تطور المعارف بتطور الحضارات [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فمن العوامل المؤثرة في تطور الثقافة عامل السياسة، فالسياسة مؤثرة في الدين، مؤثرة في الاقتصاد، مؤثرة في الاجتماع، مؤثرة في تطور الناس، وقد جاء في التوراة: الناس على دين ملوكهم، أو الناس على دين الملك، وسلم لهذه القاعدة عدد من الأئمة كـأبي عمر بن عبد البر و ابن تيمية و الكمال بن الهمام كلهم تواتروا على أن الناس على دين ملوكهم.

وقد ذكر ابن خلدون تأثر جميع جوانب الحياة بالسياسة، فقال: إن الملك إذا اتجه إلى التدين سيتدين الناس، وإذا اتجه إلى الفجور والفسوق سيفشو الفسوق والفجور في الناس، وإذا اتجه إلى العمران والبناء والتطاول سيتجه الناس إلى ذلك، وإذا اتجه إلى الزراعة سيتجه الناس إلى ذلك، وثبت هذا من التاريخ في الوقائع التي لا تقبل الشك.

حال الناس في أيام عمر بن عبد العزيز

ولهذا فإن الناس في أيام عمر بن عبد العزيز أقبلوا على العلم وتدوين السنن، وروايتها، وعلى الورع والزهد، فنشأت منهم النماذج العجيبة من الصالحين ومستجابي الدعاء، ونظير ذلك ما تكرر أيضاً في أيام المهدي العباسي الذي يقول فيه أحد الشعراء:

تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة، وذيب أطلس

لا ذي تخاف ولا بهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس

وعندما تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة دعا رجاء بن حيوة ، وكان من أئمة التابعين، فقال: يا رجاء ! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا أرى رجالهم، فهو يرى رجال الدولة إذ ذاك، وهم الذين اختارهم الحجاج و المهلب بن أبي صفرة و يزيد بن المهلب ، فلما قال ذلك لـرجاء قال له رجاء : يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق، يجلب إليها ما يروج فيها، والشيء غير المروج لا يجلب إلى السوق عادة، فإذا صلح السلطان صلح من دونه.

الحال في أيام المنذر بن سعيد البلوطي

ونظير ذلك ما حصل في الأندلس أيضاً للـمنذر بن سعيد البلوطي فإنه لما جاء القحط الشديد في الأندلس، وانقطعت الأنهار، أرسل إليه عبد الرحمن الناصر يريد أن يصلي الاستسقاء في الناس، فامتنع من ذلك، فقال: لمَ تمتنع من الاستسقاء بالناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، والاستسقاء سنة بالإجماع؟ فقال: لأنك أنت ومن حولك تعيشون في نعيم، ولا تحسون بأوضاع الرعية، وإنما هذا العقاب عقاب للجميع، فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]. والناس من ألفاظ العموم: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

فانكسر الخليفة وبكى، ثم أرسل إليه فوعده يوماً معيناً أنه سيستسقي لهم، ولكن المنذر كان صاحب حزم، فأرسل أحد طلابه إلى الخليفة فقال: انظر إلى ما يعمله الخليفة في هذا اليوم، فقال: وجدته في مصلاه والمصحف بين يديه، ودمعتاه على خديه، فقال: الآن نصلي وتمطرون، فلما خرج للاستسقاء، وصلى بالناس ورأى من بكائهم وضراعتهم، ورأى الخليفة يبكي افتتح خطبته بقوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54]. فكانت ضراعة استهلال، ورفع يديه في الاستسقاء فما ردهما حتى امتلأتا من الماء.

وكذلك فقد كان عدد من الأمراء فيما بعد يتجهون إلى جهة الجهاد، وإعلاء كلمة الله وقتال العدو، فيذهب الناس إلى هذا ويسجلون جميعاً في جيوش الجهاد، فكان الناس في أيام عمر بن الخطاب وفي أيام عثمان بن عفان يتنافسون في الخروج إلى الجهاد والغزوات، كما قال مالك بن الريب :

في جيش ابن عفان غازيا.

فهذا كان فخرهم إذ ذاك.

وبعد هذا كان هارون الرشيد يغزو عاماً ويحج عاماً، فكان الناس يتنافسون في الغزو والحج، وقد كتب ابن المبارك من الثغور إلى الفضيل بن عياض وهو في المدينة:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنـا لوجدت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضــب

أو كان يتعب خيله في باطـل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ترجمة الفكر اليوناني في عهد المأمون وتأثيره على الثقافة الإسلامية

وهذا التأثير الواضح للسياسة في الثقافة اقتضى أن المأمون لما تولى الخلافة ترجم فكر اليونان، وأقام دار الحكمة لترجمة علوم الهند واليونان والرومان، فدخلت علوم جديدة إلى العالم الإسلامي، وكان لهذا بعض الإيجابيات، وبعض السلبيات، فبعض الإيجابيات لا ننكرها، وهي: تطور العلوم وتشققها، فالعلم في الأصل كان علم رواية فقط، فأنت إذا قرأت الموطأ تجد فيه حديثاً، وتفسيراً، وفقهاً، ومصطلحاً، وبعض العقائد، وبعض الآداب، وبعض الأدعية، وهكذا في صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ستجد التفسير والفقه والحديث، وغير ذلك من العلوم مندمجة في كتاب واحد، لكن لما ترجمت علوم الأمم الأخرى تشققت العلوم، وتطورت، ففي أيام المأمون أصبح المشتغلون في الفقه متجردين له، والمشتغلون في الحديث متجردين له، والمشتغلون في اللغة متجردين لكل علم من علومها بحسب الحال، والمشتغلون بالطب متجردين له، وهكذا، فتشققت العلوم وكثرت، وهذا إيجابي لا محالة.

لكن مع ذلك ثمت بعض الهفوات، والأمور السلبية منها: أن تلك الحضارات الوافدة فيها بعض الأمور التي هي مخالفة لأصل الديانة، وفيها بعض الفلسفات التي نحن في غنىً عنها، ومع ذلك دخلت فنشأ بعض العلوم والانشغالات في الفلسفة والجدل، وقد كان سلف هذه الأمة على طهر ونقاء وصفاء، ولم يكونوا محتاجين إلى تلك الفلسفات الجديدة، فنشأت تلك الفلسفات بسبب هذه الترجمة، وهنا يعلم أن كل المناهج حتى مقررات المعهد العالي وغيرها لا بد أن يكون فيها إيجابيات وفيها سلبيات، والناظر ينبغي أن يكون عدلاً فينظر بعينين، فيقوم الإيجابيات والسلبيات معاً، فإذا نظر فقط بعين الرضا أغفل السلبيات، ولم يشارك في علاجها، وإذا نظر بعين السخط أيضاً أهمل الإيجابيات، وكان غير عدل في حكمه، وهذا من الأمور التي لا بد منها.

تأثير السياسة في المذاهب في الدولة العثمانية

كذلك هذا التطور نشأ بعد دولة بني العباس في دولة بني العثمان، وقد كانت دولة في الأصل قائمة على المذهب الحنفي، ومع ذلك تطورت المذاهب الأخرى من باب المنافسة في ظل دولة بني عثمان، وكان المذهب المالكي منتشراً في هذه البلاد في أفريقيا وفي جنوب أوروبا، في الأندلس وغيرها بسبب السياسة؛ لأن الأنظمة تبنته فنشرته، وكان المذهب الحنفي منتشراً في جمهوريات في آسيا وتبنته دولة بني عثمان.

وبعد ذلك أيضاً كان المذهب الشافعي منتشراً في اليمن وفي أندنوسيا، وفي المناطق التي دخلها الحضارم، وكان المذهب الحنبلي في بعض المناطق في الشام، وفي بعض المناطق في جزيرة العرب، وقليل من المناطق في العراق، فكانت المنافسة الإيجابية بين علماء المذاهب سبباً لوفرة المؤلفات وانتشارها وتناقلها.

ولذلك يقال: إن أهل نابلس في فلسطين -نسأل الله أن يفرج كربهم، وأن يرفع عنهم البلاء- كانوا حنابلة في الأصل، فجاء إمام من أئمة الحنفية، فأقام دروسه في الجامع الكبير يدرس المذهب الحنفي، فحاول علماء الحنابلة مناقشته فانهزموا أمامه لقوة عارضته ودليله، فتآمروا عليه وكان أكثرهم عمياناً، فقالوا: كل واحد يأتي يتوكأ على عصاه، فإذا اقترب من الشيخ وسمع صوته ضربه بالعصا، ثم يعتذر إليه بعد ذلك، ويأتي آخر من جهة أخرى، فأكثروا ذلك على الشيخ حتى انسحب عن نابلس وتركها.

وهذه المنافسة العلمية أدت إلى حصول التشابه بين بعض المؤلفات في بعض المذاهب، فمثلاً في علم القضاء في المذهب المالكي تبصرة ابن فرحون وهو كتاب من أهم الكتب وأجودها، ولكن الحنفية نقلوه إلى مذهبهم، فـالطرابلسي ألف كتاب تنبيه الحكام، فجعله تبصرة ابن فرحون في الواقع، لكنه أهمل الفروع المنسوبة إلى ابن رشد وغيره من أئمة المالكية، وأتى بدلها بفروع من المذهب الحنفي، لكن ترتيب الكتاب هو هو، وتبويبه هو هو، ويكاد القارئ يرى أنه مجرد دبلجة، وجمع بين كتابين. ونظير هذا أيضاً الحاصل في مؤلفات أخرى، فمثلاً المذهب المالكي استفاد أيضاً من طريقة الشافعية في التأليف، فـابن شاس هو أشهر مؤلف في المختصرات في المذهب المالكي، وقد ألف كتابه على غرار كتاب الوجيز للغزالي في المذهب الشافعي ، ولذلك لم يتخلص من بعض الآراء للغزالي ، فبعض المسائل وهي تقريباً سبع مسائل أو ثمان مسائل أدخلها ابن شاس في المذهب المالكي وهي أصلاً في المذهب الشافعي ، وتبع ابن شاس عليها ابن الحاجب ، وتبع ابن الحاجب عليها خليل فكانت إلى الآن، وتجدون في شروح المختصر هذه المسألة ليست راجحة في المذهب، وإنما هي من المذهب الشافعي نقلها خليل عن ابن الحاجب ، ونقلها ابن الحاجب عن ابن شاس ، ونقلها ابن شاس من موجز الغزالي .

وهذا إيجابي في تلاقح الثقافات، وليس فيه بأس، فقد ذكرنا أن المذاهب ليست ديانات وإنما هي مدارس، وطرق للتعامل مع النصوص، ولا بأس في أخذ أي إنسان بما ترجح لديه من دليل، فذلك هو مذهب مالك وغيره من الأئمة، فقد قال مالك : ما منا أحد إلا هو راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وقال: ما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء النص من القرآن، أو من السنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، فإذا جاء عن عبيدة السلماني و زر بن حبيش و عامر بن شراحيل الشعبي فهم رجال ونحن رجال، يقصد التابعين.

وكذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا عارض قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، وقال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

وبهذا يعلم أن المذاهب الأربعة مجمعة على أن العمل بالراجح واجب لا راجح، وأنه أصل على غيره، فهذا التلاقح الثقافي، والتطور لا بأس به.

ولهذا فإن الناس في أيام عمر بن عبد العزيز أقبلوا على العلم وتدوين السنن، وروايتها، وعلى الورع والزهد، فنشأت منهم النماذج العجيبة من الصالحين ومستجابي الدعاء، ونظير ذلك ما تكرر أيضاً في أيام المهدي العباسي الذي يقول فيه أحد الشعراء:

تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة، وذيب أطلس

لا ذي تخاف ولا بهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس

وعندما تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة دعا رجاء بن حيوة ، وكان من أئمة التابعين، فقال: يا رجاء ! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا أرى رجالهم، فهو يرى رجال الدولة إذ ذاك، وهم الذين اختارهم الحجاج و المهلب بن أبي صفرة و يزيد بن المهلب ، فلما قال ذلك لـرجاء قال له رجاء : يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق، يجلب إليها ما يروج فيها، والشيء غير المروج لا يجلب إلى السوق عادة، فإذا صلح السلطان صلح من دونه.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع