تفسير آية - الإسراء [70]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.

أما بعد:

فيقول الله عز وجل في الآية السبعين من سورة الإسراء: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].

والمعنى الإجمالي لهذه الآية المباركة:

يقول الله عز وجل: لقد فضلنا وميزنا بني آدم تمييز جنس لا تمييز أفراد، فخلقناهم على أكمل الهيئات وأحسنها، كما قال سبحانه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ[غافر:64]، ووهبنا لهم آلة العقل ونعمة النطق والتمييز والتفكير، وخصصناهم بألوان المطاعم والمشارب والملابس، وجعلناهم يأكلون بأيديهم لا ينتهشون الطعام كسائر الحيوان، وسخرنا المخلوقات ليتسنى لهم الانتفاع بها، كما قال سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13]، وحملناهم في البر على الدواب والأنعام قديماً، وعلى السيارات والقطارات حديثاً، وحملناهم في البحر على السفن، كما قال سبحانه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ[المؤمنون:21-22].

ومن اللطائف: أن الرشيد رحمه الله أحضر له طعام فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف رحمه الله، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء:70]، جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فرد الرشيد الملاعق وأكل بأصابعه.

قال الفخر الرازي رحمه الله: إن شئت تأمل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهو العين، فقد خلق الله الحدقة سوداء، ثم أحاط بذلك السواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة، ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وفي الآية الكريمة أحكام:

الحكم الأول: بيان منن الله تعالى وإفضاله على الإنسان.

الحكم الثاني: الإعلان عن كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية.

الحكم الثالث: أعظم خصال التكريم: هو العقل، الذي هو عمدة التكليف، وبه يميز الآدمي بين الحسن والقبيح.

الحكم الرابع: استدل الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت.

الحكم الخامس: النعمة ينبغي أن تقابل بالشكر، والشكر هو القيام بالتكاليف الشرعية.

الحكم السادس: من التكريم أن يكون الإنسان قيماً على نفسه، متحملاً تبعة اتجاهه وعمله، له حرية واختيار.

وهاهنا مباحث تتعلق بالحرية التي يتغنى بها الناس وكل يدعيها:

نقول أولاً: الحرية التي ترفع عن الإنسان الذل والضغط والإكراه والقهر، وردت في القرآن تارة بمعنى الكرامة، كما في هذه الآية، وتارة بمعنى العزة، كما في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[المنافقون:8].

وهذا معروف في كلام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، إذ كانوا يطلقون لفظة " الحر" على من كان عزيزاً كريماً، كما قال القائل:

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة.

ثانياً: معنى الحرية: أن يكون الشخص قادراً على التصرف في شئون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته، آمنا ًمن الاعتداء عليه في نفس، أو عرض، أو مال.

ثالثاً: الإسلام يكفل للناس حرية تامة، تشمل كافة أحوال بني الإنسان، ومن ذلك:

- حرية الاعتقاد: حيث جعل الإسلام أساس الاعتقاد: البحث والنظر، لا القهر والإلجاء، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[البقرة:256]، وقال سبحانه: وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف:29].

- الحرية الشخصية في السفر والإقامة والتنقل، واختيار المسكن والعمل والتصرفات، وهو آمن من الاعتداء على ذاته، أو النيل من حرماته.

- كذلك حرية التصرف في البيع والإجارة والقرض والشركة والهبة، وحرية التملك، فمن أحيا أرضاً فهي له، ومن اكتسب مالاً من طريق حلال فهو مالكه.

- ومن ذلك: حرية التعليم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

- وحرية المأوى: حيث حرمة المساكن محفوظة، وحرية داخلها مكفولة، ولا يستطيع الحاكم أن ينفي مسلماً من أرض إلا على سبيل العقوبة الشرعية على جرم معلوم.

- ومن ذلك: حرية التفكير، التفكير في الكون، وقوانين الطبيعة، وسنن المجتمع الإنساني.

- والحرية السياسية: بأن يبدي رأيه في شئون الحياة العامة، وفي تصرفات الحكام وسياساتهم، وأن ينتقدها متحرراً من كل خوف، آمناً من كل اعتداء، وأن يشارك في اختيار الحاكم، وأن يبدي له النصح، وأن يسهم في الشورى، وأن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

وها هنا فائدة:

يقول بعض الناس: إن أئمة المسلمين يقولون بأن الإمامة تنعقد بالغلبة والقهر، فكيف يستقيم ذلك مع مبدأ الإيمان بالحرية؟ والجواب:

أن علماء المسلمين نظروا نظر العالم بالمصالح والمفاسد، وقد قيل: ليس العاقل من يعرف الشر من الخير، ولكن العاقل هو الذي يعرف أهون الشرين.

قال الغزالي رحمه الله في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد: ليست هذه مسامحة عن الاختيار، ولكن الضرورات تبيح، فنحن نعلم أن أكل الميتة محذور، ولكن الموت أشد منه.

فليت شعري من يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها، وهو عاجز عن الاستبدال بالتصدي لها، فأي أحوالها أحسن؟

أن يقول: الولاية باطلة، وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول: الإمامة منعقدة، والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار.

ما أنفسه من كلام! وما أعظمها من أحكام! لو عرفها الناس لأراحوا أنفسهم من كثير من الاختلاف والإلباس!

وهذه الآية العظيمة فخر للمسلمين في هذا الزمان الذي كثرت فيه الدندنة حول حقوق الإنسان، وصار كل يدعيها.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الفقه في ديننا وأن يعلمنا سنة نبينا، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آية - البقرة [282] 2555 استماع
تفسير آية - الأحزاب [56] 2029 استماع
تفسير آية - الشورى [38] 1950 استماع
تفسير آية - ص [44] 1917 استماع
تفسير آية - المائدة [90-91] 1814 استماع
تفسير آية - الأنعام [159] 1743 استماع
تفسير آية - الممتحنة [1] 1726 استماع
تفسير آية - التوبة [79-80] 1380 استماع
تفسير آية - البقرة [160-161] 1350 استماع
تفسير آية - الضحى [1-5] 1102 استماع