أرشيف المقالات

تطور مدارس الفقه الإسلامى وقضايا الاجتهاد :المقال الأول - عبد المنعم منيب

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
حول تطور الفقه الإسلامى بمذاهبه الأربعة
هل هناك مدارس أو مذاهب فى الفقه الإسلامي معتمدة ومتبوعة تقدم الرأي على النص الشرعي (الآية القرآنية أو الحديث النبوي)؟؟ وهل هناك مذهب فقهي معتمد يقدم النص الشرعي على الرأي ويمنع الاجتهاد والتفكير الفقهي؟؟
هل مدرسة الرأي فى الفقه هى مدرسة المفكرين المبدعين أم أنها مدرسة المارقين الذين يبيحون المحرمات مثل النبيذ المسكر ويحكمون عقولهم القاصرة في نصوص الشرع؟؟
وهل مدرسة الحديث فى الفقه الإسلامى هى مدرسة المتبعين لهدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها مدرسة أهل الجمود الذين يعطلون عقولهم ويمنعون الاجتهاد؟؟
أم أن المذاهب الفقهية عند أهل السنة خرجت كلها من مشكاة واحدة هى مشكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين وصحابته المبلغين عنه سنته صلى الله عليه وآله وسلم؟؟ وإن كانت كذلك فكيف صارت مذاهب مختلفة؟؟
دعونا نوضح أولا أن المذاهب كلها تقدم الدليل من الكتاب أو السنة على أى شيء آخر(راجع إعلام الموقعين لابن قيم خاصة موضع كلامه عن موقف أبى حنيفة من الدليل)..
ثانيا..
هناك ثلاث مدارس للتفكير الفقهى وكلها ظهرت بوادرها فى عصر النبى صلى الله عليه وآله وسلم فاقر اثنتين منهما ورفض الثالثة.
الاولى : التفكير وفقا لإعمال النص المحدد لمسألة فقهية " ما" مع الأخذ في الاعتبار المقاصد العامة للشريعة والقرائن المصاحبة للنص المحدد للمسألة حتى لو صرفت هذه القرائن والمقاصد هذا النص عن ظاهره.
الثانية:  التفكير وفقا لإعمال النص المحدد لمسألة فقهية "ما" مع الأخذ في الاعتبار المقاصد العامة للشريعة والقرائن المصاحبة للنص المحدد للمسألة لكن بشرط التمسك بظاهر النص لأقصى مدى ممكن باعتبار أن المشرع يعلم كل المقاصد والقرائن ومع هذا أصدر "النص/الدليل" بهذه الصيغة فلزم أن لظاهره هدفا.
وهاتان المدرستان تتضحان فى واقعة  «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة»  فالبعض صلى العصر بعد دخول بنى قريظة في وقت المغرب تمسكا بالظاهر وبعضهم قال إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منا الإسراع فقط ولم يرد أن نؤخر العصر عن وقته حتى تدخل المغرب فصلوا العصر بوقته في الطريق..
ولما رجعوا قصوا على النبى صلى الله عليه وآله وسلم القصة سكت ولم يلم أيا من الطرفين فكأنه اقر المدرستين فى تفكير كل منهما الفقهي.
المدرسة الثالثة: من تأخذ بظاهر نص واحد أو أكثر في مسألة ما لكنها مع ذلك وضمن ذلك تهمل نصوصا أخرى عديدة ذات صلة بنفس المسألة ولا تعي مجمل المقاصد ولا تلمح أى قرائن مؤثرة في نفس النصوص التى اعملوها فهم يعملون ظاهر نص واحد أو قليل من النصوص مع إهمال كثير من النصوص الأخرى ذات الصلة بنفس "النص/النصوص" التى أعملوها ومع إهمال المقاصد والقرائن المؤثرة فى فهم هذا الظاهر الذى أعملوه..
وهذه المدرسة فى التفكير ظاهرة فى واقعة ذو الخويصرة التى وردت فى البخاري ومسلم، عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ ، فَقَالَ :  وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ  ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَقَالَ :  دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ (أي تضطرب) وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ» .
وهكذا رفض النبى هذا الاتجاه فى الفهم الفقهى.
وفى رأى فهؤلاء لا يقتصرون على الخوارج وما نحوهم فقط وإنما يشمل الظاهرية بدرجة ما وإن كان الظاهرية أقل فسادا من الخوارج.

وقد سبق أن أوضحنا هنا بمقال سابق أن منهج الخوارج هو منهج تفكير مختل وسببه خلل نفسي، وأن منهج الظاهرية هو مختل أيضا من جوانب عدة حسبما أوضحنا بمقال آخر هنا أيضا.
والفرق بين الظاهرية والمدرسة الفقهية الثانية واضح هنا، لأن المدرسة الفقهية الثانية تعمل جميع النصوص ذات الصلة بالمسألة وتأخذ في اعتبارها كافة القرائن والمقاصد العامة للشرع وسد الذرائع والاستصلاح والقياس ..الخ لأنهم يعتبرون كل هذا لا يخالف الظاهر بل يعمل ظواهر نصوص أيضا بشكل أو بآخر، بينما يرفض المذهب الظاهري في كثير من المسائل الاستناد على القرائن أو المقاصد أو غير ذلك من الأمور الخارجة عن النص محل استدلالهم لذلك فهم ينكرون الاستدلال بالقياس لأن فيه إعمال لجوانب يرون أنها تخالف الظاهر فاستصحاب الإباحة الأصلية عندهم هو مستندهم البديل عن القياس.      
ونأتي بعد ذلك للمذاهب الفقهية، فنلاحظ أنها ليست أربعة فقط بل هى بالعشرات ولكن ما وصل منظما ومتوسعا لنا هم الأربعة فعلى سبيل المثال لا الحصر كان ابن جرير الطبرى والأوزاعى والليث بن سعد كلهم مجتهدون أصحاب مذاهب مستقلة.
كما نلاحظ أن المدارس الفقهية تبلورت فى زمن الإمام مالك بن أنس قبل بروز الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى اثنتين:
-مدرسة الحديث ورأسها مالك وتلامذته ومن على شاكلته كالليث وغيره.
-مدرسة الرأي ورأسها ابو حنيفة ثم تلامذته.
ثم جاء الشافعي فدمج المدرستين فأخذ من مدرسة الحديث توسعهم الكبير فى تتبع الأحاديث النبوية وأثار الصحابة كي يسدوا بها الحاجة للإفتاء فى أى مسألة فقهية وفقا للأحاديث والآثار وأخذ من مدرسة الرأي التوسع في الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص نبوى أو أثر عن الصحابة، ولكنه مع هذا كبل المدرستين بقواعد محددة وهى ما تضمنها "علم أصول الفقه " و"علوم الحديث" المتعددة، ومما كبل به تفكير فقه مدرسة الحديث ضوابط وقواعد فى قبول الحديث أو رده أو أثار الصحابة وكيفية الجمع بينها ومراعاة الناسخ والمنسوخ من الحديث والمطلق والمقيد والعام والخاص..
الخ.
بينما كبل مدرسة الرأي بقواعد وضوابط تحكم الاجتهاد فى أبواب القياس ومقاصد الشريعة ..الخ.
صحيح أن القواعد والأساليب المنهجية التى دونها الشافعى فى كتابه الرسالة وغيره هى أمور كان يمارسها الفقهاء بالسليقة والملكة وبتلقائية فى بحثهم واجتهاداتهم الفقهية قبل الشافعى بل وقبل أبى حنيفة ومالك بن أنس بل ومنذ عهد الصحابة، ولكن الشافعى جمع شتاتها ونظمها ودونها كى لا يند عن أى فقيه أى جانب من هذه القواعد الأصولية.
فماذا كان رد مدارس الفقه أحناف ومالكية وغيرهم على الشافعى؟؟
الكل قبل ما طرحه والتزم به منذئذ وحتى اليوم ..
نعم خالفته مدرسة الحديث فى قليل جدا من قواعده (المالكية والحنابلة) ولذا فعلم أصول الفقه عند الجمهور يشمل الشافعية والمالكية والحنابلة.
وخالفه الأحناف أكثر بقليل عن مدرسة الحديث ولكنها مخالفات غير جوهرية وأكثرها شكلية وتنظيمية أكثر منها عميقة أو رئيسية.
وكلامنا كله هذا بشأن قواعد وضوابط التفكير الفقهى وأغلبها أو جلها هى علم أصول الفقه.
وهنا يجب ألا ننسى أن ابن حنبل تلميذ الشافعى ..
وأن الشافعى تتلمذ على الإمام مالك بن أنس وعلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني أحد كبار أصحاب أبى حنيفة.
وهذا الكلام السابق كله ينطبق على مجال علم أصول الفقه وعلوم الحديث..
فما مردود ذلك على الواقع العملي فى مجال الفقه أى الفروع؟؟
عندما تدرس المذهب الحنبلى (وهو أخر المذاهب الأربعة تبلورا) تجد ظاهرة الروايات عن الإمام تكاد تكون واردة فى كل فرع أو مسألة فقهية، ولو نظرت فيها تجد أن كل رواية عن احمد تمثل أحد أراء احد المذاهب أو العلماء الآخرين السابقين له ولذلك تجد أن سيد سابق اخذ كتاب (الكافى) لابن قدامة وحذف كلمة رواية وحذف ما يدل على نسبة الكتاب لصاحبه أو للحنابلة (طبعا مع تغيرات طفيفة أو رتوش ظاهرية وإضافات محدودة) ويقول المسالة حكمها كذا وهذا رأى فلان وفلان وفلان الخ (من كبار فقهاء كافة المذاهب).
وذهب اخرون لحكمها انه كذا وبه قال فلان وفلان الخ (من كبار فقهاء كافة المذاهب الآخرين).
فقلب كلمة رواية عن الإمام إلى رأى عدد من القائلين بالرأى من كافة المذاهب ..
وهو لا يكذب بل هذه حقيقة ..
وهذا هو الكتاب المسمى " فقه السنة " ومشهور والناس تدرسه على انه فقه مقارن..
فأحمد يتردد فى اجتهاده بحسب خلاف من اختلف ممن سبقه ولكن عينه فى ذلك على خلاف الصحابة رضى الله عنهم فلا يخرج عن رأيهم فلو اختلفوا على أربعة آراء تجد عنه أربع روايات وان اختلفوا على ثلاثة مذاهب تجد عنه ثلاث روايات وهكذا.. 
اذن فمذهبه جامع لأراء اغلب المذاهب او ربما كلها.
أما الأحناف وأبو حنيفة فهل اعتمد مذهبه على الرأى فقط لقلة الوارد من الحديث عنده؟؟
هذه مقولة مشهورة عن المذهب الحنفى وهى غير صحيحة وحتى نتأكد منها فلنقرأ "الهداية" مع تخريجها المشهور "نصب الراية" تجد أن كل رأى مهما كان غريبا فهو يستند لحديث حتى لو كان ضعيفا جدا لأن أبا حنيفة يقدم الحديث الضعيف على القياس ما لم يكن حديثا منكرا أو موضوعا ..
وهنا السؤال المحوري وهو كيف يمكنني الاستناد لرأى بالمذهب الحنفي وهو يستند لحديث ضعيف بينما أمامى حديث صحيح أو حسن واضح معناه بشأن المسألة ..
هل يحل لى هذا شرعا؟؟

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢