الضوابط الشرعية لفهم الكتاب والسنة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فبعد أن ذكرنا أنواع التفسير في القرآن، وأهل العلم المختصين بتفسيره، نتناول الآن فهم هؤلاء العلماء لدلالات القرآن، فأهل الرسوخ في العلم يتفاوتون في فهم الدلالات، فمنهم من يصل إلى مستوى الاستنباط من الإشارات لا من الألفاظ فقط، وهم قلائل أندر من السابقين، من فهم العبارة ثم فهم الإشارة بعد العبارة، وهؤلاء منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد فهم من قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[البقرة:233]، مع قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[الأحقاف:15] أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، وهذا ليس من دلالة أي لفظ من الآيتين، ولكنه من دلالة الإشارة فقط؛ لأنه جعل الإرضاع سنتين وجعل الحمل والإرضاع ثلاثين شهراً، والسنتان إذا أخذتا من ثلاثين شهراً لم يبقَ إلا ستة أشهر، فلم يترك للحمل إلا ستة أشهر، فهذا النوع من الفهم، هو فهم إشارات النص.

ومثله فهم مالك رحمه الله جواز الإصباح جنباً من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة:187]، قال: قد أباح الله الأكل والشرب والجماع طيلة الليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلم يترك وقتاً للغسل، إذا كان الإنسان يجوز له الجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر لم يبقَ له وقت للغسل فدل على جواز الإصباح جنباً، وليس هذا من دلالة اللفظ، وإنما هو من دلالة الإشارة فقط.

ومثل هذا دلالة التنبيه وهي التي يسميها كثير من الأصوليين بدلالة الإيماء، وهي أن يدل اللفظ على إشارة من التعليل وعلى العلية، اللفظ قد يدل على التعليل فقط أن الحكم معلل، ولكنه لا يدل على العلة، وقد يدل على التعليل والعلية معاً، يدل على أن الحكم معلل وعلى أن علته كذا، ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14]، فارتباط الحكم بوصف مشتقٍ يدل على أن ما اشتق منه الوصف هو علة الفقه، معناه: إن الأبرار لفي نعيم لبرورهم، وإن الفجار لفي جحيم لفجورهم، فالبرور هو سبب دخول الجنة وسبب النعيم، والفجور هو سبب دخول النار، وهذا ليس دلالة صريحة ولا هو نص، لكنه إنما دلت عليه الآية بارتباط الحكم بالوصف المشتق، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14].

الجهات التي يبحث فيها في الأدلة من الكتاب والسنة

ومستويات الناس في هذا متباينة متمايزة، يمكن أن نفصلها بالأرقام ليكون ذلك أدعى للانتباه.

فالرقم الأول في الناس في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم من لا يفهم العربية أصلاً، المطبق الذي لا يفهم العربية، فهذا حظه من دلالة النصوص التقليد في دلالتها كما يقلد في نقلها؛ لأننا ذكرنا أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين: جهة الورود، وجهة الدلالة، وجهة الورود معناها: الثبوت.

جهة ورود القرآن الكريم إلينا

ونحن في القرآن حصل لدينا العلم الجازم بالتواتر به، وهو معصوم محفوظ؛ فلا يحتاج اليوم إلى التفصيل في الأسانيد والتدقيق في تراجم الرجال، لكن الإسناد مطلوب على كل حال، وهو من خصائص هذه الأمة، وقد شرف الله به هذه الأمة من بين الأمم؛ ولذلك يقول أهل الحديث: كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو اتصال بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإننا ما عرفنا أن حديثاً صحيحاً بسبب أن البخاري أخرجه في الصحيح، وإنما عرفنا ذلك بإسناده؛ لأن البخاري أتى بكثير من الأحاديث معلقة؛ فليس مجرد ذكرها في الصحيح دليلاً على صحتها؛ بل الصحة إنما عرفت من قبل إسنادها.

ومن أجل هذا فما كان من القراءات السبع برواياتها الأربعة عشر من طرقها الثمانية والعشرين فهو متواتر قطعاً؛ لأن هذه القراءات السبع أجمعت الأمة على تواترها، واختلف فقط في أمر واحد منها، وهو الاختلاف في هيئة الأداء بين الألفاظ؛ فمثلاً قول الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف:19]، والقراءة الأخرى: (( وجعلوا الملائكة الذين هم عِند الرحمن إنهاثاً أو اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون))، وفي رواية قالون : (( أأَوشَهِدُوا خلقهم ستكتب شهادتهم ))، بألف الإدخال؛ فهذا الاختلاف في هيئة الأداء مختلف في تواتره، أما ما سواه فهو إجماعي محل التواتر.

واختلف في تتمة العشرة وهي القراءات الثلاث برواياتها الست، بطرقها الاثنتي عشرة، هل هي مكملة للسابقة فيكون الجميع متواتراً بثمانية وأربعين رواية أو لا؟ والراجح أنها متواترة، أما ما زاد على العشر فالراجح فيها عدم التواتر، وقد اختلف في ثلاث قراءات وهي: قراءة سليمان بن مهران الأعمش ، وقراءة الحسن البصري وقراءة ابن المحيصن ؛ فهذه الثلاث إذا أضيفت إلى الثلاثة المكملة للعشرة وهي: قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، وقراءة خلف ، وقراءة يعقوب الخراساني ؛ فهذه الثلاث هي المكملة للسبعة التي هي قراءة نافع ، وقراءة ابن كثير ، وقراءة ابن عامر ، وقراءة أبي عمرو بن العلاء ، وقراءة الكسائي ، وقراءة حمزة ، وقراءة عاصم بن أبي النجود ، فهذه هي القراءات المتواترة القطعية.

جهة ورود السنة إلينا

أما الحديث فإن البحث فيه من الجهتين معاً مستمر؛ لكن ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين دون تباين في لفظه فهو محل إجماع على صحته، وكذلك ما أخرجه البخاري فقط، وبعده ما أخرجه مسلم فقط، ثم بعد ذلك ما كان على شرطهما لدى كتب الصحيح الأخرى، ثم ما كان على شرط البخاري فقط، ثم ما كان على شرط مسلم فقط، ثم ما كان على شرطهما معاً، ثم ما كان على شرط البخاري ، ثم ما كان على شرط مسلم ، ثم ما كان على شرط غيرهما من ذوي الصحيح، وهذه التي قال فيها العراقي في الألفية:

وأرفع الصحيح مرويهما ثم البخاري فـمسلم فما

شرطهما حوى فشرط الـجعفي فمسلم فشرط غيرٍ يكفي

فتكون بهذا سبعة أقسام هي مراتب الصحيح.

أما من ناحية التصحيح لدى المتأخرين؛ فإن الراجح فيه أن يقلد الإنسان أهل العلم في الجرح والتعديل؛ لأنه لم يلتق بالرجال حتى يعرف المطعون فيه من غيره، فمن حكم عليه أهل العلم والأمانة بأنه ثقة قبلت روايته مطلقاً، ومن حكموا عليه بأنه ضعيف ردت روايته مطلقاً، ومن سكتوا عنه فقد اختلف فيه أهل الحديث، فرأى ابن حبان رحمه الله أن المجهول مستور، وعلى هذا فالأصل في أهل العلم ومن رواه العدالة، فقبل روايته، وخالفه من سواه، فقالوا: لا تقبل رواية المجهول مطلقاً.

والمجهول ينقسم إلى قسمين: إلى مجهول عين، ومجهول حال، فمجهول العين هو من لم يرو عنه إلا إنسان واحد، ومجهول الحال هو من لا يقال فيه تعديل ولا جرح.

واختلف أيضاً في أمرٍ آخر، وهو من أخرج له أهل الصحيح ولم يحكموا عليه بتوثيق ولا جرح ولا غيره، فذهب عبد الحق الإشبيلي إلى أن كل من أخرج له في الصحيح فهو ثقه تلقائياً، ولو لم نجد فيه جرحاً ولا تعديلاً، وخالفه ابن القطان فذهب إلى أن مجرد الإخراج لشخص لا يقتضي تعديله؛ ولذلك فإن أصحاب الصحيح ينتقون من الأخبار؛ لأن الشخص الواحد قد يكون ثقة في الرواية على أهل مصر غير ثقة في الرواية على أهل مصر آخر، فمثلاً: إسماعيل بن عياش ما رواه عن أهل الشام فهو ثقة فيه، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، و إسماعيل بن أبي أويس ابن عم مالك و ابن أخته وزوج ابنته ما رواه عن أهل المدينة فهو فيه ثقة، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، وأكبر منه هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم، فهو ثقة فيما رواه عن أهل الحجاز، ولا تقبل روايته عن أهل العراق.

ومستويات الناس في هذا متباينة متمايزة، يمكن أن نفصلها بالأرقام ليكون ذلك أدعى للانتباه.

فالرقم الأول في الناس في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم من لا يفهم العربية أصلاً، المطبق الذي لا يفهم العربية، فهذا حظه من دلالة النصوص التقليد في دلالتها كما يقلد في نقلها؛ لأننا ذكرنا أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين: جهة الورود، وجهة الدلالة، وجهة الورود معناها: الثبوت.

ونحن في القرآن حصل لدينا العلم الجازم بالتواتر به، وهو معصوم محفوظ؛ فلا يحتاج اليوم إلى التفصيل في الأسانيد والتدقيق في تراجم الرجال، لكن الإسناد مطلوب على كل حال، وهو من خصائص هذه الأمة، وقد شرف الله به هذه الأمة من بين الأمم؛ ولذلك يقول أهل الحديث: كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو اتصال بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإننا ما عرفنا أن حديثاً صحيحاً بسبب أن البخاري أخرجه في الصحيح، وإنما عرفنا ذلك بإسناده؛ لأن البخاري أتى بكثير من الأحاديث معلقة؛ فليس مجرد ذكرها في الصحيح دليلاً على صحتها؛ بل الصحة إنما عرفت من قبل إسنادها.

ومن أجل هذا فما كان من القراءات السبع برواياتها الأربعة عشر من طرقها الثمانية والعشرين فهو متواتر قطعاً؛ لأن هذه القراءات السبع أجمعت الأمة على تواترها، واختلف فقط في أمر واحد منها، وهو الاختلاف في هيئة الأداء بين الألفاظ؛ فمثلاً قول الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف:19]، والقراءة الأخرى: (( وجعلوا الملائكة الذين هم عِند الرحمن إنهاثاً أو اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون))، وفي رواية قالون : (( أأَوشَهِدُوا خلقهم ستكتب شهادتهم ))، بألف الإدخال؛ فهذا الاختلاف في هيئة الأداء مختلف في تواتره، أما ما سواه فهو إجماعي محل التواتر.

واختلف في تتمة العشرة وهي القراءات الثلاث برواياتها الست، بطرقها الاثنتي عشرة، هل هي مكملة للسابقة فيكون الجميع متواتراً بثمانية وأربعين رواية أو لا؟ والراجح أنها متواترة، أما ما زاد على العشر فالراجح فيها عدم التواتر، وقد اختلف في ثلاث قراءات وهي: قراءة سليمان بن مهران الأعمش ، وقراءة الحسن البصري وقراءة ابن المحيصن ؛ فهذه الثلاث إذا أضيفت إلى الثلاثة المكملة للعشرة وهي: قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، وقراءة خلف ، وقراءة يعقوب الخراساني ؛ فهذه الثلاث هي المكملة للسبعة التي هي قراءة نافع ، وقراءة ابن كثير ، وقراءة ابن عامر ، وقراءة أبي عمرو بن العلاء ، وقراءة الكسائي ، وقراءة حمزة ، وقراءة عاصم بن أبي النجود ، فهذه هي القراءات المتواترة القطعية.

أما الحديث فإن البحث فيه من الجهتين معاً مستمر؛ لكن ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين دون تباين في لفظه فهو محل إجماع على صحته، وكذلك ما أخرجه البخاري فقط، وبعده ما أخرجه مسلم فقط، ثم بعد ذلك ما كان على شرطهما لدى كتب الصحيح الأخرى، ثم ما كان على شرط البخاري فقط، ثم ما كان على شرط مسلم فقط، ثم ما كان على شرطهما معاً، ثم ما كان على شرط البخاري ، ثم ما كان على شرط مسلم ، ثم ما كان على شرط غيرهما من ذوي الصحيح، وهذه التي قال فيها العراقي في الألفية:

وأرفع الصحيح مرويهما ثم البخاري فـمسلم فما

شرطهما حوى فشرط الـجعفي فمسلم فشرط غيرٍ يكفي

فتكون بهذا سبعة أقسام هي مراتب الصحيح.

أما من ناحية التصحيح لدى المتأخرين؛ فإن الراجح فيه أن يقلد الإنسان أهل العلم في الجرح والتعديل؛ لأنه لم يلتق بالرجال حتى يعرف المطعون فيه من غيره، فمن حكم عليه أهل العلم والأمانة بأنه ثقة قبلت روايته مطلقاً، ومن حكموا عليه بأنه ضعيف ردت روايته مطلقاً، ومن سكتوا عنه فقد اختلف فيه أهل الحديث، فرأى ابن حبان رحمه الله أن المجهول مستور، وعلى هذا فالأصل في أهل العلم ومن رواه العدالة، فقبل روايته، وخالفه من سواه، فقالوا: لا تقبل رواية المجهول مطلقاً.

والمجهول ينقسم إلى قسمين: إلى مجهول عين، ومجهول حال، فمجهول العين هو من لم يرو عنه إلا إنسان واحد، ومجهول الحال هو من لا يقال فيه تعديل ولا جرح.

واختلف أيضاً في أمرٍ آخر، وهو من أخرج له أهل الصحيح ولم يحكموا عليه بتوثيق ولا جرح ولا غيره، فذهب عبد الحق الإشبيلي إلى أن كل من أخرج له في الصحيح فهو ثقه تلقائياً، ولو لم نجد فيه جرحاً ولا تعديلاً، وخالفه ابن القطان فذهب إلى أن مجرد الإخراج لشخص لا يقتضي تعديله؛ ولذلك فإن أصحاب الصحيح ينتقون من الأخبار؛ لأن الشخص الواحد قد يكون ثقة في الرواية على أهل مصر غير ثقة في الرواية على أهل مصر آخر، فمثلاً: إسماعيل بن عياش ما رواه عن أهل الشام فهو ثقة فيه، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، و إسماعيل بن أبي أويس ابن عم مالك و ابن أخته وزوج ابنته ما رواه عن أهل المدينة فهو فيه ثقة، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، وأكبر منه هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم، فهو ثقة فيما رواه عن أهل الحجاز، ولا تقبل روايته عن أهل العراق.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع