أحكام الجهاد


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده من أنفسهم, وقد شرع الدين لمصالح العباد, فما من مصلحة إلا جاء الدين يكفلها ويضمنها, فما عرف الناس مصلحته وأثره فإن مصلحته دنيوية, وما جهلوا مصلحته وأثره فإنه مصلحته أخروية, ولذلك يقسم المتشرعون والدارسون لعلوم الشريعة أحكام الشرع إلى قسمين: أحكام تعليلية, وأحكام تعبدية, فالأحكام التعليلية: ما كانت مصلحته دنيوية, والأحكام التعبدية: ما كانت مصلحته أخروية.

والأصل في الأحكام الأخروية -أي: التي مصلحتها أخروية- أن لا يدرك العقل مصالحها وحكمها, فالعقل لا يمكن أن يستوعب لماذا أوجب الله لطلوع الفجر صلاة ركعتين, ولزوال الشمس أربع ركعات, ولدلوكها أربع ركعات, ولغروبها ثلاث ركعات, ولغرب شفقها أربع ركعات, فهذا لا يمكن أن يصل إليه العقل؛ لكنه يدرك ما مصلحته دنيوية, كتحريم الربا, والسرقة, والزنا, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, ونحو ذلك من الأحكام التي مصلحتها دنيوية.

والجهاد هو مما فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده, وليس فرضه مختصاً بهذه الشريعة المحمدية الخاتمة, فقد كان مفروضاً في الشرائع السابقة, فقد فرض على أنبياء الله من لدن نوح عليه السلام أن يبذلوا جهدهم في إعلاء كلمة الله، وهذ معنى الجهاد, الجهاد مشتق من الجهد, والجُهد: هو الطاقة, بخلاف الجَهد, فالجَهد: هو المشقة, وفعل الجُهد هو: جَهِد, وأما فعل الجَهد فهو: جَهَدَ بفتح الحروف الثلاثة.

فبذل الجهد لإعلاء كلمة الله واجب منذ نزلت الشرائع, وقد بذل نوح جهده في إعلاء كلمة الله, وتعرفون أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً, ومكث بعد ذلك في الأرض في الدعوة ما الله عليم به من السنوات, نحن لا نعرف قدره ولا نقدره, لكننا نعلم أن الله خاطبه بقوله: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ[هود:48], سلام من الله وبركات كل ذلك يقتضي طول العمر والتمتيع في الحياة الدنيا بعد هبوطه ونزوله.

ثم بعد ذلك لم يأتِ نبي قط إلا فرض عليه الجهاد، سواء كان ذلك بالهجرة كما فرض على إبراهيم , أو بالقتال المباشر، وقد فرض ذلك على عدد كثير من الأنبياء, لكن الذي يميز هذه الأمة: أن الجهاد في الماضي لم يكن يباح لأهله الغنائم, وأحلت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً, فقد كان الأنبياء السابقون إذا غنموا جمعوا الغنائم فجاءتها نار من عند الله فأكلتها.

فإذا كان فيها غلول، أي: أخذ بعض الغزاة شيئاً من الغنيمة، فإن النار تمتنع عن أكلها, وكان الأنبياء حينئذٍ يبايعون قومهم، فمن لصقت يديه بيد نبيه فذلك دليل على أن الغلول فيه وفي أصحابه, كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أحلت الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهذه الأمة، فقد رفع الله عنها الإصر مطلقاً, أي: أن كل الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد رفعت عن هذه الأمة, فخاطب الله عموم الأمة بما كان يخاطب به المرسلين من قبل, فقد كان الله يخاطب المرسلين برفع الحرج عنهم, وخاطب بذلك عموم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث أن خطاب هذه الأمة هو خطاب الأنبياء السابقين, فقال: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]).

فهذه الأمة مشرفة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى مكرمة, فلذلك أحل لها ما لم يحل لمن قبلها, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي), وذكر منهن: (وأحلت لي الغنائم), فأحلت له الغنائم ولم تحل لأحد من قبله.

إن حكمة مشروعية الجهاد هي: إعلاء كلمة الله وإعلان اللواء له، وإثار الآخرة على الأولى, والسعي لتمكين الدين في الأرض.

فالله سبحانه وتعالى أخذ بيعةً على عباده, وقد أكدها في الكتب المنزلة, فقد أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن, وهي بيعة ماضية شاملة لكل الأمم: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

وهذا الجهاد إنما هو لمصلحة البشر, فإن الله جعل الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل, فمنذ أهبط الله آدم و حواء , وهما يمثلان الحق, وإبليس وهو يمثل الباطل انقسم أهل الدنيا إلى حزبين: حزب الله: وهم الذين يسعون لإعلاء كلمة الله وتحقيق العبادة له. وحزب الشيطان: وهم الذين يسعون لإغواء الناس وصدهم عن سبيل الله.

وهذان الحزبان كلاهما يبذل جهده في سبيل نصرة ما هو عليه, فأهل الإيمان يقاتلون في سبيل الله ويبذلون جهدهم من أجل إعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لرب العباد, وتحريرهم من عبادة كل من دونه.

وحزب الشيطان يسعون لتعبيد العباد لإبليس, وصرفهم عن سبيل الله, وقد جعل الله مصلحة الدنيا باستمرار هذا الصراع, إذ لو توقف الصراع لحظةً واحدة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251], وذلك أن هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء, وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل, فلو استقام الناس جميعاً ولم يبقَ على الأرض شرك ولا كفر ولا ظلم ولا عدوان ولا فسق لاستحق الناس أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم نجحوا في الامتحان, وحينئذٍ تنتهي الدنيا؛ لأن أهل الدنيا لا يمكن أن يدخلوا الجنة وهم أحياء في حياتهم الدنيا.

ولو لم يبقَ على الأرض للحق صوت, وكفر أهل الأرض جميعاً أو فسقوا وظلموا أنفسهم وابتعدوا عن منهج الله لاستحقوا عقاب الله, والله سبحانه وتعالى سريع العقاب, وهو يمهل ولا يهمل, ولا يمكن أن يترك أهل الظلم على ظلمهم, وقد تعهد بذلك: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ[آل عمران:179].

فلا بد حينئذٍ أن يأتي انتقام من الله جل جلاله, وهذا الانتقام لو جاء لأهلكهم جميعاً, فعلم أن مصلحة الدنيا هي بوجود الصراع بين الطائفتين, وعلم أنه لا يقصد في الجهاد القضاء على الباطل, فليس من أهداف أهل الدعوة ولا أهل الجهاد ولا أهل الإيمان أن يقضوا على الشرك والكفر بالكلية؛ لأن هذا مستحيل؛ لكن هدفهم هو الدرء والدفع, دفاع الله الناس بعضهم ببعض؛ لأن الشرك من حكمة الله أن يبقى، ومن مصلحة الدنيا أن يبقى فيها ظلم وعدوان وإيمان يتصارعان حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وإذا أراد الله أن تنتهي هذه الحياة الدنيا فإنه سيقبض أرواح المؤمنين بريح لينة تأخذ أرواحهم من آباطهم, وحينئذٍ لا يبقى على الأرض من يقول: الله, ويتهارج الناس تهارج الحمر، وهم حثالة أو حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة, وعليهم تقوم الساعة, فلا تقوم الساعة إلا على شرار الناس.

وهذا التدافع بين الحق والباطل يأخذ أنواعاً منوعة, وكله يسمى جهاداً, فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المشركين بالقرآن فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52], وأمره بجهاد المنافقين والمشركين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73], وقد جاهد الكفار بالسنان، وجاهد المنافقين باللسان, فلم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين قط, إنما جاهدهم باللسان.

وكذلك ثبت عنه أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم), وقد جاء هذا من حديث ابن عمر و أنس بن مالك رضي الله عنهما, وبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن الجهاد أنواع كثيرة, وقد أوصلها أهل العلم إلى أربع عشرة درجة, منقسمة إلى أربعة أنواع:

أولاً: جهاد النفس وهو أربعة مراتب:

المرتبة الأولى: التعلم

جهادها على تعلم ما أمر الله به, فالنفس لا تنقاد لتعلم ما أمر الله به إلا بمشقة وصعوبة, وهذه المشقة تارةً تكون من الدارسين وتارة تكون من المدرسين, وتأخرنا عنكم قد يكون من جهادكم في ذلك, فلذلك دائماً في طلب العلم مشقة, ولذلك يعتبر جهاداً, وقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه, كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. وأحاديث أن طلب العلم يعادل الجهاد في سبيل الله كثيرة جداً.

وهذه الأحاديث تدل على فضل طلب العلم, وقد ورد في ذلك عدد كثير من الأحاديث مثل: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع, وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء), فالعالم غير المعصوم يخطئ, لكن إذا أخطأ فالاستغفار له حاصل، فيستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء, ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.

المرتبة الثانية: العمل

ثم بعد ذلك جهادها على العمل بما تعلمته, فالإنسان إذا تعلم أمر الله قيل له: افعل، واترك. وعرف أن هذا من عند الله جل جلاله جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فليس له الخيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36], فلا بد أن يبادر الإنسان لامتثال الأمر واجتناب النهي إذا تعلمه, أما الإنسان الجاهل الذي لم يتعلم الحكم بعد ولا يدري هل هذا حلال أو حرام هو في فسحة حتى تقوم عليه الحجة بمعرفة الحكم, لكن بعد أن يعرف الحكم قامت عليه حجة الله, ولذلك كان العلماء في خطر إذا لم يعملوا بما علموا, وكذلك كل من تعلم, وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت فأقول: بل علمت, فيقال: ففيمَ عملت فيما علمت.

وكذلك أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله أن لا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي, ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي.

فلا بد أن يعمل الإنسان بما تعلمه, والإنسان إذا تعلم ولو شيئاً يسيراً فعمل به بورك له فيه, وقد أحسن من انتهى إلى ما عمل, فإذا كان الإنسان كلما تعلم شيئاً بادر إلى العمل به فقد أحسن قطعاً.

المرتبة الثالثة: الدعوة

ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة وهي: جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان وعمل به, فالإنسان إذا قطع شوطاً في العلم وعمل بذلك؛ ولكنه اعتزل الناس وانفرد ولم يسعَ لإعلاء كلمة الله لم يحقق البيعة التي في عنقه, وأنتم تعرفون أن اللبيب العاقل صاحب الدين والمروءة إذا تحمل ديناً فإنه سيسعى لا شك لسداده وقضائه, وإذا كان يمضي عليه السنة والسنتان والثلاث والأربع ولم يفكر في سداد الدين هل يكون صاحب دين وأمانة؟ هو مجروح في الشهادتين حينئذٍ ولا خلاق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إيمان لمن لا أمانة له), ونحن جميعاً قد تحملنا ديناً عظيماً من عند ربنا جل جلاله لا نستطيع إنكاره والحجة قائمة علينا به, فكل من لم يفكر فيه أو يبذل فيه مالاً أو تذكيراً أو وقتاً فقد تحمل ديناً ولم يسدده، ولم يفكر في سداده, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة).

وكذلك قال: (من لم يغز أو يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق), وفي رواية: (مات ميتةً جاهلية).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يحدث به نفسه), أي: يعزم عليه ويفكر كيف يتأتى له ذلك.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان بيعته مع الله، وأن يعلم أن الناس فيها على قسمين: صادقون, ومنافقون. والصادقون هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه, وهذا هو النفاق العملي, وقد قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ[الأحزاب:23-24].

المرتبة الرابعة: الصبر على طريق الحق

ثم المرتبة الرابعة من جهاد النفس: هي جهادها على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله جل جلاله, فالإنسان في هذه الحياة الدنيا فتح عليه جبهات كثيرة، وأصيب بكثير من المشغلات والملهيات عن الله, فالدنيا دار الغرور, والإنسان فيها كثيراً ما يغتر بشبابه أو بقوته أو بالزمان الذي هو فيه أو بالملهيات والزخارف الدنيوية, فيحتاج إلى أن يتطهر من ذلك كله، ولا يتطهر منه إلا بمنازعته بالصبر؛ أن يصبر على الحق, فالصبر على مر الحق سواء كان الحق للإنسان أو عليه هو الذي يقتضي النجاة على الصراط يوم القيامة, فهذا الصراط الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله صراط معنوي، وهو تمثيل للصراط الأخروي, والصراط الأخروي: جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف, وعليه كلاليب كشوك السعدان، يدخل بالكلوب الواحد سبعون ألفاً في النار, يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف, ومنهم من يمر كالريح المرسلة, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل, ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً, ومنهم من يزحف على مقعدته فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه بنار جهنم.

وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي, فمن يمسك نفسه عند الغضب, ويمسك نفسه عن معاصي الله إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها, وإذا جاءه الخطاب كان من المبادرين إليه, إذا سمع: حي على الصلاة حي على الفلاح كان من المجيبين لداعِ الله, وإذا جاء وقت الزكاة كان من المزكين, وإذا جاء وقت الصوم كان من الصائمين, وهكذا في كل عبادة من العبادات، وهكذا في كل الأوامر والنواهي، هذا الإنسان يرجى له النجاة على عقبات الصراط, وهي عقبات شديدة.

والذي لا يجيب داعي الله سبحانه وتعالى, فإذا جاء وقت الصيام لم يكن من الصائمين, وإذا جاء وقت الزكاة لم يكن من المزكين, وإذا جاء وقت الحج لم يفكر فيه, وإذا جاء وقت الصلاة لم يفكر فيها وهكذا, هذا يوشك أن يسقط عن الصراط يمنةً أو يسرةً يوم القيامة؛ لأنه قد اتبع بنيات الطريق، ولم يسلك جادة الصراط في الحياة الدنيا, وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46].

جهادها على تعلم ما أمر الله به, فالنفس لا تنقاد لتعلم ما أمر الله به إلا بمشقة وصعوبة, وهذه المشقة تارةً تكون من الدارسين وتارة تكون من المدرسين, وتأخرنا عنكم قد يكون من جهادكم في ذلك, فلذلك دائماً في طلب العلم مشقة, ولذلك يعتبر جهاداً, وقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه, كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. وأحاديث أن طلب العلم يعادل الجهاد في سبيل الله كثيرة جداً.

وهذه الأحاديث تدل على فضل طلب العلم, وقد ورد في ذلك عدد كثير من الأحاديث مثل: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع, وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء), فالعالم غير المعصوم يخطئ, لكن إذا أخطأ فالاستغفار له حاصل، فيستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء, ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.

ثم بعد ذلك جهادها على العمل بما تعلمته, فالإنسان إذا تعلم أمر الله قيل له: افعل، واترك. وعرف أن هذا من عند الله جل جلاله جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فليس له الخيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36], فلا بد أن يبادر الإنسان لامتثال الأمر واجتناب النهي إذا تعلمه, أما الإنسان الجاهل الذي لم يتعلم الحكم بعد ولا يدري هل هذا حلال أو حرام هو في فسحة حتى تقوم عليه الحجة بمعرفة الحكم, لكن بعد أن يعرف الحكم قامت عليه حجة الله, ولذلك كان العلماء في خطر إذا لم يعملوا بما علموا, وكذلك كل من تعلم, وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت فأقول: بل علمت, فيقال: ففيمَ عملت فيما علمت.

وكذلك أخرج عنه أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله أنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله أن لا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي, ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي.

فلا بد أن يعمل الإنسان بما تعلمه, والإنسان إذا تعلم ولو شيئاً يسيراً فعمل به بورك له فيه, وقد أحسن من انتهى إلى ما عمل, فإذا كان الإنسان كلما تعلم شيئاً بادر إلى العمل به فقد أحسن قطعاً.

ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة وهي: جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان وعمل به, فالإنسان إذا قطع شوطاً في العلم وعمل بذلك؛ ولكنه اعتزل الناس وانفرد ولم يسعَ لإعلاء كلمة الله لم يحقق البيعة التي في عنقه, وأنتم تعرفون أن اللبيب العاقل صاحب الدين والمروءة إذا تحمل ديناً فإنه سيسعى لا شك لسداده وقضائه, وإذا كان يمضي عليه السنة والسنتان والثلاث والأربع ولم يفكر في سداد الدين هل يكون صاحب دين وأمانة؟ هو مجروح في الشهادتين حينئذٍ ولا خلاق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إيمان لمن لا أمانة له), ونحن جميعاً قد تحملنا ديناً عظيماً من عند ربنا جل جلاله لا نستطيع إنكاره والحجة قائمة علينا به, فكل من لم يفكر فيه أو يبذل فيه مالاً أو تذكيراً أو وقتاً فقد تحمل ديناً ولم يسدده، ولم يفكر في سداده, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة).

وكذلك قال: (من لم يغز أو يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق), وفي رواية: (مات ميتةً جاهلية).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يحدث به نفسه), أي: يعزم عليه ويفكر كيف يتأتى له ذلك.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان بيعته مع الله، وأن يعلم أن الناس فيها على قسمين: صادقون, ومنافقون. والصادقون هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه, وهذا هو النفاق العملي, وقد قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ[الأحزاب:23-24].

ثم المرتبة الرابعة من جهاد النفس: هي جهادها على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله جل جلاله, فالإنسان في هذه الحياة الدنيا فتح عليه جبهات كثيرة، وأصيب بكثير من المشغلات والملهيات عن الله, فالدنيا دار الغرور, والإنسان فيها كثيراً ما يغتر بشبابه أو بقوته أو بالزمان الذي هو فيه أو بالملهيات والزخارف الدنيوية, فيحتاج إلى أن يتطهر من ذلك كله، ولا يتطهر منه إلا بمنازعته بالصبر؛ أن يصبر على الحق, فالصبر على مر الحق سواء كان الحق للإنسان أو عليه هو الذي يقتضي النجاة على الصراط يوم القيامة, فهذا الصراط الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله صراط معنوي، وهو تمثيل للصراط الأخروي, والصراط الأخروي: جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف, وعليه كلاليب كشوك السعدان، يدخل بالكلوب الواحد سبعون ألفاً في النار, يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف, ومنهم من يمر كالريح المرسلة, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل, ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً, ومنهم من يزحف على مقعدته فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه بنار جهنم.

وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي, فمن يمسك نفسه عند الغضب, ويمسك نفسه عن معاصي الله إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها, وإذا جاءه الخطاب كان من المبادرين إليه, إذا سمع: حي على الصلاة حي على الفلاح كان من المجيبين لداعِ الله, وإذا جاء وقت الزكاة كان من المزكين, وإذا جاء وقت الصوم كان من الصائمين, وهكذا في كل عبادة من العبادات، وهكذا في كل الأوامر والنواهي، هذا الإنسان يرجى له النجاة على عقبات الصراط, وهي عقبات شديدة.

والذي لا يجيب داعي الله سبحانه وتعالى, فإذا جاء وقت الصيام لم يكن من الصائمين, وإذا جاء وقت الزكاة لم يكن من المزكين, وإذا جاء وقت الحج لم يفكر فيه, وإذا جاء وقت الصلاة لم يفكر فيها وهكذا, هذا يوشك أن يسقط عن الصراط يمنةً أو يسرةً يوم القيامة؛ لأنه قد اتبع بنيات الطريق، ولم يسلك جادة الصراط في الحياة الدنيا, وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46].

ثم بعد هذا جهاد الشيطان: وهو مرتبتان: جهاده فيما يلقيه من الشهوات, وجهاده فيما يلقيه من الشبهات, فالشيطان يسعى لإغواء الناس، وقد أقسم بعزة الله ليغوينهم قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83].

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى: أنه سلط على الناس, فأوتي طاقةً عجيبة فهو لا يمل, وجنوده عددهم كبير, وهو يأتي من بين يدي الإنسان ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17], وهو أوتي جندين مؤثرين:

أحدهما: الشبهات التي يلقيها على الإنسان, وهي في التصور والعلم, فمنها: شبهات التعامل مع الله، وتشمل شبهات عقدية, وشبهات في العبادات, ومنها شبهات في التعامل مع الناس، أي في الأخلاق، والاتهامات, والتصنيف، والمعاملة.

وهذه الشبهات لا ترد إلا بجند من جنود الله وهو اليقين, فإذا انطلق الإنسان من اليقين واعتمد على الدليل, ولم يبالِ بالوساوس والشبهات، ولم يعش مع الأوهام تخلص زمامه من شبهات الشيطان.

ويبقى الجند الثاني: وهو الشهوات, فالإنسان حيوان بطبعه, ونفسه ميالة إلى هواها, لكنه إن استطاع أن يحررها من اتباع الهوى فالجنة مضمونة له, وإن غلبته نفسه إلى الهوى فلم يلجمها بلجام التقوى، فانطلق وراءها وجعل إلهه هواه, حتى لو كان على علم فإن الله يضله على ذلك العلم بعد ِأن يتبع الهوى.

وهذه الشهوات منها شهوات حسية: كشهوة البطن وشهوة الفرج, ومنها شهوات معنوية: كشهوة حب الرئاسة والانتقام، والشهرة والظهور، والتمكين وغير ذلك, ولا يمكن أن تجاهد الشيطان فيها إلا بالصبر, فإذا صبر الإنسان عن شهوته فإنه يتغلب على نوازع الشطان، وبذلك يجاهده جهاداً حقيقياً, والشيطان عدو لك، وقد أمرت باتخاذه عدواً, وأنت لا تراه حتى تصفعه أو تضربه, ولا تسطيع قتله فهو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم, فلم لا تسطيع أن تعلن عداوتك له؟ والذي يكون بما يلي:

أولاً: بعدم اتباع خطواته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[النور:21].

ثانياً: بمحاولة نقص جنده, فجنده هم الغاوون, فإذا اهتدى على يدك واحد من الغاوين فقد نقصت جند إبليس واحداً, وإذا اهتدى على يدك اثنان زدت في إعلان العداوة, وهكذا حتى تصل إلى ما وفقك الله له.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع