واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الحجة قائمة للبشر بما أنزل الله جل جلاله في كتابه المبين، وبما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاءنا الحق وعرفناه، ولم يبقَ بعد ذلك إلا أن نعمل به، وهذا هو الامتحان الشاق، فالله جعل لنا خمسة أعمار:

العمر الأول: كان في عالم الذر قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فإنه جل جلاله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريةً فقال آدم : أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره مرةً أخرى، فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، كلهم شهدوا لله جل جلاله بالوحدانية والربوبية؛ فأخذ الله عليهم العهد إذ ذاك أن يعبدوه، وألا يعبدوا الشيطان، وفي ذلك يقول الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61]، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:172-173]، فأخذ الله هذا العهد على البشر جميعاً بالإيمان به والتوحيد، ولم يبقَ معنا من ذلك العمر الأول إلا أمران:

بقاء الفطرة على العبودية من عمر عالم الذر

الأمر الأول: الفطرة، فقد فطر الله الخلائق جميعاً، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً على العبودية، فالإنسان لو ولد بجزيرة من جزائر البحر، أو في قعر الصحراء، ولم يلقَ أحداً، فبلغ فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، لا يمكن أن يكون مستغنياً عن الدين، ولا يمكن أن يكون مستغنياً بأصل فطرته عن معبود يمد إليه يديه ويسأله، لا بد أن يبحث عن شيء يعظمه، فإذا هدي إلى عبادة الله عبد الله ووفقه الله، وإذا لم يُهدَ إلى عبادة الله، عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك؛ فهذه الفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً، وهي تفسد بمفسدات الفطرة، ومفسدات الفطرة منها التكبر والعناد، كما حصل لـفرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو يعرف أنه ليس رب السموات ولا رب الأرضين، ولم يجرِ البحار، ولم ينزل المطر، ولم يخلق البشر، يعرف ذلك في قرارة نفسه قطعاً، ولكنه عندما تكبر وعاند وطغى، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو يعرف كذبه؛ ولذلك قال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:36-37].

لكن الأصل في الإنسان أن يكون محتاجاً للدين، وأن يكون مفطوراً على ذلك، وإذا تجاسر على المعاصي؛ فكان يفعل ما حرم الله عليه، ويترك ما أوجب الله عليه، فإنه سيجد في نفسه أنه يفعل أمراً غير مناسب، ويلوم نفسه في باطنه على ذلك.

فنحن نجد أن من يسرق الآن يلوم نفسه على السرقة في باطن نفسه؛ لأن فطرته تلومه على ذلك، ومن يزني يلوم نفسه على ذلك في باطنه، ومن يكذب حتى لو ضحك الناس، يبقى هو غير ضاحك؛ لأنه يعلم أنه فعل أمراً محرماً لا خير له فيه، هذا من الفطرة التي فطرنا الله عليها.

بقاء التعارف من عمر عالم الذر

الأمر الثاني الذي بقي معنا من ذلك العمر الأول: هو التعارف؛ فالله كان قادراً على أن يجعلنا جميعاً كالشجر، كل شجرة لها أصل تنبت وحدها، ولكنه جعلنا من نفس واحدة؛ لنكون أسرةً واحدةً ولنتحد ونتفق، ونتعاون على البر والتقوى؛ لأن أبانا واحد، وأمنا واحدة، وحتى الأبوين جعلهما من نفس واحدة، خلق آدم ثم أخرج منه زوجه من ضلعه، ( وخلقت المرأة من ضلع أعوج )، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتحد الرجال والنساء، وليتحد البشر جميعاً؛ لأن أصلهم بشر واحد، إنسان واحد، مما يدل على أنهم لا بد أن يتآخوا ويتعاونوا، وأنه لا فرق بين الأسرة الآن التي تصبح فيها أنت وتمسي، وبين أسرة آدم عليه السلام، فهي أسرتك الأولى، فلا بد أن تحرص على هداية البشر جميعاً، والتعاون معهم، وإصلاحهم؛ لأنكم جميعاً من أسرة واحدة، أبوكم واحد وأمكم واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتفاخرها بالآباء؛ فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط )، فبين أن الأصل واحد، وهو آدم عليه السلام، وإنما يتفاوت الناس بحسب رضاهم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فمن كان أتقى لله، فهو أشرف وأكمل؛ لأن مصيره الجنة، ومن كان غير متقٍ لله، فهو أخس وأرذل، حتى لو كان في الدنيا يشار إليه بالبنان، ولو كان أغنى الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس، وأجملهم في الحياة الدنيا، وأكبرهم وظيفة؛ فإنه سيكون في أسفل السافلين يوم القيامة؛ ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى يوم القيامة بالرجل الضخم السمين، لا يساوي عند الله جناح بعوضة ).

وكان صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه، فمر رجل من المنافقين من الأغنياء والتجار الكبار، فأجله الناس، ونظروا إليه بإكبار، فقال: ( ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: رجل من أشراف الناس، جدير به إذا خطب أن يجاب، وإذا تكلم أن يستمع إليه، فمر رجل من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، وهو يلبس ... متمزقة، فقال: وما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: فقير من فقراء المسلمين، جدير إذا خطب ألا يجاب، وإذا تكلم ألا يستمع إليه، قال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا )، ملء الأرض، ولكم أن تصوروا ملء ... أو ملء ... واحد، فكيف بملء الأرض كلها بمثل هذا، لا حظوا الفرق الشاسع، (ملء الأرض) البشر الآن لا يملئون الأرض، وهم خمسة مليارات، ولا يملئون شيئاً من الأرض، ولو تأملنا في المعمور من الأرض الآن نجد نسبته ضئيلة، حوالي الربع أو أقل من الربع، ومع ذلك هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا.

في ذلك الوقت، تعارفت أرواحنا؛ لأنها جمعت في مكان ضيق، هو وادي نعمان الذي هو وادي عرفة فيما بعد، بطن عرفة الذي يقف الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة لله رب العالمين كل عام، هو الذي جمعنا الله فيه جميعاً، وأخرجنا من ظهر آدم، وأخذ علينا العهد فيه، فكنا في مكان ضيق تعارف منا عشرات الملايين أو المليارات، وبقي منا من لم يتعارف في الأطراف، فكانت ( الأرواح جنوداً مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبقي هذا التعارف بيننا.

فأنت الآن ترى شخصاً، لا تتفاهم معه في اللغة، ولن تره من قبل، ولا بينك وبينه علاقة دنيوية ظاهرة، فتجد نفسك منجذبة إليه، كأنك تحبه وكأنه عاش معك، فهذا الانجذاب؟ إنما هو من العالم الأول من العمر الأول، عندما تعارفت أرواحهم.

الأمر الأول: الفطرة، فقد فطر الله الخلائق جميعاً، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً على العبودية، فالإنسان لو ولد بجزيرة من جزائر البحر، أو في قعر الصحراء، ولم يلقَ أحداً، فبلغ فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، لا يمكن أن يكون مستغنياً عن الدين، ولا يمكن أن يكون مستغنياً بأصل فطرته عن معبود يمد إليه يديه ويسأله، لا بد أن يبحث عن شيء يعظمه، فإذا هدي إلى عبادة الله عبد الله ووفقه الله، وإذا لم يُهدَ إلى عبادة الله، عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك؛ فهذه الفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً، وهي تفسد بمفسدات الفطرة، ومفسدات الفطرة منها التكبر والعناد، كما حصل لـفرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو يعرف أنه ليس رب السموات ولا رب الأرضين، ولم يجرِ البحار، ولم ينزل المطر، ولم يخلق البشر، يعرف ذلك في قرارة نفسه قطعاً، ولكنه عندما تكبر وعاند وطغى، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو يعرف كذبه؛ ولذلك قال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:36-37].

لكن الأصل في الإنسان أن يكون محتاجاً للدين، وأن يكون مفطوراً على ذلك، وإذا تجاسر على المعاصي؛ فكان يفعل ما حرم الله عليه، ويترك ما أوجب الله عليه، فإنه سيجد في نفسه أنه يفعل أمراً غير مناسب، ويلوم نفسه في باطنه على ذلك.

فنحن نجد أن من يسرق الآن يلوم نفسه على السرقة في باطن نفسه؛ لأن فطرته تلومه على ذلك، ومن يزني يلوم نفسه على ذلك في باطنه، ومن يكذب حتى لو ضحك الناس، يبقى هو غير ضاحك؛ لأنه يعلم أنه فعل أمراً محرماً لا خير له فيه، هذا من الفطرة التي فطرنا الله عليها.

الأمر الثاني الذي بقي معنا من ذلك العمر الأول: هو التعارف؛ فالله كان قادراً على أن يجعلنا جميعاً كالشجر، كل شجرة لها أصل تنبت وحدها، ولكنه جعلنا من نفس واحدة؛ لنكون أسرةً واحدةً ولنتحد ونتفق، ونتعاون على البر والتقوى؛ لأن أبانا واحد، وأمنا واحدة، وحتى الأبوين جعلهما من نفس واحدة، خلق آدم ثم أخرج منه زوجه من ضلعه، ( وخلقت المرأة من ضلع أعوج )، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتحد الرجال والنساء، وليتحد البشر جميعاً؛ لأن أصلهم بشر واحد، إنسان واحد، مما يدل على أنهم لا بد أن يتآخوا ويتعاونوا، وأنه لا فرق بين الأسرة الآن التي تصبح فيها أنت وتمسي، وبين أسرة آدم عليه السلام، فهي أسرتك الأولى، فلا بد أن تحرص على هداية البشر جميعاً، والتعاون معهم، وإصلاحهم؛ لأنكم جميعاً من أسرة واحدة، أبوكم واحد وأمكم واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتفاخرها بالآباء؛ فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط )، فبين أن الأصل واحد، وهو آدم عليه السلام، وإنما يتفاوت الناس بحسب رضاهم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فمن كان أتقى لله، فهو أشرف وأكمل؛ لأن مصيره الجنة، ومن كان غير متقٍ لله، فهو أخس وأرذل، حتى لو كان في الدنيا يشار إليه بالبنان، ولو كان أغنى الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس، وأجملهم في الحياة الدنيا، وأكبرهم وظيفة؛ فإنه سيكون في أسفل السافلين يوم القيامة؛ ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى يوم القيامة بالرجل الضخم السمين، لا يساوي عند الله جناح بعوضة ).

وكان صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه، فمر رجل من المنافقين من الأغنياء والتجار الكبار، فأجله الناس، ونظروا إليه بإكبار، فقال: ( ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: رجل من أشراف الناس، جدير به إذا خطب أن يجاب، وإذا تكلم أن يستمع إليه، فمر رجل من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، وهو يلبس ... متمزقة، فقال: وما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: فقير من فقراء المسلمين، جدير إذا خطب ألا يجاب، وإذا تكلم ألا يستمع إليه، قال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا )، ملء الأرض، ولكم أن تصوروا ملء ... أو ملء ... واحد، فكيف بملء الأرض كلها بمثل هذا، لا حظوا الفرق الشاسع، (ملء الأرض) البشر الآن لا يملئون الأرض، وهم خمسة مليارات، ولا يملئون شيئاً من الأرض، ولو تأملنا في المعمور من الأرض الآن نجد نسبته ضئيلة، حوالي الربع أو أقل من الربع، ومع ذلك هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا.

في ذلك الوقت، تعارفت أرواحنا؛ لأنها جمعت في مكان ضيق، هو وادي نعمان الذي هو وادي عرفة فيما بعد، بطن عرفة الذي يقف الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة لله رب العالمين كل عام، هو الذي جمعنا الله فيه جميعاً، وأخرجنا من ظهر آدم، وأخذ علينا العهد فيه، فكنا في مكان ضيق تعارف منا عشرات الملايين أو المليارات، وبقي منا من لم يتعارف في الأطراف، فكانت ( الأرواح جنوداً مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبقي هذا التعارف بيننا.

فأنت الآن ترى شخصاً، لا تتفاهم معه في اللغة، ولن تره من قبل، ولا بينك وبينه علاقة دنيوية ظاهرة، فتجد نفسك منجذبة إليه، كأنك تحبه وكأنه عاش معك، فهذا الانجذاب؟ إنما هو من العالم الأول من العمر الأول، عندما تعارفت أرواحهم.

العمر الثاني: هو عمر الامتحان فوق الأرض، وهو هذا العمر الذي نحن فيه، وهو أقصر الأعمار، وقد بدأت الصحف الآن يكتب فيها والأقلام معملة، وهذا العمر بدايته من نفخ الروح التي كانت في السماء، منذ ذلك الوقت، روحك التي أجابت الله جل جلاله وقالت: بلى، مثلما قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، كانت في السماء الدنيا، كما في حديث المعراج ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به، استفتح جبريل عند باب السماء الدنيا، فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح له باب السماء الدنيا، فإذا آدم وعن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل : ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه ) والنسم: جنس، والواحدة نسمة، -والمقصود بها الأرواح وهي مصورة في صورة الذر- أي: النمل الصغار، والأسودة جمع سواد وهو الشخص، كل شيء تراه من بعيد، يكون فيه سواد، تقول: رأيت سواداً يتحرك في المكان الفلاني، معناه: رأيت شخصاً، أو شيئاً يتحرك في ذلك المكان، فهو رأى أسودة عن يمين آدم وأسودة عن شماله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من طبعه حريص على العلم؛ لأن الله قال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فلا يرى شيئاً يحب أن يتعرف عليه إلا سأل عنه، فسأل جبريل: ( ما هذه الأسودة؟ قال: نسم بنيه، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر قبل يمينه ضحك -لكثرة من يرى من أهل السعادة من بنيه- وإذا نظر قبل شماله بكى -لكثرة من يرى من أهل الشقاوة من بنيه- ).

فهذه الأرواح تنزل بحسب علم الله جل جلاله، وعندما يبلغ الجنين أربعة أشهر في بطن أمه، ( يرسل إليه ملك فيؤمر بنفخ الروح فيه، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي، أو سعيد )، ويبدأ العمر الجديد من ذلك الوقت، وهذا العمر، هو عمر التكليف، سامحنا الله فيه في بدايته؛ لأننا في وقت الضعف والعجز، وهذا من فضل الله جل جلاله، فلو شاء لكلفنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، ولو شاء لكلفنا بعد الميلاد مباشرةً، لكنه علم ضعفنا وهواننا، فترك لنا مدة ليس فيها تكليف، لا تكتب الملائكة علينا شيئاً، وهي ما قبل البلوغ، تكتب لنا الحسنات إذا عملناها، ولا تكتب علينا السيئات، وهذا فضل من الله جل جلاله، وكرم ما له نظير.

ثم بعد ذلك إذا بلغ الإنسان فقد قامت عليه الحجة لله، وقد أعذر من أنذر، ترك لك خمسة عشرة سنة، أو ستة عشر سنه، أو سبعة عشر سنة، أو ثمانية عشر سنة، تعمل فيها لما تشاء، لا يكتب عليك شيء من سيئاتك، ويكتب لك الحسنات، ثم بعد ذلك قامت عليك الحجة والآن أصبحت موظفاً رسمياً، فليس لك عذر؛ لأنه قد قامت عليك الحجة، وإذا قامت الحجة على الإنسان فله ثلاث فرص للنجاة من عذب الله:

عمر الحياة الدنيا

الفرصة الأولى: عمر الحياة الدنيا، فهذه الدنيا منتهية لا محالة، لا تظنوا أنها دائماً هكذا تطلع الشمس من المشرق، وتغرب إلى المغرب، ويأتي الليل وبعده النهار، كما قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ.. [الزمر:5]، إلى ما لا نهاية، لا بد أن يأتي وقت لا يبقى فيه شيء مما ترون، لا سماء، ولا أرض، لا بد أن تنتهي هذه الحياة الدنيا، ونهايتها حتمية؛ لأن الدار الآخرة هي ضرتها، وهي آتية لا ريب فيها، ونحن لا ندري متى تأتي؟ لكننا نوقن بها، وأنها آتية لا ريب فيها، وأنها قد اقتربت، فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، شاهدنا أشراط القيامة، والشيب مؤذن بالارتحال، وتغير الحال مؤذن بالارتحال، ما منكم من أحد ينظر إلى صورته وهو صغير قبل البلوغ، ويقارنها بصورته الآن، إلا وجد فرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً، وتغيراً في النوم، وتغيراً في الخلق، وتغيراً في الهيئة، وإذا قارن نفسه في اهتماماته، وتفكيره، يجد أنه في كل عام، إما أن يتقدم قوةً، وإما أن يضعف؛ فيلجأ للضعف ثم بعده القوة، ثم بعدها الضعف، والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، والرجوع إلى الله جل جلاله.

فما نشاهده من هذه الأطوار العجيبة، مؤذن بالانتقال من هذه الحياة؛ لأننا رأينا تقلباتها، رأينا الغنى ورأينا الفقر، ورأينا الصغر ورأينا الكبر، ورأينا الصحة ورأينا السقم، ورأينا كيف يقلب الله الأحوال فقد قال الله تعالى: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]، فقد شاهدتم كثيراً من تطورات الأحوال، هذا بالأمس رئيس واليوم سجين، اليوم حي، وغداً ميت، هذا وزير اليوم وهو غداً يتسكع في الشارع، ليس له مصدر للرزق، هذه التقلبات مؤذنة بأن هذه الدنيا منتهية لا محالة، فإذا أيقنا ذلك، فإن الدنيا ليس بعدها إلا الآخرة، والآخرة دار جزاءٍ ولا عمل، والدنيا هي دار العمل، فإذا لم يعمله الإنسان الآن فيها، لا يمكن أن يجده قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، فما لا يعمله الإنسان في هذه الحياة قبل أن ينفخ في الصور، لا يمكن أن يجده في ميزان حسناته قطعاً.

عمر الإنسان الشخصي

الفرصة الثانية: هي عمر الإنسان الشخصي، فأنت ميت لا محالة، حتى لو استمرت الدنيا بعد موتك، أنت ميت، فإذا لم تقم الساعة وأنت حي، لم ينفخ في الصور وأنت حي، فسيأتي الموت قبل ذلك، والموت هو انتقال من هذه الدار إلى دار أخرى، والرجوع للحساب قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ [الفجر:14]، وقال: أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53]، فالذين ترونهم تخرج الأرواح من أجسامهم فتلقى أجسامهم جثثاً، يقلبها من يشاء كيف يشاء، ويلفها بلفائف ويحملها إلى القبور، ويحفر لها في الأرض، ويصب عليها التراب، لا تظنوا أنهم قد بنوا وانتهوا، بل لا بد أن تدركوا أن حالهم إنما هو انتقال من دار إلى دار، وتحول من حال إلى حال، فإنهم سيشاهدون هنالك كثيراً مما كان مخفياً عنهم في هذه الحياة قال الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22]، يبدو للإنسان من الله مالم يكن يحتسب، ويقدم إلى ما قدم، ويرى كثيراً من الأمور التي كانت مخفية عنه، لا يدركها بصرنا هذا الذي ننظر به الآن، بل لنا بصيرة هي عوض عن البصر، في تلك الدار، يرى بها الإنسان ما لا يمكن أن يدركه بالبصر، يأتيه الملائكة عياناً بياناً، فيأتيه ملائكة السؤال، منكر ونكير، ويرى كثيراً من العالم الآخر الذي كان مخفياً عنه، فإذا أدرك الإنسان أنه ميت لا محالة، وقد مات من هو خير منه، وهم أنبياء الله الكرام، وهم أحب الخلق إلى الله، وأعظمهم عنده، ألم يقل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم خليله وحبيبه من خلقه، وأشرف من وطئ الثرى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، بل أين نوح عليه السلام؟ أين إبراهيم خليل الرحمن؟ أين موسى بن عمران كليم الله؟ أين عيسى بن مريم روح الله؟ كلهم نقلهم الله من هذه الدار، وإذا كان الحال كذلك فنحن جميعاً منتقلون لا محالة، فهم أكرم على الله منا، وأحب إليه منا، وقد قدموا إلى الله جل جلاله، فإذا أدركنا ذلك فلا بد أن نحرص على التزود قبل أن نفارق هذه الحياة.

نعم الله الكثيرة

الفرصة الثالثة: فهي ما أنعم الله به علينا من أنواع اللهو، فكثير منكم الآن بسبب رغبته في الازدياد يزدري نعمة الله عليه، تجده يتذكر حال آخرين قد ابتلاهم الله بالأموال والصحة والأولاد والغنى، والوظائف، والجاه، وغير ذلك، فيقارن نفسه معهم فيرى أنه دونهم بحسب معيار أهل الدنيا، وينسى ما أنعم الله به عليه، فينسى نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة، لأنه قد خصك الله بفضل عظيم، ونور قذفه في قلبك: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، في الحال الذي حجب الله عن هذا الإيمان كثيراً ممن هم أقوى منك، وأكثر ثقافةً، وأقوى عقولاً، وأقوى أجساماً، وأغنى، وأطول عمراً، حجبوا عن هذا النور ومنعوه، وقد خصك الله به من بينهم، فهي نعمة ليس لها ثمن، لا يمكن أن تقدرها بأي شيء.

ثم بعدها نعمة الحياة: إذا وقفت على أهل القبور، أو رأيت قبراً ينبش، فرأيت عظام الميت، وتذكرت أنك أنت الآن تقوم وتجلس وتتصرف في شئونك، وأن جلدك يستر عظامك، وأنك حي في تصرفك، تدرك أن هذه نعمة من نعم الله، أنعم بها عليك، وهذه النعمة تفوت كثيراً من الناس، فكثير من الناس إذا ماتوا وهم في غفلاتهم، تمنوا أن لو رجعوا إلى الحياة الدنيا، ولو للحظة واحدة؛ ليقولوا: لا إله إلا الله، وقد حيل بينهم وبينه.

ولذلك حدثنا الله عن حال الذين يتوفاهم من الذين كانوا يشركون به؛ فيقول أحدهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100]، ونبهنا جل جلاله على هذا الحال فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

فلذلك لا بد أن نستغل هذه النعم العظيمة؛ نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة الكلام، نعمة الحركة، النعم الكثيرة التي أنعم الله بها عليها، ولا نستطيع إحصاءها، لا بد أن نقيدها بشكرها، وأن نصرفها في مرضات من أسداها، قبل مفارقتها ومزاولتها.

الفرصة الأولى: عمر الحياة الدنيا، فهذه الدنيا منتهية لا محالة، لا تظنوا أنها دائماً هكذا تطلع الشمس من المشرق، وتغرب إلى المغرب، ويأتي الليل وبعده النهار، كما قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ.. [الزمر:5]، إلى ما لا نهاية، لا بد أن يأتي وقت لا يبقى فيه شيء مما ترون، لا سماء، ولا أرض، لا بد أن تنتهي هذه الحياة الدنيا، ونهايتها حتمية؛ لأن الدار الآخرة هي ضرتها، وهي آتية لا ريب فيها، ونحن لا ندري متى تأتي؟ لكننا نوقن بها، وأنها آتية لا ريب فيها، وأنها قد اقتربت، فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، شاهدنا أشراط القيامة، والشيب مؤذن بالارتحال، وتغير الحال مؤذن بالارتحال، ما منكم من أحد ينظر إلى صورته وهو صغير قبل البلوغ، ويقارنها بصورته الآن، إلا وجد فرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً، وتغيراً في النوم، وتغيراً في الخلق، وتغيراً في الهيئة، وإذا قارن نفسه في اهتماماته، وتفكيره، يجد أنه في كل عام، إما أن يتقدم قوةً، وإما أن يضعف؛ فيلجأ للضعف ثم بعده القوة، ثم بعدها الضعف، والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، والرجوع إلى الله جل جلاله.

فما نشاهده من هذه الأطوار العجيبة، مؤذن بالانتقال من هذه الحياة؛ لأننا رأينا تقلباتها، رأينا الغنى ورأينا الفقر، ورأينا الصغر ورأينا الكبر، ورأينا الصحة ورأينا السقم، ورأينا كيف يقلب الله الأحوال فقد قال الله تعالى: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]، فقد شاهدتم كثيراً من تطورات الأحوال، هذا بالأمس رئيس واليوم سجين، اليوم حي، وغداً ميت، هذا وزير اليوم وهو غداً يتسكع في الشارع، ليس له مصدر للرزق، هذه التقلبات مؤذنة بأن هذه الدنيا منتهية لا محالة، فإذا أيقنا ذلك، فإن الدنيا ليس بعدها إلا الآخرة، والآخرة دار جزاءٍ ولا عمل، والدنيا هي دار العمل، فإذا لم يعمله الإنسان الآن فيها، لا يمكن أن يجده قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، فما لا يعمله الإنسان في هذه الحياة قبل أن ينفخ في الصور، لا يمكن أن يجده في ميزان حسناته قطعاً.

الفرصة الثانية: هي عمر الإنسان الشخصي، فأنت ميت لا محالة، حتى لو استمرت الدنيا بعد موتك، أنت ميت، فإذا لم تقم الساعة وأنت حي، لم ينفخ في الصور وأنت حي، فسيأتي الموت قبل ذلك، والموت هو انتقال من هذه الدار إلى دار أخرى، والرجوع للحساب قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ [الفجر:14]، وقال: أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53]، فالذين ترونهم تخرج الأرواح من أجسامهم فتلقى أجسامهم جثثاً، يقلبها من يشاء كيف يشاء، ويلفها بلفائف ويحملها إلى القبور، ويحفر لها في الأرض، ويصب عليها التراب، لا تظنوا أنهم قد بنوا وانتهوا، بل لا بد أن تدركوا أن حالهم إنما هو انتقال من دار إلى دار، وتحول من حال إلى حال، فإنهم سيشاهدون هنالك كثيراً مما كان مخفياً عنهم في هذه الحياة قال الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22]، يبدو للإنسان من الله مالم يكن يحتسب، ويقدم إلى ما قدم، ويرى كثيراً من الأمور التي كانت مخفية عنه، لا يدركها بصرنا هذا الذي ننظر به الآن، بل لنا بصيرة هي عوض عن البصر، في تلك الدار، يرى بها الإنسان ما لا يمكن أن يدركه بالبصر، يأتيه الملائكة عياناً بياناً، فيأتيه ملائكة السؤال، منكر ونكير، ويرى كثيراً من العالم الآخر الذي كان مخفياً عنه، فإذا أدرك الإنسان أنه ميت لا محالة، وقد مات من هو خير منه، وهم أنبياء الله الكرام، وهم أحب الخلق إلى الله، وأعظمهم عنده، ألم يقل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم خليله وحبيبه من خلقه، وأشرف من وطئ الثرى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، بل أين نوح عليه السلام؟ أين إبراهيم خليل الرحمن؟ أين موسى بن عمران كليم الله؟ أين عيسى بن مريم روح الله؟ كلهم نقلهم الله من هذه الدار، وإذا كان الحال كذلك فنحن جميعاً منتقلون لا محالة، فهم أكرم على الله منا، وأحب إليه منا، وقد قدموا إلى الله جل جلاله، فإذا أدركنا ذلك فلا بد أن نحرص على التزود قبل أن نفارق هذه الحياة.

الفرصة الثالثة: فهي ما أنعم الله به علينا من أنواع اللهو، فكثير منكم الآن بسبب رغبته في الازدياد يزدري نعمة الله عليه، تجده يتذكر حال آخرين قد ابتلاهم الله بالأموال والصحة والأولاد والغنى، والوظائف، والجاه، وغير ذلك، فيقارن نفسه معهم فيرى أنه دونهم بحسب معيار أهل الدنيا، وينسى ما أنعم الله به عليه، فينسى نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة، لأنه قد خصك الله بفضل عظيم، ونور قذفه في قلبك: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، في الحال الذي حجب الله عن هذا الإيمان كثيراً ممن هم أقوى منك، وأكثر ثقافةً، وأقوى عقولاً، وأقوى أجساماً، وأغنى، وأطول عمراً، حجبوا عن هذا النور ومنعوه، وقد خصك الله به من بينهم، فهي نعمة ليس لها ثمن، لا يمكن أن تقدرها بأي شيء.

ثم بعدها نعمة الحياة: إذا وقفت على أهل القبور، أو رأيت قبراً ينبش، فرأيت عظام الميت، وتذكرت أنك أنت الآن تقوم وتجلس وتتصرف في شئونك، وأن جلدك يستر عظامك، وأنك حي في تصرفك، تدرك أن هذه نعمة من نعم الله، أنعم بها عليك، وهذه النعمة تفوت كثيراً من الناس، فكثير من الناس إذا ماتوا وهم في غفلاتهم، تمنوا أن لو رجعوا إلى الحياة الدنيا، ولو للحظة واحدة؛ ليقولوا: لا إله إلا الله، وقد حيل بينهم وبينه.

ولذلك حدثنا الله عن حال الذين يتوفاهم من الذين كانوا يشركون به؛ فيقول أحدهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100]، ونبهنا جل جلاله على هذا الحال فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

فلذلك لا بد أن نستغل هذه النعم العظيمة؛ نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة الكلام، نعمة الحركة، النعم الكثيرة التي أنعم الله بها عليها، ولا نستطيع إحصاءها، لا بد أن نقيدها بشكرها، وأن نصرفها في مرضات من أسداها، قبل مفارقتها ومزاولتها.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع