شعبان شهر يغفل عنه الناس
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
شعبان.. شهر يغفل عنه الناس
لقد فضَّل الله تبارك وتعالى الأيامَ بعضَها على بعض؛ فجعل يومَ الجمعة خير يوم، وفضَّل الشهورَ بعضها على بعض؛ فجعل أفضلَها رمضان، ولكل شهر فضل ينبغي ألَّا نغفُلَ عنه؛ فشهر شعبان مِن الأشهر القليلة التي يهتمُّ بها المسلمون، والتي لها فضلٌ كبير عند الله؛ فهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال، وكان السَّلف الصَّالح يهتمُّون بالصيام في شعبان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ظهرَتْ بعد ذلك بِدعٌ ما أنزَلَ الله بها من سلطان، خاصَّة في ليلة النِّصْف من شعبان.
أمَّا عن فَضل الصيام في شعبان، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَحتفي بهذا الشهر ويصوم فيه أكثرَ مِن غيره من الشُّهور، حتَّى يُقال: لا يُفطر؛ كما في حديث أمِّنا عائشةَ رضي الله عنها: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ حتَّى نقول: لا يُفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم استكمَل صيامَ شهر إلَّا رمضان، وما رأيتُه أكثر صيامًا مِنْه في شعبان"؛ [متفق عليه].
وجاء عنها أيضًا رضي الله عنها أنها قالت: "لَم يكُن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُ شهرًا أكثر مِن شعبان، وكان يصومُ شعبان كلَّه، وكان يقول: ((خُذوا من العمل ما تُطيقون؛ فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتَّى تمَلُّوا))، وأحبُّ الصَّلاة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما دُووِم عليه وإن قلَّتْ، وكان إذا صلى صلاة داوَمَ عليها"؛ [متَّفق عليه]، وفي رواية لمسلم: "كان لا يصوم من السَّنة شهرًا تامًّا، إلَّا شعبان يصِلُه برمضان".
فالمقصود أنَّه كان يصوم الأكثرَ، وإمَّا أن يُجمع بين النُّصوص على أنَّ قولَها الثَّاني متأخِّر عن قولِها الأوَّل، فأخبرَتْ عن أوَّل أمْرِه أنَّه كان يصوم أكثَر شعبان، وأخبَرتْ ثانيًا عن آخِر أمره أنَّه كان يصومه كلَّه، وقيل: المراد أنَّه كان يصوم من أوَّله تارة، ومِن آخِره أخرى، ومن أثنائه طورًا، فلا يُخلي شيئًا منه مِن صيام، ولا يخصُّ بعضَه بصيام دون بعض.
ونقل الترمذيُّ عن ابن المبارك أنَّه قال: جائزٌ في كلام العرب إذا صام أكثرَ الشَّهر أن يقول: صام الشهرَ كلَّه، ويقال: فلان قام ليلتَه أجْمَع، ولعلَّه قد تَعشَّى واشتغل ببعض أمره.
النهي عن تقدُّم رمضان بصوم
عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتقدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومَين، إلَّا أن يكون رجُلٌ كان يصوم صَوْمَه، فلْيصم ذلك اليوم))؛ [رواه البخاري]، فمعنى الحديث: لا تَستقْبلوا رمضانَ بصيام على نيَّة الاحتِياط لرمضان، قال الترمذي بعد أن أخرَج الحديثَ: العمل على هذا عند أهل العلم، كَرهوا أن يَتعجَّل الرَّجُلُ بصيامٍ قبل دخول رمضان لِمعنى رمضان، ومثل هذا حديث عمَّار بن ياسر في صيام يوم الشَّكِّ ولفظه: ((مَن صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه، فقد عَصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم))، وكذلك الحديث الَّذي أخرجه أصحابُ السُّنن وصحَّحه ابن حبَّان وغيرُه عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا انتَصف شعبانُ، فلا تَصوموا)).
وقد قال بعضُ الشَّافعية: يَحرم تقدُّم رمضان بصَوم يوم أو يومين، ويُكْرَه التقدُّم من نِصْف شعبان للحديث الآخر، وجُمهور العلماء يجوِّزون الصومَ تطوُّعًا بعد نِصف شعبان ويضعِّفون الحديثَ.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجتهد في صيام شعبان لتعظيم رمضان، وقيل: كان يُكْثِر من الصَّوم في شعبان؛ لما يفوتُه من التطوُّع في رمضان، فصيام رمضان فريضة، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما كان يُخلي شهرًا مِن الشُّهور من صيام تطوُّع، إلَّا رمضان فلا تطوُّعَ فيه، فكان يكثِر مِن صوم شعبان؛ لِما يفوته من التطوُّع في رمضان.
وأصحُّ ما قيل في ذلك: أنَّه شهر يغفُل عنْه النَّاس بين رجب ورمضان؛ كما في حديث النَّسائي وأبي داود وابن خُزيمة عن أسامة بن زيد، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، لَم أرَكَ تصومُ من شهْرٍ من الشُّهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شَهرٌ يغفل النَّاس عنْه بين رجب ورمضان، وهو شَهر تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأُحِبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم)).
ليلة النصف من شعبان
أمَّا عن فَضل ليلة النِّصف من شعبان، فقد ورد في فَضْل هذه اللَّيلة - وهي اللَّيلة الخامسةَ عشرة من شعبان - أحاديثُ رواها أصحابُ السنن؛ كالترمذي وابنِ ماجه وأحمد، وهي أحاديث ضِعاف باتِّفاق أهل العلم، وقد قوَّى بعضُهم بعضَ هذه الأحاديث بشواهدها.
روى الترمذيُّ عن عائشة قالت: فقدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فخرجتُ، فإذا هو بالبقيع، فقال: ((أكنتِ تَخافين أن يَحيف اللهُ عليك ورسولُه؟))، قلت: يا رسولَ الله، إني ظننتُ أنَّك أتيتَ بعضَ نسائك، فقال: ((إنَّ الله عزَّ وجلَّ يَنزل ليلةَ النِّصف مِن شعبان إلى السَّماء الدنيا، فيَغفر لأكثرَ مِن عَدَد شَعر غنَم كلب)).
قال أبو عيسى: حديث عائشةَ لا نعرِفُه إلَّا مِن هذا الوَجْه من حديث الحجَّاج بن أَرْطاة، وسمعتُ محمَّدًا - يَعْني البخاريَّ - يضعِّف هذا الحديث، وقال: يَحيى بن أبي كثير لَم يسمع مِن عروة، والحجَّاج بن أرطاة لم يَسمع من يحيى.
قال المباركفوري: ورد في ليلة النِّصْف من شعبان عِدَّة أحاديث، مجموعها يدلُّ على أنَّ لها أصلًا، وساق معظمَ هذه الأحاديث، وحَكَم عليها ما بين منقطع ومرسَل، وضعيف وليِّن.
وممَّن حسَّن هذه الأحاديث بشواهدها الألبانيُّ رحِمه الله؛ حيث علَّق على حديث ابن ماجه: ((إنَّ الله تعالى ينزل ليلةَ النِّصْف من شعبان إلى السَّماء الدنيا، فيَغفِر لجميع خلْقِه، إلَّا لِمُشرِك أو مُشاحن))، فقال: حسن.
وعلى فرض صِحَّة هذه الأحاديث، فليس فيها سوى أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزل إلى السَّماء الدنيا، فيَغفر لعددٍ كبير مِن خلْقِه عدا المشْرِك والمشاحِن.
والعجيب أنَّ أهل البِدَع يتَعلَّقون بمثل هذه الأحاديث فيؤصِّلون بِدَعهم؛ كإحْداث تخصيص صيام يوم النِّصف مِن شعبان وقيام ليلته، ويخصُّونها بدعاء معيَّن، وينسَون أنَّ التنزُّل الإلهي إلى السَّماء الدنيا يكون في كلِّ ليلة؛ كما في الحديث الصحيح: ((ينزِل ربُّنا إلى السَّماء الدنيا في ثُلث الليل الآخر فيقول: هل مِن مُستغفِرٍ فأغفرَ له؟ هل مِن داعٍ فأستجيبَ له؟ هل مِن سائل فأُعطيَه؟ إلى أن يَطلع الفجر)).
فهلَّا تَمسَّكوا بهَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليلِ وصيامِ النَّوافل، والحِرْص على وقت السَّحَر؛ ليتعرَّضوا لهذه البركات والنَّفَحات.