دعوة للإنفاق


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل شقه ما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فإن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، وإن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة.

وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءهم مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعةً أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] ، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفةً إلى سبعمائة ضعف كما في الآيات الواردة من سورة البقرة؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:36-37] .

ثم حض بعد ذلك على الإنفاق فقال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] ، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] .

وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بين الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10] ، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، ولم توجد بعد ذلك ولم تنقص، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، فالمال دولة بين الناس ينتقل من يد هذا إلى يد هذا، كحال سكنى هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان في الأرض إلا وقد سكنه سابقون وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] ، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، فستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] ، فلم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانةً عندنا، ووكالةً فقط، والوكيل معزول عن غير النظر، وهو ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك: فما يدري الفقير متى غناه، وما يدري الغني متى يعول، كل ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].

لقد جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومةً إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير فينال الكثير.

وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي حيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، وخرج من الدنيا لم ينل مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت.

فبينما هم دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاق

وكم من إنسان آخر لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير، فاجتمع عنده أكثر من حاجته، كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا كلها بقسمته، لا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم:

باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

فالدنيا كلها مقسومة قسماً كما قال لبيد : فإنما قسم الخلائق بيننا قسامها.

وكذلك إعمال الحيل ليس هو الذي يوصل إلى الغنى، بل إنما يوصل إليه القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته:

لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه

فاستعملي الرفق لتأنيبه بدلاً من قلبه فهو مضنى القلب موزعه

يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يجمعه

كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه

إذا الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه

وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه

قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه

فلذلك على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة مما سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا بالشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بدل أن كانت الدنيا خادمةً له.

إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا، إذا اختل منها أي ركن من الأركان أو حتى أي نفل من النوافل ضاقت به الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يقدر من قبل أو لم يكن، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقديماً قال الحكيم:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

فلن تنال من الدنيا إلا حظك، وعلى هذا عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض كله عرض سيال، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا فإن الإجمال في طلبها، والتقلل ما استطاع الإنسان منها خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] ، فعلى الإنسان ألا ييأس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك كله امتحان يمتحنه الله به، وإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في الدنيا حقين:

الحق الأول: أن يأخذها من حلها.

والحق الثاني: أن يضعها في محلها.

فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله نفسه، فإن الإنسان الذي يتبع نفسه المال، ويريد الوصول إليه مطلقاً -سواءً جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأنه قد تملك الهوى قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس.

على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف. لماذا تجمع يا أخي؟! وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ).

قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإعجابهم بها، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا النوع هو على القاعدة التي سبق أن بينتها في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف كله للقرآن إنما يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز: ما هو؟ فأخذت خبزةً فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في علم الله من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له مثالاً يفهم به مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب للمال كله، فالمال كله لثلاثة:

النوع الأول: هو لرجل أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما نال، وما كان منه تحت يده فهو في يده بعيداً عنه، لا يتأثر به، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، ليس محله القلب.

النوع الثاني: من هو له ستر، وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] ، فهذا النوع المال له ستر يستره من الذم، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه.

النوع الثالث: هو عليه وزر، وهو من جمعه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله لواءً لله ورسوله وإرصاداً للكافرين، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، فهذا المال عليه وزر يأتي يحمله يوم القيامة وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره للغلول، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة من غير أن يأخذ الإنسان نصيبه منه فقط، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الغلول فعظم من شأنه فقال: ( ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني، ولست له بمغيث. ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ).

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتجاسر عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا مصير ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الخطر في بعض أنواع المال بالخصوص، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من اغتصب شبراً من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ). طوقه: أي: جعل قلادةً في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقتطع له من كل أرض ذلك الذي اغتصب، ويطوقه ويجعل في عنقه يوم القيامة.

فوائد الإنفاق في الآخرة

إن هذا المال ذا الخطر الجسيم والأمر العظيم هو مع ذلك وقاية للإنسان، يمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، ( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده وتعرف إليهم حين قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245] .

إن الله سبحانه وتعالى هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي تعرف إلى عباده فدعاهم بأن يقرضوه قرضاً حسناً، وبين لهم غناه عما في أيديهم، وأن ما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).

ثم بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تمثيل ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل )، والفلو: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية السمن؛ فلذلك قال: ( إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل ).

إن الثقل والضخامة التي هي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أصحابه: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه )، فقوله: (ما بلغ مد أحدهم) أي: مد شعير تصدق به أحدهم، (ولا نصيفه) أي: نصف مد، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.

والإنسان إذا أنفق في وقت الرخاء، لا يمكن أن يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]. إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم مائة ألف درهم ), وذلك عندما ( جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمةً بهم، وسالت دمعتاه على خديه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره. فجاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم ).

إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه؛ لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له هو من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.

فوائد الإنفاق في سبيل الله في الدنيا

كذلك فإن هذا الإنفاق على ما سبق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات، فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، فالمنفق خير من المنفق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى: يا ابن آدم ! أنفق أنفق عليك )، ( وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: وأعط ممسكاً تلفاً )، هذا كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعوا إلا بما أذن به، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، فلا يمكن أن يدعو الملائكة إلا لمن أذن الله بالدعاء له.

ثم إن من فوائد هذا الإنفاق الدنيوية كذلك: أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة ترد البلاء عن أهل البيت، تصطرع مع البلاء في السماء فترده عن أهل البيت؛ ولهذا فإن الله رتب على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، على مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس )، فكل مفصل من المفاصل سواءً كانت مما يعرفه الأطباء مما يدرك بالتشريح، أو كانت من الخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها وجليلها- رتب الله عليه صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لأسره ولهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل، وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الازدياد، فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نقصت صدقة من مال )، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، بل تزيده، بل تزيده، ما يبذله الإنسان ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى قطعاً مخلوف عليه، ولا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وآصعهم وأمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم وهو أعلم المخلصين منهم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.

إن هذا المال ذا الخطر الجسيم والأمر العظيم هو مع ذلك وقاية للإنسان، يمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، ( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده وتعرف إليهم حين قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245] .

إن الله سبحانه وتعالى هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي تعرف إلى عباده فدعاهم بأن يقرضوه قرضاً حسناً، وبين لهم غناه عما في أيديهم، وأن ما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).

ثم بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تمثيل ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل )، والفلو: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية السمن؛ فلذلك قال: ( إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل ).

إن الثقل والضخامة التي هي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أصحابه: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه )، فقوله: (ما بلغ مد أحدهم) أي: مد شعير تصدق به أحدهم، (ولا نصيفه) أي: نصف مد، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.

والإنسان إذا أنفق في وقت الرخاء، لا يمكن أن يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]. إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم مائة ألف درهم ), وذلك عندما ( جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمةً بهم، وسالت دمعتاه على خديه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره. فجاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم ).

إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه؛ لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له هو من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.

كذلك فإن هذا الإنفاق على ما سبق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات، فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، فالمنفق خير من المنفق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى: يا ابن آدم ! أنفق أنفق عليك )، ( وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: وأعط ممسكاً تلفاً )، هذا كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعوا إلا بما أذن به، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، فلا يمكن أن يدعو الملائكة إلا لمن أذن الله بالدعاء له.

ثم إن من فوائد هذا الإنفاق الدنيوية كذلك: أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة ترد البلاء عن أهل البيت، تصطرع مع البلاء في السماء فترده عن أهل البيت؛ ولهذا فإن الله رتب على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، على مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس )، فكل مفصل من المفاصل سواءً كانت مما يعرفه الأطباء مما يدرك بالتشريح، أو كانت من الخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها وجليلها- رتب الله عليه صدقةً كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لأسره ولهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل، وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الازدياد، فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نقصت صدقة من مال )، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، بل تزيده، بل تزيده، ما يبذله الإنسان ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى قطعاً مخلوف عليه، ولا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وآصعهم وأمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم وهو أعلم المخلصين منهم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.

إن المؤمنين في الصدر الأول أدركوا قيمة الإنفاق ومنزلته، فقد جاء ذات يوم فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور والفضل العظيم، يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة )، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم كثرة طرق الخير وأبوابه، حتى ذكر: ( إماطة الأذى عن الطريق فهي صدقة )، ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ).

فالصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير، ( تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة )، هذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة المالية، التي لها أثر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، لا يشعر بذلك بل يظن نفسه أسخى الأسخياء، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان منه في سبيل الله، ومن هنا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

والصدقة الواحدة يدخل الله بها الجنة عدداً من الناس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدلنا على أهمية التعاون في الخير، فكل عمل جماعي يشترك فيه الناس يثابون فيه الثواب الجزيل العظيم، فالصدقة التي تخرجها المرأة من بيت زوجها يثاب بها الرجل الذي اكتسبها، والمرأة التي أنفقتها، والرسول الذي بلغها، والخازن الذي كان يحفظها، فكل هؤلاء شركاء في الأجر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( السهم الواحد يدخل به ثلاثة الجنة: الذي اقتطعه، والذي براه، والذي رمى به )، جميعاً يدخلون الجنة بالسهم الواحد يرمى به في سبيل الله، وهذا يدلنا على غنى الله عن خلقه، وأنه لا يريد منكم شيئاً، وإنما يريد منكم أن تقدموا لأنفسكم؛ فلذلك بين أن الاشتراك في الأجر يحصل بمجرد المساعدة على الخير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدال على الخير كفاعله )، وقال: ( من سن في الإسلام سنةً حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).

إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ فإن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، وهذا عكس ما أمر الله به، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

ويختار الصدقة لأنها من الأمور التي يفوت بها الإنسان على الشيطان الفرصة، فالشيطان يحاول مع الإنسان منعه من التصدق من ماله ولو بالتأخير؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حيلة الشيطان على بعض الصالحين يأتيه فيقول: لا تخرج هذا المال عن الصبية؛ فهم بحاجة إليه، فينازعه، فيقول: لا بد أن أقدم شيئاً لآخرتي، فيقول: اجعله وصيةً بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، قال: ( فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان له )، قد كتب له في القدر؛ لكن ( خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح )، هذه عبارة النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أن محاولة الشيطان معك إنما تتغلب عليها عندما تكون صحيحاً شحيحاً، فتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى.

ثم إن مكابدة الشيطان ومجاهدته مع الإنسان تقتضي منه إذا أراد الإنفاق وغلبه أنه سيحاول معه أن لا ينفق إلا شرار ماله، وأن لا ينفق خيار ماله وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه، فتنفقوه في سبيل الله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، لو كنتم تطالبون أحداً بدين فقضاكم بذلك الخبيث لم تكونوا لتأخذوه إلا أن تغمضوا فيه فتتغاضوا عن بعض حقكم، ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )، لكن هذا في حق الساعي المتصدق، الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، هذا لا ينبغي أن يأخذ كرائم أموال الناس؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ).

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو قدمت لآخرتك؟ )، إن مالك هو الذي سيصحبك، ( إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثاً: أهله، وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله ).

إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يضوون الشيطان ويضنونه، وبذلك يتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، وقد ذكرت لكم من قبل أن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة، فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]، هذا الخبر وهو صدق: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وهذا الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، الذي يطيعه فيما يأمره به ليس عدو له قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير ويجاهده ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، هذا ليس من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص موفق يوفقه الله، يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، فإن الله ضرب له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى بارزةً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي القدر فيذهب به فتبقى الصخرة ليس عليها ما يرد عنها ويدافع عوامل النحت والتعرية.

إن الإنسان المخلص الصادق يعلم أن الله امتحنه بما جعل تحت يده، وأن عليه أن يقوم لله بالحق فيه، وأن لله حقاً في هذا المال، وهذا الحق لا بد أن يعرفه الإنسان في ماله، وأن يؤديه، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، لا بد أن يعلم الإنسان هذا الحق أولاً ثم أن يؤديه بعد ذلك، فقوله: فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، أي: يقدرونه في أنفسهم، ويعلمون الحق الذي عليهم؛ فلذلك يقوم الأغنياء بمسئوليتهم تجاه الفقراء، ولا يعفي هذا الفقراء أيضاً من الإنفاق، بل الإنفاق خطاب عام يستوي فيه الغني والفقير، والجميع مخاطب، لكن كل ينفق على حسب طاقته، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

وقد بين أنس رضي الله عنه في الصحيح: أن الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من القراء كانوا يذهبون إلى الجبل في النهار فيحتطبون، فيبيعون الحطب، فيتصدقون بثمنه على الفقراء، وكانوا يقومون الليل، ويعلمون الناس القرآن.

يأخذ أحدهم حبله في الصباح فيذهب إلى الجبل فيأتي بالحطب فيبيعه، فينفق به على أسرة فقيرة، فهنا كان قد زكى نفسه وماله: زكى نفسه بإعمالها في مرضاة الله وتحركها في عمل الخير، وهذه النفوس التي لا تتحرك ستبقى جامدةً، ويركبها الشيطان على ذلك، لكن الحركة في الخير كلها بركة؛ فلذلك يتحرك هؤلاء للزكاة التي قال الله فيها: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156]، وقال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7]، فبين أن المرحومين هم المؤمنون الذين يؤتون الزكاة، وأن المشركين المسخوط عليهم الذين لهم الويل والتباب والتبار هم الذين لا يؤتون الزكاة، وهذه الزكاة شاملة للواجبة وغيرها، وشاملة لزكاة البدن، وزكاة المال، وزكاة الوقت، وزكاة الجاه، وزكاة العلم، كل ذلك داخل فيما تجب زكاته وتطلب.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4819 استماع
بشائر النصر 4292 استماع
أسئلة عامة [2] 4135 استماع
المسؤولية في الإسلام 4066 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3948 استماع
اللغة العربية 3936 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع