أصل القرآن الكريم عند المالكية
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
أصل القرآن الكريم عند المالكيةالحمد لله معلِّم الأصول، والصلاة والسلام على خير رسول، وعلى آله وصحبه وأتباعه أهل الفقه والقلب العقول، واللسان السؤول إلى يوم البعث والنشور.
أما بعدُ:
فإن المتتبِّع لمؤلفات فقهاء المذهب المالكي، يَتبيَّن له أن منهجهم العلمي والتعليمي البدء ببيان الأصول قبل الفروع، فمن حُرم الأصول حُرم الوصول؛ لأن الذي يحفظ الفروعَ دون ضبط الأصول، إنما هو مقلِّد أو ناقل، لذلك سلكنا في هذا الكتاب منهج الأصول قبل الفروع، حتى يسير طالبُ الفقه المالكي على الطريق الصحيح الذي يرتقي به في سُلَّم العلم في أقل وقتٍ ممكن، وسنسير إن شاء الله على ترتيب نُقدم فيه أهم أصول المذهب حتى نصل إلى أقلها أهميةً، بتيسير غير مُخل وتفصيل غير ممل.
ولقد اتَّفق المالكية على أصول استمداد الأحكام الشرعية بعد تتبُّع دقيق لاستدلالات الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وكبار تلامذته؛ كابن وهب، وعبدالله بن مسلمة القعنبي، وابن القاسم، ويحيى بن يحيى الليثي رحمهم الله جميعًا، فوجدوا أن ترتيب الأصول عند الإمام مالك على النحو التالي:
القرآن الكريم ثم السنة النبوية الصحيحة، ثم الإجماع، ثم عمل أهل المدينة، ثم القياس ثم المصلحة المرسلة، ثم سد الذرائع، ثم مذهب الصحابي، ثم الاستحسان، ثم العُرف، ثم اعتماد الخلاف، ثم الاستصحاب.
القرآن الكريم: لغةً: المقروء، سُمِّي بذلك لكثرة قراءته، فهو على وزن فعلان، وهذا الوزن يُفيد الاتساع والكثرة، وقيل: معناه اللغوي المجموع، ومنه القرية؛ لكونها تجمع العائلات والعشائر، والتعريف الأول أقرب لتعريف الشرعي.
شرعًا: هو كلام الله المعصوم المعجز والمتعبَّد بتلاوته، المنقول بالتواتر المنزَّل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، مُفرقًا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث.
فكلام الله المعصوم: يُخرج الحديث النبوي، المتعبَّد بتلاوته: يُخرج الحديث القدسي الذي هو كلام الله؛ لكنه لا يُتعبَّد بتلاوته، إنما يُتعبَّد بحفظه ودراسته ونشره.
المنقول بالتواتر: يُخرج القراءات الشاذة التي قد تصلُح للتفسير، ومعنى التواتر هو الذي رواه جمعٌ كثير عن جمع كثيرٍ، يستحيل تواطؤهم على الكذب إلى منتهاه.
المنزَّل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: يُخرج باقي الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، وقد أجمع علماء الإسلام على أنه الأصل الأول من أصول الشريعة الغرَّاء، ويجد فيه الإنسان ما ينفعه، ويدفَع عنه كلَّ أنواع الضرر؛ قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فمِن أهل التفسير مَن حمَل هذه الآية على اللوح المحفوظ، ومنهم مَن حملها على القرآن الكريم، وقال أيضًا: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ﴾ [المائدة: 15، 16].
فما مِن شيء إلا ونجد فيه دليلًا عامًّا أو خاصًّا في القرآن الكريم؛ فمثال الدليل العام قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، فجميع المخلوقات مذكورة في هذه الآية، ومثال الدليل الخاص قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الروم: 31].
والمتتبِّع لفتاوى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، يجد أنه يعطي الأولوية للقرآن الكريم في استدلالاته، وهذا مَحل إجماع كما ذكرنا، مثال ذلك استنبط الإمام مالك فرائض الوضوء من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، وذهب إلى وجوبِ مسح جميع الرأس استدلالًا بنفس الآية.