العمل الثقافي والنقابي في الميزان الشرعي [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فنصل الآن إلى عمل النقابة؛ فالنقابة مهمتها الأولى كما ذكرنا هي تحقيق العدل والمطالبة بالحقوق، وهذا العدل قامت به السماوات والأرض وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل في الأمر كله ويمارسه، وكان خلفاؤه الراشدون كذلك يأمرون بالعدل في القسمة ويمارسون ذلك.

وهذا العدل هو الذي يقع به الاستقرار، وهو الذي يقع به عدم الاعتداء، فإذا حصل العدل وبسط رداءه على الأرض، واستوى الناس في الفرص والحقوق، وتساووا في ذلك؛ استقرت الأوضاع، ولم تقع القلاقل ولا الحروب الأهلية ولا المشكلات، فالوحدة بين السكان أساسها العدل، إذا عدل بينهم فنالت كل شريحة حظها لم تقع الحروب الأهلية، وكذلك إذا حصل العدل لم تسمعوا بانقلاب عسكري، ولم تسمعوا بمحاولة لإسقاط النظام؛ لأن العدل قد يقتضي الاستقرار والثبات.

فوائد العدل وعواقب تركه في الحياة الدنيا

وكذلك فإن من نتائج العدل أنه أيضاً سبب لنعم باطنة من عند الله سبحانه وتعالى؛ فقد أخرج ابن ماجه في السنن و أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً؛ فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا وظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المؤونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوة زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمة بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذا العدل مطلب بشري وهو قبل ذلك أمر رباني أمر الله به، ولا يمكن أن يستقيم حال أهل الأرض إلا بالعدل.

وهذا العدل يقتضي العدل في الفرص والعدل في الحقوق حتى لو كان ذلك على سبيل النقص، فقضية العون في التركات هو عدل؛ لأن النقص الحاصل بالتساوي على كل الورثة؛ فلذلك الاشتراك في الموجود على قدم المساواة هو العدل حتى لو كان في جانب النقص.

أثر العدل في مطالبة الناس بحقوقهم

وهذا العدل بالإضافة إلى كل فوائده وآثاره أيضاً يربي الناس على المدنية، ويربيهم على النخوة وعدم المذلة والهوان، ولا أزال أتذكر قبل سنوات عدة في مدينة شفيلد في المملكة المتحدة - بريطانيا - رأيت أهل البلدية يخرجون في الشارع فسألت عن سبب ذلك؛ فإذا رجل قد امتنع من أداء ضريبة الطرق في بريطانيا والدول الغربية، الضرائب التي تؤخذ من المواطن كل قرش منها يعلم في أي اتجاه يذهب، إذا أخذ منه مائة وعشرين أوقية فهو يعلم أن عشرين أوقية للتعليم وعشرين أوقية للصحة، وعشرين أوقية للطرق، وعشرين أوقية للماء، وعشرين أوقية للكهرباء؛ فهي موزعة توزيعاً دقيقاً؛ ولذلك يستطيع الامتناع عن بعض الضرائب إذا لم تؤد له الخدمة، ومن حقه ذلك، فإذا هذا المواطن كانت في الشارع أمام بيته حفرة فامتنع عن أداء ضريبة الطرق، فجاءت البلدية تطالبه بذلك فرفعت القضية لدى المحكمة، وحكمت المحكمة لصالحه بالتعويض، وبأن تصلح له الحفرة، وقد امتنع هو من أداء الضرائب؛ لأن لديه نخوة؛ لأنه يشعر بأنه يعيش في ظل أمان وعدالة.

وهذه العدالة التي حصلت لدى الغربيين اليوم نحن أولى بها منهم؛ فديننا جاء بها، وتربيتنا تقتضيها، وما ندرسه في مدارسنا يوجبها علينا بخلاف ما يدرسونه في مدارسهم، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بـالنجاشي بالحبشة فقال: ( فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد )، وهذا تنويه نبوي كبير بذلك الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد.

التعود والعيش مع الظلم وأثره في المطالبة بالحقوق

وهذا العدل إذا حصل بين الشعوب سيزول عنها آثار الاستعمار النفسية، ومخلفاته العقلية؛ فنحن الآن ما زلنا نخضع - شئنا أو أبينا - بمخلفات الهزيمة؛ ففي نفوسنا كثير من المذلة والهوان، وإذا سافرت إلى أفريقيا فرأيت بعض أخواني من الأفارقة يلهثون وراء الذين يأتون من أوروبا، وهم يرغبون في صدقاتهم وخدماتهم ويتسابقون إليهم، ويرحبون بهم ترحيباً عجيباً، رأيت آثار هذه الهزيمة وتأذيت بها، فنحن الآن مهزومون أمام الغربيين، وسبب هذه الهزيمة هو ما أحرزوه من التقدم، ولا يمكن أن تزول عنا آثار هذه الهزيمة إلا إذا حصل العدل في بلادنا؛ فيتربى الناس على أخذ حقوقهم وعلى القيام بمصالحهم على الوجه الصحيح؛ ولذلك فإن بني إسرائيل لما تعودوا على جبروت فرعون وملكه بمصر قروناً من الزمن لم يزل عنهم أثر هذا الاستذلال والمهانة حتى فرض عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، فتعودوا على حياة الشظف، ومات كبار السن الذين تعودوا على فرعون وجنوده وعلى قتل الملوك وخدمتها، ونشأ جيل جديد من أبناء الصحراء استطاعوا أن يجاهدوا في سبيل الله؛ فأولئك الأوائل حين فرض عليهم الجهاد قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ[المائدة:22]، والشباب الذين تعودوا على حياة الشظف في التيه كان منهم داود عليه السلام الذي كتب الله له النصر والتمكين، وعلمه من علمه؛ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:251].

حاجة الأمة إلى العدل والشجاعة في المطالبة به

ونحن اليوم نحتاج إلى تيه، لكن هذا التيه الذي نحتاج إليه هو تيه العدالة، نحتاج إلى أن ينتشر العدل بيننا؛ حتى تزول عنا آثار الهزيمة النفسية، وحتى نتعود على أننا أمة يمكن أن تنال حقوقها ويمكن أن تطالب بها، وليس في ذلك غضاضة ولا مهانة؛ فكثير من الكبار والحكماء -بل والعلماء في بعض الأحيان- يظنون أن المطالبة بالحقوق هي خروج عن السلطان، أو هي نبذ للتقاليد أو هي إحداث للشغب والفوضى، وهذا سوء تصور وفهم؛ فعلى الناس أن يتعودوا على أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وهذا يقتضي أن توضع العدالة في موضعها، وأن يأخذ كل إنسان حقه الذي آتاه الله سبحانه وتعالى من خيرات هذه الأرض؛ فالله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل؛ وقد قال في كتابه: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وهذا التفضيل الكبير الذي فضلنا به ربنا جل جلاله -الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون- لا بد أن نقوم به وأن نكون أهلاً له؛ فالبشر ليس مثل البهائم التي تساق بالعصي، وليس مذللاً تذليلاً كما ذللت البهائم: وَذَلَّلْنَاهَا لَهمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ[يس:72]، ولا ينبغي أن يتعود على حياة المذلة والهوان، وقد قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (والله لولا أبيات بالإطنابة لفررت يوم صفين) و (أبيات من إطنابة) هي:

أبت لي همتي وأبى إبائي وأخذ الحمد بالثمن الربيح

وإذ شاني على المكروه نفسي وضربي هامة البطر المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستبيحي

لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح

فيحتاج الإنسان إلى أن يحدث في نفسه روح النخوة، ويطالب بحقوقه وألا يستحيي منها، فالإنسان الذي يستحيي من المطالبة بحقوقه لن ينالها أبداً.

وكذلك فإن من نتائج العدل أنه أيضاً سبب لنعم باطنة من عند الله سبحانه وتعالى؛ فقد أخرج ابن ماجه في السنن و أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً؛ فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا وظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المؤونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوة زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمة بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذا العدل مطلب بشري وهو قبل ذلك أمر رباني أمر الله به، ولا يمكن أن يستقيم حال أهل الأرض إلا بالعدل.

وهذا العدل يقتضي العدل في الفرص والعدل في الحقوق حتى لو كان ذلك على سبيل النقص، فقضية العون في التركات هو عدل؛ لأن النقص الحاصل بالتساوي على كل الورثة؛ فلذلك الاشتراك في الموجود على قدم المساواة هو العدل حتى لو كان في جانب النقص.

وهذا العدل بالإضافة إلى كل فوائده وآثاره أيضاً يربي الناس على المدنية، ويربيهم على النخوة وعدم المذلة والهوان، ولا أزال أتذكر قبل سنوات عدة في مدينة شفيلد في المملكة المتحدة - بريطانيا - رأيت أهل البلدية يخرجون في الشارع فسألت عن سبب ذلك؛ فإذا رجل قد امتنع من أداء ضريبة الطرق في بريطانيا والدول الغربية، الضرائب التي تؤخذ من المواطن كل قرش منها يعلم في أي اتجاه يذهب، إذا أخذ منه مائة وعشرين أوقية فهو يعلم أن عشرين أوقية للتعليم وعشرين أوقية للصحة، وعشرين أوقية للطرق، وعشرين أوقية للماء، وعشرين أوقية للكهرباء؛ فهي موزعة توزيعاً دقيقاً؛ ولذلك يستطيع الامتناع عن بعض الضرائب إذا لم تؤد له الخدمة، ومن حقه ذلك، فإذا هذا المواطن كانت في الشارع أمام بيته حفرة فامتنع عن أداء ضريبة الطرق، فجاءت البلدية تطالبه بذلك فرفعت القضية لدى المحكمة، وحكمت المحكمة لصالحه بالتعويض، وبأن تصلح له الحفرة، وقد امتنع هو من أداء الضرائب؛ لأن لديه نخوة؛ لأنه يشعر بأنه يعيش في ظل أمان وعدالة.

وهذه العدالة التي حصلت لدى الغربيين اليوم نحن أولى بها منهم؛ فديننا جاء بها، وتربيتنا تقتضيها، وما ندرسه في مدارسنا يوجبها علينا بخلاف ما يدرسونه في مدارسهم، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بـالنجاشي بالحبشة فقال: ( فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد )، وهذا تنويه نبوي كبير بذلك الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد.

وهذا العدل إذا حصل بين الشعوب سيزول عنها آثار الاستعمار النفسية، ومخلفاته العقلية؛ فنحن الآن ما زلنا نخضع - شئنا أو أبينا - بمخلفات الهزيمة؛ ففي نفوسنا كثير من المذلة والهوان، وإذا سافرت إلى أفريقيا فرأيت بعض أخواني من الأفارقة يلهثون وراء الذين يأتون من أوروبا، وهم يرغبون في صدقاتهم وخدماتهم ويتسابقون إليهم، ويرحبون بهم ترحيباً عجيباً، رأيت آثار هذه الهزيمة وتأذيت بها، فنحن الآن مهزومون أمام الغربيين، وسبب هذه الهزيمة هو ما أحرزوه من التقدم، ولا يمكن أن تزول عنا آثار هذه الهزيمة إلا إذا حصل العدل في بلادنا؛ فيتربى الناس على أخذ حقوقهم وعلى القيام بمصالحهم على الوجه الصحيح؛ ولذلك فإن بني إسرائيل لما تعودوا على جبروت فرعون وملكه بمصر قروناً من الزمن لم يزل عنهم أثر هذا الاستذلال والمهانة حتى فرض عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، فتعودوا على حياة الشظف، ومات كبار السن الذين تعودوا على فرعون وجنوده وعلى قتل الملوك وخدمتها، ونشأ جيل جديد من أبناء الصحراء استطاعوا أن يجاهدوا في سبيل الله؛ فأولئك الأوائل حين فرض عليهم الجهاد قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ[المائدة:22]، والشباب الذين تعودوا على حياة الشظف في التيه كان منهم داود عليه السلام الذي كتب الله له النصر والتمكين، وعلمه من علمه؛ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:251].