ربح التجارة مع الله


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71]. أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله! إن الإنسان بطبعه ميال إلى طلب الربح، وهو بذلك يحتاج إلى أن يعرف أوجه الربح ومن أين يُناله، وإن أربح الصفقات هي الصفقة مع الله جل جلاله، وإن الله تعالى قد دعاكم أجمعين إلى مبايعته، وبين لكم الربح الطائل في هذه الصفقة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الصف:10]، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[الصف:11]، وإن الربح في التعامل مع الله سبحانه وتعالى مضاعف أضعافاً لا تخطر على بال، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة)، والله تعالى يقول: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ[البقرة:261]، فجلسة واحدة يجلسها الإنسان في المسجد بانتظار الصلاة، أو وضوء واحد يكمله، فيه من الأرباح الطائلة ما لا يمكن أن يخطر على بال، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمثلة عجيبة، فقد أخرج مسلم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من وجهه حتى تخرج من أجفان عينيه، فيخرج من عينيه كل ذنب كان نظر إليه، فإذا غسل يديه خرجت خطاياه من يديه حتى تخرج من تحت أظافره، فإذا مسح رأسه تحاتت ذنوب رأسه، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه حتى تخرج من تحت أظافره فيخرج نقياً).

وكذلك أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء غفرت له ذنوبه)، وفي حديث عثمان بن عفان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فقال: ( من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وزاد الترمذي في روايته لهذا الحديث: (ثم قال: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، فهذه كلمات قليلة وأعمال يسيرة، ومع ذلك تفتح لها أبواب الجنة الثمانية يدخل الإنسان من أيها شاء.

إنه ربح طائل لا يمكن أن يخطر على بال، وإن ربكم جل جلاله هو الكريم الحكيم، وأنه سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وقد علم ضعفنا عن عبادته التي يستحقها فضاعف الأجور للمقبلين إليه.

وقد ذكر أهل العلم أن العبد إذا أدبر عن الله تعالى سبعين سنة، ثم أقبل عليه لحظة واحدة، فكانت ختام عمره كفرت تلك اللحظة ما اقترفه من إدباره عن الله في سبعين سنة.

لا بد أن نحرص على التعامل مع الله جل جلاله، وأن نحسن هذا التعامل، وأن نتأدب معه، فإنه الكريم الغني، وهو غني عنا وعن عبادتنا وعن أعمالنا، وقد قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، وإنه سبحانه وتعالى هو الهادي يهدي من يشاء على طاعته ومنهجه، ويصرف من يشاء كذلك عنهما، وقد قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا َ[الأعراف:146]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[الذاريات:9]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ[التوبة:46]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11].

فلا بد أن ندرك أن المغبون هو من انصرف عن الله سبحانه وتعالى، ولم يقبل عليه بقلب سليم، وأن ما أنعم الله به علينا من أنواع النعم التي لا نحصيها ولا نطيق إحصاءها، إنما يستحق الشكر عليها سبحانه وتعالى، فهذه النعم التي لا تحصيها في بدنك وفي عقلك وفي إيمانك وفي ما أنعم الله به عليك من أنواع النعم، وما خصك به من الخصائص من بين المحرومين الذين لم يجدوا من تلك النعم أقل شيء، وأنت قد أنعم الله عليك بجمعها لك، كل ذلك يستحق منك أن تعامل الله تعالى معاملة حسنة، وأن تشكر له هذه النعم العظيمة التي خصك بها من بين الناس.

هذه الطهارة يسيرة خفيفة، مع ذلك هي شطر الإيمان، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان).

وهذا يدلنا على أن المطلوب منا ليس النتائج والأعمال الكبيرة؛ فالمطلوب منا هو ما وقر في القلب من الإخلاص، والصدق مع الله سبحانه وتعالى، وإذا صدق الإنسان مع ربه؛ فإن الله يوفقه لتلك الطاعات، ويتقبلها منه، فكما أن مجرد الوضوء وإسباغه سبب لهذه المغفرة ولفتح أبواب الجنة الثمانية، فكيف بما هو أكبر منه من الطاعات، كالصلاة والصدقة والزكاة والصوم والحج، والجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإيمان.

فإن هذه الطاعات متدرجة، ولكن علم الله ضعف العباد، وعلم اختلاف أهوائهم وطاقاتهم؛ فلذلك نوّع الأجور عليها، فمن لم يكن من أهل باب من أبواب الخير استطاع أن يدخل من باب آخر من أبواب الخير، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أبواب الجنة الثمانية، فذكر أن فيها باب الصدقة، وباب الصلاة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وهذا يدلنا على كثرة طرق الخير وتنوعها، وكثرة ما فيها من التسهيل والتيسير، فالعبد إذا توضأ وخرج من بيته إلى المسجد يلتمس الصلاة، فكل خطوة يخطوها تكفر بها عنه سيئة، وتكتب له بها حسنة، وترفع له بها درجة، حتى يأتي إلى المسجد وقد جمع كثيراً من الحسنات وكفر عنه كثير من السيئات، ورفع عنه كثير من الدرجات، وهذا الرفع يشمل الرفع في درجات الإيمان في الحياة الدنيا، ويشمل الرفع في درجات الجزاء في الجنة يوم القيامة.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).

فهذه أمور يسيرة خفيفة على من خففها الله عليه، وفيها هذا الأجر العظيم الطائل الذي لا يستطيع أحد منا إذا أدركه أن يجلس دونه، فالعاقل إذا علم بالربح المضاعف الجزيل سارع إليه، فإنه إذا تخلف عنه وهو يستطيع الوصول إليه، فإنما يغش نفسه ويصرفها عن مصلحتها إلى مفسدتها، وهذا ما لا يمكن أن يتصور ممن كان من أهل الإيمان والتقوى، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى يدعوه ويضمن له هذا الضمان الذي لا إخلاف فيه، فالله لا يخلف الميعاد.

اليوم في زمان هو زمان الفتن، قد أدبرت فيه الدنيا وأقبلت فيه الآخرة، وأنتم تشاهدون فيه ما يحصل من التغير والوهن في أمور الدين، وما يحصل من الإعراض عن الله سبحانه وتعالى، وانشغال المنشغلين عنه.

وتشاهدون فيه كذلك رفع العلم، وانتشار الجهل، وإقبال الناس على الدنيا ورغبتهم فيها، وإفسادهم للأوقات العظيمة في جمع حطامها، وكل هذا ينبغي أن يتنبه المسلم له، وأن يشعر أنه على خطر ما لم ينتبه لنفسه، وما لم يدرك أبعاد واقعه، ومالم يعلم ما يحيط به من المصائب التي تستحق منه أن يغض الطرف عن كثير منها، وأن يغض السمع والبصر، وأن يكف الجوارح عن هذه الفتن المحيطة به، فإن النجاة منها إنما تكون بذلك.

فلا بد أن يتنبه الإنسان في هذا الوقت الذي أدبر فيه المدبرون عن الله سبحانه وتعالى، إلى أن الأبواب الآن ليس عليها زحام، فأبواب الجنة مفتوحة وليس عليها زحام، فإذا أقبلت كنت من السابقين بحسب زمانك وعصرك، والسبق فضله عظيم، فقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)، وإن الموعد بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلامة بينكم وبينه على الحوض هي الوضوء، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى المقبرة فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: بمَ تعرفهم يا رسول الله؟ قال: أرأيتكم لو كان لأحدكم خيل بلق بين ظهري خيل بهم، أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يردون عليّ الحوض غراً محجلين من آثار الوضوء).

وهذا أمر عظيم جداً، وعلامة بارزة بين هذه الأمة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، بل الأعظم من ذلك ما بينه صلى الله عليه وسلم أيضاً في قوله: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء )، فحلية الجنة تصل بالمؤمن إلى حين ينتهي وضوءه، فإن على المؤمنين أن يعرفوا أن هذه الأعمال اليسيرة القليلة فيها هذا الثواب الجزيل العظيم، وعلى المؤمن أن يبادر إليها وأن يستكثر منها، وأن تعلو همته وأن لا يرضى بالدون.

فالمؤمن اليوم يمكن أن يدرك السابقين، وأن يحشر مع أبي بكر و عمر و عثمان و علي و أبي عبيدة بن الجراح و عبد الرحمن بن عوف بهذه الأعمال المتاحة التي بين أيديكم، فإن الله تعالى عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتن به على هذه الأمة في سورة الجمعة، وذكر الذين اتبعوهم بإحسان قال في وصف المتأخرين الذين يأتون من بعدهم: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ[الجمعة:3]، و(لما): لنفي الماضي المنقطع، ومعنى ذلك أنهم سيلحقون بهم، وهذا أمر عظيم جداً، أن نلحق بـأبي بكر و عمر و عثمان و علي ، وقبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن هذا اللحق والسبق كان الحافز لآبائنا وأسلافنا في الجهاد في سبيل الله، فكانوا إذا غزوا تذكروا أن من قتل منهم شهيداً لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى قال ابن رواحة رضي الله عنه يوم مؤتة:

غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه

وهم بذلك يحملون هذه البشارة العظيمة التي بشر بها باللحوق بالسابقين، والأمر ميسور بين أيدينا وما علينا إلا أن نشمر عن سواعد العمل، وأن نقبل على الله تعالى بقلوب سليمة.

ورحم الله امرأً عرف الحق فلزمه، وعرف طريقه فسلكه، فإن الصبر على السلوك أعظم مشقة وأعظم امتحاناً من أصل قصده، فلذلك كثير هم أولئك الذين سلكوا ثم سقطوا، وقليل هم أولئك الذين سلكوا ثم بلغوا، فالانقطاع في وسط الطريق كثير، فعلينا أن نلتمس من الله سبحانه وتعالى التسديد والتوفيق والاستقامة على سواء الطريق.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه.

محبة الله للسالكين طريق الحق

عباد الله! إن الذين يسلكون طريق الحق فيسلمون ويغنمون هم أولئك الذين أحبهم الله فاختارهم لسلوك طريق الحق، فقد قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[هود:118]، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود:119].

فقد خلق الله خلقاً من هذه الخلائق لرحمته وجنته، وخلق آخرين لناره، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ[الأعراف:179]، فلذلك علينا أن نحرص على محبة الله حتى ننال هذا التوفيق والفضل العظيم، وإن محبة الله لها أسباب من الصدق معه والطاعة المقدمة إليه بإخلاص، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ[البقرة:222]، وهذه المحبة أكدت بالعطف لتمام الجملة؛ فإن أصل السياق كان يكفي فيه لولا التأكيد أن يقال: (إن الله يحب التوابين والمتطهرين)، ولكنه أتى بهذا التأكيد بإعادة الجملة ليدل ذلك على أن هذه المحبة متحققة بكل واحد من العملين، وبأنها متحققة قبل إقبال الإنسان على العمل فبها يقع التوفيق لذلك العمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فمن أحبه الله سبحانه وتعالى وفقه للطاعة واختصر له المسافات، وهداه لأعدل الصفقات، وأربحها بين يديه، وبذلك يكون راضياً مطمئناً لا تهزه الفتن والمصائب، ولا يتأثر بوقائع الدهر وأموره، فهو قد عرف الحق فلزمه، كما قال الزبيري رحمه الله:

أرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

فما عوض لنا منهاج بـجهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

صلى الله عليه وسلم.

فأولئك الذين عرفوا الحق لزموه على كل أحوالهم، ولم يقتصروا منه على اليسير القليل، بل بادروا في استغلال الأيام والليالي والأوقات كلها فيما يقرب من الله تعالى؛ لأنهم أدركوا معنى ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فهم يغدون في طاعة الله سبحانه وتعالى، يخافون أن يفوت أول النهار قبل أن يُمسك بزمامه، فقد قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: (إن يومك مثل جملك، إذا أخذت بزمامه انقاد لك، وإذا فاتك صعب عليك إدراكه)، فإذا أدركت اليوم من أوله عندما يطلع الفجر فكنت من أوائل الملبين لنداء الله عندما تسمع: حي على الصلاة حي على الفلاح، وكنت من أوائل المتوضئين في أول النهار والذاكرين الله كثيراً، كتبت من الممسكين بزمام هذا اليوم، وجلست على أوله، ولم يفتك آخره.

تقلب المؤمن بين الطاعات في الليل والنهار

وكذلك قال: ( واستعينوا بالغدوة والروحة )، فالروحة أيضاً هي استغلال أول الليل، فلا بد أيضاً أن يمسك المؤمن بزمام أول الليل قبل أن يفوته، فإذا كان في أول الليل قد عد من الذاكرين الله كثيراً، فإنه سيوفق بعد ذلك للازدياد من الطاعة؛ لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، والسيئة تدعو إلى السيئة.

ثم بعد ذلك الدلجة: وهي محل التنافس والتفاهم عندما ينام الناس في الثلث الأخير من الليل، وينزل الباري جل جلاله إلى السماء الدنيا، فلا يزال يقول: ( ألا من يسألني فأعطيه، ألا من يستغفرني فأغفر له، ألا من يدعوني فأستجيب له )، فهذا الوقت هو وقت التنافس ينام عنه المغبونون، ويقوم فيه الذين أراد الله لهم الخير، فيبادرون للإجابة لنداء الله سبحانه وتعالى ويعاملونه بالأدب الذي يليق بوجهه جل جلاله، فيخرون بين يديه لوجهه معظمين، ولندائه مستجيبين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فبكوا شوقاً إليه ومحبةً له، وأسفاً على ما فرطوا فيه في جنبه، فسمع الله تعالى دعاءهم، واستجاب لهم وضحك إليهم جل جلاله، فإنه يضحك إلى المصلي في جوف الليل، وإلى القائم في الصف كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نالوا المحبة من الله سبحانه وتعالى، وحسنت أعمالهم ووفقوا للطاعة، فأصبحوا وأعضاؤهم ذات نشاط وإقبال وجد؛ لأنهم عندما فرغوا نصبوا بعد ذلك في الطاعة: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ[الشرح:7]، عندما يفرغون من طاعة الليل يقبلون على طاعة النهار، فيجمعون بين الحال والمرتحل، لا يفكرون إلا في الازدياد من الطاعة قبل أن يأتي الموت.

استعداد المؤمن للموت

أهل الحق يعلمون أنهم على موعد مع الموت لا محالة، وأنه آتٍ في وقته لا يتقدم ولا يتأخر، فيستعدون له قبل أن يأتي، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[المنافقون:9]، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[المنافقون:10]، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:11]، فهم في تسابق مع الموت يستعدون له ويتهيؤون له، وما ينالون من حظوظهم في هذه الحياة الدنيا يصرفونها في الطاعة، فإذا نالوا أهلاً أو مالاً أو غير ذلك جعلوه دفاعاً لـإبليس وحرباً له، واستعدوا به فجعلوه عدتهم في هذه المعركة، فهم يعلمون أنهم في معركة مع إبليس، فهو يريد منهم أن ينظروا إلى ما لا يحل النظر إليه، أو أن يسمعوا ما لا يحل سماعه، وهم في ذلك يعدون له العدة، فيأكلون الحلال الذي أعطاهم الله تعالى ليكفوا به جند إبليس، وليحولوا دون هجومه، وهم بذلك يأكلون عن الله ما أعطى أدباً معه، وشكراً لنعمته، ويصرفون إبليس وما يقدمه من الحبائل، وما يضعه من الشراك بما أعد الله في مقابل ذلك، وينجحون بهذا وينتصرون على أنفسهم وعلى شيطانهم، فيغلبونه ويذلونه ويضيقون عليه مجاريه مع الدم، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالذين يسيرون بحياتهم على هذا المنهج تكون كل أعمالهم ربح، وكل أوقاتهم مستغلة، ولا تقوم عليهم الحجة بين يدي الله تعالى، بل تقوم لهم الحجة في كل الأوقات، فإذا جاء وقت القيام كتبوا من القائمين، ولو كانوا قد أرموا وأكلت أعضاءهم التراب، وإذا جاء وقت الصيام كتبوا من الصائمين، وإذا جاء وقت الذكر كتبوا من الذاكرين، وإذا جاء وقت الدعوة كتبوا من الداعين، وإذا جاء وقت الجهاد في سبيل الله كتبوا من المجاهدين، وإذا جاء وقت الصدقة والبر كتبوا من المتصدقين البارين، فهم بذلك حاضرون غائبون، لا يتأثرون بما يعرض في هذه الحياة من الأمور، وهم بذلك قد أصبحوا من جند الله سبحانه وتعالى، وكتبوا في مصاف السابقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ[آل عمران:171-172].

عباد الله! إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته، وثلث بكم معاشر المؤمنين، فقال جل من قائل كريماً: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56].

اللهم صلِ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم جاز عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل وأجزل وأكمل ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عن من أرسل إليه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا سميع الدعاء.

اللهم اخلف نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بخير، اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، واسقنا من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة شربة هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً.

اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك.

عباد الله! إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه شكراً حقيقياً يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، يغفر الله لنا ولكم.