله في لحظة واحدة، وتصدق به جميعاً، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين له أن عليه حقوقاً واجبة ينبغي أن يؤديها، وثبت في الصحيح أيضاً أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يقوم الليل كله ويصوم النهار كله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: ( لكني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأعاشر النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، وأمره أن يصوم صيام داود، وكذلك أمره أن يقوم ويرقد، وبين له أن لنفسه عليه حقاً، وأن لأهله عليه حقاً.. إلى غير ذلك من الحقوق، فلذلك قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا[الفرقان:67].

كذلك في المقابل: وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]؛ فالإقتار من البخل، والإقتار هو: أن يقصر الشخص دون الواجب، يجب عليه أن يؤدي هذا الدين كاملاً إلى صاحبه، فينتقص منه جزءاً وهو قادر على تسديده، يجب عليه أن ينفق على أهله مما ينفق الناس على أهليهم، فيقصر بالنفقة وهو قادر عليها، يجب عليه أن يبذل شيئاً في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه فيبخل بذلك، وإنما يبخل عن نفسه، فهذا هو الإقتار، وقد قرئ في هذه الكلمة قراءتان سبعيتان إحداهما: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، والأخرى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يُقتِروا) فإحداهما من "الإقتار" الفعل الرباعي، والأخرى من "القتر" ثلاثي، ومعناهما واحد، فمعناه: التقصير في الإنفاق عن الحد الواجب أو الحد المندوب.

ثم قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقوله: (كان بين ذلك) أي: ثبت واستقر بين ذلك، أي: بين هذين الحالين قوام، وذلك في الأصل يشار بها للمفرد المذكر، لكنها تطلق على الكلية سواءً كانت اثنين أو أكثر؛ فمن إطلاقها على الاثنين قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، معناه: أي: بين ذينك، وكذلك هنا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] أي: بين هذين الوصفين، فيطلق إشارة المفرد على التثنية وعلى الجمع لقصد أنه حقيقة متكيفة، فبين أن بين هذين الطرفين قوام. والمقصود بالقوام: العدل والاعتدال والإنصاف؛ وبين هذين الطرفين وهما الغلو والإسراف والتقصير والتقتير، وبينهما حد وسط وهو القوام من العيش، الذي يكون الشخص فيه قائماً بالحق، عادلاً في التصرف، ينفق ولا يقتر ولا يسرف، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وهذا يشمل الإنفاق من المال والإنفاق من الوقت والإنفاق من الكلام وغير ذلك؛ فمثلاً هذا الكلام ينبغي الاقتصاد فيه، أن لا يكثر الشخص الكلام كثيراً وأن لا يقلل أيضاً كثيراً، حتى ينتقص عن المطلوب، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (أدركت قوماً غير مدفوعين عن ثقة ولا عن علم، فلم أكتب عنهم الحديث؛ لأن أحدهم كان يتكلم في الجمعة كلام الشهر وفي الشهر كلام السنة). فكثرة الكلام تدل على نزق وخفة في العقل، كذلك قلة الكلام جداً عدم استغلال لوسيلة أعطاك الله إياها، وينبغي أن تستغلها في الخير؛ ولهذا يقول الحكيم:

تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت جماد

فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد

الصمت عن غير السداد سداد.

فلهذا كان الاقتصاد أيضاً في الكلام وفي كل الأمور، لا بد أن يكون الشخص مقتصداً في كل الأمور، ولا يدخل في السرف مثلاً استغلال الشخص لما أتاه الله من النعمة، مثلاً: شخص غني لبس ملابس الأغنياء، وكذلك الشخص الفقير إذا لبس ملابس الفقراء لا يلام؛ فهذا الحد الواجب؛ ولهذا قال محمد مولود ولد أحمد فال رحمه الله تعالى في الكفاف:

ثم لباس الشرع تعتريه الأحكام حتم منه ما يقيه

إلى أن يقول:

لباس موسر لباس معسر شح وضد سرف

ثوب السري على الدني خيلاء والضد مهانة والمستجاد القصد

والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

وحسنه يندب للمصلي..

أي: الإمام.

.. وللمؤذن وذات البعل

إلى آخر ما قال.

فكذلك ليس من السرف في هذا الباب ما ينفقه الشخص من الوقت في طلب العلم؛ لأن العلم أفضل ما ينفق فيه الوقت، ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل في أي عبادة يشتغل؟ فقال: (علم يتعلمه، فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به) ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":

والعلم خير من صلاة نافلة فقد غذى الله برزق كافله

ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68].

فلا شك أن التكليف ينقسم إلى قسمين: إيجاب وسلب، معناه: إلى أفعال يطلب فعلها، وإلى تروك يطلب تركها، ابتدأنا أولاً بالأفعال التي يطلب فعلها مثل: الصلاة والدعاء والإنفاق والاقتصاد فيه، ثم وصلنا إلى السلوب، وهي ما يترك، وقال فيه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]، وهذه ثلاثة أقسام من الذنوب كل واحد منها مثال لقسم كامل.

أقسام الذنوب وأمثلة عليها

فالذنوب ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قسم لا يغفر، وهو الشرك بالله؛ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ[النساء:48]، وهذا هو المذكور في قوله: لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ[الفرقان:68].

والقسم الثاني: ذنب لا يترك، وهو حقوق العباد فلا بد أن يستسمح منها، أو أن تقضى لهم أو أن ينالوها يوم القيامة؛ فإنه سيقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهذا النوع هو الممثل له بقوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ[الفرقان:68].

والقسم الثالث: ذنب في المشيئة، إن شاء الله عذب به، وإن شاء عفا عنه، وهو الممثل له بقوله: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]؛ فالزنا حرمه الله تعالى، لكنه في المشيئة، إن شاء الله عذب به وإن شاء غفر لصاحبه، لكن الشرك لا يغفر لصاحبه؛ إلا إذا تاب منه، وحقوق الناس مثل القتل ومثل الغيبة ومثل النميمة ومثل أكل مال الناس بالباطل ونحوها، هذه حقوق للآدميين لا تترك، لا بد أن يأخذ صاحبها حقه منها، إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سؤاله لأصحابه: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم ثم ألقي هو في النار )، هذا هو المفلس الإفلاس الحقيقي، هو الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال لكن يتقاسمها الخصماء يوم القيامة، فيرجع هو بذنوبهم.

وهذه الأقسام الثلاثة مثل لكل واحد منها بنوع من كبائره؛ فالشرك أنواع كثيرة أعظمها:

الشرك في الربوبية، وهو: أن يعتقد الشخص أن لهذا الكون خالقاً غير الله.

القسم الثاني هو: الشرك بالألوهية، وهو: أن يعتقد الشخص أن في هذا الكون نافعاً أو ضاراً غير الله، أو مستحقاً للعبادة غير الله.

الثالث: الشرك في التشريع، وهو أن يتحاكم الشخص إلى غير شرع الله، ويظن أن غير شرع الله أولى من شرعه أو أصوب.

فهذه أقسام الشرك الأكبر المخرج من الملة، ودونها أقسام الشرك الأصغر مثل: الرياء؛ فهو شرك أصغر، ومثل قتل المسلم؛ فهو كفر دون كفر، وهكذا.

ثم إن الزنا من أقبح الذنوب التي تؤدي إلى انتشار الفواحش في الناس، وتؤدي إلى تقطع العلاقات فيما بينهم؛ لأن ابن الزنا سيكون محتقراً في المجتمع، وإذا كان له ذرية سيستمر عليهم ذلك الاحتقار؛ فتبقى النفرة سائدة في المجتمع، وهذا الذي جعل الزنا ذا خطر عظيم؛ لأنه يقتضي عدم الألفة بين المسلمين، هذا الشخص مسلم ولكن نظراً لأنه لا ينسب إلى شيء يزدريه الناس ويحتقرونه، فكان هذا مخالفاً لما جاء به الإسلام من مساواة الناس، فكان الزنا من أخطر ما حرمه الله تعالى من حقوقه المختصة؛ فلذلك قال: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68].

فالذنوب ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قسم لا يغفر، وهو الشرك بالله؛ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ[النساء:48]، وهذا هو المذكور في قوله: لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ[الفرقان:68].

والقسم الثاني: ذنب لا يترك، وهو حقوق العباد فلا بد أن يستسمح منها، أو أن تقضى لهم أو أن ينالوها يوم القيامة؛ فإنه سيقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهذا النوع هو الممثل له بقوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ[الفرقان:68].

والقسم الثالث: ذنب في المشيئة، إن شاء الله عذب به، وإن شاء عفا عنه، وهو الممثل له بقوله: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]؛ فالزنا حرمه الله تعالى، لكنه في المشيئة، إن شاء الله عذب به وإن شاء غفر لصاحبه، لكن الشرك لا يغفر لصاحبه؛ إلا إذا تاب منه، وحقوق الناس مثل القتل ومثل الغيبة ومثل النميمة ومثل أكل مال الناس بالباطل ونحوها، هذه حقوق للآدميين لا تترك، لا بد أن يأخذ صاحبها حقه منها، إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سؤاله لأصحابه: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم ثم ألقي هو في النار )، هذا هو المفلس الإفلاس الحقيقي، هو الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال لكن يتقاسمها الخصماء يوم القيامة، فيرجع هو بذنوبهم.

وهذه الأقسام الثلاثة مثل لكل واحد منها بنوع من كبائره؛ فالشرك أنواع كثيرة أعظمها:

الشرك في الربوبية، وهو: أن يعتقد الشخص أن لهذا الكون خالقاً غير الله.

القسم الثاني هو: الشرك بالألوهية، وهو: أن يعتقد الشخص أن في هذا الكون نافعاً أو ضاراً غير الله، أو مستحقاً للعبادة غير الله.

الثالث: الشرك في التشريع، وهو أن يتحاكم الشخص إلى غير شرع الله، ويظن أن غير شرع الله أولى من شرعه أو أصوب.

فهذه أقسام الشرك الأكبر المخرج من الملة، ودونها أقسام الشرك الأصغر مثل: الرياء؛ فهو شرك أصغر، ومثل قتل المسلم؛ فهو كفر دون كفر، وهكذا.

ثم إن الزنا من أقبح الذنوب التي تؤدي إلى انتشار الفواحش في الناس، وتؤدي إلى تقطع العلاقات فيما بينهم؛ لأن ابن الزنا سيكون محتقراً في المجتمع، وإذا كان له ذرية سيستمر عليهم ذلك الاحتقار؛ فتبقى النفرة سائدة في المجتمع، وهذا الذي جعل الزنا ذا خطر عظيم؛ لأنه يقتضي عدم الألفة بين المسلمين، هذا الشخص مسلم ولكن نظراً لأنه لا ينسب إلى شيء يزدريه الناس ويحتقرونه، فكان هذا مخالفاً لما جاء به الإسلام من مساواة الناس، فكان الزنا من أخطر ما حرمه الله تعالى من حقوقه المختصة؛ فلذلك قال: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68].

ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68]، (من يفعل ذلك) أي: ما سبق، و(ذلك) أيضاً إشارة للكلية السابقة كلها وهي ثلاثة أقسام، وكل نوع منها لا يقصد به ذاته وإنما يقصد به ما يشبهه، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ[الفرقان:68]، معناه: أي جزء مما سبق، سواءً كان ذلك في الشرك أو في قتل النفس التي حرم الله أو في الزنا، يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68]، أي: يستحق العقوبة، و(الأثام) معناه: العقوبة، وهي عقوبة الإثم؛ فالإثم هو الذنب، و(الأثام) عقوبة ذلك الإثم. ثم شرح هذا الأثام وبينه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69].

المقصود بمضاعفة العذاب يوم القيامة

وعذاب النار له أقسام، هذه الأقسام هي المذكورة هنا في قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69]، والمقصود بالتضعيف هنا: تنويع العذاب، فالعذاب منه العذاب الهون أجارني الله وإياكم، ومنه عذاب القبر، ومنه أنواع عذاب النار، وفيها أودية كثيرة، والفرق بين أعلاها وأسفلها هو القدر الذي يمكثه الحجر الضخم يهوي سبعين خريفاً، فأعلى النار إذا رمي منه حجر ضخم مكث سبعين سنة وهو يهوي حتى يصل إلى قعرها، ولها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، وهذه الأبواب هي كبائر الإثم، باب للشرك، باب للزنا، باب لشرب الخمر والمخدرات، كل ذلك أبواب من أبواب النار، وهي التي يكون عليها دعاة يدعون إليها في آخر الزمان، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )، فهناك دعاة يدعون إلى الشرك، ودعاة يدعون إلى شرب الخمر، ودعاة يدعون إلى الزنا، ودعاة يدعون إلى غير ذلك من الفواحش، فهؤلاء يدعون إلى أبواب جهنم؛ لأن ما بين الشخص وبين أن يدخل باباً من أبواب جهنم إلا أن يقترف هذا الذنب ويموت قبل أن يتوب منه، فهي حقيقة أبواب جهنم تفتح عنها؛ ولهذا مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم بأبواب مفتحة عليها ستور، والشخص يسير على الطريق، ففوق الطريق داع يدعوه ويقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، وباب مفتوح ولكن عليه ستراً وهو ستر الله الجميل، فقبل أن يلج الشخص فيه بينه وبينه حجاب، لكن إذا ولج فيه سلك بنيات وانحرف عن الاستقامة فلذلك قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69].

ولا يقصد بتضعيف العذاب تضعيف السيئات، بل السيئات لا تضاعف إلا لعدد محصور من الناس، تضاعف السيئات لزوجات الأنبياء؛ لقول الله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا[الأحزاب:30]، لكن من سواهن لا تضاعف له السيئات، بل السيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه؛ كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا[الأنعام:160]، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه )؛ فعلم هنا أن قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ[الفرقان:69] ليس تضعيف السيئات، بل السيئة بمثلها، ولكن تضعيف العذاب بمعنى تنوعه، مثلاً في النار أنواع عديدة من أنواع العذاب، بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها بشكل مروع، ومن أخفها مثلاً بعض العذاب الذي يكون على أساس ذنب معين، مثلاً ظمأ القبر والعطش فيه؛ إنما يكون بسبب عدم الاستنجاء من البول وبسبب المشي بالنميمة؛ فالذي لا يستتر من البول، ولا يستنجي منه يعذب في القبر بالعطش، والذي يمشي بالنميمة بين الناس يعذب في القبر بالعطش، دائماً يستسقي حتى ولو كان من الصالحين لا بد أن يعذب في القبر بالعطش، ومع ذلك لا يمكن أن يدخل الجنة، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل و حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنات قتات )، والقتات معناه: الجاسوس الذي يمشي بالنميمة، وهذا لا يمكن أن يدخل الجنة.

بيان الرسول لبعض أنواع العذاب

ثم بين هنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أنواع العذاب الأخرى؛ فذكر مثلاً: ( أن من لا يؤدي زكاة ماله في الدنيا، يوضع لماله في قاع قرقر من الأرض، لا يفقد منه شيئاً فإن كان ماله ذهباً أذيب فصب على بطنه وظهره وجنبه الأيمن وجنبه الأيسر، وكلما انتهى أذيب مرة أخرى وصب عليه، وإن كان ماله إبلاً وضع لها في قاع قرقر من الأرض، لا يفقد منها كبيراً ولا صغيراً، كل ما مر عليه آخرها، أرجع إليه أولها، تضربه بأخفافها وتعضه بأفواهها، وإن كان ماله بقراً وضع لها بقاع قرقر من الأرض، فلا يفقد منها صغيراً ولا كبيراً، تضربه بصياصيها وقرونها وأظلافها وتعضه بأسنانها، لا يفقد منها صغيراً ولا كبيراً، كلما مر عليه آخرها رد عليه أولها )، وهكذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنواع العذاب المتعلق ببعض الأعمال، فالذي قتل نفسه بشيء عذب بأن يبقى دائماً يعذب نفسه بذلك الشيء، والذي حاول أن يخلق شيئاً من خلق الله، مثل الذي يرسم صور الأحياء بيده، أو ينحتها نحتاً يعذب يوم القيامة بأن ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ، وهكذا؛ فهذه بعض أنواع عذاب النار؛ فلذلك قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69].

ويوم القيامة اسم أطلقه الله تعالى على اليوم الآخر، وذلك أنه يقوم فيه الناس لرب العالمين؛ فسماه "يوم القيامة" أي: يوم القيام الحقيقي، الذي هو قيام طويل يقف فيه الناس فترة طويلة حتى يلجمهم العرق، ومنهم من يكون ذلك اليوم عنده مائة ألف سنة، ومنهم من يكون عنده خمسين ألف سنة، ومنهم من يكون عنده ألف سنة؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج:4]؛ فلذلك كان هذا اليوم يسمى يوم القيامة.

ثم قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69]، هذا عذاب من أشرك بالله تعالى فاقترف الذنب الأول من هذه الذنوب، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو أن يستغيث بغير الله أو أن يتوكل على غير الله؛ فإنه يخلد في العذاب مهاناً خالداً مخلداً أبداً؛ فلذلك قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69] (يخلد فيه) أي: في ذلك العذاب، (مهاناً) نعوذ بالله! معناه: ذليلاً على الله، لا يجيبه الملك إذا سأله؛ لأنهم يقولون: يا مالك! نضجت منا الجلود، يا مالك! تفجرت من الجلود الصديد، فيمكث زماناً طويلاً لا يجيبهم ثم يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]؛ فلذلك كانت الإهانة دأبهم؛ فهم أذل الناس على الله، لا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة، فلهذا قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69].

وعذاب النار له أقسام، هذه الأقسام هي المذكورة هنا في قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69]، والمقصود بالتضعيف هنا: تنويع العذاب، فالعذاب منه العذاب الهون أجارني الله وإياكم، ومنه عذاب القبر، ومنه أنواع عذاب النار، وفيها أودية كثيرة، والفرق بين أعلاها وأسفلها هو القدر الذي يمكثه الحجر الضخم يهوي سبعين خريفاً، فأعلى النار إذا رمي منه حجر ضخم مكث سبعين سنة وهو يهوي حتى يصل إلى قعرها، ولها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، وهذه الأبواب هي كبائر الإثم، باب للشرك، باب للزنا، باب لشرب الخمر والمخدرات، كل ذلك أبواب من أبواب النار، وهي التي يكون عليها دعاة يدعون إليها في آخر الزمان، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )، فهناك دعاة يدعون إلى الشرك، ودعاة يدعون إلى شرب الخمر، ودعاة يدعون إلى الزنا، ودعاة يدعون إلى غير ذلك من الفواحش، فهؤلاء يدعون إلى أبواب جهنم؛ لأن ما بين الشخص وبين أن يدخل باباً من أبواب جهنم إلا أن يقترف هذا الذنب ويموت قبل أن يتوب منه، فهي حقيقة أبواب جهنم تفتح عنها؛ ولهذا مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم بأبواب مفتحة عليها ستور، والشخص يسير على الطريق، ففوق الطريق داع يدعوه ويقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، وباب مفتوح ولكن عليه ستراً وهو ستر الله الجميل، فقبل أن يلج الشخص فيه بينه وبينه حجاب، لكن إذا ولج فيه سلك بنيات وانحرف عن الاستقامة فلذلك قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69].

ولا يقصد بتضعيف العذاب تضعيف السيئات، بل السيئات لا تضاعف إلا لعدد محصور من الناس، تضاعف السيئات لزوجات الأنبياء؛ لقول الله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا[الأحزاب:30]، لكن من سواهن لا تضاعف له السيئات، بل السيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه؛ كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا[الأنعام:160]، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه )؛ فعلم هنا أن قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ[الفرقان:69] ليس تضعيف السيئات، بل السيئة بمثلها، ولكن تضعيف العذاب بمعنى تنوعه، مثلاً في النار أنواع عديدة من أنواع العذاب، بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها بشكل مروع، ومن أخفها مثلاً بعض العذاب الذي يكون على أساس ذنب معين، مثلاً ظمأ القبر والعطش فيه؛ إنما يكون بسبب عدم الاستنجاء من البول وبسبب المشي بالنميمة؛ فالذي لا يستتر من البول، ولا يستنجي منه يعذب في القبر بالعطش، والذي يمشي بالنميمة بين الناس يعذب في القبر بالعطش، دائماً يستسقي حتى ولو كان من الصالحين لا بد أن يعذب في القبر بالعطش، ومع ذلك لا يمكن أن يدخل الجنة، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل و حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنات قتات )، والقتات معناه: الجاسوس الذي يمشي بالنميمة، وهذا لا يمكن أن يدخل الجنة.