همسات للسراة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، لا يكشف الضر سواه، ولا يدعو المضطر إلا إياه، نعوذ من سخطه برضاه، وننزل فقرنا بغناه، ونستغفره ومن يغفر الذنوب إلا الله.

نحمده والحمد من إنعامه     إذ ذكرنا إياه من إلهامه

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء عِلماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، لا تدركه الأبصار وكل شيء عنده بمقدار، جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفلق البحر لموسى الكليم: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:17-18].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، دعا إلى سبيل ربه بالحكمة، فأحيا الله به الأمة, وكشف الله به الغمة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأتباعه بإحسانٍ وصحبه.

يا رب! صلِّ على النبي المصطفى     ما اهتزت الأثلاث من نفس الصبا

يا رب! صل على النبي وآلـه     ما كوكب في الجو قابل كوكبا

صلوا على المختار فهو شفيعكم     في يوم يبعث كل طفل أشيبا

صلى وسلم ذو الجلال عليه ما     أزكاه في الرسل الكرام وأطيبا

جعلنا الله من أهل سنته، وجمعنا الله معاً جنته.

مرحباً بالوفود إخوةً وبنين وأخوات غير خزايا ولا ندامى، يوم خفوا وأجابوا الداعي سراعاً، ونضَّر الله هذه الوجوه النيرة، وما تحتها من نفوس أحسبها برَّة خيرة، لو كان الخير وراء البحر لخاضت البحر إليه، ولو كان في أعماقه لغاصت في لججه عليه.

وبتحية الإسلام أحيي هذه الوجوه، التي ننتظر منها ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصباح التي تكشف المعالم وتطمس الأوهام, فإذا الحقائق نيران على أعلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في الحلِّ والترحال تغشاكم، وفي الغدوات والروحات تلقاكم، ما دمتم في سبيل الله مراحكم ومغداكم، وفي مرضاته قيدكم وسراحكم.

من أخٍ مشتاقٍ إليكم معتزٍ بالله ثم بكم, قدمتم خير مقدم، وبؤتم بحسن الإياب والمنقلب:

وعلوتم العليا فكنتم أولاً     والأولون من الرجال قلائل

وزهت بجمعكم السرات وغردت     وترنمت نجد وغنى الساحل

حبي لكم يا إخوتي لما يعد     سراً وكيف وكل عين تنطق

بمحبة الله العلي أحبكم     حباً على جنبات قلبي يشرق

فلكل فرد في الفؤاد مكانه     ما ضاق عنه القلب وهو الضيق

هذا لقاء الأخوة بالأخوة، وما أدراكم ما لقيا الأخوة؟! تناجٍ بالبر والتقوى، وتطارح للهم والشكوى، يهش وجه لوجه، ويخفق قلب لقلب، وتصافح يد يداً، وتشفع تحية تحية، وعندها يقوى ساعد بساعد، ويشتد عضد بعضد، ويمتزج ضعف بضعف، فينبثق عنه قوة، فضعيفان يغلبان قوياً فخذها بقوة:

لا يرتقي درب المكارم تافهٌ     أو يبلغ العلياء يوماً خامل

الحملة الصليبية الشرسة على الأمة الإسلامية

معشر الإخوة! في خضم الأحداث المتسارعة المفاجئة الجسام، النازلة بأمة الإسلام، في حاضر أشبه بحاضر الغنم يطرقها الذئب فترتاع، ويغيب عنها فترتع، في خضم هذا لا يفتأ المتابع والمتأمل يسمع بحدث ويشرع في البحث عن موقف منه، حتى يفجأه حدث آخر ينسيه الأول، ومن آخرها تلكم الهجمة الصليبية الشرسة التي ثارت عاصفتها فاقتلعت من اقتلعت، وانحنت لها رءوس فسلمت أو أرجئت، وكنا نحن المسلمين هدفها، أفصحت عن ذلك غير مرة للعالم عبر خطط معلنة، وابتدأ بـالعراق فكان ما كان مما لست أذكره

سائلوا دجلة عما راعها     أو دعوها فكفاها ما دهاها

وغفلنا عن الكراع فطمعوا بالذراع، حتى قال أحد منصريهم: (لن تتوقف جهودنا حتى يرتفع الصليب في سماء مكة ، ويقام قدَّاس الأحد في المدينة ) خاب:

رام ذا المغرور أمراً دونه     منه خضم الغاب أو عبُّ الخضم

ومن قبل قام كبيرهم خطيباً في العالم يملي عليهم عقيدة الولاء والبراء صلعاء سافرة، فيقول: من ليس معنا فهو عدونا. بمنطق من أشد منا قوة، ومَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29] ويقف المرء مذهولاً أمام وصفه للمجاهدين الذين يجاهدون، ويذبون ويدافعون عن دينهم وعرضهم وأرضهم في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين؛ بأنهم جماعات من القتلة والمجرمين.

ومن يحتل أرضهم وينسف منازلهم ويحصد شيبهم وشبابهم ونساءهم وأطفالهم بسلاحه هو رجل سلام يستحق التقدير والاحترام:

هكذا ظن وهذا ما ادعى     هكذا قال وهذا ما أراد

كفر الناس بما قال وهل     يحصد المرء وروداً من قتاد

شعاره حماية الحرية، والعدالة، ورعاية السلام، فإذا صاح صائح بالويل وصرخ مستغيث من ظلمه بالليل قال: اسكت، نحن حماة الحرية. فيا أرض! ابلعي:

رفع القرد فاتضع     ليس في القرد مصطنع

قد حلَّ من لؤم الفعال مواضعاً     لم يحلُ للثقلان منها موضعاً

يملي ويستخف، ويريد من غيره أن ينفذ ولا يسأل، هزلت وكلاها بدت:

زمان رأينا فيه كـل العجائب     وأصبحت الأذناب فوق الذاوئب

أثر الخطر الداخلي في خضم الحرب الصليبية على الإسلام

ومع الحرب الصليبية على العالم الإسلامي توالت أحداث داخلية غير خافية، تُرفض ولا تُقر، وتضر ولا تسر، ويجب ألا تستغل لتقبيح حسن أو تهميش ثابت، ففي خضم هذه أو تلك اندفعت أقلام -كان الأولى بها أن تكسر- لتكتب عن هوى وتحط، وألسنة -كان الأولى قطعها- تحكم وتشتط، وتطايرت كلمات من أفواه -كان الثرى أولى بها على قلتها- لتعلن حربها على الثوابت والقيم وما يتصل بها، بدءاً بالمناهج الشرعية، والهيئات، والجمعيات الخيرية، والعلماء، والدعاة، وحلقات التحفيظ، وغيرها، فكانوا أداة العدو في اختراق الأمة وتسويق مشاريعه باسم التغيير والتطوير: يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52], وهذا ديدنهم كلما نزلت بالأمة نازلة، أو ألمت بها ملمة: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30].

ما فاجئونا، ليس هناك من حدثٍ إلا ويظهرون في صور وأشكال قد تتباين لكن المخازي واحدة، ألسنة لا تترجم عن حق، ولا تصدر عن يقين، مبدؤها: لا فرق بين قراء البقرة وعباد البقرة، تقيس مع الفارق، وتقف على: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ولا تقربوا الصلاة:

تكذب ولا يستغرب الـكذب     ممن رأس ماله الكذب

وما هم اليوم إلا من عرفناهم بالأمس حال الأمة معهم يقول بقول القائل:

أشكو إلى الرحمن من     علقٍ يعيش على جراحي

من جلدتي لكن عليَّ     أشد من طعن الرماح

أخذ الديانة عن مسيلمة     الكذوب وعن سجاح

من كل تيسٍ كلمـا     كبّرت بربر للنطاح

عميٌ بصائرهم طمسٌ مشاعرهم     كأنهم في مراعي وهمهم غنم

فالشر منطقهم والغدر شيمتهم     والخبث ديدنهم إن العدو هم

هدرت شقاشقهم وقرَّت، وظهرت بعض الحقائق واستقرت، وأخرجت الصدور دفائنها وافتضحت، وعن اللبن الصريح الرغوة انجلت.

وسكتنا كل هذه المدة، لا سكوت المشدوه عقدت الحيرة لسانه، ولا الجبان سكن الهلع جنانه، ولا الغافل تفجؤه الأحداث فيجم لها ويطرق ويعيا بيانه.

لكننا سكتنا سكوت المعتد بإيمانه ويقينه، المستبصر في مآخذ ومتارك شئونه، الواثق بأن هذه الأحداث وإن اعتكرت ظلماؤها غمرات ثم ينجلين، وأن هذه المكائد مردودة في نحور الكائدين، ولا يحيق المكر السيئ إلا بالماكرين، وأن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

معشر الإخوة! في خضم الأحداث المتسارعة المفاجئة الجسام، النازلة بأمة الإسلام، في حاضر أشبه بحاضر الغنم يطرقها الذئب فترتاع، ويغيب عنها فترتع، في خضم هذا لا يفتأ المتابع والمتأمل يسمع بحدث ويشرع في البحث عن موقف منه، حتى يفجأه حدث آخر ينسيه الأول، ومن آخرها تلكم الهجمة الصليبية الشرسة التي ثارت عاصفتها فاقتلعت من اقتلعت، وانحنت لها رءوس فسلمت أو أرجئت، وكنا نحن المسلمين هدفها، أفصحت عن ذلك غير مرة للعالم عبر خطط معلنة، وابتدأ بـالعراق فكان ما كان مما لست أذكره

سائلوا دجلة عما راعها     أو دعوها فكفاها ما دهاها

وغفلنا عن الكراع فطمعوا بالذراع، حتى قال أحد منصريهم: (لن تتوقف جهودنا حتى يرتفع الصليب في سماء مكة ، ويقام قدَّاس الأحد في المدينة ) خاب:

رام ذا المغرور أمراً دونه     منه خضم الغاب أو عبُّ الخضم

ومن قبل قام كبيرهم خطيباً في العالم يملي عليهم عقيدة الولاء والبراء صلعاء سافرة، فيقول: من ليس معنا فهو عدونا. بمنطق من أشد منا قوة، ومَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29] ويقف المرء مذهولاً أمام وصفه للمجاهدين الذين يجاهدون، ويذبون ويدافعون عن دينهم وعرضهم وأرضهم في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين؛ بأنهم جماعات من القتلة والمجرمين.

ومن يحتل أرضهم وينسف منازلهم ويحصد شيبهم وشبابهم ونساءهم وأطفالهم بسلاحه هو رجل سلام يستحق التقدير والاحترام:

هكذا ظن وهذا ما ادعى     هكذا قال وهذا ما أراد

كفر الناس بما قال وهل     يحصد المرء وروداً من قتاد

شعاره حماية الحرية، والعدالة، ورعاية السلام، فإذا صاح صائح بالويل وصرخ مستغيث من ظلمه بالليل قال: اسكت، نحن حماة الحرية. فيا أرض! ابلعي:

رفع القرد فاتضع     ليس في القرد مصطنع

قد حلَّ من لؤم الفعال مواضعاً     لم يحلُ للثقلان منها موضعاً

يملي ويستخف، ويريد من غيره أن ينفذ ولا يسأل، هزلت وكلاها بدت:

زمان رأينا فيه كـل العجائب     وأصبحت الأذناب فوق الذاوئب

ومع الحرب الصليبية على العالم الإسلامي توالت أحداث داخلية غير خافية، تُرفض ولا تُقر، وتضر ولا تسر، ويجب ألا تستغل لتقبيح حسن أو تهميش ثابت، ففي خضم هذه أو تلك اندفعت أقلام -كان الأولى بها أن تكسر- لتكتب عن هوى وتحط، وألسنة -كان الأولى قطعها- تحكم وتشتط، وتطايرت كلمات من أفواه -كان الثرى أولى بها على قلتها- لتعلن حربها على الثوابت والقيم وما يتصل بها، بدءاً بالمناهج الشرعية، والهيئات، والجمعيات الخيرية، والعلماء، والدعاة، وحلقات التحفيظ، وغيرها، فكانوا أداة العدو في اختراق الأمة وتسويق مشاريعه باسم التغيير والتطوير: يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52], وهذا ديدنهم كلما نزلت بالأمة نازلة، أو ألمت بها ملمة: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30].

ما فاجئونا، ليس هناك من حدثٍ إلا ويظهرون في صور وأشكال قد تتباين لكن المخازي واحدة، ألسنة لا تترجم عن حق، ولا تصدر عن يقين، مبدؤها: لا فرق بين قراء البقرة وعباد البقرة، تقيس مع الفارق، وتقف على: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ولا تقربوا الصلاة:

تكذب ولا يستغرب الـكذب     ممن رأس ماله الكذب

وما هم اليوم إلا من عرفناهم بالأمس حال الأمة معهم يقول بقول القائل:

أشكو إلى الرحمن من     علقٍ يعيش على جراحي

من جلدتي لكن عليَّ     أشد من طعن الرماح

أخذ الديانة عن مسيلمة     الكذوب وعن سجاح

من كل تيسٍ كلمـا     كبّرت بربر للنطاح

عميٌ بصائرهم طمسٌ مشاعرهم     كأنهم في مراعي وهمهم غنم

فالشر منطقهم والغدر شيمتهم     والخبث ديدنهم إن العدو هم

هدرت شقاشقهم وقرَّت، وظهرت بعض الحقائق واستقرت، وأخرجت الصدور دفائنها وافتضحت، وعن اللبن الصريح الرغوة انجلت.

وسكتنا كل هذه المدة، لا سكوت المشدوه عقدت الحيرة لسانه، ولا الجبان سكن الهلع جنانه، ولا الغافل تفجؤه الأحداث فيجم لها ويطرق ويعيا بيانه.

لكننا سكتنا سكوت المعتد بإيمانه ويقينه، المستبصر في مآخذ ومتارك شئونه، الواثق بأن هذه الأحداث وإن اعتكرت ظلماؤها غمرات ثم ينجلين، وأن هذه المكائد مردودة في نحور الكائدين، ولا يحيق المكر السيئ إلا بالماكرين، وأن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

ثم همسنا فكانت هذه الكلمات بعنوان: همسات للسراة. وسراة كل أمة من الجن أو الإنس هم خيارها وكرامها وأشرافها، يقول العربي:

أتوا ناري فقلت: منون قـالوا:     سراة الجن قلت: عموا ظلاما

وإني لأرى الشرف متربعاً متمكناً فيكم؛ فاللهم اجعلهم خيراً مما أظن.

إنها همسات في أذن أمة تعاني في حاضرها ما يعانيه الحُر الأبي أكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجرع السم في الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو يسمع ويبصر، وفرض عليه أن يعيش غربته في أرضه، وأن يتعاون مع عدوه على طمس هويته ونسيان ماضيه، وأن ينتبذ مكاناً غربياً من أهله.

همسات أن أعلني أيتها الأمة خطة الشرف، والعمل، فساعة العمل خير من ألف شهر من التأوه والكلام:

فما ضاع حق لم ينم عنه أهله     ولا ناله في العالمين مقصر

إنها همسات في أذن شاك خابط في الدياجي، طال ليله وطال ويله وعويله، همسات في أذن متثائب تقول: ليس بعد التثاؤب إلا التمطي والانتعاش.

همسات تؤذن بالإصلاح في أذن المريض؛ لينتفض انتفاضةً تتطاير معها الأثقال، وتنفصم الأغلال بصوت بلال .

همسات تقول: حذار حذار اليأس! إن بطش الله بالظالمين لشديد، وإن الحرير قد يفلُّ الحديد.

همسات إلى أرض الأمة الجرز، لتهتز وتربو وتنهض وتنشط بعد خمود وقعود وركود ورقود:

فلقد دنا العهد الذي     قال النبي سيحصل

همسات هي تباشير الصباح، إلى السؤدد اللماح، في كرٍ وإلحاح، وعزمات صحاح، تهدف وتحدو إلى الحياة الكريمة العزيزة، إلى تمكين سلطان الدين على الحياة:

فاليوم يومك للسباق     واليوم يومك يا جواد

همسات تدعو:

فأيد اليوم يا رباه! أمتنا     والطف بها في خضم الموج واللجج

همسات للسراة في الأزمات، أسأل الله أن يرفع وينفع بها، وأن يكفينا إفراط من ينطق عن الهوى، ويجهل أن لكل امرئ ما نوى.

ومع هذا:

فمن ظن ممن يلاقي الحـروب     بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

على أنني راضٍ بأن أحمل الـ     هوى وأخلص منه لا عليَّ ولا لي

فإن ضللت بقفر الأرض منقطعاً     فما على أعرج في ذاك من حرج

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً:

فهب لي إلهي منك حولاً وقوةً     فإني ضعيف دون حول وقوة

قال تعالى: : إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].

إن مما لمسه الموافق والمخالف، والمعتدل والمجانف، أنه ما كان أعداء الله أظهر عداوة للمسلمين منهم في هذه الأيام ولا أقبح ولا أوقح: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] ووالله ما يريدون من أمة الإسلام ما هو دون الانسلاخ من دين الإسلام، ولن يرضيهم إلا أن نقول ونعوذ بالله أن نقول: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] أو: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] أو: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] أو: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] أو: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمران:181] لا يريدون ما هو دون هذه الغاية وإن تعددت الوسائل إليها وتدرجت، إن تشك في ذلك:

فأقسم بالجبار إنك خالط     وما يوقظ المخلوط شيءٌ كصفعة

وما لك فيما تدعي أي حـجةٍ     وأنت إذن عَير بأذن طويلة

لم؟

لأن الله يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، ويقول: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، ويقول: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105]، ويقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].

لا جديد ولا مفاجئ معشر الإخوة فيما يحدث، فالمعركة مستمرة دائمة ما توقفت منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن تتوقف إلى قيام الساعة، ما طلعت شمس ولا غربت إلا وهم يخططون ويمكرون ويدبرون، وعلى القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم الأمةَ يحسدون، وعلى كون مادة حضارتهم بأرض الإسلام ينقمون: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119].

همسة نحو العمل وسد الثغرات

فلا ينبغي أن نتوقف عند حدث مهما عظم، ونترك ما بأيدينا ونقول: ماذا نعمل؟

نحن على هذا لن نعمل أبداً ولن نفلح أبداً، وعلى هذا فعند كل حدثٍ نقول: كلٌ قائمٌ على ثغرة؛ فليعلم أنه في عمق المعركة, فالله الله أن يؤتى الإسلام من ثغرته!!

الأب في بيته على ثغرة والأم كذلك، والخطيب والإمام في مسجده على ثغرة، والعالم والمربي في حلقته ومدرسته وجامعته على ثغرة، التاجر بماله على ثغرة، صاحب الرأي برأيه على ثغرة، العالم على ثغرة، المرابط على ثغرة، كل مسئول على ثغرة:

فلينطلق كل فرد حسب طاقته     يسد ثغرته سراً وإعلاناً

ولنترك اللوم لا نجعله عدتنا     ولنجعل الفعل قبل القول ميزاناً

يا عار وهزيمة فرد أتيت الأمة من ثغرةٍ يقوم على حراستها:

فابتدر مسعاك واعلم أن مـن     بادر الصيد مع الفجر قنص

معركة العقيدة في حقيقة الحملة الصليبية

ألا ولنتعامل مع الوضع بما يستحقه، فالمعركة شاملة لكل الميادين، ليست احتلال أرض كـفلسطين والعراق أو غيرها فقط، بل هي معركة في كل ميدان، هدفها طمس هوية المسلم، فما زالوا بلؤمهم ومكرهم يمكرون، وليصرفوا هذه الأمة عن قرآنها حتى لا تأخذ منه أسلحتها الماضية وعدتها الواقية، وهم آمنون ما انصرفت الأمة عن موارد وينابيع قوتها الحقيقية.

إن خصومنا لا ينقمون منا إلا الإيمان، ليست المعركة سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، ولو كانت كذلك لسهل وقفها، لكنها معركة عقيدة إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام، لقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والحكم والمتاع في مقابل أن يدهن ويدع معركة العقيدة، ولو أجابهم -حاشاه صلى الله عليه وسلم- إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق، إنها قضية عقيدة، ومعركة عقيدة، وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم، فإنه لا يعاديهم ولا ينقم منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

ووالله ما صبر المؤمنون وثبتوا إلا ورأوا بأم أعينهم انهيار تماسك أهل الباطل، فلا يهول المسلم ما يراه من لجلجة الباطل؛ فإن الله قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] قد يحاول الأعداء أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة؛ كل ذلك ليموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة, ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة, فمن واجبنا نحن المسلمين ألا نخدع، وأن ندرك أن هذا التمويه لغرض مبيتٍ مقيت.

تمويه الراية لتخدع بحقيقة المعركة

الإسلام وعدوه لا يندمجان ولا يمتزجان أبداً وإن تعاونا في تحقيق هدفٍ نبيل.

في اللغة العربية تركيب يسمى الإسنادي والإسلام لا يرضى أن يسند إلى عدوه بشكله، وفي العربية التركيب الإضافي والإسلام لا يسمح أن يضاف إلى عدوه يصرفه، وفي العربية التركيب المزجي والإسلام وعدوه كالزيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظة تحريك عنيف ثم يعود كل منهما إلى سنته من المباينة والمناظرة.

والصليبية الصهيونية العالمية بقيادة أمريكا هي رأس أعداء الإسلام في ماضيه وحاضره كله، لم يكتب تاريخها أنها جاورته فأحسنت، أو عاملته فصدقت، أو قدرت عليه فعفت أو عفت، أو حكمت فعدلت، بل يدل الواقع على أن الإسلام ما جنى منها إلا الكيد له بعيداً والإضرار به قريباً، ويجري علينا حكم المجانين إن تصورنا أن حاضرها يخالف ماضيها، أو أن آتيها خير من حاضرها؛ لأن ما نقوله نحن جعلته هي ذاتياً لا يتخلف ولا ينفض، إنها شر والشر لا يأتي بخير، إنها شوك ولا يجنى من الشوك العنب.

قد قلنا فيها بما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان فيها غير ما عرفناه فاسألوا عن العسل من ذاق طعمه، أما نحن فذقنا الحنظل فوصفنا الحنظل.

فالذي يريد أن يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعنا عن سلاح النصر الحقيقي في المعركة، ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في المحاولة الصليبية الصهيونية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة، وأن تزعم أن الحرب الصليبية إنما هي لنشر الحرية والسلام في العالم الإسلامي, وإسقاط الأنظمة المستبدة، وما تقوم به اليوم في العراق شاهد، حين تعلن أنها جاءت لتحقيق الحرية، بينما هي تقمع الشعب المسلم، وتحطم استقلاله، وتمارس إذلاله، وتعمر بالخراب دياره، فكانت كـمسيلمة الكذاب تفل في بئر عذبة فصارت ملحاً أجاجاً، ونضب ماؤها فصارت يباباً، ومسح رأس طفل فصار أصلعاً.

فدع عنك أوهام الضلالة وانتبه     ورابط على منهاج ذكرٍ وسنة

وحسبك منهم في جرائم حربهم     خروجهم باسم الحروب الصليبة

وحسبك منهم في جرائم حكمهم     حرابة دين الله في كل دولة

وحسبك منهم في جرائم غزوهم     إبادة شيخ بل وأنثى وطفلة

وحسبك منهم في زمان معاصر     صناعة آلات الدمار المبيدة

فلم يعرف التاريخ جرماً كجرمهم     ولا غادراً يسعى بكل أذية

فهذا قليل من كثير لو أنني     تتبعته لاحتجت مليون صفحة

قال الله، وإذا قال الله بطل كل قول وقائل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109] وصدق الله وكذب المموهون.

فلا ينبغي أن نتوقف عند حدث مهما عظم، ونترك ما بأيدينا ونقول: ماذا نعمل؟

نحن على هذا لن نعمل أبداً ولن نفلح أبداً، وعلى هذا فعند كل حدثٍ نقول: كلٌ قائمٌ على ثغرة؛ فليعلم أنه في عمق المعركة, فالله الله أن يؤتى الإسلام من ثغرته!!

الأب في بيته على ثغرة والأم كذلك، والخطيب والإمام في مسجده على ثغرة، والعالم والمربي في حلقته ومدرسته وجامعته على ثغرة، التاجر بماله على ثغرة، صاحب الرأي برأيه على ثغرة، العالم على ثغرة، المرابط على ثغرة، كل مسئول على ثغرة:

فلينطلق كل فرد حسب طاقته     يسد ثغرته سراً وإعلاناً

ولنترك اللوم لا نجعله عدتنا     ولنجعل الفعل قبل القول ميزاناً

يا عار وهزيمة فرد أتيت الأمة من ثغرةٍ يقوم على حراستها:

فابتدر مسعاك واعلم أن مـن     بادر الصيد مع الفجر قنص

ألا ولنتعامل مع الوضع بما يستحقه، فالمعركة شاملة لكل الميادين، ليست احتلال أرض كـفلسطين والعراق أو غيرها فقط، بل هي معركة في كل ميدان، هدفها طمس هوية المسلم، فما زالوا بلؤمهم ومكرهم يمكرون، وليصرفوا هذه الأمة عن قرآنها حتى لا تأخذ منه أسلحتها الماضية وعدتها الواقية، وهم آمنون ما انصرفت الأمة عن موارد وينابيع قوتها الحقيقية.

إن خصومنا لا ينقمون منا إلا الإيمان، ليست المعركة سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، ولو كانت كذلك لسهل وقفها، لكنها معركة عقيدة إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام، لقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والحكم والمتاع في مقابل أن يدهن ويدع معركة العقيدة، ولو أجابهم -حاشاه صلى الله عليه وسلم- إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق، إنها قضية عقيدة، ومعركة عقيدة، وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم، فإنه لا يعاديهم ولا ينقم منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

ووالله ما صبر المؤمنون وثبتوا إلا ورأوا بأم أعينهم انهيار تماسك أهل الباطل، فلا يهول المسلم ما يراه من لجلجة الباطل؛ فإن الله قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] قد يحاول الأعداء أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة؛ كل ذلك ليموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة, ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة, فمن واجبنا نحن المسلمين ألا نخدع، وأن ندرك أن هذا التمويه لغرض مبيتٍ مقيت.

الإسلام وعدوه لا يندمجان ولا يمتزجان أبداً وإن تعاونا في تحقيق هدفٍ نبيل.

في اللغة العربية تركيب يسمى الإسنادي والإسلام لا يرضى أن يسند إلى عدوه بشكله، وفي العربية التركيب الإضافي والإسلام لا يسمح أن يضاف إلى عدوه يصرفه، وفي العربية التركيب المزجي والإسلام وعدوه كالزيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظة تحريك عنيف ثم يعود كل منهما إلى سنته من المباينة والمناظرة.

والصليبية الصهيونية العالمية بقيادة أمريكا هي رأس أعداء الإسلام في ماضيه وحاضره كله، لم يكتب تاريخها أنها جاورته فأحسنت، أو عاملته فصدقت، أو قدرت عليه فعفت أو عفت، أو حكمت فعدلت، بل يدل الواقع على أن الإسلام ما جنى منها إلا الكيد له بعيداً والإضرار به قريباً، ويجري علينا حكم المجانين إن تصورنا أن حاضرها يخالف ماضيها، أو أن آتيها خير من حاضرها؛ لأن ما نقوله نحن جعلته هي ذاتياً لا يتخلف ولا ينفض، إنها شر والشر لا يأتي بخير، إنها شوك ولا يجنى من الشوك العنب.

قد قلنا فيها بما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان فيها غير ما عرفناه فاسألوا عن العسل من ذاق طعمه، أما نحن فذقنا الحنظل فوصفنا الحنظل.

فالذي يريد أن يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعنا عن سلاح النصر الحقيقي في المعركة، ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في المحاولة الصليبية الصهيونية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة، وأن تزعم أن الحرب الصليبية إنما هي لنشر الحرية والسلام في العالم الإسلامي, وإسقاط الأنظمة المستبدة، وما تقوم به اليوم في العراق شاهد، حين تعلن أنها جاءت لتحقيق الحرية، بينما هي تقمع الشعب المسلم، وتحطم استقلاله، وتمارس إذلاله، وتعمر بالخراب دياره، فكانت كـمسيلمة الكذاب تفل في بئر عذبة فصارت ملحاً أجاجاً، ونضب ماؤها فصارت يباباً، ومسح رأس طفل فصار أصلعاً.

فدع عنك أوهام الضلالة وانتبه     ورابط على منهاج ذكرٍ وسنة

وحسبك منهم في جرائم حربهم     خروجهم باسم الحروب الصليبة

وحسبك منهم في جرائم حكمهم     حرابة دين الله في كل دولة

وحسبك منهم في جرائم غزوهم     إبادة شيخ بل وأنثى وطفلة

وحسبك منهم في زمان معاصر     صناعة آلات الدمار المبيدة

فلم يعرف التاريخ جرماً كجرمهم     ولا غادراً يسعى بكل أذية

فهذا قليل من كثير لو أنني     تتبعته لاحتجت مليون صفحة

قال الله، وإذا قال الله بطل كل قول وقائل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109] وصدق الله وكذب المموهون.

فلو خلائق الإله اجتمعت     لضر عبد واحد ما قدرت

أو نفعه فافهم هديت للعمـل     إن لم يكن قد خط قبل في الأزل

ما قضي كان، وما سطر منتظر، وكل شيء بسبب، ولن يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]:

فكل شيء بقضاء وقدر     والكل في أم الكتاب مستطر

والله لا يضع أمراً إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، إنه حكيم عليم.

ما حدث مؤلم يحُلُّ إلا بحكمة الله؛ لتتميز الصفوف، وتتعرى النفوس، وتظهر الحقائق، ويتميز الحق من الباطل، إنه حكيم عليم. يبتلي عباده المؤمنين ليستخرج عبوديتهم وذلهم وافتقارهم له، إذ لو كانوا منصورين دائماً؛ لدخل معهم من ليس منهم وبطروا، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً ما قامت للدين قائمة، ولم يدخل معهم فيه أحد ويئسوا، إنه حكيم عليم.

فلتعلم الأمة أن ما أصابها من شدة ولأواء وهزائم إنما يتم بعلم الله وحكمته، والعاقبة لأولياء الله، ولدين الله الذي تكفل بحفظه، ونصرة أهله. فلا يأس!

جنين النصر يصرخ في     سِنِيِّ العجز واليأس

دعوا الأحزان يا قومي     على أبواب يؤَّاس

وصوغوا البشر ولتحيوا     لياليكم بإيناس

قريباً تغسل الأرض الـ     ـتي خبثت بأنجاس

بشارات نتيه بها     تحطّم صخرة اليأس

وعد من الله: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47].. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [فاطر:43] لكنها سنة لا تتحقق إلا بأسبابها.. من عمل بكل ما في الوسع والطاقة مع إيمان ويقين بأن المدافعة مستمرة والعاقبة للحق.

والنصر آتٍ يومه     والحق لا يتبدل

هذا يقين صادق     إني لأقسم مقبل

فلا عجز ولا استسلام ولا تواكل، بل سعي وجد وعمل، ودفع لقدر الله بقدر الله، وفرار من قدر الله إلى قدر الله، مع ثقة بوعد الله وجزم بقرب نصر الله، فإذا قضي الأمر، ولم تنفع المدافعة وجب التسليم مع رجاء الخير العظيم: لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ [النور:11] .. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

فيا بن الإسلام! ترويضاً لا تهويلاً، وطِّن نفسك على المكروه تَهن عليك الشدائد، فـ(الدنيا سجن المؤمن) و(الجنة حفت بالمكاره).

فانشد العلياء وادفع مهرها     طالب الحسناء لا يخشى الثمن

إذا ألمَّت بك الخطوب وتألمت، واعتراك الفزع والطمع والبأس والكرب والجهد قد بذلت؛ فاقطع العلائق بأسباب الأرض وفر إلى الله، فالأمر كله إليه، الجأ إليه، وتوكل عليه، لا لجوء يائسٍ ذليلٍ ولا محبطٍ كسير، لكنه لجوء مؤمنٍ صادق يركن إلى حول الله وقوته، ويعتقد بيقين بأن الطمأنينة والسكينة لا تكون إلا بذكره وفي جنبه.

العز في كنف العزيز ومن     عبد العبيد أذله الله

لجوء مؤمن يوقن أنه: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56] فالحياة بيده، والممات بيده، والسعادة بيده، والشقاء بيده، والنصر بيده، وما شيء يطمع فيه إلا وخزائنه بيده، الكل مضطر إليه مفتقر إليه:

إليه وإلا لا تشد الركائب     ومنه وإلا فالمؤمل خائب

هو الله مولانا، وربنا، وليس لنا من ملجأ دون ربنا:

فلا تكلنا إلى من ليس يكـلؤنا     وكن كفيلاً فأنت الكافل الكالي

يا أمتي! ما خاب من     بزمام خالقه اعتصم

ما كان ربك غـافلاً     وهو الحكيم المنتقم

لو شاء أهلك من طغوا     لو شاء دمر من ظلم

فرعون أغرقه ولم     تعجزه عاد أو إرم

معية الله للنبي وصاحبه تتجلى في رحلة الهجرة

لما ضاقت قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وبكلمة الحق التي يدعو لها؛ ائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه، فأطلعه الله على ما يمكرون ويأتمرون، وأوحى له بالخروج، فخرج ومعه الصديق ، وأسقط في أيدي المشركين، فأعلنوا الجائزة العظمى لمن يأتي برسول الهدى صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، واشتد البحث، وتفرقت العيون في الدروب.. في الجبال.. في الكهوف، اقتفيت الآثار حتى أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.. أصبح منهم رأي العين، وأزاغ الله منهم الأبصار، حزن أبو بكر رضي الله عنه حزناً شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على نفسه، فما كان يعيش لنفسه فقال: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال -وهو في جوف الجبل، أشد ثباتاً من ذلك الجبل، في ثقة بالله جلَّ- يا أبو بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) والله الذي لا إله إلا هو لو سارت مع قريش كل الأحياء، وتشققت القبور فخرج الأموات يسحبون أكفانهم خلف قريش.. يقلبون حجارة الأرض، ويزحزحون جبالها، ويفتشون فجاجها، ما قدروا على اثنين الله ثالثهما.

إن من يحرسه بـارئه     لا يبالي بالردى إن خطرا

معية الله أغنت عن مضـاعفة     من الدروع وعن عالٍ من الأطمِ

إنها الموازين الحقيقية للقوى والقيم، من كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو اجتمع عليه من بأقطارها، ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخيرات كلها.

معية الله لخليله إبراهيم عندما أُلقي في النار

ها هو خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام يتبرأ من المشركين: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4] ويجعل أصنامهم: جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58]، فتنادى الملأ: حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68] أجمعوا رأيهم، وشرعوا في الحطب يجمعون، تحرص المرأة منهم وتنذر إذا عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم.. وكذلك يفعلون!

بنوا له بنياناً ملئوه بالحطب، وتداعوا يضرمون النار ويأججون ويعلو لها شرر لم ير مثله وهم فرحون، وضع الخليل في المنجنيق ليرمى من مكانٍ سحيق، فرفع رأسه لوليه ومولاه وقال: حسبي الله ونعم الوكيل. عرض له جبريل فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، أما إلى الله فنعم، حسبي الله ونعم الوكيل. حاله: تنحَّ عني يا جبريل! وخلني وخليلي فعنده الرحمة! هل بذلت له إلا لحمة تبلى أو شحمة، وطَّن نفسه على أن يصير موحداً في النار فحمة، فحماه الكريم: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

وتستجيب النار لباريها فتبرد على أهل المشرق والمغرب فلم ينضج بها كراع يوم إذ.

وتهرع الدواب لتطفئ النار إلا الوزغ؛ فإنه ينفخ النار، وهيهـات أن يبلغ وزغٌ مراده ما دام مع العبد مولاه.

لما لم يتعلق الخليل بأحدٍ دون الله لما أضيم، ولما أتى ربه بقلب سليم، ولما لم يتزود إلا الانقياد والتسليم: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

لما رآه ربه لا يمد إلى غيره كفاً مدحه ويكفي في مدحه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37].

ابتلاه الله بكلماتٍ فأتمهنَّ، وأراه قدرته يومَ فصَرهنَّ، وكسر الأصنام غيرةً لله منهنَّ، فوقاه الكريم.

أراد أعداء الخليل أن ينتصروا فخذلوا، وأن يرتقوا فاتضعوا، وأن يغلبوا فغلبوا: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70] .. فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98] تلكم هي العواقب، وما يدركها إلا بصر ثاقب.

أنا أقسمت وهذا الكون لي     شاهد قولاً وفعلاً واعتقاد

أن نصر الله يحدو دائماً     كل من يدعو إلى درب الرشاد

فيا معشر المسلمين! إن الإيمان هو الأمان، والله مع ذي التقوى والإحسان:

أهل رسوخ القلب في العرفان     حتى يكون الغيب كالعيان

وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] .. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196].

معية الله لخليله إبراهيم عند ذبحه لولده إسماعيل

ها هو الخليل يهاجر من ديار قومه، ويسأل ربه على كبر: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] فيبشر على رأس ستٍ وثمانين من عمره بغلامٍ حليم، ولما بلغ معه السعي شبَّ وسعى في مصالح أبيه، رأى إبراهيم في المنام أنه يؤمر بذبحه، فامتثل واستسلم وما تردد في حبٍ وتعظيمٍ لله رب العالمين، وعرض ذلك على ولده: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] فبادر الغلام الحليم بجوابٍ في غاية السداد: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:102-103] قيل: ألقاه على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لئلا يشاهده حال ذبحه، وقيل: أضجعه كما تضجع الذبائح، فيا لله من لحظات جديرة باستنزال العبرات، وتصعيد الزفرات، وذهاب النفوس حسرات، سمى إبراهيم وكبر، وتشهد إسماعيل واستسلم، ومرت السكين على العنق فسلبت حدها كما سلبت النار إحراقها: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105].

إنها الخُلَّة معشر المؤمنين، بذل بدنه للنيران، وابنه للقربان، وماله للضيفان: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:106-107]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [فدي إسماعيل بكبشٍ أقرن أعين، قد رعى في الجنة ورتع فيها أربعين عاماً، هبط من ثبير ، له ثغاء فذبحه إبراهيم].

سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:109] سجلٌّ خالد في التسليم، وكتاب مرقوم استحق به أن يكون الخليل، ويفدى ابنه بذبحٍ عظيم:

خذوا إيمان إبراهيم تنبت     لكم في النار جنات النعيم

معية الله وحفظه تصاحب موسى

ويبشر إبراهيم بولادة مولود ذكر من بني إسرائيل يكون هلاك فرعون وذهاب ملكه على يديه، ويبلغ الخبر فرعون، فيصدر أمره بذبح كل مولود ذكرٍ من بني إسرائيل: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، ولن ينجي حذرٌ من قدر، ولكل أجلٍ كتاب؛ لأن الله قضى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6].

لا يرد ما به الله قضى     وكل أمرٍ في الكتاب قد مض

الله يريد غير ما يريد فرعون، ويقدر غير ما يقدر فرعون، والطغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم، فإرادة الله ينسون، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون مما يكرهون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون؛ لأنهم ولا يعقلون، ولا يفقهون، ولا يبصرون، وهم مستكبرون، جنَّد المئات من (الدايات) اللائي يتعرفن على الحوامل، فإن كان المولود ذكراً يقتل، أو أنثى تستحيا، وكثر القتل في بني إسرائيل، وجاء القبط فقالوا: يا فرعون! الكبار بآجالهم يموتون، والصغار يذبحون. يوشك أن يفنى بنو إسرائيل.

فأمر فرعون بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً، وشاء الله أن تكون ولادة هارون في عام الترك وولادة موسى في عام القتل، ومن لطف الله بأم موسى أنه لم يظهر عليها مخايل الحمل، ولم يفطن لها الدايات اللائي كن يدرن على نساء بني إسرائيل، لكنها خافت عليه خوفاً عظيماً وهو لم يزل حملاً، حتى وقع في قلبها وركبها من الهم ما دخل عليه وهو في بطنها، وضعته وحباً عظيماً أحبته، كيف وهي أمه:

وقد ألقى الله عليه المحبه     فما رآه أحد إلا أحبه

ومع حبه ضاقت به ذرعاً، فعدوه متربص به، والخطب أعظِم به:

خطوبٌ لا تشابهها خطوب     وكربٌ لا يماثله كروب

وأضلاعٌ سرى فيها التياع     تكاد لهول رهبته تذوب

هاهي ذي حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبأه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي ذي بطفلها عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن منع صوته الفطري أن ينم عليه، عاجزة عن تلقينه حيلةً أو وسيلة، هاهي ذي وحدها عاجزة ضعيفة مسكينة وجلة قلقة مذعورة، فيلهمها الله أن تلقيه في اليم، ونزل هذا الإيحاء على قلبها الواجف الراجف الخائف برداً وسلاماً: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] إن إلقاء الطفل في اليم هلكة محققة في المألوف والعادة، لكنَّ الله أراد ولا راد لما أراده الله، أراد أن يربيه فرعون نفسه، وأن ينشأ في قصره، امتثلت أمه وألقت به في اليم مجرداً من كل قوة وحيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو يستنجد بغيره.

يا لله ما أشرفه من مقام وأحلاه، وأعلاه وأسماه وأسناه! إن الأم إذا خافت على ابنها ضمته على صدرها، أما أم موسى فتقذف ولدها في تيار الماء تتلاعب به الأمواج، وتجري به إلى عدوه المتربص به، يا لله كيف فعلت ما لم تفعله أم؟!! كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟!! إنه والله لكمال الثقة بالله:

رباه أنت المنادى به في كل نازلة     وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل

لسان حالها: إنه وهو في اليم في رعاية من لا أمن إلا في جواره، ولا خوف على من كان معه، من جعل النار برداً وسلاماً، وجعل البحر ملجأً ومناماً، من لا يجرأ جبابرة الأرض على أن يدنو من حماه:

من يكن الإله له حفيظاً     فحاشا أن يضيع أو يضام

ويتهادى التابوت بالرضيع حتى يصل تحت قصر فرعون: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص:8] التقطه الجواري وذهبن به إلى امرأة فرعون؛ لتكون المعركة على أرض قصر فرعون:

يا فرعون! تذبح الآلاف من أجل ذلك الرضيع هاهو الآن في بيتك يا وضيع!

يا فرعون! تجند المئات من الدايات من أجل ذلك الرضيع هاهو الآن في قصرك يا وضيع!

يا فرعون! أنت تريد، والله فعال لما يريد، قضى الله ألا يربيه إلا في حجرك.

كشفت امرأة فرعون عنه فإذا هو غلامٌ من أحسن الخلق وأجمله، كيف وهو جمالٌ زكَّاه الله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فألقى الله محبته في قلبها يوم أراد الله كرامتها وشقاء زوجها، ورآه فرعون وهمَّ بقتله، فشرعت تحببه إلى زوجها، وتخاصم عنه: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص:9] قال: أما لكِ فنعم، وأما لي فلا. وقد كان قرة عينٍ لها فقد هداها الله بسببه فصارت مثلاً للذين آمنوا، ولم يصبه فرعون بأذى.

فيا لله! لهوان فرعون على الله، ما حمي موسى بملائكة تتنزل معه، بل حماه بستر رقيق من حبٍ حانٍ في قلب امرأته سقطت معه قوة فرعون، وغلظته، وحرصه، وحذره، هان فرعون على الله أن يحمى منه موسى بغير هذا: وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

كلما لما راموا بموسى ضررا     صانه الله وكفَّ الضررا

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص:12]، عرضوا عليه المراضع فلم يقبل ثدي امرأة في القصر، فنزلوا به إلى السوق: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10] وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11] اتبعي أثره، اعرفي خبره، انطلقت أخته على حذرٍ وخفية تتتبع أخباره.. تتحسس آثاره: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:11] فقالت أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فأخذوها وقالوا: ما يدريكِ؟ ما نصحهم له، أتعرفينه؟

قالت: لا. ولكن نصحهم له رغبتهم ورجاؤهم في نفع الملك.

فزال الشك، وقالوا: هيا إليهم.

ذهبوا به معها إلى منزل أمه، فأعطته الثدي فالتقمه، وعلا الوجوه البشر، وانطلقت البشائر إلى القصر، وتطلب امرأته أم موسى، وتحسن إليها، وهي لا تعلم أنها أمه، ثم تسألها أن تقيم عندها في القصر لترضعه، فأبت وقالت: إن لي بعلاً وولداً، فإن شئت أرضعته عندي.

فوافقت على رجوعه معها إلى بيتها، فعادت راضيةً مطمئنةً آمنة في عزٍ وجاهٍ ورزقٍ ورغدٍ، تجري عليها الصلات والنفقات ونفائس الهدايا والعطايا، تبارك الله، وجلَّ الله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بيده الأمر، جعل لمن اتقاه من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، لقد كانت ترضع ولدها على خوفٍ من فرعون وملئه، والآن ترضعه في أمان واطمئنان، وبأمر فرعون الجبان، والله ما كان هذا لأمٍ غيرها أبداً. إنه جزاء الثقة بالله، وذاك قول الله: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].

عاد الرضيع الغائب لأمه الملهوفة الوالهة، معافىً في بدنه، مرموقاً في مكانته، يحميه فرعون خصمه، وترعاه امرأته، تضطرب المخاوف من حوله وهو قرير العين، آمن مع أمه، حاله:

معي الله الذي ما لي سواه     وكيف يخاف من معه الإله

فيأيتها الأمة المباركة! إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الهزائم والكروب، وتقطعت عرى النجاة، وعزَّ الناصر، وقلَّ المعين، وزمجر الباطل ولجلج، فلا تيأسي، ولا تقنطي، وكتاب الله تدبري.

هذه قصة موسى وفرعون شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله، وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله، كلاهما ألقي في اليم، فكان اليم لموسى الرضيع ملجأً ومأمناً، وكان لفرعون الطاغية وجنده خوفاً وهلاكاً وغرقاً.

عاقبة فرعون هي عاقبة الظالمين، وعاقبة موسى هي عاقبة المتقين، إنها عقيدة ينبغي أن نثبتها في أنفسنا، ونمكنها من قلوبنا، ونرسخها في مشاعرنا، ونصدر عنها في شدتنا ورخائنا، وأقوالنا وأعمالنا، وأفكارنا، وأحاسيسنا ومشاعرنا، ونربي عليها ناشئتنا، ونلقى بها الله ربنا.

إن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته، وإن البغي حين يفتضح ويتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه، بل إن الله يأخذ في يد المستضعفين فينقذهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ومن كان الله معه فمم يخاف، لكن الله مع من؟ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].