إن ربك لبالمرصاد


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد بين أنه خلقنا لحكمتين عظيمتين؛ إحداهما مختصة بهذا الجنس البشري والأخرى مشتركة بين الإنس والجن.

أما التي نختص بها فهي الاستخلاف في هذه الأرض؛ فقد قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، والاستخلاف يقتضي العدالة فيها والسعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والتمكين لهذا الدين في الأرض.

والمهمة الثانية المشتركة بين الإنس والجن هي تحقيق عبادة الله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، وكل جهاز عرفت حكمة خلقه وصنعته فقيمته تابعة لذلك؛ فجهاز التسجيل صنع من أجل التسجيل، فإذا فقدت منه هذه الحكمة لم يشتره أحد ولم يكن له ثمن، والساعة صنعت من أجل معرفة الوقت، فإذا فقدت منها هذه الحكمة لم يكن لها قيمة ولم يشترها أحد، والإنسان إذاً خلق لهذه المهمة فإذا لم يؤدها لم تكن له قيمة، بل كان كالبهائم والأنعام، بل هو شر منها؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ فالإنسان بين نوعين من أنواع الخلائق:

نوع أسمى منه وأشرف وهو الملائكة، محضهم الله لطاعته وعبادته، فهم: عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20].

والصنف الثاني أدنى منه وهو الحيوان؛ فقد سلط الله عليه الشهوات ولم يمتحنه بالتكاليف، والملائكة كلفهم الله بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بتكاليف ممتحن بالشهوات؛ فإذا أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإذا ضيع التكاليف فاتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو البهائم، بل يكون أدنى منها لقول الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ[الأعراف:175-177]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ[الجمعة:5]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، شر البرية أي: هم شر ما خلق الله؛ فهم شر من الكلاب الذين ضرب بهم المثل أولاً، ومن الحمير الذين ضرب بهم المثل ثانياً، بل هم شر الخلائق جميعاً.

ومن هنا كان لزاماً على الإنسان أن يعرف أنه لم يترك سدى ولم يخلق عبثاً، وأن هناك رقابات عظيمة لا يفوتها شيء من أمره:

رقابة الله جل جلاله

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7]، لا تحجب عنه السماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره ولا بحر ما في قعره، وهو مطلع على ما في نفوسنا وعلى تفكيرنا وتدبيرنا وكل شئوننا، وهو الشاهد الذي لا يغيب، جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين، لا يشغله شأن عن شأن، اطلاعه على اجتماعنا الآن هنا في هذا المكان لا يحجبه عما فيه الملأ الأعلى يختصمون، ولا يحجبه عن شأن أهل الأرض جميعاً؛ فهو يسمع أصواتهم ويرى أمكنتهم ويقسم أرزاقهم ويقبل أعمال المقبولين منهم ويرد أعمال المردودين، واطلاعه على أحوال الأحياء مثل اطلاعه على أحوال الأموات تماماً، لا فرق، ويعلم ما تأكل الأرض من أجسامنا ويعلم ما يطرأ في خلقتنا مع مرور الزمن، كلما تقدم العمر بكل إنسان منا تغيرت خلقته ونحن لا نشعر بذلك، وفي كل يوم من أيام الدنيا يطرأ تغير للجسم، وهذا التغير معلوم لدى الله؛ فيعلم ما ينتقص من السمع وما ينتقص من البصر وما ينتقص من العمر، وما ينتقص من كل القوة، ورقابته لا يفوتها شيء.

رقابة الملائكة الكاتبين

ثم بعد ذلك رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، وقد جعلهم الله حفظة على أعمالنا وأقوالنا، وقربهم إلينا؛ فجعل مع كل واحد منا واحداً وعشرين من الملائكة، منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وكان بالإمكان أن يكون الكاتب واحداً وهو مصدق عند الله، ولكن شرف الله الحسنات فجعل لها كاتباً مستقلاً يسمعها ويراها؛ فيكتبها، وعظم شأن السيئات فجعل لها كاتباً مستقلاً أيضاً، وهما شاهدان لا يجرحان؛ فالأمر إذا شهد عليه عدلان ثبت؛ ولذلك قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].

ومنهم ملائكة الجوارح، فكل جارحة من الإنسان عليها ملك، ملك يحفظ العين اليمنى وملك يحفظ العين اليسرى وملك يحفظ الأذن اليمنى وملك يحفظ الأذن اليسرى وملك يحفظ الشفتين واللسان وملك يحفظ الأنف وملك يحفظ الرأس وما حوى.. وهكذا في كل الأطراف.

ثم المعقبات من الملائكة وهم بين أيدينا ومن خلفنا، كما قال الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ[الرعد:11].

ثم بعد ذلك القرين؛ فكل إنسان منا له قرين من الملائكة وقرين من الشياطين، فقرينه من الملائكة يلهمه الصواب والسداد وينصحه بما فيه الصلاح له وهو لا يشعر بذلك؛ لأنه لا تسمعه أذناه ولا تراه عيناه ولكن يسمعه قلبه ويراه، وتارة ينصحه في اليقظة وتارة ينصحه في النوم.

ومنهم الملائكة الذين يتعاقبون في الناس، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، وهم الذين يرفعون التقارير إلى الله جل جلاله، يأتون فيقول: (كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون).

وهؤلاء الملائكة الكرام ملائكة الليل غير ملائكة النهار، وهم يتعاقبون دائماً بالتقارير إلى الله جل جلاله وهو أعلم بها.

رقابة النبي صلى الله عليه وسلم

ثم بعد ذلك الرقابة الثالثة هي رقابة النبي الشهيد؛ فهذه الأمة شهيدها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو النبي المبعوث فيها، وأنتم تعلمون أنه أفضل الخلق وأزكاهم وأعدلهم وأخشاهم لله وأرضاهم لله؛ فشهادته لا تجرح، هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يشهد على أعمالنا جميعاً، ما كان منها صالحاً يشهد به وما كان طالحاً يشهد به، يعرض عليه عملنا وهو في قبره فيشهد به؛ ولذلك قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]؛ فهو يشهد علينا بأعمالنا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم، وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]؛ ولهذا يطلع على الأعمال كما قال: ( فإن صلاتكم معروضة علي )، ولا ينافي هذا قوله على الحوض يوم القيامة عندما يقول: ( يا رب! أمتي.. أمتي؛ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، فالمقصود بقوله: (لا تدري ما أحدثوا بعدك) : استعظام ما أحدثوا، ولا يقصد به أنه لا علم له بذلك، فقد أطلعه الله عليهم للشهادة.

رقابة المؤمنين

الرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في الأرض، يشهد بعضهم على بعض، وشهادتهم مزكاة عنده ولذلك قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( مر عليه بجنازة فأثنى الناس عليها خيراً؛ فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى، فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت، فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟ قال: أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، وألسنة الخلق أقلام الحق، ولا يمكن أن يتواتر الناس جميعاً على شهادة مغلوطة مكذوبة؛ فلذلك شهادة المؤمنين المحققة التي يتفقون عليها هي رقابة وهم يطلعون على الأعمال الظاهرة، وقد قال الحكيم:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم

رقابة الإنسان على نفسه

الرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:14-15]، فإنه تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، تشهد عليه جوارحه بما اقترفت، وتشهد على اللسان بما نطق، وما من يوم من الأيام إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: (اتق الله فينا؛ فإننا بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا).

والله تعالى يوم القيامة يختم على الأفواه فتتكلم الجوارح وتشهد كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ[النور:24-25]، وقال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[فصلت:21-23]، قال تعالى: نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، فمن الغريب، ومما يستغربه الإنسان أن تتكلم رجله وأن تتكلم يده وأن تتكلم أذنه وأن تتكلم عينه وأن يتكلم شعره، فلا تلقى شعرة في بدنه إلا قامت فشهدت عليه، ولا ذرة من ذرات جسمه ولو كانت سقطت كالأظافر التي تقطع وتقلع إلا جاءت فشهدت عليه، هي شهادة عظيمة وهي من أقرب الكائنات عليه.

ثم بعد هذه الشهادات كلها يتنكر الإنسان لها ويظن أنه خال بنفسه وأنه يتصرف طواعية كما يريد، والواقع خلاف ذلك؛ فالإنسان كل أعماله قد كتبت في القدر عند الله سبحانه وتعالى، رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وكتب معه وهو جنين في بطن أمه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فكل أعماله كتبت وهو جنين في بطن أمه، وكتب معها رزقه وأجله وشقي هو أو سعيد، كل ذلك كتب، ورفعت الأقلام وجفت الصحف، وهو محفوظ عند الله سبحانه وتعالى في الصحف التي عنده فوق عرشه، وهي أم الكتاب، لا يعتريها المحو ولا التبديل، يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7]، لا تحجب عنه السماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره ولا بحر ما في قعره، وهو مطلع على ما في نفوسنا وعلى تفكيرنا وتدبيرنا وكل شئوننا، وهو الشاهد الذي لا يغيب، جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين، لا يشغله شأن عن شأن، اطلاعه على اجتماعنا الآن هنا في هذا المكان لا يحجبه عما فيه الملأ الأعلى يختصمون، ولا يحجبه عن شأن أهل الأرض جميعاً؛ فهو يسمع أصواتهم ويرى أمكنتهم ويقسم أرزاقهم ويقبل أعمال المقبولين منهم ويرد أعمال المردودين، واطلاعه على أحوال الأحياء مثل اطلاعه على أحوال الأموات تماماً، لا فرق، ويعلم ما تأكل الأرض من أجسامنا ويعلم ما يطرأ في خلقتنا مع مرور الزمن، كلما تقدم العمر بكل إنسان منا تغيرت خلقته ونحن لا نشعر بذلك، وفي كل يوم من أيام الدنيا يطرأ تغير للجسم، وهذا التغير معلوم لدى الله؛ فيعلم ما ينتقص من السمع وما ينتقص من البصر وما ينتقص من العمر، وما ينتقص من كل القوة، ورقابته لا يفوتها شيء.

ثم بعد ذلك رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، وقد جعلهم الله حفظة على أعمالنا وأقوالنا، وقربهم إلينا؛ فجعل مع كل واحد منا واحداً وعشرين من الملائكة، منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وكان بالإمكان أن يكون الكاتب واحداً وهو مصدق عند الله، ولكن شرف الله الحسنات فجعل لها كاتباً مستقلاً يسمعها ويراها؛ فيكتبها، وعظم شأن السيئات فجعل لها كاتباً مستقلاً أيضاً، وهما شاهدان لا يجرحان؛ فالأمر إذا شهد عليه عدلان ثبت؛ ولذلك قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].

ومنهم ملائكة الجوارح، فكل جارحة من الإنسان عليها ملك، ملك يحفظ العين اليمنى وملك يحفظ العين اليسرى وملك يحفظ الأذن اليمنى وملك يحفظ الأذن اليسرى وملك يحفظ الشفتين واللسان وملك يحفظ الأنف وملك يحفظ الرأس وما حوى.. وهكذا في كل الأطراف.

ثم المعقبات من الملائكة وهم بين أيدينا ومن خلفنا، كما قال الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ[الرعد:11].

ثم بعد ذلك القرين؛ فكل إنسان منا له قرين من الملائكة وقرين من الشياطين، فقرينه من الملائكة يلهمه الصواب والسداد وينصحه بما فيه الصلاح له وهو لا يشعر بذلك؛ لأنه لا تسمعه أذناه ولا تراه عيناه ولكن يسمعه قلبه ويراه، وتارة ينصحه في اليقظة وتارة ينصحه في النوم.

ومنهم الملائكة الذين يتعاقبون في الناس، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، وهم الذين يرفعون التقارير إلى الله جل جلاله، يأتون فيقول: (كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون).

وهؤلاء الملائكة الكرام ملائكة الليل غير ملائكة النهار، وهم يتعاقبون دائماً بالتقارير إلى الله جل جلاله وهو أعلم بها.

ثم بعد ذلك الرقابة الثالثة هي رقابة النبي الشهيد؛ فهذه الأمة شهيدها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو النبي المبعوث فيها، وأنتم تعلمون أنه أفضل الخلق وأزكاهم وأعدلهم وأخشاهم لله وأرضاهم لله؛ فشهادته لا تجرح، هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يشهد على أعمالنا جميعاً، ما كان منها صالحاً يشهد به وما كان طالحاً يشهد به، يعرض عليه عملنا وهو في قبره فيشهد به؛ ولذلك قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]؛ فهو يشهد علينا بأعمالنا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم، وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]؛ ولهذا يطلع على الأعمال كما قال: ( فإن صلاتكم معروضة علي )، ولا ينافي هذا قوله على الحوض يوم القيامة عندما يقول: ( يا رب! أمتي.. أمتي؛ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، فالمقصود بقوله: (لا تدري ما أحدثوا بعدك) : استعظام ما أحدثوا، ولا يقصد به أنه لا علم له بذلك، فقد أطلعه الله عليهم للشهادة.

الرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في الأرض، يشهد بعضهم على بعض، وشهادتهم مزكاة عنده ولذلك قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( مر عليه بجنازة فأثنى الناس عليها خيراً؛ فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى، فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت، فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟ قال: أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، وألسنة الخلق أقلام الحق، ولا يمكن أن يتواتر الناس جميعاً على شهادة مغلوطة مكذوبة؛ فلذلك شهادة المؤمنين المحققة التي يتفقون عليها هي رقابة وهم يطلعون على الأعمال الظاهرة، وقد قال الحكيم:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم

الرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:14-15]، فإنه تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، تشهد عليه جوارحه بما اقترفت، وتشهد على اللسان بما نطق، وما من يوم من الأيام إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: (اتق الله فينا؛ فإننا بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا).

والله تعالى يوم القيامة يختم على الأفواه فتتكلم الجوارح وتشهد كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ[النور:24-25]، وقال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[فصلت:21-23]، قال تعالى: نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، فمن الغريب، ومما يستغربه الإنسان أن تتكلم رجله وأن تتكلم يده وأن تتكلم أذنه وأن تتكلم عينه وأن يتكلم شعره، فلا تلقى شعرة في بدنه إلا قامت فشهدت عليه، ولا ذرة من ذرات جسمه ولو كانت سقطت كالأظافر التي تقطع وتقلع إلا جاءت فشهدت عليه، هي شهادة عظيمة وهي من أقرب الكائنات عليه.

ثم بعد هذه الشهادات كلها يتنكر الإنسان لها ويظن أنه خال بنفسه وأنه يتصرف طواعية كما يريد، والواقع خلاف ذلك؛ فالإنسان كل أعماله قد كتبت في القدر عند الله سبحانه وتعالى، رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وكتب معه وهو جنين في بطن أمه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فكل أعماله كتبت وهو جنين في بطن أمه، وكتب معها رزقه وأجله وشقي هو أو سعيد، كل ذلك كتب، ورفعت الأقلام وجفت الصحف، وهو محفوظ عند الله سبحانه وتعالى في الصحف التي عنده فوق عرشه، وهي أم الكتاب، لا يعتريها المحو ولا التبديل، يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع