خطب ومحاضرات
دروس في العقيدة [5]
الحلقة مفرغة
عرفنا مما سبق أن العلماء قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وعرفنا الفرق التي انحرفت وأنكرت توحيد الربوبية، وشذت بذلك عن البشرية، وعرفنا الفرق التي انحرفت في باب الأسماء والصفات، وهي فرق التعطيل: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأشدها انحرافاً الجهمية، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة.
وسبق الكلام عن الجهمية والمعتزلة، والحديث هنا سيكون عن الفرقة الثالثة إن شاء الله، وهي فرقة الأشاعرة.
والأشاعرة هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فإن أبا الحسن الأشعري كان على مذهب المعتزلة أربعين سنة، ثم تحول إلى مذهب وسط، ثم بعد ذلك هداه الله، فاعتقد معتقد أهل السنة والجماعة، وقرر ذلك في كتبه، لكن بقيت أشياء يسيرة مأخوذة عليه ذكرها العلماء.
ومن العجيب أن الأشاعرة ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري مع أنه قد رجع عن معتقده السابق، واستمر هؤلاء على ما كان عليه سابقاً، وأما هو فقد رجع عنه وقرر معتقد أهل السنة والجماعة.
ومذهب الأشاعرة مذهب واسع الانتشار في الأرض، فقد عم كثيراً من أرجائها، وقد اعتنق هذا المذهب كثير من أهل الكلام، ومن أهل التصوف، ومن المحدثين، ومن الفقهاء من فقهاء الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف، حتى وقع في هذا المذهب بعض المحدثين الكبار، كالحافظين ابن حجر والنووي رحمة الله عليهما على جلالة قدرهما ومنزلتهما العظيمة في علم الحديث، فقد سلكا في الصفات مسلك الأشاعرة، وذلك بسبب أنهما نشأا منذ الصغر على هذا المذهب، وظنا أنه هو الحق، وأن هذا هو التنزيه، والإنسان إذا لم يوفق من أول أمره في المسير على معتقد أهل السنة والجماعة فإنه ينشأ على ما نُشِّئ عليه.
وقد نجد في بعض الأوقات أن هذا المذهب انتشر فيها انتشاراً كثيراً، وفي مقابل ذلك ينحصر مذهب أهل السنة والجماعة، فيحصل اللبس، ويظن بعض الناس أن مذهب الأشاعرة هو مذهب أهل السنة، حتى إن الأشاعرة أنفسهم يسمون أنفسهم أهل السنة، ومن هنا حصل اللبس، حتى قال السفاريني رحمه الله في عقيدته: إن أهل السنة ثلاث طوائف: الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، فجعل الجميع من أهل السنة.
وإن للأشاعرة شبهاً قوية قد يتأثر بها طالب العلم إذا كان في ابتداء الطلب ولم يكن عنده بصيرة، وقد تجرد الأئمة والعلماء للرد عليهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم في كثير من كتبهما، وأبانا المعتقد الحق، وهو معتقد أهل السنة والجماعة الذي تقرره النصوص الشرعية، وتشهد له العقول الصحيحة، والفطر المستقيمة.
ما يثبته الأشاعرة من صفات الله تعالى
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر
ومنهم من يثبت عشرين صفة، ومنهم من يثبت أربعين، لكن المشهور عنهم إثبات هذه الصفات السبع فقط، وأما ما عداها من الصفات فإنهم ينفونها ولا يثبتونها.
وهم في نفيها يسلكون أحد مسلكين: المسلك الأول: أن يرجعوها إلى معنى الصفات السبع، المحبة في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] يقولون عنها: يريد أن يحبهم، فيرجعونها إلى معنى الإرادة، وهي من الصفات السبع التي يثبتونها.
والمسلك الثاني: أنهم يفسرونها ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات التي هي أثر من آثار الصفات، ولا يفسرونها بالصفات، فيفسرون اليد -مثلاً- بالنعمة، وأحياناً يفسرونها بالقدرة؛ لأن القدرة من الصفات التي يثبتونها، ويفسرون الغضب بالانتقام، والانتقام أثر من آثار الغضب وليس هو الغضب، ويفسرون الرضا بالثواب، والثواب أثر من آثار الرضا، ويفسرون الرحمة بالإنعام.
فقيل لهم: لماذا نفيتم هذه الصفات وأثبتم الصفات السبع، ولم يكن مسلككم في الصفات واحداً كما فعل أهل السنة، فإن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكيف تفرقون بين الصفات فتنفون بعضها وتثبتون بعضها؟!
وهذه القاعدة من الأصول التي رد بها أهل السنة على الأشاعرة، وهي أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فباب الصفات باب واحد.
فيجب إثبات الصفات لله جميعاً كما يجب إثبات الأسماء، ولا يجوز للإنسان أن يفرق بين الصفات فيثبت بعضها وينفي البعض الآخر.
فقالوا: إن إثبات غير الصفات السبع يلزم منه التشبيه والتمثيل؛ لأننا لا نشاهد في الخارج متصفاً بغير الصفات السبع إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، فلذلك نفينا هذه الصفات عن الله، فالله ليس له مثيل ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. فقصدنا من نفي بقية الصفات غير الصفات السبع تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقات والأجسام، فلا نرى من يغضب ويرضى ويرحم إلا المخلوق، فإذا قلنا إن الله يغضب ويرضى ويرحم ويكره فقد شبهناه بالمخلوق، والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
فقال لهم أهل السنة: إذا كنتم نفيتم بقية الصفات خوفاً من التشبيه والتمثيل؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فيلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الصفات السبع؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بالصفات السبع إلا ما هو جسم، فالمخلوق يتصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فكيف تثبتون سبع صفات مع أن هذه الصفات السبع موجودة في المخلوقات؟! فقالوا: إن هذه الصفات السبع نثبتها على وجه لا يماثل فيه الخالق المخلوق ولا يشابهه، فلا يلزم من إثباتها التمثيل.
فقال لهم أهل السنة والجماعة: وكذلك بقية الصفات يجب عليكم أن تثبتوها لله على وجه لا يماثل فيها الخالق صفات المخلوقين، فاسلكوا فيها ما سلكتم في الصفات السبع، فإذا كنتم تثبتون الصفات السبع على وجه لا يماثل الرب فيها صفات المخلوقين، فكذلك اثبتوا بقية الصفات على وجه لا يماثل فيها الرب صفات المخلوقين.
فقالوا: إن هناك فرقاً بين الصفات السبع وبين غيرها، وهذا الفرق هو الذي حملنا على أن نفرق بينها فنثبت الصفات السبع ولا نثبت بقية الصفات، وهو أن الصفات السبع دل عليها العقل مع الشرع، فأثبتناها، وأما بقية الصفات فإنه لم يدل عليها العقل وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة وليست صريحة.
وهذا الاستدلال مبني على قاعدتهم الفاسدة، وهي قاعدة لأهل البدع عموماً، وهي: أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأدلة القرآن والسنة دلالتها لفظية لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين هو دليل العقل، ويسمون الأدلة العقلية قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وأما دلالة النصوص فهي دلالة لفظية محتملة لا تفيد اليقين ولا القطع.
وهذا من البلاء والمصائب، أعني اعتقاد أن دلالة النصوص ظنية لا تفيد اليقين، وقد جعله ابن القيم رحمه الله طاغوتاً، وحكم عليه بالكفر؛ لأنه منعهم من العمل بالنصوص والأخذ بها واعتقاد أنها تفيد اليقين، وهذا من أبطل الباطل، ويلزم بهذا لوازم فاسدة، منها أنه لا يوثق بالكلام ولا بالعقود، فإذا عقد الإنسان مع آخر عقد بيع فهذا لفظ يمكن ألا يتم به البيع، فله الفسخ، وإذا عقد عقداً للنكاح فإنه يقول: هذا عقد لفظي يمكن ألا يتم به النكاح، وهكذا.
ويلزم منه فساد المعاملة، وفساد الدنيا والآخرة، ويلزم منه أن كلام الله وكلام الرسول لا يوثق بهما ولا يعمل بهما، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وهذا الطاغوت يجب كسره، وقد كسره ابن القيم رحمه الله تعالى.
فالمقصود أن هذه الشبهة أو هذا الطاغوت يتعلق به جميع أهل البدع، فالأشاعرة يقولون: إننا أثبتنا الصفات السبع لأنها دل عليها العقل مع الشرع، والعقل دليل قطعي، بخلاف بقية الصفات، فإنها لم يدل عليها العقل، وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة، فلذلك لم نثبتها.
فمثلاً: الفعل الحادث المتجدد يدل على القدرة، فهذا يخلق، وهذا يولد، وهذا يموت، وهذا نبات ينبت، وهذا يزول، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا عزيز، وهذا ذليل، وهذه دولة تزول، وهذه دولة تنشأ، وهكذا، فهذا الفعل الحادث يدل على القدرة وأن الله قادر، فلذلك أثبتنا القدرة.
قالوا: وتخصيص بعض المخلوقات بخواص دون الأخرى يدل على الإرادة، فمثلاً: تخصيص هذا بالعلم، وهذا بالعقل، وهذا بالغنى، وهذا بالفقر، وهذا بالملك، وهذا بكونه مملوكاً، وهذا بالإمارة، وهذا بالوزارة، وهذا بالصعلكة، وهذا بكونه بطيء الغضب، وهذا بكونه سريع الغضب، هذا التخصيص يدل على أن الله مريده.
وكون الأحكام في غاية السداد والملاءمة في الأحوال يُدل على العلم، فهذا لا يصدر إلا عن علم، فأحكام الله الشرعية، وأحكام الله الجزائية، وأحكام الله القدرية في غاية السداد والملاءمة للأحوال، وهي تدل على العلم.
قالوا: فثبت لنا صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذه الصفات الثلاث تستدعي الحياة، فلا تصدر إلا عن حي، فثبتت بذلك صفة الحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، والله له الكمال، فيتصف -إذاً- بالسمع والبصر والكلام.
قالوا: فثبتت لنا الصفات السبع بالعقل مع الشرع، والدليل العقل دليل قطعي، فالعمدة عليه، والشرع جاء موافقاً له، فاعتمدنا إثبات الصفات السبع، وأما بقية الصفات السبع فإنها لم يدل عليها العقل، ودلالة النصوص عليها دلالة ظنية محتملة لا تفيد اليقين، ولذلك لا نجزم بأن هذه الصفات ثابتة لله.
رد أهل السنة على الأشاعرة في طريقة الاستدلال
الجواب الأول: جواب بالمنع، والجواب الثاني: جواب بالتسليم.
فالجواب الأول -جواب المنع- نقول: نمنع أن يكون العقل قد دل على الصفات السبع ولم يدل على ما سواها، بل إن العقل يدل على الصفات السبع ويدل على بقية الصفات أيضاً، ونحن نثبت لكم أن العقل يدل على بقية الصفات كما دل على الصفات السبع، فمثلاً: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، فإذا كان الله تعالى ينفع عباده، ويحسن إليهم، فهذا يدل على الرحمة، فثبتت بذلك صفة الرحمة، وإكرام الله للطائعين ونصره لهم في الدنيا على أعدائهم يدل على المحبة، فثبتت لنا المحبة، وعقاب الله للكافرين وتسليطه المؤمنين عليهم يدل على البغض، وعقوبته لهم في الدنيا والآخرة يدل على البغض، فثبتت بذلك صفة البغض، والغايات المحمودة في مفعولات الله ومأموراته تدل على الحكمة البالغة، فحينما أوجب القصاص، وقطع يد السارق، وجلد الزاني، فهذه أراء محمودة تؤدي إلى الزجر عن المعاصي، فالغايات المحمودة في مأمورات الله الشرعية وفي مفعولاته تدل على حكمته البالغة، فثبتت الحكمة بالأصل، إذاًً فثبتت الرحمة والمحبة والحكمة بالعقل.
فنقول لهم: فلماذا لم تثبتوها -مع أن العقل قد أثبتها- كما أثبتم الصفات السبع؟! فهذا منكم تفريق بين متماثلين، وهو مكابرة منكم.
والجواب الثاني -وهو الجواب بالتسليم- أن يقال لهم: سلمنا تنازلاً مع الخصم أن العقل يدل على الصفات السبع ولا يدل على ما عداها، لكنه لا ينفي ذلك، وكون العقل لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الوقت، بل أثبت سبعاً وسكت عن الباقي، وإذا سكت عنها فليس معناه أنه ينفيها، بل قد دل دليل آخر عليها بأنها ثابتة، فالأدلة متعددة وليست محصورة في العقل، فإذا كان العقل لا يثبتها فهو لا ينفيها، وكونه لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الأمر؛ لجواز أن تكون ثابتة بدليل آخر، وهو الواقع هنا، فالعقل لم يثبتها لكن أثبتها الشرع، والشرع دليل مستقل بنفسه، كما أن العقل دليل مستقل، والطمأنينة إلى الشرع في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل، فإذا كان الدليل العقلي يثبت الصفات السبع والدليل الشرعي يثبت بعض الصفات، وهذا دليل وهذا دليل، وكلاهما دليل معترف به، والطمأنينة إلى الدليل الشرعي في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل؛ فما الذي سوغ لكم نفي مدلول الدليل الشرعي مع أنه دليل ومعترف به؟! فإثباتكم للصفات السبع بالعقل ونفيكم لما عداها -مع أن بقية الصفات قد دل عليها دليل آخر مماثل للعقل- مكابرة منكم.
وبهذا يبطل ما ذهب إليه الأشاعرة من التفريق بين الصفات من إثبات بعضها ونفي بعضها، ويتبين من هذا أن الأشاعرة متناقضون، فهم يفرقون بين الصفات مع أن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
ولهذا تسلط عليهم المعتزلة، فقالوا لهم: مذهبكم هذا غير معقول وغير متصور، بل أنتم مذبذبون، فكيف تثبتون بعض الصفات وتنفون البعض؟! فإما أن تثبتوا الجميع فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، أو تنفوا الجميع فتكونوا إخواناً لنا من جميع الوجوه.
فليس لكم إلا واحد من أمرين: أن تنفوا السبع الصفات فتكونوا معتزلة مثلنا، أو تثبتوا بقية الصفات فتكونوا مشبهة مجسمة -لأنهم يسمون أهل السنة مشبهة ومجسمة- أما أن تبقوا مذبذبين فهذا لا يصح؛ لأنه تناقض.
دحض شبهة أهل التعطيل
والجهمية يقولون: يلزم من إثبات الأسماء والصفات جميعاً التشبيه والتجسيم؛ لأننا لا نرى متصفاً بهذه الصفات أو مسمى بهذه الأسماء إلا وهو جسم، والله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لكنهم عموا عن آخر الآية: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذه طريقة أهل البدع، فإنهم يقولون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فأخذوا بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وعموا عن قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
ولما أصلوا هذه الشبهة واعتمدوا عليها، ثم جاءت النصوص في إثبات الصفات صاروا مترددين بين أحد أمرين: إما أن يسلكوا مسلك التفويض، وإما أن يسلكوا مسلك التحريف، وهذا يسمونه تأويلاً، والتفويض معناه: أن يسكتوا عن تفسير معناها ويعتقدوا أنها ليس لها معنى، ويفوضون المعنى إلى الله، فيقولون: لا نعلم معناها، فالعلم والقدرة والاستواء لا نعلم معناها، وطريقة التفويض هذه نسبوها إلى السلف زوراً وبهتاناً، والصحيح أنها ليست طريقة السلف، فالسلف يعرفون المعنى، وهؤلاء يفوضون ويقولون: لا نعلم معناها، فلفظ (استوى) والعلم والقدرة والسمع مثل الحروف الأعجمية، فكما أن العربي لا يفهم معنى الحروف الأعجمية فكذلك لا يفهم معنى (استوى) والقدرة والعلم والسمع والبصر... إلى آخر الصفات.
وهذه الطريقة يسمونها طريقة التفويض، وهي باطلة؛ لأنها ليست طريقة السلف، وطريقة السلف هي إثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: معلوم معناه في اللغة العربية- والكيف مجهول، يعني أن الكيفية مجهولة، فلا نعلم كيف اتصف بهذه الصفة، فهذا هو الذي نفوضه إلى الله.
ولهذا فسر العلماء الاستواء بالاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، لكن كيفية استواء الرب أمر مجهول، وهو الذي نفوضه؛ لأنه لا يعلم كيفية الاستواء إلا هو، ولا يعلم كيفية النزول إلا هو، ولا يعلم كيفية العلم إلا هو، ولا يعلم كيفية القدرة إلا هو، وهكذا يقال في جميع الصفات، فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، لكن هؤلاء سلكوا مسلك التفويض، فهم يفوضون المعنى لا الكيفية، وهذا غلط.
الطريق الثاني: طريق التحريف، وهم يسمونه تأويلاً، وهو أن يخترعوا للصفات معاني يبتدعونها من عند أنفسهم، فمثلاً صفة اليد قالوا: معناها القدرة، والرحمة معناها: النعمة، والرضا معناه: الثواب أو الإنعام، والغضب معناه: العقاب، وهكذا، فهذه طريقة التحريف الذي يسمونه تأويلاً.
ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقصدهم بطريقة السلف طريقة التفويض، وهذا من أبطل الباطل، فليست هذه ولا تلك طريقة السلف، بل طريقة السلف هي إثبات معاني الصفات، فهم يثبتونها، وإثباتهم لها على ما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنحن نقطع ونجزم بأن لله صفات لكنها صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فنحن نثبتها لله ونعلم معناها، لكن لا نعلم الكيفية هذه هي الشبهة التي يعتمد عليها أهل البدع، وقد رددنا عليها تفصيلاً، فقد رددنا على الجهمية، ثم على المعتزلة، ثم على الأشاعرة.
وهناك جواب إجمالي -وهو نافع ومفيد- على هذه الشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق المعطلة، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات، وأثبت لنفسه الأسماء، وكذلك أثبتها له رسوله، وفي المقابل نفى عن نفسه المشابهة والمثل فقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
فالله تعالى نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة، فلو كان يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل لما أثبتها تعالى لنفسه، فالقرآن والسنة أثبتا الصفات، ونفيا التمثيل والتشبيه.
ومع نفيه سبحانه عن نفسه المشابهة أثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهنا نفى عن نفسه المماثلة، ثم أثبت لنفسه الصفات فقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] فنهى عن ضرب الأمثال له، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، فأثبت لنفسه العلم.
فلو كان نفي المماثلة يستلزم نفي الصفة لما أثبت الله الصفة لنفسه، وللزم من ذلك التناقض في كلام الله وكلام رسوله، وحاشا أن يكون في كلام الله تناقض، فالله ينفي عن نفسه المماثلة ويثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فلو كان إثبات الصفة تمثيلاً للزم التناقض في كلام الله؛ لأنه القائل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهذا نفي المماثلة، وقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ومن المعلوم أنه ليس هناك شيئان في الوجود إلا وهناك قدر مشترك بينهما، فيشتركان في مسمى الشيء، ووجوده في الذهن، فكل شيئين في الدنيا بينهما اشتراك في الذهن يشتركان فيه، لكن متى يكون هذا الاشتراك؟! يكون عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا لا يلزم منه المشابهة والمماثلة في الخالق، فليس هناك شيئان إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه في الذهن، فهناك تشابه لا بد منه في الذهن، ومن نفى التشابه فقد نفى وجود الله، ونفى صفاته، كما قرر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رسالته: (الرد على الزنادقة)، وكما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فمن قال: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه فقد أنكر وجود الله، بل هناك وجه تحتمله المشابهة، وهو القطع عن الإضافة والتخصيص في الذهن لا في الخارج، وهو مسمى الشيء والوجود.
فكلمة (شيء) وكلمة (موجود) تشملان الخالق والمخلوق، فالله شيء، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] والله موجود، والمخلوق شيء، وهو موجود، فهذا اشتراك في الذهن وليس في الخارج، ويزول هذا الاشتراك عند الإضافة والتخصيص، فنقول: وجود الله، ووجود المخلوق، فينتهي الاشتراك، فوجود الله أكمل من وجود كل موجود، ووجود المخلوق ناقص مسبوق بالعدم، وأيضاً يلحقه النقص من النوم والموت، بخلاف وجود الخالق سبحانه.
إذاً: فليس هناك شيئان إلا وهما يشتركان في مسمى الشيء ووجوده، فلفظ (موجود) لا يلزم منه الاشتباه في مسمى الأمر ووجوده الذي هو أمر ذهني، ولا ينسحب هذا الاشتباه إلى الاشتباه عند وجوده في الخارج، وهذا هو أصل بلاء المعطلة الذين ظنوا أن الاشتباه الذي يكون في الذهن في مسمى الشيء والوجود ينسحب إلى المماثلة في الخالق، وهذا باطل.
فالعرش والبعوضة والفيل تشترك في مسمى الشيء ووجوده، فالبعوضة شيء، والعرش شيء، والفيل شيء، فهل يقول عاقل: إن اشتراك البعوضة والفيل أو العرش في مسمى الشيء والوجود يلزم منه الاشتراك في الصفات؟ لا يقول بذلك أحد، وهذا عند القطع عن الإضافة والتخصيص، لكن إذا قلت: وجود الفيل، ووجود البعوضة، ووجود العرش، فلا اشتراك حينئذ؛ لأنك أضفت وخصصت، وإنما يوجد الاشتراك عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهو يكون في الذهن.
وكذلك أسماء المخلوقين وصفات المخلوقين تشارك أسماء الله وصفاته عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا يكون في الذهن، فإذا قيل: هل لفظ العلم، ولفظ القدرة، ولفظ السمع، ولفظ البصر، فيها اشتراك؟ قلنا: نعم؛ لأن السمع يشمل سمع الخالق وسمع المخلوق، والبصر يشمل بصر الخالق وبصر المخلوق، والعلم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق، والقدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق، ويزول الاشتباه عند الإضافة والتخصيص، فتقول: علم الخالق، وعلم المخلوق، وقدرة الخالق وقدرة المخلوق، وهكذا بقية الصفات.
وكذلك لفظ (الإنسانية) في الذهن يشترك فيه عمر وخالد وبكر، وعمر وخالد لا يشتبهان في الخارج، لكنهما يشتبهان في مسمى الإنسانية، فكل منهما إنسان.
ومثله مسمى الحيوانية، ففيه اشتراك، فيدخل فيه الأسد والنمر والخيل والحمار والكلب والقرد، لكن إذا جئت إلى أوصاف هذه الحيوانات فلن تجد اشتباهاً بين القرد والفرس في الخارج.
والمعروف المشهور عن الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات لله عز وجل، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وقد نظمها بعضهم فقال:
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر
ومنهم من يثبت عشرين صفة، ومنهم من يثبت أربعين، لكن المشهور عنهم إثبات هذه الصفات السبع فقط، وأما ما عداها من الصفات فإنهم ينفونها ولا يثبتونها.
وهم في نفيها يسلكون أحد مسلكين: المسلك الأول: أن يرجعوها إلى معنى الصفات السبع، المحبة في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] يقولون عنها: يريد أن يحبهم، فيرجعونها إلى معنى الإرادة، وهي من الصفات السبع التي يثبتونها.
والمسلك الثاني: أنهم يفسرونها ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات التي هي أثر من آثار الصفات، ولا يفسرونها بالصفات، فيفسرون اليد -مثلاً- بالنعمة، وأحياناً يفسرونها بالقدرة؛ لأن القدرة من الصفات التي يثبتونها، ويفسرون الغضب بالانتقام، والانتقام أثر من آثار الغضب وليس هو الغضب، ويفسرون الرضا بالثواب، والثواب أثر من آثار الرضا، ويفسرون الرحمة بالإنعام.
فقيل لهم: لماذا نفيتم هذه الصفات وأثبتم الصفات السبع، ولم يكن مسلككم في الصفات واحداً كما فعل أهل السنة، فإن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكيف تفرقون بين الصفات فتنفون بعضها وتثبتون بعضها؟!
وهذه القاعدة من الأصول التي رد بها أهل السنة على الأشاعرة، وهي أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فباب الصفات باب واحد.
فيجب إثبات الصفات لله جميعاً كما يجب إثبات الأسماء، ولا يجوز للإنسان أن يفرق بين الصفات فيثبت بعضها وينفي البعض الآخر.
فقالوا: إن إثبات غير الصفات السبع يلزم منه التشبيه والتمثيل؛ لأننا لا نشاهد في الخارج متصفاً بغير الصفات السبع إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، فلذلك نفينا هذه الصفات عن الله، فالله ليس له مثيل ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. فقصدنا من نفي بقية الصفات غير الصفات السبع تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقات والأجسام، فلا نرى من يغضب ويرضى ويرحم إلا المخلوق، فإذا قلنا إن الله يغضب ويرضى ويرحم ويكره فقد شبهناه بالمخلوق، والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
فقال لهم أهل السنة: إذا كنتم نفيتم بقية الصفات خوفاً من التشبيه والتمثيل؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فيلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الصفات السبع؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بالصفات السبع إلا ما هو جسم، فالمخلوق يتصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فكيف تثبتون سبع صفات مع أن هذه الصفات السبع موجودة في المخلوقات؟! فقالوا: إن هذه الصفات السبع نثبتها على وجه لا يماثل فيه الخالق المخلوق ولا يشابهه، فلا يلزم من إثباتها التمثيل.
فقال لهم أهل السنة والجماعة: وكذلك بقية الصفات يجب عليكم أن تثبتوها لله على وجه لا يماثل فيها الخالق صفات المخلوقين، فاسلكوا فيها ما سلكتم في الصفات السبع، فإذا كنتم تثبتون الصفات السبع على وجه لا يماثل الرب فيها صفات المخلوقين، فكذلك اثبتوا بقية الصفات على وجه لا يماثل فيها الرب صفات المخلوقين.
فقالوا: إن هناك فرقاً بين الصفات السبع وبين غيرها، وهذا الفرق هو الذي حملنا على أن نفرق بينها فنثبت الصفات السبع ولا نثبت بقية الصفات، وهو أن الصفات السبع دل عليها العقل مع الشرع، فأثبتناها، وأما بقية الصفات فإنه لم يدل عليها العقل وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة وليست صريحة.
وهذا الاستدلال مبني على قاعدتهم الفاسدة، وهي قاعدة لأهل البدع عموماً، وهي: أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأدلة القرآن والسنة دلالتها لفظية لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين هو دليل العقل، ويسمون الأدلة العقلية قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وأما دلالة النصوص فهي دلالة لفظية محتملة لا تفيد اليقين ولا القطع.
وهذا من البلاء والمصائب، أعني اعتقاد أن دلالة النصوص ظنية لا تفيد اليقين، وقد جعله ابن القيم رحمه الله طاغوتاً، وحكم عليه بالكفر؛ لأنه منعهم من العمل بالنصوص والأخذ بها واعتقاد أنها تفيد اليقين، وهذا من أبطل الباطل، ويلزم بهذا لوازم فاسدة، منها أنه لا يوثق بالكلام ولا بالعقود، فإذا عقد الإنسان مع آخر عقد بيع فهذا لفظ يمكن ألا يتم به البيع، فله الفسخ، وإذا عقد عقداً للنكاح فإنه يقول: هذا عقد لفظي يمكن ألا يتم به النكاح، وهكذا.
ويلزم منه فساد المعاملة، وفساد الدنيا والآخرة، ويلزم منه أن كلام الله وكلام الرسول لا يوثق بهما ولا يعمل بهما، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وهذا الطاغوت يجب كسره، وقد كسره ابن القيم رحمه الله تعالى.
فالمقصود أن هذه الشبهة أو هذا الطاغوت يتعلق به جميع أهل البدع، فالأشاعرة يقولون: إننا أثبتنا الصفات السبع لأنها دل عليها العقل مع الشرع، والعقل دليل قطعي، بخلاف بقية الصفات، فإنها لم يدل عليها العقل، وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة، فلذلك لم نثبتها.
فمثلاً: الفعل الحادث المتجدد يدل على القدرة، فهذا يخلق، وهذا يولد، وهذا يموت، وهذا نبات ينبت، وهذا يزول، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا عزيز، وهذا ذليل، وهذه دولة تزول، وهذه دولة تنشأ، وهكذا، فهذا الفعل الحادث يدل على القدرة وأن الله قادر، فلذلك أثبتنا القدرة.
قالوا: وتخصيص بعض المخلوقات بخواص دون الأخرى يدل على الإرادة، فمثلاً: تخصيص هذا بالعلم، وهذا بالعقل، وهذا بالغنى، وهذا بالفقر، وهذا بالملك، وهذا بكونه مملوكاً، وهذا بالإمارة، وهذا بالوزارة، وهذا بالصعلكة، وهذا بكونه بطيء الغضب، وهذا بكونه سريع الغضب، هذا التخصيص يدل على أن الله مريده.
وكون الأحكام في غاية السداد والملاءمة في الأحوال يُدل على العلم، فهذا لا يصدر إلا عن علم، فأحكام الله الشرعية، وأحكام الله الجزائية، وأحكام الله القدرية في غاية السداد والملاءمة للأحوال، وهي تدل على العلم.
قالوا: فثبت لنا صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذه الصفات الثلاث تستدعي الحياة، فلا تصدر إلا عن حي، فثبتت بذلك صفة الحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، والله له الكمال، فيتصف -إذاً- بالسمع والبصر والكلام.
قالوا: فثبتت لنا الصفات السبع بالعقل مع الشرع، والدليل العقل دليل قطعي، فالعمدة عليه، والشرع جاء موافقاً له، فاعتمدنا إثبات الصفات السبع، وأما بقية الصفات السبع فإنها لم يدل عليها العقل، ودلالة النصوص عليها دلالة ظنية محتملة لا تفيد اليقين، ولذلك لا نجزم بأن هذه الصفات ثابتة لله.
فقال لهم أهل السنة والجماعة: لنا جوابان عن هذا:
الجواب الأول: جواب بالمنع، والجواب الثاني: جواب بالتسليم.
فالجواب الأول -جواب المنع- نقول: نمنع أن يكون العقل قد دل على الصفات السبع ولم يدل على ما سواها، بل إن العقل يدل على الصفات السبع ويدل على بقية الصفات أيضاً، ونحن نثبت لكم أن العقل يدل على بقية الصفات كما دل على الصفات السبع، فمثلاً: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، فإذا كان الله تعالى ينفع عباده، ويحسن إليهم، فهذا يدل على الرحمة، فثبتت بذلك صفة الرحمة، وإكرام الله للطائعين ونصره لهم في الدنيا على أعدائهم يدل على المحبة، فثبتت لنا المحبة، وعقاب الله للكافرين وتسليطه المؤمنين عليهم يدل على البغض، وعقوبته لهم في الدنيا والآخرة يدل على البغض، فثبتت بذلك صفة البغض، والغايات المحمودة في مفعولات الله ومأموراته تدل على الحكمة البالغة، فحينما أوجب القصاص، وقطع يد السارق، وجلد الزاني، فهذه أراء محمودة تؤدي إلى الزجر عن المعاصي، فالغايات المحمودة في مأمورات الله الشرعية وفي مفعولاته تدل على حكمته البالغة، فثبتت الحكمة بالأصل، إذاًً فثبتت الرحمة والمحبة والحكمة بالعقل.
فنقول لهم: فلماذا لم تثبتوها -مع أن العقل قد أثبتها- كما أثبتم الصفات السبع؟! فهذا منكم تفريق بين متماثلين، وهو مكابرة منكم.
والجواب الثاني -وهو الجواب بالتسليم- أن يقال لهم: سلمنا تنازلاً مع الخصم أن العقل يدل على الصفات السبع ولا يدل على ما عداها، لكنه لا ينفي ذلك، وكون العقل لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الوقت، بل أثبت سبعاً وسكت عن الباقي، وإذا سكت عنها فليس معناه أنه ينفيها، بل قد دل دليل آخر عليها بأنها ثابتة، فالأدلة متعددة وليست محصورة في العقل، فإذا كان العقل لا يثبتها فهو لا ينفيها، وكونه لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الأمر؛ لجواز أن تكون ثابتة بدليل آخر، وهو الواقع هنا، فالعقل لم يثبتها لكن أثبتها الشرع، والشرع دليل مستقل بنفسه، كما أن العقل دليل مستقل، والطمأنينة إلى الشرع في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل، فإذا كان الدليل العقلي يثبت الصفات السبع والدليل الشرعي يثبت بعض الصفات، وهذا دليل وهذا دليل، وكلاهما دليل معترف به، والطمأنينة إلى الدليل الشرعي في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل؛ فما الذي سوغ لكم نفي مدلول الدليل الشرعي مع أنه دليل ومعترف به؟! فإثباتكم للصفات السبع بالعقل ونفيكم لما عداها -مع أن بقية الصفات قد دل عليها دليل آخر مماثل للعقل- مكابرة منكم.
وبهذا يبطل ما ذهب إليه الأشاعرة من التفريق بين الصفات من إثبات بعضها ونفي بعضها، ويتبين من هذا أن الأشاعرة متناقضون، فهم يفرقون بين الصفات مع أن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
ولهذا تسلط عليهم المعتزلة، فقالوا لهم: مذهبكم هذا غير معقول وغير متصور، بل أنتم مذبذبون، فكيف تثبتون بعض الصفات وتنفون البعض؟! فإما أن تثبتوا الجميع فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، أو تنفوا الجميع فتكونوا إخواناً لنا من جميع الوجوه.
فليس لكم إلا واحد من أمرين: أن تنفوا السبع الصفات فتكونوا معتزلة مثلنا، أو تثبتوا بقية الصفات فتكونوا مشبهة مجسمة -لأنهم يسمون أهل السنة مشبهة ومجسمة- أما أن تبقوا مذبذبين فهذا لا يصح؛ لأنه تناقض.
فالشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هي أنهم يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، والأجسام تتشابه، والله ليس له شبيه ولا مثيل، والأشاعرة يقولون: يلزم من إثبات الصفات -عدا الصفات السبع- التشبيه والتجسيم، والمعتزلة يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، بخلاف الأسماء، فإنه لا يلزم منه التشبيه أو التجسيم عندهم.
والجهمية يقولون: يلزم من إثبات الأسماء والصفات جميعاً التشبيه والتجسيم؛ لأننا لا نرى متصفاً بهذه الصفات أو مسمى بهذه الأسماء إلا وهو جسم، والله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لكنهم عموا عن آخر الآية: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذه طريقة أهل البدع، فإنهم يقولون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فأخذوا بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وعموا عن قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
ولما أصلوا هذه الشبهة واعتمدوا عليها، ثم جاءت النصوص في إثبات الصفات صاروا مترددين بين أحد أمرين: إما أن يسلكوا مسلك التفويض، وإما أن يسلكوا مسلك التحريف، وهذا يسمونه تأويلاً، والتفويض معناه: أن يسكتوا عن تفسير معناها ويعتقدوا أنها ليس لها معنى، ويفوضون المعنى إلى الله، فيقولون: لا نعلم معناها، فالعلم والقدرة والاستواء لا نعلم معناها، وطريقة التفويض هذه نسبوها إلى السلف زوراً وبهتاناً، والصحيح أنها ليست طريقة السلف، فالسلف يعرفون المعنى، وهؤلاء يفوضون ويقولون: لا نعلم معناها، فلفظ (استوى) والعلم والقدرة والسمع مثل الحروف الأعجمية، فكما أن العربي لا يفهم معنى الحروف الأعجمية فكذلك لا يفهم معنى (استوى) والقدرة والعلم والسمع والبصر... إلى آخر الصفات.
وهذه الطريقة يسمونها طريقة التفويض، وهي باطلة؛ لأنها ليست طريقة السلف، وطريقة السلف هي إثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: معلوم معناه في اللغة العربية- والكيف مجهول، يعني أن الكيفية مجهولة، فلا نعلم كيف اتصف بهذه الصفة، فهذا هو الذي نفوضه إلى الله.
ولهذا فسر العلماء الاستواء بالاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، لكن كيفية استواء الرب أمر مجهول، وهو الذي نفوضه؛ لأنه لا يعلم كيفية الاستواء إلا هو، ولا يعلم كيفية النزول إلا هو، ولا يعلم كيفية العلم إلا هو، ولا يعلم كيفية القدرة إلا هو، وهكذا يقال في جميع الصفات، فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، لكن هؤلاء سلكوا مسلك التفويض، فهم يفوضون المعنى لا الكيفية، وهذا غلط.
الطريق الثاني: طريق التحريف، وهم يسمونه تأويلاً، وهو أن يخترعوا للصفات معاني يبتدعونها من عند أنفسهم، فمثلاً صفة اليد قالوا: معناها القدرة، والرحمة معناها: النعمة، والرضا معناه: الثواب أو الإنعام، والغضب معناه: العقاب، وهكذا، فهذه طريقة التحريف الذي يسمونه تأويلاً.
ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقصدهم بطريقة السلف طريقة التفويض، وهذا من أبطل الباطل، فليست هذه ولا تلك طريقة السلف، بل طريقة السلف هي إثبات معاني الصفات، فهم يثبتونها، وإثباتهم لها على ما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنحن نقطع ونجزم بأن لله صفات لكنها صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فنحن نثبتها لله ونعلم معناها، لكن لا نعلم الكيفية هذه هي الشبهة التي يعتمد عليها أهل البدع، وقد رددنا عليها تفصيلاً، فقد رددنا على الجهمية، ثم على المعتزلة، ثم على الأشاعرة.
وهناك جواب إجمالي -وهو نافع ومفيد- على هذه الشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق المعطلة، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات، وأثبت لنفسه الأسماء، وكذلك أثبتها له رسوله، وفي المقابل نفى عن نفسه المشابهة والمثل فقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
فالله تعالى نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة، فلو كان يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل لما أثبتها تعالى لنفسه، فالقرآن والسنة أثبتا الصفات، ونفيا التمثيل والتشبيه.
ومع نفيه سبحانه عن نفسه المشابهة أثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهنا نفى عن نفسه المماثلة، ثم أثبت لنفسه الصفات فقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] فنهى عن ضرب الأمثال له، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، فأثبت لنفسه العلم.
فلو كان نفي المماثلة يستلزم نفي الصفة لما أثبت الله الصفة لنفسه، وللزم من ذلك التناقض في كلام الله وكلام رسوله، وحاشا أن يكون في كلام الله تناقض، فالله ينفي عن نفسه المماثلة ويثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فلو كان إثبات الصفة تمثيلاً للزم التناقض في كلام الله؛ لأنه القائل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهذا نفي المماثلة، وقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ومن المعلوم أنه ليس هناك شيئان في الوجود إلا وهناك قدر مشترك بينهما، فيشتركان في مسمى الشيء، ووجوده في الذهن، فكل شيئين في الدنيا بينهما اشتراك في الذهن يشتركان فيه، لكن متى يكون هذا الاشتراك؟! يكون عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا لا يلزم منه المشابهة والمماثلة في الخالق، فليس هناك شيئان إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه في الذهن، فهناك تشابه لا بد منه في الذهن، ومن نفى التشابه فقد نفى وجود الله، ونفى صفاته، كما قرر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رسالته: (الرد على الزنادقة)، وكما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فمن قال: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه فقد أنكر وجود الله، بل هناك وجه تحتمله المشابهة، وهو القطع عن الإضافة والتخصيص في الذهن لا في الخارج، وهو مسمى الشيء والوجود.
فكلمة (شيء) وكلمة (موجود) تشملان الخالق والمخلوق، فالله شيء، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] والله موجود، والمخلوق شيء، وهو موجود، فهذا اشتراك في الذهن وليس في الخارج، ويزول هذا الاشتراك عند الإضافة والتخصيص، فنقول: وجود الله، ووجود المخلوق، فينتهي الاشتراك، فوجود الله أكمل من وجود كل موجود، ووجود المخلوق ناقص مسبوق بالعدم، وأيضاً يلحقه النقص من النوم والموت، بخلاف وجود الخالق سبحانه.
إذاً: فليس هناك شيئان إلا وهما يشتركان في مسمى الشيء ووجوده، فلفظ (موجود) لا يلزم منه الاشتباه في مسمى الأمر ووجوده الذي هو أمر ذهني، ولا ينسحب هذا الاشتباه إلى الاشتباه عند وجوده في الخارج، وهذا هو أصل بلاء المعطلة الذين ظنوا أن الاشتباه الذي يكون في الذهن في مسمى الشيء والوجود ينسحب إلى المماثلة في الخالق، وهذا باطل.
فالعرش والبعوضة والفيل تشترك في مسمى الشيء ووجوده، فالبعوضة شيء، والعرش شيء، والفيل شيء، فهل يقول عاقل: إن اشتراك البعوضة والفيل أو العرش في مسمى الشيء والوجود يلزم منه الاشتراك في الصفات؟ لا يقول بذلك أحد، وهذا عند القطع عن الإضافة والتخصيص، لكن إذا قلت: وجود الفيل، ووجود البعوضة، ووجود العرش، فلا اشتراك حينئذ؛ لأنك أضفت وخصصت، وإنما يوجد الاشتراك عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهو يكون في الذهن.
وكذلك أسماء المخلوقين وصفات المخلوقين تشارك أسماء الله وصفاته عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا يكون في الذهن، فإذا قيل: هل لفظ العلم، ولفظ القدرة، ولفظ السمع، ولفظ البصر، فيها اشتراك؟ قلنا: نعم؛ لأن السمع يشمل سمع الخالق وسمع المخلوق، والبصر يشمل بصر الخالق وبصر المخلوق، والعلم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق، والقدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق، ويزول الاشتباه عند الإضافة والتخصيص، فتقول: علم الخالق، وعلم المخلوق، وقدرة الخالق وقدرة المخلوق، وهكذا بقية الصفات.
وكذلك لفظ (الإنسانية) في الذهن يشترك فيه عمر وخالد وبكر، وعمر وخالد لا يشتبهان في الخارج، لكنهما يشتبهان في مسمى الإنسانية، فكل منهما إنسان.
ومثله مسمى الحيوانية، ففيه اشتراك، فيدخل فيه الأسد والنمر والخيل والحمار والكلب والقرد، لكن إذا جئت إلى أوصاف هذه الحيوانات فلن تجد اشتباهاً بين القرد والفرس في الخارج.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
دروس في العقيدة [12] | 2282 استماع |
دروس في العقيدة [9] | 2215 استماع |
دروس في العقيدة [2] | 2126 استماع |
دروس في العقيدة [11] | 2045 استماع |
دروس في العقيدة [18] | 1872 استماع |
دروس في العقيدة [17] | 1825 استماع |
دروس في العقيدة ]16[ | 1665 استماع |
دروس في العقيدة [10] | 1434 استماع |
دروس في العقيدة [4] | 1375 استماع |
دروس في العقيدة [14] | 1343 استماع |