شرح الوصايا العشر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنحمد الله تعالى على هذه النعمة العظيمة الجسيمة، حيث جمعنا في مسجد من مساجده، على ذكره، في انتظار فريضة من فرائضه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتحابين فيه، والمتجاورين فيه، والمتجالسين فيه، والمتباذلين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

ولا بد في بداية الحديث في ظلال الآيات الكريمات من سورة الأنعام أن نتذكر الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن نستحضر النية في تدبر كلامه ومدارسته، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

فهذه جوائز عظيمة من الله سبحانه وتعالى وتحصل بالنية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

إن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الأنعام دفعة واحدة في العهد المكي، ولم ينزل عليه إذ ذاك من السور دفعة واحدة من الطوال سواها، فجاءت مخالفة لما كان يعهده من قبل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبلها يجد من التنزيل شدة، وكان إذا أتاه جبريل بالقرآن يحاول تحريك شفتيه به يخاف أن ينساه، فضمن الله له ثباته في صدره، وأنزل عليه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل يستمع له وينصت، فإذا انطلق جبريل قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل، وقد تعهد الله له بحفظه، فكانت سورة الأنعام بداية تغيير، حيث جاءت بالآيات الطوال، وبالعدد الكثير من الآيات في هذه السورة، ونزلت دفعة واحدة، فحفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنزلت عليه.

وجاء فيها أمر جديد آخر، وهو التفصيل في الأحكام، حيث كانت السور المكية يتعلق أكثرها بالتوحيد، وبرد ما كان عليه أهل الجاهلية، فجاء في سورة الأنعام تفصيل كثير من الأحكام، كأحكام الذبائح، والصدقات، والحرث، ورد دعاوى المشركين فيما يتعلق بالميتة، وكذلك مجادلتهم فيما يتعلق بالأولاد وقتلهم.

لقد أنزل الله تعالى الوصايا العشر، فجمع خمساً في آية وأربعاً في آية، وواحدة في آية، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام.

وقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بهذه الوصايا، ورتب عليها كثيراً من الخير، فرتب عليها زيادة العقل أولاً، ثم رتب عليها زيادة التذكر والعبرة، ثم رتب عليها زيادة التقوى، فهذه ثلاثة أمور رتبها الله على الأخذ بهذه الوصية.

دلالة قوله: (تعالوا) في بداية الوصايا العشر

وقد افتتحها الله سبحانه وتعالى بأعظم ما يوصى به، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى جل شأنه، وفي مقدمتها جاء تعليم الأسلوب الذي ينبغي أن يجادل به الناس، وأن يدعوا به وهو أسلوب المخالطة والاندماج، لا المقاطعة والغلظة والفظاظة، فقد قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151]، معناه: قل يا محمد! للمشركين والمنافقين وجميع الناس: تعالوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد الانفصال عن الناس، ولا عدم خلطتهم، بل يريد خلطتهم لكن بالتأثير الإيجابي الصحيح وهو المجادلة بالتي هي أحسن، والدعوة إلى المنهج الصحيح، ورد ما هم عليه من الباطل، فلذلك قال: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151].

وهذا الدعاء الذي وجه إليهم لا شك أنه إلى نفع، وقد قال ابن عباس : إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يصرفك عنه، فلذلك قال: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].

أتل: أي: أقرأ ما حرم ربكم عليكم، فهذه وصية الله بكبريات المحرمات التي حرمها على الناس جميعاً.

مخاطبة الكفار بفروع الشريعة

وهذه الآية استدل بها كثير من المفسرين على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لأن الخطاب في الأصل لهم، ولذلك قال: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151]، فدل هذا على أن الكفار يحرم عليهم ما ذكر هنا من المحرمات، وعلى هذا فهم مخاطبون بفروع الشريعة.

وهذا الذي تدل عليه آيات أخر، منها قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر:42-47].

فإنه هنا ذكر عنهم أن سبب دخولهم النار عائذاً بالله منها أنهم لا يصلون: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر:43]، وأنهم لا يزكون: وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ[المدثر:44]، وأنهم يكذبون: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ[المدثر:45]، وأنهم لا يؤمنون بالله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر:46-47]، فدل هذا على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وعموماً فإن الخطاب لا يختص بهم، بل هو في البداية موجه إلى المؤمنين؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، فالخطاب أولاً موجه إليكم يا من تتلقون عن الله وتقبلون منه فأنتم أولى به، وأنتم أهله، ولذلك اختصكم الله تعالى بالتشريف ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونذارته، فلذلك لا بد أن تتلقوا كلام الله بلهفة وشوق؛ لأنه كلام الملك الجبار، وقد أرسل به إليكم أفضل الرسل وخير الملائكة وأنزله في خير الكتب، وتكلم به الجبار جل جلاله، وقد بين لكم هنا ما حرم ربكم عليكم.

حكمة التشريع في التدرج والتقسيط

مَا حَرَّمَ[الأنعام:151]، أي: الذي حرم، ما: موصول اسمي، والعائد محذوف وهو موصوف بالفعل، وهذا من المواضع التي يقاس فيها حذف الضمير العائد على الموصول إذا كان منصوباً بفعل، فأصل الكلام: ما حرمه ربكم عليكم، والمقصود بذلك: كبريات المحرمات لا كلها، فإن هذه الشريعة من سنة الله فيها أن تأتي بالتدريج والتقسيط، ولو جاءت الشريعة دفعة واحدة لاقتضى ذلك نسخها وتبديلها كما كانت الكتب السابقة تنزل، فإن كل نبي من الأنبياء كان ينزل عليه شرعه جملة واحدة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول نبي لم ينزل عليه الشرع جملة واحدة، بل جاء بالتقسيط والتدريج في ثلاث وعشرين سنة، فلذلك قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً[الفرقان:32]، فهذا المألوف لديهم، فأجابهم الله بقوله: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً[الفرقان:33-34]، وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً[الإسراء:106].

فلذلك جاءت الأحكام فيه سواء كانت فيما يتعلق بالمحرمات، أو ما يتعلق بالواجبات، أو ما يتعلق بالمباحات، جاءت بالتدريج والتقسيط، وهذه الكبريات هي أصول ينبثق عنها ويتفرع عنها ما سواها، فلذلك صدق عليها أنها ما حرم ربنا علينا.

العلة في ذكر الرب في قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)

وهنا قال: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ[الأنعام:151]، ولم يقل: (ما حرم الله عليكم)، وما لفتة ذلك البلاغية؟ لفتته البلاغية أن الله ما حرم شيئاً إلا رحمة بعباده، فهو الرب جل جلاله، والرب هو الموصل إلى الكمال بالتقسيط والتدريج شيئاً فشيئاً، فهذه المحرمات لو وقع فيها العباد لكانت الضرر عين الضرر بهم، فلذلك ما حرم الله شيئاً بعباده إلا لتمام رحمته بهم، ولا يحل ولا يحرم إلا لحكمة، وهذه الحكمة تتعلق بمصالح العباد، فلهذا قال: (ربكم)، والرب هو موصل الإنسان إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، فقد أنشأه أولاً من تراب، ثم بعد ذلك من سلالة من ماء مهين، ثم بعد ذلك جعله علقة، ثم جعله مضغة، ثم جعل المضغة عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر، وهو تناميه بعد ميلاده من الصبوة إلى الكبر إلى الهرم والشيبة إلى الموت، ثم بعد ذلك يبعثه خلقاً جديداً يوم القيامة، فهذا هو الرب، وهذا ما لا يمكن أن يدعيه مخلوق، فلا يستطيع مخلوق أن يدعي المشاركة في الخلق، وأبلغ دليل في الرد على ذلك أن يقال له: هذا الطعام الذي تزدرده وهذا الماء الذي تشربه أين يذهب بعد أن تدخله في فمك؟ هل لك مشاركة في تصفيته؟ هل لك مشاركة في توزيعه؟ ما من عضلة من عضلاتك ولا شعرة من شعرك ولا شيء من جسمك إلا يصل إليه نصيبه منه بكل دقة، فهل لك مشاركة في ذلك؟ وهل تعرف نصيب الشعر من غذائك؟ هل تعرف نصيب الأظافر منه؟ هل تعرف نصيب اللون منه؟ هل تعرف نصيب سواد العين وبياضها منه؟ لا تستطيع التأثير في شيء من ذلك، فهذا شأن الرب جل جلاله.

ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لتمام رحمته بنا إذا جاء تحريم أمر شاق مما تعوده الناس يقرنه ببعض أسمائه وصفاته التي تقتضي تحبيب ذلك الذي جاء الشرع به من عنده.

فهنا لما كان الأمر شاقاً بالتحريم ربط ذلك بنعمته علينا أنه هو ربنا، والأم تمنع ولدها مما هو ضرر عليه، وتفطمه إذا حان فطامه، والرب هو أرحم الراحمين، وهو اللطيف البر، فلذلك كل ما حرمه على عباده وكل ما فطمهم عنه فذلك لمصلحتهم هم، فلهذا اقترن التحريم بذكر الرب جل جلاله: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].

وهذا التحريم ربط هنا بقوله: (عليكم)، و(على) في الأصل للاستعلاء، ومعنى ذلك أن هذا التحريم جاء من أعلى، فليس هو من القوانين التي يضعها الناس فيما بينهم، وليس هو من الأمور التي تتبدل فيها المصلحة فتكون اليوم مصلحة وغداً مفسدة، فهو جاء من أعلى لا يستطيع أحد الفرار منه: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].

وقد افتتحها الله سبحانه وتعالى بأعظم ما يوصى به، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى جل شأنه، وفي مقدمتها جاء تعليم الأسلوب الذي ينبغي أن يجادل به الناس، وأن يدعوا به وهو أسلوب المخالطة والاندماج، لا المقاطعة والغلظة والفظاظة، فقد قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151]، معناه: قل يا محمد! للمشركين والمنافقين وجميع الناس: تعالوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد الانفصال عن الناس، ولا عدم خلطتهم، بل يريد خلطتهم لكن بالتأثير الإيجابي الصحيح وهو المجادلة بالتي هي أحسن، والدعوة إلى المنهج الصحيح، ورد ما هم عليه من الباطل، فلذلك قال: قُلْ تَعَالَوْا[الأنعام:151].

وهذا الدعاء الذي وجه إليهم لا شك أنه إلى نفع، وقد قال ابن عباس : إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يصرفك عنه، فلذلك قال: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام:151].

أتل: أي: أقرأ ما حرم ربكم عليكم، فهذه وصية الله بكبريات المحرمات التي حرمها على الناس جميعاً.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع