تفسير آية - المائدة [90-91]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وعدد ما اختلف الليل والنهار، وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:

يقول الله تعالى في الآيتين: التسعين والحادية والتسعين من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91].

كان سبب نزول هذه الآية ما روى الإمام مسلم من حديث سعد رضي الله عنه قال: ( أتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش -والحش: البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم؛ فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح أنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله عز وجل في شأن الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ[المائدة:90]).

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؛ فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما؛ فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ[البقرة:219] الآية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام أم رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته؛ فأنزل الله أشد منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ[النساء:43]، ثم نزلت آية أشد في ذلك: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ[المائدة:90] إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فراشهم وكانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان؛ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا[المائدة:93] الآية).

المعنى الإجمالي لهذه الآية:

إن ربنا سبحانه ينادي عباده بوصف الإيمان أي: يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! اعلموا أن الخمر وهي كل ما أذهب العقل، والميسر وهو القمار، والأنصاب جمع نصب وهو ما ينصب للتقرب إلى الله به أو لتعظيمه؛ كتماثيل الرؤساء والزعماء في زماننا، والأزلام وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها في الجاهلية تفاؤلاً أو تشاؤماً، ومثلها في زماننا فتح الكتاب وخط الرمل والحساب بالمسبحة، هذه الأربعة رجس نجس مستقذر من تزيين الشيطان وتسويله، فاجتنبوها على رجاء منكم أن تفلحوا، وإن الشيطان يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين، وصدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم، وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى ربهم، فانتهوا عن ذلك أيها المؤمنون؛ طاعة لربكم وطلباً لسلامة دينكم وصحة أبدانكم وبراءة أعراضكم.

أذكر في هاتين الآيتين الكريمتين لطائف:

الأولى: قال عثمان رضي الله عنه: ( اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس؛ فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فدخل معها فطفقت كل ما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأساً فقال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه).

وهذه القصة رواها البيهقي رحمه الله، قال ابن كثير رحمه الله: وهذا إسناد صحيح وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب ذم المسكر.

اللطيفة الثانية: قال الشيخ الأمين رحمه الله: يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين؛ لأن الله تعالى قال: رِجْسٌ[المائدة:90]، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس، وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن.

قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21]؛ لأن وصفه سبحانه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك.

الثالثة: قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت لم جمع الله الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟

قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين، وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شراب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، فوجب اجتنابه بأسره، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب وبين من شرب خمراً أو قامر، ثم أفردهما بالذكر؛ ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر.

الرابعة: قال ابن عاشور رحمه الله في قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]: لو كان بعد هذا البيان كله نهاهم عن تعاطيها؛ لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز.

الخامسة: تحريم الخمر في الآية وارد بعدة أساليب:

أولها: قرنها بالأنصاب والأزلام على قبحها وشناعتها ونفور المؤمنين منها.

ثانيها: تسميتها رجساً وهو النجس المستقذر.

ثالثها: الأمر باجتناب أعيانها.

رابعها: جعل اجتنابها سبباً للفلاح والفوز.

خامسها: الإخبار بأنها من تزيين الشيطان وتسويله.

سادسها: الإخبار بأنها سبب للعداوة والبغضاء.

سابعها: الإخبار بأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا بين لمن يفهم لغة القرآن ولا يلتفت إلى ما يقوله جهال زماننا: بأنه ليس في القرآن آية صريحة في تحريم الخمر.

في هاتين الآيتين الكريمتين أحكام:

الحكم الأول: تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

الحكم الثاني: الأمر بالاجتناب المطلق للخمر؛ فلا ينتفع بها في شرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة.

الحكم الثالث: الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فقد روى الشيخان من حديث عمر رضي الله عنه: أنه قال على المنبر: إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة، هذا في زمان عمر رضي الله عنه وقد تستخرج من غير ذلك في هذا الزمان.

الحكم الرابع: الخمر نجسة، نجاسة حسية عند الجمهور، وخالف في ذلك: ربيعة الرأي و الليث بن سعد و المزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين، ورجح قولهم العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنور.

الحكم الخامس: حد الخمر ثابت بالسنة، فقد روى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين ).

وروى مسلم عن علي رضي الله عنه: (أنه أتي بشارب فجلده أربعين، وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي).

الحكم السادس والأخير: قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج، قماراً أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر بالمعنى الذي فيها، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ[المائدة:90] الآية، ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[المائدة:91]، فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، أوجب أن يكون حراماً مثله، فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر، فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفها جميعاً بأنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس وأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراق في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم؛ لأجل ما اشتركا فيه من المعاني.

وأيضاً: فإن قليل الخمر لا يسكر، كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراماً مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراماً مثل الخمر وإن كان لا يسكر.

وأيضاً: فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر، فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر بالإسكار على الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج؛ لأنه يغفل ويلهي، فيصد بذلك عن الصلاة. انتهى كلامه رحمه الله.

نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين، المعتبرين، المتعظين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آية - البقرة [282] 2555 استماع
تفسير آية - الأحزاب [56] 2029 استماع
تفسير آية - الإسراء [70] 2014 استماع
تفسير آية - الشورى [38] 1950 استماع
تفسير آية - ص [44] 1917 استماع
تفسير آية - الأنعام [159] 1743 استماع
تفسير آية - الممتحنة [1] 1726 استماع
تفسير آية - التوبة [79-80] 1380 استماع
تفسير آية - البقرة [160-161] 1350 استماع
تفسير آية - الضحى [1-5] 1102 استماع