شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله أصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

أما بعد:

فيقول البخاري رحمه الله تعالى: باب: الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم:

ما زلنا في أبواب المساجد، وما يجوز فيها من الأعمال، وما يمنع، وقد عقد هذا الباب لجواز بناء الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم ممن له حاجة إلى ذلك، كالضيوف الذين ليس لهم مقر في المدينة سوى المسجد، فقوله: (باب الخيمة)؛ أي: باب جواز بناء الخيمة، فهي على حذف مضافين: المضاف الأول (جواز) وهو الحكم، والمضاف الثاني الفعل؛ لأن الحكم لا يتعلق بالعين، لا يقال: جواز الخيمة، فالحكم لا يتعلق بالعين، لا يتعلق أبدًا إلا بفعل، والفعل هو بناء الخيمة، و(الخيمة) بناء من أبنية العرب، وهو في الأصل يتخذ من الشجر، كما قال عنترة:

أبقى لها طول السفار مقرمدًا سندًا ومثل دعائم المتخيم

(مثل دعائم المتخيم)؛ أي: مثل الدعائم التي يغرسها في الأرض من يبني عليها خيمة، فهي في الأصل من الشجر، وللعرب أنواع من الأبنية تسمى: بيوت العرب، قد نظمها بعضهم بقوله:

مظلة من شعر ووكنة من حجر

وخيمة من شجر بجاد صوف مطنب

كذا خباء وبر عن ابن كلب يندر

هذي بيوت العرب..

فبيوت العرب التي كانوا يسكنونها في باديتهم منها ما يتخذ من الشعر، وما يتخذ من الشجر، وما يتخذ من الحجارة، وما يتخذ من الصوف، وكلها لها أسماء لديهم، وبما أن ما يتخذ من الصوف أو الشعر كان يسمى (بجادًا) أو (خباءً) أطلق عليه الخيمة إطلاق مجاز ونقل، فليس هذا المعنى الأصلي للخيمة في لغة العرب، ولكنه استعمل مجازًا أو نقلًا عن معناه الأصلي إلى معنى مقارب له، فالمقصود بالخيمة هنا إما البجاد، وإما الخباء الذي يتخذ من الصوف أو من الشعر، والفرق بين الصوف والشعر أن الصوف يختص بالنعاج، والشعر للغنم ونحوها، والوبر للإبل، وقد قال بعضهم:

بإبل وأرنب يعزى الوبر والصوف للنعاج والباقي شعر

فما ينبت على الجسد إذا كان في إبل أو أرنب فيسمى: وبرًا، وإذا كان في النعاج فيسمى: صوفًا، وإذا كان في غير ذلك فيسمى: شعرًا، كشعر الإنسان وشعر الغنم، فالبيت المتخذ من الشعر أو من الصوف في الأصل لا يسمى خيمة، وهو المقصود هنا، لكن أطلقت عليه الخيمة من باب النقل أو من باب المجاز.

(في المسجد)؛ أي: في داخله، وذلك فيما ليس مسقوفًا منه، ويمكن أن تتخذ في المسقوف منه بأن يحوز بها فلا يقصد به السقف، وإنما يقصد به التحويز، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجر في المسجد؛ أي: يجعل فيه حجرة لاعتكافه، وذلك بحصير يقام له فيصلي بداخله إذا قام أو ركع أو رآه الناس، وإذا جلس أو سجد لم يروه، وهذا الحديث هو الذي حصل فيه القلب المشهور لدى المحدثين، فبعض المحدثين يرويه: (احتجم النبي في المسجد) مكان (احتجر) ولكن اللفظ الصحيح هو: (احتجر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مكانًا للصلاة) وليس (احتجم).

وكذلك أخبية أمهات المؤمنين، فقد كن يعملن أخبية يحتجبن فيها لاعتكافهن، والمعتكف سيلزم مكانًا واحدًا من المسجد لعبادته، فيمكن إذا لم يكن في ذلك تضييق للمسجد أن يحتجره؛ أي: أن يجعل عليه ما يحجره له.

وفي ذلك فوائد له؛ لأنه أولًا ستر للعبادة وعدم إشاعة لها، فيمكن أن يصلي كثيرًا من النوافل وهو محتجر لا يراه من في المسجد، وكذلك قراءته، وأيضًا فإنه يأكل في المسجد وينام فيه، فيحتاج إلى كن يستره لذلك، وهما حالان يحب الإنسان الاختباء فيهما، وكذلك فإن آلاته وأدواته عنده في المسجد في معتكفه، ولو لم يحتجر لأمكن أن يختطفها الناس والسراق؛ فلذلك كان في الاحتجار في المسجد للمعتكف مصالح.

(للمرضى وغيرهم)؛ أي: إن الاحتجار بالخيمة في المسجد يجوز للمرضى ويجوز لغيرهم بدلالة هذا الحديث.

شرح حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لسعد خيمة في المسجد)

فقال: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دمًا فمات فيها).

هذا الحديث ترويه عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق) والمقصود بـسعد هنا سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وهو من بني عبد الأشهل، وهو أحد السعدين اللذين اشتهرا من بداية الهجرة فـسعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج، وقد ذكرهما الجني في هاتفه الذي سمعه أهل مكة بعد الهجرة، قال:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله بالفردوس منية عارف

وسعد الأوس هو سعد بن معاذ، وهو من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز له عرش الرحمن جل جلاله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموته)؛ ولذلك يقول حسان رضي الله عنه في رثائه:

فما اهتز عرش الله من أجل هالكٍ سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

أحداث غزوة الأحزاب

(يوم الخندق)؛ أي: في معركة الأحزاب فإن أهل الأحزاب كانوا يرمون بأسهمهم من وراء الخندق، والذين يقفون في نحورهم من المؤمنين من المسلمين يرمونهم أيضًا، ومنهم سعد بن معاذ، فكان يرامي المشركين من وراء الخندق، ولم يستطع أحد من المشركين أن يتجاوز الخندق، قد هم بذلك شاب واحد منهم وهو عثمان بن نوفل، وأراد أن يقتحم الخندق فوقع فيه، فمات هو وفرسه، فعرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته، وأن يأذن لهم باستخراجه، فقال: (خذوه، لا حاجة لنا بديته، خبيث جيفة، خبيث دية)، فرفعوه، وكذلك تجاوز علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخندق عندما طلب عمرو بن عبد ود البراز، فبرز إليه علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقتله.

و(الخندق) في الأصل معناه: الحفير، وأصل ذلك أن قريشًا ألبت الأحابيش والأحزاب في العام الخامس من الهجرة لغزو المدينة، وأرادوا أن يجتثوا بيضة الإسلام، وأن يقضوا عليه، وكان العام عام جدب في المدينة وغلاء، فجاءوا في وقت الشدة، وناصرهم وظاهرهم اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم بنو قريظة ومن جاء معهم من بني النضير، الذين كانوا قد أخرجوا، فقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك من المدينة بطنين من بطون اليهود، وهما: بنو قينقاع، وبنو النضير.

فجاء رجال من بني النظير من خيبر ليقووا بني قريظة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم حيي بن أخطب وهو سيد بني النضير، فجاءوا إلى بني قريظة، وكانوا معه في حصونهم في المدينة، وجاءت قريش وغطفان والأحابيش التي مع قريش، فأحاطوا بالمدينة من كل جانب، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم استشار أصحابه في هيئة قتالهم، فقال له سلمان الفارسي: (كنا إذا خفنا خندقنا)؛ أي: حفرنا الخنادق، فاستصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفكرة.

وهذا يدل على جواز استعمال الأفكار المستوردة من الحضارات الأخرى ولو لم تكن معروفة لدى العرب، إذا كان فيها فائدة، ولم تخالف مقصدًا شرعيًّا ولا نصًّا، ففكرة الخندق من حضارة فارس، كما أن فكرة الخاتم من حضارة الروم، وكما أن فكرة المنبر من حضارة الحبشة، وقد أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقًا في غرب المدينة، وهو مقسوم إلى قسمين: الخندق الجنوبي، والخندق الشمالي، والخندق الجنوبي من طرف؛ أي: من خطام جبل سلع إلى الحرة الغربية، والخندق الشمالي من ثنية الوداع في نهاية سلع في جهة الشمال إلى الوادي الذي دون أحد.

وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين شهدوا معه هذه الغزوة وكانوا ألفًا وخمسمائة، فجعل على كل عشرة أذرع كتيبة منهم يحفرونها، وحفروا الخندق بسرعة ووسعوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذرعه بيده، وإذا اعترضتهم كدية أو حجر دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول فضرب به وكبر، ومرة من المرات ضرب حجرًا فلاح منه مثل البرق وانفلق، فقال: (الله أكبر! أعطيت خزائن الأرض ومفاتيحها)، وبين لهم أنه وعد في ذلك الوقت بكنوز كسرى وقيصر، وأنهم سينفقونها في سبيل الله، وهم إذ ذاك في أشد الضرر، فقد جاءهم المشركون من أعلى منهم، وجاءهم اليهود من أسفل منهم، والتقت حلقة البطان عليهم كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15].

وقد نوه الله بشأن هذه الغزوة وما نصر فيها رسوله صلى الله عليه وسلم به من أنواع النصر؛ فإن الله تعالى يقول في هذه السورة: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[الأحزاب:25]، فكل ذلك من أمر الله جل جلاله، فقد هزم الأحزاب كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، واعترف له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ثناءً عليه، وتمجيدًا وشكرًا لنعمته، فإنه لما وقف على الصفا قال: (الله أكبر! لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) فقد وعده بذلك في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:27]، (أنجز وعده) (ونصر عبده) فقد نصر رسوله صلى الله عليه وسلم على كل من ناوأه (وهزم الأحزاب وحده) فكفاهم الله الكافرين، ولم تقم لهم قائمة، وسلط الله عليهم الرياح، وهي الصبا التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، و(الصبا) هي الريح التي تأتي من جهة المشرق، فهزم الله بها الأحزاب، وقرروا الهزيمة والانصراف بعد أن لم تبق لهم خيمة ولا خباء، وبعد أن نفدت أزوادهم ولم يأمنوا، وكانت الرياح تأتي وفيها الظلام والغبار، فتريق قدورهم وقربهم، وتأذوا غاية الأذى، فأعلنوا الهزيمة.

وهذه المعركة قد استشهد فيها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شهدائها سعد بن معاذ رضي الله عنه، ولكنه لما جرح سأل الله تعالى ألا يميته حتى يريه قرة عينه في بني قريظة، فقد كان بنو قريظة مواليه وأحلافه في الجاهلية، وكان اللازم بمقتضى عادة العرب وأعرافهم أن ينصروه، وألا يخذلوه، وقد جاءوا وخذلوه ووقفوا ضده مع المشركين، فأراد أن يحييه الله حتى يرى مصارعهم والانتقام منهم، فأصيب في الأكحل وهو: عرق في باطن اليد، وقد أصيب سعد في مرفقه.

وفي حديث عائشة هذا في الرواية الأخرى أنه مر عليها هي وأمه وهي كبشة رضي الله عنها هي أم سعد، فكان يودع أمه فرأته عائشة وهو يلبس درعًا قصيرة اليدين تصل إلى العضدين فقط، فلما رجعت أمه من وداعه وهي كبشة، قالت عائشة: (لوددت أن درع سعد كانت أحصن من هذه) أو: (كانت أسبغ من هذه).

وعائشة تعرف قضايا الحرب فتمنت أن لو كانت درع سعد أسبغ من هذه؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فخرج سعد في هذه الدرع، وقاتل وأصيب في أكحله فانقطع هذا العرق، وهذا العرق من العروق الأساسية، وإذا انقطع لا ينجبر، ولما دعا استجاب الله دعاءه، فعندما انهزم المشركون ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل، فأخبره أن الملائكة لم تضع أسلحتها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في ديار بني قريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه إلى بني قريظة، فباغتوهم وأحاطوا بهم من كل وجه، وحاصروهم حصارًا شديدًا ومعهم رجال من بني النضير، فيهم حيي بن أخطب وهو والد أمنا صفية رضي الله عنها، لكنه كان سيد بني النضير، وكان من أشد اليهود عداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى الله أن شيبكنمشتسبكينت

في قلوبهم الرعب فسلموا أنفسهم، لكنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ لأنه هو مولاهم وحليفهم في الجاهلية، فحكم فيهم سعد بأن يقتل بالغوهم، وأن تسبى نساؤهم وذراريهم.

فكل من بلغ الحلم منهم حكم فيه سعد بالقتل، وهم رضوا بحكم سعد مطلقًا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعدًا حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات فقتل مقاتلتهم؛ أي: كل من يصلح للقتال منهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا من جرت عليه الموسى فاقتلوه)، فقتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم ونساؤهم، وأورث الله المؤمنين ديارهم وأموالهم، وشفى الله نفس سعد منهم، ثم مات سعد، ولكنه من تلك المدة بنى له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب، فهو يعلم أنه ميت لا محالة لهذا الجرح، وهي شهادة في سبيل الله، وهذا أعلى المقامات.

ومن هنا يعلم أن الحياة الدنيا هي دار النكبات والنكدات، ولا يمكن أن يجد فيها الإنسان راحة بال ولا طمأنينة، فهي حال، وبقاء الحال من المحال، فالمطلوب فيها بزيادة العمر هو رفع الدرجة الأخروية، فإذا وصل الإنسان إلى أعلى درجة أخروية ممكنة فلا فائدة من بقائه في الحياة الدنيا، وسعد وصل إلى أعلى درجة أخروية ممكنة وهي الشهادة في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أعطاه الله هذه الدرجة العليا لم يأسف على الحياة ولم يطلبها، إنما طلب فقط شفاء صدره من بني قريظة قبل أن يموت.

وهذا هو وجه الاستشهاد من الحديث في قول عائشة رضي الله عنها: (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد)؛ أي: له؛ أي: لـسعد؛ ليعوده من قريب، والعيادة معناه: زيارة المريض، ولها أهداف منها: أولًا الاتعاظ بحاله كزيارة الموتى، ومنها كذلك شكر نعمة الدفع؛ لأن الإنسان مالم ير النعمة لا يستحضرها فلا يشكرها لله، ومنها كذلك التخفيف عن المصاب والدعاء له، ومنها تسليته وتسلية أهله، ومنها كذلك خدمته فهو مبتلًى، والمبتلى يستحق الرحمة، فهذه بعض أهداف العيادة، وهي واجبة؛ فتجب أولًا على الأقارب، فإن تهاونوا بها لزمت الأصدقاء، فإن تهاونوا بها فهي حق على كل مسلم، وهي من حقوق المسلم على أخيه: أن يرد السلام عليه، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيب دعوته، وأن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته؛ ولذلك نظم العلامة محمد مولود رحمة الله عليه أحكامها، فقال:

عيادة المريض مما يجب بها ابتداءً يطلب الأقارب

فإن تهاونوا بها فالصاحب فإن بها استخف فالأجانب

آداب عيادة المريض

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في عيادته للمرضى سن لنا آدابًا هي آداب العيادة، منها:

أولًا: أن تكون العيادة في الوقت المناسب، فلا تكون في أوقات: الحرج، أو الراحة، أو النوم؛ لأن ذلك يؤذي المريض ويزعجه.

ومنها: أن لا يطيل العائد، فالعائد إذا أطال الجلوس والمكث فإنه يمل، والمريض متأثر نفسيًا فيسهل ملله وتغير حاله، ومنها كذلك اللطف والرأفة فيها أن يظهر للمريض الشفقة من عائده، وقد قال الزبيري رحمه الله:

ما لي مرضت فلم يعدني عائد منكم ويمرض كلبكم فأعود

وأشد من مرضي علي صدودكم وصدود كلبكم علي شديد

وكذلك الدعاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عاد مريضًا لم يحن أجله، فقال سبعًا: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيه، إلا شفاه الله تعالى)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف على المرضى إذا عادهم فيقول: (لا بأس! طهور إن شاء الله)، ويدعو لهم.

(ليعوده من قريب) لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول، وهذا في آثار معركتين متقاربتين، وله تخطيط يومي وعمل فيشق عليه أن يذهب إلى أسواف بني عبد الأشهل ليزور سعدًا هنالك، وأسواف بني عبد الأشهل ليست قريبة جدًّا من المسجد النبوي، وأهل المدينة يعرفونها إلى الآن مكانها معروف، وفيها دار سعد بن معاذ، وقد صح في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل)، فهي الثانية في الدرجة في الفضل بعد دور بني النجار.

(فلم يرعهم) هذه عبارة يقولها العرب، يقولون: ما راعني إلا كذا، والمقصود بذلك: أنه سرعان ما رأى ذلك، وليس المقصود بها الروع الذي هو: الخوف، بل المقصود بها أنها من الروع، والروع: القلب؛ أي: لم يفاجئني إلا هذا الأمر كأنه فاجأ قلبه، مثل ما قال عنترة:

ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم

عنترة شجاع، ولا تروعه الإبل، فالمقصود هنا (ما راعني إلا حمولة أهلها)؛ أي: ما رأيت شيئًا أسبق إلى وهلي من ذلك، (إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم).

والمقصود هنا بالضمير في قول عائشة: (لم يرعهم)؛ أي: أهل الخيمة ولم يذكروا بعد، ولكن هذا من عود الضمير على متأخر رتبة؛ فلذلك جاءت بالجملة الاعتراضية هنا وفيها ذكر أهل الخيمة، فقالت: (وفي المسجد خيمة من بني غفار) (خيمة) مبتدأ، وخبرها (في المسجد) وهو جار ومجرور مختص، وهذا الذي سوغ الابتداء بقولها: (خيمة)، والمقصود: أن في جوار خيمة سعد التي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة أخرى من بني غفار، وهم ليسوا من سكان المدينة، بل هم قريبون من مكة في مضاربهم وديارهم.

(وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل) (إلا الدم) هذا فاعل (راعهم) فجاءت الجملة الاعتراضية بين الفعل وفاعله (ما راعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم) (إلا الدم) فاعل راعهم، معناه: ما فاجأهم إلا الدم، والمقصود بالدم الذي يسيل دم جرح سعد، (إلا الدم يسيل إليهم)؛ أي: إلى أهل تلك الخيمة، (فقالوا: يا أهل الخيمة)؛ أي: قال بنو غفار أصحاب الخيمة الثانية، (يا أهل الخيمة) لخيمة سعد (ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟)؛ أي: ما هذا الدم الذي يسيل إلينا من قبلكم؟ (فإذا سعد يغذو جرحه دمًا)؛ أي: يسيل دمًا، (فمات فيها) فمات سعد فيها؛ أي: في الخيمة، وفي رواية أخرى هنا في الصحيح: (فمات سعد منها)؛ أي: من الجراحة.

ووجه الاستدلال بالحديث على الأمرين: أن في المسجد إذ ذاك خيمتين: خيمة لـسعد وهي للمريض- للمرضى- وخيمة لبني غفار ليست لمرضى؛ ولذلك قال: (باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم) فالخيمة الأولى خيمة سعد للمرضى، والخيمة الثانية لغيرهم.

من فوائد حديث عائشة في قصة سعد

وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الأحكام، منها ما ذكرنا من قبل من أن المسجد عاصمة الإسلام، ويستغل لكل أمور الدين والدنيا، التي فيها إعلاء لكلمة الله، ونصرة لدينه، ورفع لشأنه، ومنها كذلك جواز الاحتجار فيه والاختصاص، مع أن الأصل أن المسجد مرفق عمومي مشترك بين المسلمين، فإذا لم يضيق الإنسان على المسلمين فله أن يحتجر مكانًا فيه، وإذا عرف للإنسان مكان في المسجد وقام منه وهو يريد الرجوع إليه فهو أحق به، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)، قال النووي في شرح صحيح مسلم عند هذا الحديث: محله إذا عرف مكانه الذي كان يجلس فيه بأن ترك فيه عمامة، أو سبحة، أو سجادة، فهذا يدل على أنه سيرجع، إذا ترك عقاله في مكانه فهذا دليل على أنه يحوز هذا المكان، وأنه خرج عن كثب يعود، فهو سيتوضأ ويعود، أو يستاك ويعود إلى مكانه، فهو أولى به إذا جاء، ويقوم له من جلس مكانه بعده.

وكذلك يؤخذ من الحديث أن ما كان من الأنجاس غير مقصود الوقوع في المسجد فلا حرج في وقوعه، ولكنه يرفع ويطهر منه المسجد؛ ولذلك قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور:36]، ومن رفعها تطهيرها، ويدل الحديث كذلك على فضل سعد بن معاذ ومنزلته بالإسلام، وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل كذلك على فضل بني غفار، وقد جاء في فضلهم عدد كثير من الأحاديث وفي مزيتهم في الإسلام، وهم من القبائل التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استرقاق أسيرها.

فقال: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دمًا فمات فيها).

هذا الحديث ترويه عائشة رضي الله عنها، قالت: (أصيب سعد يوم الخندق) والمقصود بـسعد هنا سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وهو من بني عبد الأشهل، وهو أحد السعدين اللذين اشتهرا من بداية الهجرة فـسعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج، وقد ذكرهما الجني في هاتفه الذي سمعه أهل مكة بعد الهجرة، قال:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله بالفردوس منية عارف

وسعد الأوس هو سعد بن معاذ، وهو من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز له عرش الرحمن جل جلاله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموته)؛ ولذلك يقول حسان رضي الله عنه في رثائه:

فما اهتز عرش الله من أجل هالكٍ سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] 3608 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] 3530 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] 3463 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] 3352 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] 3199 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] 3187 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] 3136 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] 3073 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] 2991 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] 2918 استماع