أرشيف المقالات

ضوء علمي على مشكلة اللاجئين العرب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ عمر حليق في سنة 1946 شهد أمام لجنة التحقيق الانجلو - أمريكية أستاذ يهودي هو البرفسور فرانك توتستين رئيس دائرة علم السكان (ديموغرافيا) في جامعة برنستون الأمريكية الشهيرة عن مستقبل الكيان اليهودي في فلسطين من الناحية العلمية الصرف وعلى ضوء مشاكل السكان.
وكانت خلاصة تحقيقاته وتحليلاته المعززة بالأرقام والدراسات الإحصائية تفيد أن تزايد السكان العرب في فلسطين هو أكبر خطر يهدد مطالع اليهود فيها وصرح نونستين بما يلي بالحرف الواحد: (إن من الصعب جداً أن يتصور المرء الظروف التي يستطيع اليهود أن يصبحوا فيها أكثرية في فلسطين.
فإن العرب (ونسبة تزايد السكان بينهم بفلسطين أعلى نسبة في العالم على الإطلاق) حائزون لجميع الإمكانيات الطبيعية والاجتماعية لأن يحتفظوا بهذه النسبة المرتفعة.
ومهما يكن عدد اليهود المتدفقين على فلسطين كبيراً فإن مقدرة الزراعة والصناعة اليهودية على استيعابهم ستظل محدودة مقيدة بعوامل اقتصادية واجتماعية، منها الرغبة في الاحتفاظ بمستوى للمعيشة مرتفع، ونزعة اليهود الأوربيين لتجديد نسلهم بولد أواثنين، وطبيعة الاشتراكية التي تجعل اليهودي في فلسطين غير ميال إلى بناء عائلي كبير.
وهذا عكس ما ينزع إليه العربي وحتى لو تسنى لليهود أن ينشئوا لهم دولة فإن من المستبعد أن يستطيعوا الاحتفاظ بالسيادة السياسية في كل فلسطين أوفي جزء منها، بسبب هذا التزايد الهائل بين السكان العرب.
وحتى لو عززت اليهود دولة أو دول خارجية كبرى فإن هناك عوامل طبيعية واجتماعية ديمغرافية (بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية) تجعل تزايد السكان بين العرب أكبر خطر حقيقي يواجه مطامع اليهود في فلسطين. وعلى ضوء هذه الحقائق فإن أكبر الظن أن حماسة اليهود ونشاطهم والجهد والمال والتضحية الإجماعية التي بذلوها لبناء الدولة اليهودية، وجعلها دولة حديثة مزدهرة ستذهب سدى. وسيجد اليهود أنفسهم بحكم هذه العوامل الديمغرافية عاجزين عن تحقيق التفوق العدد والسيطرة السياسية للاحتفاظ بالسيادة الفعلية في فلسطين)
. هذه شهادة عالم يهودي مهما قلبتها وجدت فيها، على ضوء علم السكان، حقائق راهنة تلقي ضوءاً قوياً على مشكلة اللاجئين العرب يساعد على تفهم مصلحتهم ومصلحة الوطن الفلسطيني الذي يحبونه ويتطلعون إلى الاستقرار في ربوعه إلى أن تهب عليهم وعلى إخوانهم في الوطن العربي الأكبر رياح مواتية لإتمام الصراع الفاصل مع اليهودية العالمية في أرض الميعاد. وهذه اللفتة العلمية تلقي كذلك ضوءاً على هذا الجدل الذي يسود المحافل العربية الآن بصدد مسألة العرب الذين أقصاهم الإرهاب والإجرام اليهودي عن ديارهم، وهي مسألة تستحل مكان البروز من أعمال لجنة التوفيق التي بعثت بها هيئة الأمم إلى فلسطين والتي تتناقل الصحف الآن أنباء نشاطها. فهناك رأيان بصدد مشكلة اللاجئين العرب: رأي يدعو إلى العودة واستعادة الأموال والممتلكات حتى ولو لم تسو المسألة الفلسطينية تسوية نهائية.
والرأي الآخر يتناول مسألة العودة هذه من ناحية عملية، فيقول إن طبيعة السلوك اليهودي في منطقة نفوذه في فلسطين لا تدعو مطلقاً إلى استئمانه على حياة نصف مليون من العرب. والواقع أن عملية اليهود في إجلاء السكان العرب بواسطة الإرهاب اليهودي عملية مستمدة من الحقائق البينة التي أكدتها شهادة نوتستين هذا وغيره من خبراء مشاكل السكان.
والقيادة الصهيونية الدولية أمهر من أن لا تشعر بخطورة هذه الحقائق وأن لا تحتال للتغلب عليها بواسطة مذابح (دير ياسين) وحيفا وترستجا وألف حادثة وحادثة من أعمال الإجرام اليهودي المنظم ولو أخذنا تحليلات نوتستين هذا من ناحيتها العلمية لاستطاع الداعون إلى عودة اللاجئين العرب إلى منازلهم وديارهم وحقولهم ومرابعهم في فلسطين استنباط حجج قوية قد تكون قاسية تتطلب روحاً جبارة وأعصاباً حديدية وتنظيماً قوياً ووعياً سياسياً حساساً، ولاستطاع هؤلاء الداعون إجابة مخالفيهم في الرأي على أساس (الأمر الواقع) كذلك. فإن إقامة أقلية عربية كبيرة في منطقة احتلال اليهود، له ذيول عملية بعيدة الخطورة والخطر على مستقبل الكيان اليهودي إذا تحققت لهذه الأقلية العربية حقوقها الثقافية التامة وضمانات سياسية واقتصادية.
وتوفير هذه الشروط مستطاع عملياً وقانونياً ودولياً.
وستكون هذه الأقلية العربية مكونة من ستمائة ألف شخص على الأقل وهو عدد السكان العرب بموجب خارطة الأمم المتحدة للتقسيم.
ولن يستطيع اليهود حين يعود العرب إلى ديارهم جلب أكثر من 100 ألف إلى 150 ألف يهودي من الخارج خلال الأعوام الخمسة القادمة، وذلك بسبب المقدرة الاقتصادية اليهودية على الاستيعاب، وهي مقدرة ستحددها تحديداً سيئاً إغلاق الأسواق العربية في وجه الإنتاج اليهودي ومنع الجوالى اليهودية في الشرق العربي من أن تعود إلى فتح المبادلة التجارية مع يهود فلسطين وتعزيز اقتصادياتهم كما فعلت في السنين السابقة عن طريق إيطاليا واليونان وغيرها.
وسبب آخر هو طبيعة المجتمعات اليهودية في الخارج.
فإن يهود أمريكا لمن يتركوا بحبوحة الرخاء في العالم الجديد لاختيار تجربة الصهيونية الشيوعية في فلسطين، وكذلك حال يهود غربي أوربا. وقد تكاثرت مؤخراً الأنباء بأن النظم الشيوعية القائمة في شرقي أوربا، ونسبة أولى الأمر من اليهود فيها كبيرة، قد بدأت تحول بين هجرة ما تبقى من اليهود في منطقة النفوذ الشيوعي لتحتفظ بسند لها أمام سخط الأكثرية من غير اليهود. والقيادة الصهيونية تتطلع إلى أن تسد هذا العجز في سياسة تهويد فلسطين ومشكلة التعدد في برنامج الهجرة الطامة - تتطلع إلى جلب الـ 800 ألف يهودي الذين يستوطنون مختلف أقطار الشرق العربي وشمالي أفريقيا.
وهذه ناحية لا يبدو أن صناع السياسة في العالم العربي يعطونها ما تستحقه من مراقبة واهتمام ولقد كان عدد العرب في فلسطين في مستهل الغزوة اليهودية (1919) حوالي 650 ألفاً فأصبحوا بعض مضى 25 عاماً مليوناً ونصف المليون تقريباً، وذلك بسبب هذه العوامل الديمغرافية الفريدة التي ذكرها الخبير نوتستاين وغيره من الباحثين في مشاكل السكان.
فنستنتج من ذلك أن بقاء 600 ألف عربي بين ظهراني 900 ألف يهودي الآن سيقلب أوضاع هذه الكثرية اليهودية رأساً على عقب في بضعة عشر عاما.
وهذه طريقة عملية على غاية من الأهمية في تقرير مصير المطامع الصهيونية في فلسطين والشرق العربي. كل ذلك بالإضافة إلى العواقب السياسية الخطيرة في العالم العربي إجمالا وهي التي تستلزمها رعاية مصالح السكان العرب في منطقة النفوذ اليهودي، وما سيترتب على ذلك من استعداد نفساني وعسكري يضمن دوام اتجاهات العرب نحو القضية الفلسطينية كلما ارتفعت شكاوى العرب المقيمين بين ظهرانى اليهود في فلسطين. وإذا كان الداعون لتفادى عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم في المنطقة اليهودية يبنون دعوتهم على نظرة عملية واقعية فإن الداعين إلى العودة يبنون دعوتهم على أسس واقعية صرفة مستمدة من طبيعة التزايد الهائل بين السكان العرب، وطبيعة مستقبل الصراع بين اليهودية العالمية والوحدة العربية. والرياح الدولية لا بد أن تهب مواتية للسفينة العربية عاجلاً أو آجلاً، وإن الحرب الفلسطينية قد أخذت تتمخض عن نزعة عسكرية صادقة واتجاه عملي إلى الإصلاح في الجهاز الإداري والنظم السياسية والاقتصادية والوعي الاجتماعي. هذه تعليلات ولفتات قد تفيد عند البت في مستقبل اللاجئين العرب.
ومسألة البت أكبر من أن تعالج في بحوث عارضة وهي تتطلب دراسات شاملة لا يصلح أن تكون العاطفة أساسها الوحيد.
فهذا الاتجاه العاطفي إذا تجرد من المعرفة الصائبة قد يولد عكس ما يتوخاه العاطفون، ويسبب ارتجالا في السلوك على النحو الذي صبغ تاريخ القضية الفلسطينية بطابع النكبات المتلاحقة. نيويورك عمر حليق معهد الشؤون العربية الأمريكية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢