دروس في العقيدة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الإمام الطحاوي رحمه الله افتتح رسالته بعلم أصول الدين بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا إله غيره ].

وإن علم أصول الدين الحاجة إليه فوق كل حاجة، والضرورة إليه فوق كل ضرورة، وحاجة الإنسان إلى معرفة علم أصول الدين أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجته إلى الهواء وإلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب وفقد الهواء مات الجسم، والموت لا بد منه، ولا يضر الإنسان أن يموت إذا كان مستقيماً على دين الله، لكن إذا فقد علم أصول الدين مات قلبه، وماتت روحه، وصار إلى النار والعياذ بالله، فلذلك كانت الضرورة إلى معرفة علم أصول الدين، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته واستحقاقه للعبادة، فالله تعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرفهم عظيم حقه سبحانه وتعالى.

فالحاجة ماسة إلى معرفة علم أصول الدين أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجتهم إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الواحد منهم؛ لأن من فقد علم أصول الدين ولم يعرف ربه، ولا أسماءه ولا صفاته، ولا أفعاله، ولا عظيم حقه؛ صار من الهالكين، وصار من أهل النار، وصار من الأموات وإن كان حياً يمشي بين الناس، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى ما أنزله على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام من الوحي روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نوراً لتوقف الاستنارة والاستضاءة عليه، قال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15]، وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52-53]، فسمى الله الوحي الذي أنزله على نبيه روحاً؛ لأن الحياة الحقيقية تتوقف على الوحي، وسماه نوراً؛ لأن الاستضاءة تتوقف عليه، فالكفرة الذين يمشون على الأرض -وإن كانوا أحياءً بأجسادهم- أموات في الحقيقة، وقلوبهم ميتة؛ لأنهم فقدوا الحياة الحقيقية، وسبب ذلك أنهم أعرضوا عن الوحي الذي هو كتاب الله وأعرضوا عن سنة رسول الله، وتركوا النظر والاستدلال الموصل إلى معرفة الله، فلما أعرضوا ضلوا، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].

والكلام على التوحيد وأنواع التوحيد كله داخل في هذا الأمر العظيم، وهو علم أصول الدين؛ لأن الله تعالى يعرفنا بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وبعظيم حقه.

ثم عرفنا بالأمر الثاني: وهو الأوامر والنواهي وعلم الحلال والحرام وعلم الفروض الذي أتت به الشريعة، ثم بعد ذلك يعرفنا سبحانه وتعالى بما يكون لنا إذا أقبلنا عليه، وما يحصل للإنسان إذا وصل إلى الله في الدار الآخرة من شئون المعاد، من البعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وما أعد الله للمؤمنين من الكرامة والنعيم، وما أعد الله للكافرين من العذاب السرمدي المهين، وهذا هو الذي جاءت به الرسل، وهذه هي أقسام العلم النافع، فالكلام في توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات هو نفسه الكلام في علم الأصول، العلم الناتج عن معرفة هذه الأنواع الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع بعلم أصول الدين، وهو الأمر الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.

أقسام التوحيد

والتوحيد -كما سبق- قسمه العلماء إلى تلك الأقسام أخذاً من النصوص، حيث تتبعوا النصوص فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: الأول: توحيد الربوبية: وهو أن توحد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال الله: الخلق والرزق والإماتة والإحياء ونحو ذلك، فتوحد الله بها، وتعتقد أنه هو الخالق وهو الرازق وهو المدبر وهو المحيي وهو المميت وهو الرب.

الثاني: توحيد الله بأسمائه وصفاته، والمعنى: أنك تثبت أسماء الله وصفاته له، وتعتقد أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء ووصف نفسه بهذه الصفات، وأنها حق وأن أسماءه حسنى وصفاته عليا.

والثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعالك -أيها العبد- من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والخوف والرجاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى، وترك المحرمات طاعة لله وخوفاً وخشية وتعظيماً له، وغير ذلك، فهذا هو توحيد العبادة، أن توحد الله فتفعل الأوامر، وتترك النواهي طاعة لله وخوفاً ورجاء وتعظيماً له عز وجل.

وهذه الأنواع الثلاثة -وهي أنواع التوحيد- متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالإيمان بهذه الأنواع الثلاثة كلها، وهي متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية.

ومعنى (يستلزم): يدل عليه ويوجبه ويقتضيه، فإذا وحد الإنسان ربه بأفعاله، واعتقد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وجب عليه أن يعبده، كأن تعتقد -مثلاً- أنه هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الذي خلقك وأوجدك من العدم، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فبذلك وجب عليك أن تعبده ولزمك أن تخصه بالعبادة، وأن تقدم محبته على محبة كل شيء، على محبة نفسك وأولادك وأهلك، ولكن ليس كل واحد يلتزم بما لزمه، فكل من أقر بتوحيد الربوبية واعترف بتوحيد الربوبية لزمه أن يوحد الله في عبادته وألوهيته.

وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وحد الله وعبد الله ففي ضمن ذلك اعترافه بأنه هو الرب الخالق الرازق المدبر، ولولا اعتقاد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت لما عبده وخصه بالعبادة، فلما عبده وخصه بالعبادة دل ذلك على أنه يعتقد أنه هو الرب الخالق الرازق المدبر الذي يملك النفع والضر.

وكذلك توحيد الأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الألوهية، وهذه هي الدلالات الثلاث المعروفة عند أهل العلم بدلالة الالتزام، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة.

فدلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه، كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة الوالد على الولد، ودلالة التوبة على السعي.

أما دلالة التضمن فهي دلالة الشيء على جزء معناه، لا على جميع معناه، فتوحيد الربوبية جزء من توحيد الإلوهية. ودلالة توحيد الألوهية على الألوهية تسمى دلالة مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة دلالة الشيء على جميع معناه، فتوحيد الألوهية يدل على الألوهية بالمطابقة؛ لأنه دل على جميع معناه، ويدل على الربوبية بالتضمن، وقد سبق ذكر الطوائف التي أنكرت الربوبية وأنكرت الرب العظيم وأخلت بهذا النوع العظيم من أنواع التوحيد مع أنه أمر فطري فطر الله عليه جميع الخلق.

والتوحيد -كما سبق- قسمه العلماء إلى تلك الأقسام أخذاً من النصوص، حيث تتبعوا النصوص فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: الأول: توحيد الربوبية: وهو أن توحد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال الله: الخلق والرزق والإماتة والإحياء ونحو ذلك، فتوحد الله بها، وتعتقد أنه هو الخالق وهو الرازق وهو المدبر وهو المحيي وهو المميت وهو الرب.

الثاني: توحيد الله بأسمائه وصفاته، والمعنى: أنك تثبت أسماء الله وصفاته له، وتعتقد أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء ووصف نفسه بهذه الصفات، وأنها حق وأن أسماءه حسنى وصفاته عليا.

والثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعالك -أيها العبد- من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والخوف والرجاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى، وترك المحرمات طاعة لله وخوفاً وخشية وتعظيماً له، وغير ذلك، فهذا هو توحيد العبادة، أن توحد الله فتفعل الأوامر، وتترك النواهي طاعة لله وخوفاً ورجاء وتعظيماً له عز وجل.

وهذه الأنواع الثلاثة -وهي أنواع التوحيد- متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالإيمان بهذه الأنواع الثلاثة كلها، وهي متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية.

ومعنى (يستلزم): يدل عليه ويوجبه ويقتضيه، فإذا وحد الإنسان ربه بأفعاله، واعتقد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وجب عليه أن يعبده، كأن تعتقد -مثلاً- أنه هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الذي خلقك وأوجدك من العدم، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فبذلك وجب عليك أن تعبده ولزمك أن تخصه بالعبادة، وأن تقدم محبته على محبة كل شيء، على محبة نفسك وأولادك وأهلك، ولكن ليس كل واحد يلتزم بما لزمه، فكل من أقر بتوحيد الربوبية واعترف بتوحيد الربوبية لزمه أن يوحد الله في عبادته وألوهيته.

وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وحد الله وعبد الله ففي ضمن ذلك اعترافه بأنه هو الرب الخالق الرازق المدبر، ولولا اعتقاد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت لما عبده وخصه بالعبادة، فلما عبده وخصه بالعبادة دل ذلك على أنه يعتقد أنه هو الرب الخالق الرازق المدبر الذي يملك النفع والضر.

وكذلك توحيد الأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الألوهية، وهذه هي الدلالات الثلاث المعروفة عند أهل العلم بدلالة الالتزام، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة.

فدلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه، كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة الوالد على الولد، ودلالة التوبة على السعي.

أما دلالة التضمن فهي دلالة الشيء على جزء معناه، لا على جميع معناه، فتوحيد الربوبية جزء من توحيد الإلوهية. ودلالة توحيد الألوهية على الألوهية تسمى دلالة مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة دلالة الشيء على جميع معناه، فتوحيد الألوهية يدل على الألوهية بالمطابقة؛ لأنه دل على جميع معناه، ويدل على الربوبية بالتضمن، وقد سبق ذكر الطوائف التي أنكرت الربوبية وأنكرت الرب العظيم وأخلت بهذا النوع العظيم من أنواع التوحيد مع أنه أمر فطري فطر الله عليه جميع الخلق.

وأما توحيد الأسماء والصفات فقد أخل به طوائف وخالفه طوائف، مثل طوائف المعطلة الذين عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، فالتعطيل من العطل، وهو: الخلو والفراغ، فالدار إذا عطلت عن ساكن تسمى عاطلة، والبئر إذا هجرت ولم ينزح منها ماء تسمى بئراً معطلة، كقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45].

والإبل إذا خلت عن راعيها يقال: عطلت الإبل عن راعيها، ويقال للمرأة: عطل: إذا لم يكن عليها حلي، فمادة العين والطاء واللام تدور على الخلو والفراغ، ويقال لمن عطل العالم عن صانع أوجده وأتقنه: معطل، وهؤلاء المعطلة عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، وهم ثلاث فرق: فرقة الجهمية، وفرقة المعتزلة، وفرقة الأشاعرة.

وهم متفاوتون في التعطيل، والكلام طويل في هؤلاء المعطلة؛ لأن الناس ابتلوا بهم، وهؤلاء المعطلة موجودون الآن في هذا الزمن وفي أزمنة سابقة، وكتبهم موجودة، ومؤلفاتهم موجودة، وشبههم موجودة ومنتشرة، فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرق ويعرف شبههم، ويعرف ما هم عليه من الباطل؛ حتى يحذره ولا يقع فيه.

وكان السلف الصالح في عافية من هذه الشبه والكلام في شبه هؤلاء، فلم يكن بهم حاجة إلى أن يتكلموا في هذا البحث، ولكن لما وجد هؤلاء المعطلة وانتشروا بين الناس، وانتشرت مؤلفاتهم، وانتشرت شبههم، وانطلت شبههم على بعض أهل السنة وتأثر بها بعض الناس صار لزاماً على أهل الحق وأهل السنة أن يكشفوا الباطل، وأن يردوه؛ إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل.

الجهمية

والجهمية هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان ، وهذا الرجل ظهر في أوائل المائة الثانية، ونسب إليه تعطيل الصفات؛ لأنه هو الذي نشر عقيدة نفي الصفات بين الناس وأظهرها، وقد سبقه رجل آخر أسس عقيدة نفي الصفات، وهو الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق.

وتعطيل الجعد بن درهم كان في كلمتين فقط: الكلمة الأولى: نفيه أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والكلمة الثانية: نفيه أن يكون الله كلم موسى تكليماً، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، بفتوى من علماء زمانه وأكثرهم من التابعين رحمهم الله.

ولكن الجهم سبق له أن اتصل به وأخذ عنه، وكان الجهم قد حصل له مناظرة مع طائفة من أهل الهند في ذلك الزمان يقال لهم: السمنية، فناظروه وهم لا يؤمنون إلا بالحسيات، فقالوا: إلهك هذا الذي تعبد هل تراه؟! قال: لا، قالوا: هل سمعته؟! قال: لا، قالوا: هل شممته؟! قال: لا، قالوا: هل ذقته؟! قال: لا، قالوا: هل لمسته؟ قال: لا، قالوا: إذاً هو معدوم، فشك في ربه ومكث أربعين يوماً لا يصلي ولا يعرف أن له رباً، ثم وسوس الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجوداً مطلقاً، فأثبت وجوداً لله مطلقاً، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات، والوجود المطلق إذا قيل فمعناه أنه مطلق عن جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه لا يكون إلا في الذهن فقط، فهو وجود يفرضه الذهن ويتخيله، ولا وجود له في الخارج، نسأل الله السلامة والعافية.

وكان هذا الرجل قد اتصل بـالجعد كما سبق، والجعد أخذ عن أبان بن سمعان ، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد ، وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان -أيضاً- قد نشأ في أرض حران، وفي ذلك الوقت انتشر فيها الصابئة والمشركون والوثنيون، فصارت عقيدة نفي الصفات متصلة باليهود والمشركين وعباد الكواكب والنصارى والوثنيين.

و الجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز أمير خراسان في عهد آخر خلفاء بني أمية، لكن هذه العقيدة انتشرت فسميت بعقيدة الجهمية، نسبة إلى هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل هو الذي ابتدع هذه العقيدة وهي عقيدة نفي الصفات، فإذا قيل: عقيدة الجهمية فالمراد بها: نفي الصفات والأسماء، والجهم هو الذي تمنى أن يحك من المصحف آية الاستواء: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وكان له زوجة معطلة مثله، يقال: إن زوجته دخلت إلى سوق الدباغين فسمعت قارئاً يقرأ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] فقالت: محدود على محدود، وقصدها من ذلك إنكار الاستواء، أي: أن الله لا يحده شيء، وهذا إنكار لكون الله فوق السموات وعلى العرش، فمذهب الجهمية هو تعطيل الله عن أسمائه وصفاته.

ذكر شبه الجهمية في التعطيل

يقول الجهمية: لو قلنا إن الله متصف بالأسماء والصفات للزم من ذلك تعدد القدماء، فيكون القدماء متعددين، وهم يقولون: إن القديم واحد لا يتعدد، فالموجودات قسمان:

القسم الأول: قديم، وهو الله الواحد لا شريك له.

والقسم الثاني: المخلوقات، وهي حادثة.

يقول الجهمية: فإذا أثبتنا لله العلم، والسمع، والقدرة، والعزة، والعظمة، والكبرياء صارت هذه أموراً متعددة، وصار القدماء متعددين، والله قديم واحد لا يتعدد، فقالوا بنفي الأسماء والصفات؛ حتى لا يتعدد القديم بزعمهم.

وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الله له أسماء وصفات لشابه المخلوق، ولكان جسماً، فالله ليس بجسم ولا يشابه المخلوق، فلأجل الفرار من ذلك نفوا جميع الأسماء والصفات.

والحق أن الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له في الخارج، وإنما يكون وجوده في الذهن، والذهن يتخيل المحال ويفرضه، فهاتوا شيئاً موجوداً في الخارج ليس له اسم ولا صفة! وهذا معروف عند العقلاء جميعاً.

وبذلك يكون مذهب الجهمية القول بأن الله لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن، ولهذا فإن مذهب الجهمية أفضى بقوم إلى القول بالحلول، وأفضى بقوم آخرين إلى القول بالاتحاد.

فأوصل قوماً إلى القول بأن الله حال في كل شيء، والذي فتح لهم باب هذا الشر هم الجهمية، ووجه ذلك أنهم لما نفوا الصفات والأسماء وبالغوا في نفيها تنزيهاً لله بزعمهم، وتعظيماً لمن أظهر الولاية لله، قالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح أو في الرجل الصالح، فقالوا بحلول الله في الصالحين فقط؛ لأن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح؛ لأنهم عظموا الله بزعمهم ونزهوه وعظموا من أظهر الولاية له، فقالوا: إن الله حل فيه، ثم تدرج بهم الحال فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في كل شيء وفي كل مكان حتى لا نجعله في شيء معين، فبذلك وصلوا إلى القول بأن الله حال في كل مكان، نسأل السلامة من الجهمية.

فليس هناك شيء إلا وهم يقولون: إن الله حل فيه، وهذا هو ربهم ومعبودهم الذي تخيلوه والعياذ بالله، وأما رب العالمين فهو -سبحانه وتعالى- فوق ما يظنون، وفوق ما يتصورون ويتوهمون، ومعبود الجهمية في كل مكان، والعياذ بالله، فهو في الحشوش والأبنية والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

كما أن مذهب الجهمية -وهو القول بتعطيل الله من أسمائه وصفاته- أوصل قوماً آخرين إلى القول بالاتحاد، والقول بوحدة الوجود.

ووجه ذلك أن الذي حملهم على نفي الأسماء والصفات بزعمهم هو تنزيه الله حتى لا يشابه المخلوق، وحتى يكون هو الواحد فليس له شريك، فبالغوا في هذا التنزيه طلباً لمرضاة الله، فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن ننسى أنفسنا، فنسوا أنفسهم، وتناسوا كل شيء يرونه في هذا الوجود، فلما تناسوا ذلك صاروا يرون أنهم لا يرون في هذا الوجود شيئاً إلا الله، فقالوا: ننسى كل شيء، ومن تعظيم الله ومحبته أن ننظر إليه فقط، وأن نتناسى كل شيء، حتى لا تشوش علينا هذه الأشياء في سيرنا إلى الله وطريقنا إليه، فالسماوات والأرضون والشمس والقمر والآدميون يشوشون علينا، فنحن ننساها من الشهود لا من الوجود، وتناساها حتى لا تشوش علينا العبادة، فلا ننظر إلا إلى الله، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروا وجودها، فقالوا: لا يوجد في هذا الكون إلا الله، فاتحد وجود الموجودات عندهم، فقالوا: إن كل شيء تراه هو الله والعياذ بالله، وهكذا فعلت الصوفية، فغلاة الصوفية وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، وذلك أنهم قالوا: إن من تمام تعظيم الله وتنزيهه ألا نشاهد إلا الله، فالمغالي من الصوفية يقول: أنا أتناسى كل شيء، أتناسى السماوات والأرضين، ويقول: أنا لا أنكرها، لكن لا أشاهدها حتى لا تشوش علي، فلا أستطيع أن أنظر إلى هذه المخلوقات المتعددة فتشوش علي سيري إلى الله، فأنا ألغيها من الشهود وكأنها ليست موجودة، وألغي نفسي -أيضاً- حتى لا تشوش علي عبادتي مع الله، فأنكروها في الشهود، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروها في الوجود، وقالوا: ليست موجودة، بل كل شيء تراه هو الله، وكل شيء تراه هو مظهر لتجلي الله، فالسماوات والأرضون والآدميون هي الله، وهي أسماء وصفات لله، وهي مظاهر لتجلي الله، فأنت الرب وأنت العبد، فاتحد وجود الموجودات عند الاتحادية والعياذ بالله، والذي فتح لهم هذا الباب وهذا الشر هم الجهمية.

الفرق بين الحلولية والاتحاد

الحلولية والاتحادية كلهم كفار والعياذ بالله، وهم من أكفر خلق الله، فالحلولية هم الذين يقولون: إن الله حل في كل مكان، كالماء حل في الكوز، فهم يقولون بوجودين اثنين، لكن أحدهما حل في الآخر، وبناء على ذلك كان من فروع مذهبهم أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله، فإذا عبدوا الصنم فقد عبدوا الله؛ لأن الله حل في الصنم حسب زعمهم، فكل من عبد شيئاً فهو مصيب، وكذلك فرعون مصيب حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]؛ لأن الله حل فيه.

وأما الاتحادية فلا يقولون: إن هناك موجودين حل أحدهما في الآخر، بل يقولون: إن الموجودات كلها شيء واحد، فالرب عين العبد، والعبد عين الرب، فالحق المنزه هو عين الحق المشبه، فهو عين الآكل وعين المأكول، وعين الذابح وعين المذبوح، فليس هناك شيئان، فهو آية كل شيء وله في كل شيء آية، وهو نفس الدليل ونفس المستدل عليه، ونفس الآكل ونفس المأكول ونفس الذابح، ونفس المذبوح، فمن قال عنهم: إنهم حلولية يقولون له: أنت محجوب عن معرفة باطن المذهب وحقيقة المذهب، فالقول بالحلول تثنية ونحن لا نقول بالتثنية، وزعيم الاتحادية ورئيسهم هو ابن عربي الطائي رئيس وحدة الوجود، ومن أقواله:

الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف

فما دام أن الرب هو العبد والعبد هو الرب، فمن هو المكلف بالعبادة؟!

يقول:

إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف

وفي رواية: (إن قلت عبد فذاك نفي). أي: منفي لا وجود له، وإن قلت: رب أنى يكلف، إذاً: لا يوجد تكليف.

ويقول ابن عربي أيضاً: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول: علي على من وما ثم إلا هو؟! وعن ماذا وما هو إلا هو؟! ويقول:

سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فيه فالواسع الله.

يقول: (سر حيث شئت فالله ثم). أي: كل شيء تراه هو الله، و(ثم) أي: هناك، (وقل ما شئت فيه فالواسع الله). وبعض الناس قد يستغرب من مثل هذا الكلام، وهذا الكلام موجود الآن مؤلف ومدون، والاتحادية الآن يسمون العارفين بالله والمحققين، ويسمى ابن عربي أكبر العارفين، ومؤلفاته موجودة ومنتشرة في البلدان العربية وغيرها، وتطبع بطبعات واضحة، وأوراق فخمة، ويعتنى بها وتحقق، ويذكر عنهم أنهم بلغوا الغاية في المعرفة، فلا تظن أن هذا الكلام بعيد عنا، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة، فقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وهذا ثابت في صحيح البخاري ، فهذا شر بليت به الأمة، وهو أعظم أنواع الكفر.

معتقدات ابن عربي

إن ابن عربي يدعي لنفسه أنه أفضل من الأنبياء، حيث تدرج به الحال حتى قال: إن النبوة ختمت بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكنه ليس خاتم الأولياء، وادعى أنه خاتم الأولياء، فقال: إن خاتم الأنبياء محمد وخاتم الأولياء ابن عربي ، ولكن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؛ لأن النبي إنما يأخذ وحيه بواسطة الملك جبريل، أما خاتم الأولياء فلا يحتاج إلى واسطة؛ لأنه يأخذه من الله مباشرة، ويقول: إن خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن.

و ابن عربي هذا يعارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتاً فأكمله وأحسنه إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون ويقولون: لولا تلك اللبنة! فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين).

يقول ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم) وكتاب (الفتوحات المكية)، وكتاب (الهو): إن خاتم الأنبياء رأى هذه الرؤيا، رأى هذا البيت ورأى موضع لبنة، ورأى نفسه تنطبع في هذه اللبنة التي يتم بها الحائط، ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى مثل هذه الرؤيا. ويرى أن الحائط مكون من لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، ويرى نفسه تنطبع مكان لبنة الذهب، وخاتم الأنبياء تنطبع نفسه مكان لبنة الفضة، فيجعل نفسه لبنة الذهب والرسول صلى الله عليه وسلم لبنة الفضة.

ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ عن الله في السر، وفي الظاهر تابع لخاتم الأنبياء. لأنهم منافقون زنادقة لا يظهرون الكفر كما سيأتي في حكمهم، فهم يتظاهرون بالإسلام حتى لا تقطع رقابهم، فيدعي أنه تابع في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يصلي مع الناس، كما كان عبد الله بن أبي رئيس المنافقين يصلي، ويؤدي الشعائر الظاهرة، لكنه في الباطن يعتقد هذه العقيدة الخبيثة، ويقول ابن عربي : فإن فهمت ذلك فقد حصل لك العلم النافع. والعلم النافع الذي يريده هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود هو عين وجود لله، فليس هناك رب وعبد، بل الرب هو العبد والعبد هو الرب، لكن فرعون أعرف بالله في الباطن من أصحاب وحدة الوجود، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] فهو معترف بوجود الله، ولكنه أنكر وجود الله في الظاهر، وتجاهله هذا تجاهل العارف، وأما ابن عربي فإنه يقول: إن الوجود واحد.

حكم الاتحادية والحلولية في الشرع

الاتحادية والحلولية منافقون زنادقة، من مات منهم على حاله فهو في الدرك الأسفل من النار؛ لأن الحلولية جعلوا الله حالاً في كل شيء، تعالى الله عما يقولون، وكفر كل كافر جزء من كفر الاتحادية.

وإذا كان الحلولي الذي يقول: إن معبوده حل في البطون وفي أجواف الطيور وفي بطون السباع وفي الأخلية والحشوش، فإن من هؤلاء من قال: إنه نفس البطون، ونفس الأجواف، ونفس الأخلية، تعالى الله عما يقولون.

وإذا كان المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه كفاراً؛ فالذي يقول: هو نفس المخلوق أعظم كفراً، ولهذا لما قيل لبعضهم: أين كفر المشبهة وكفر النصيرية وكفر الحلولية؟ قال كفر الاتحادية أعظم كفراً من هؤلاء، ولما قيل لبعضهم: أنت نصيري؟ قال: نصير جزء مني.

إذاً: الاتحادية والحلولية منافقون زنادقة، ومن أعظمهم كفراً من ضرب لنفسه المثل بلبنة الذهب وللرسول صلى الله عليه وسلم المثل بلبنة الفضة، وكفر هؤلاء فوق كفر الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] فهؤلاء الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] طلبوا أن يكونوا مثل الرسول فكفرهم الله، فكيف بمن قال: إنه أعلى من الرسل وأفضل؟! وبذلك يكون كفره أعظم، ويكفيك دليلاً على كفر الاتحادية أن من أقوالهم: إن فرعون مات مؤمناً بريئاً من الذنوب خلياً من الذنوب، ومات موحداً، وهو من أعظم العارفين، ويقولون: إنه مصيب حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويقولون: إنه على حق؛ لأن الوجود واحد، فهو صاحبهم وأخوهم، كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية أنهم يقولون: إن فرعون أغرقه الله تطهيراً له من الحسبان، أي: حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فهو مخطئ؛ لأنه يظن أنه هو الرب الأعلى، فأغرق تطهيراً له من هذا الحسبان ومن هذا الوهم، فلما أغرق تطهر، أي: صار بريئاً خلياً من الكفر.

فيقولون: هو مخطئ حينما قال: أنا ربكم الأعلى؛ لأن كل شيء تراه هو الرب، والكفر عند الاتحادية يكون بالتخصيص، فمن قال: لا تعبد إلا هذا الشيء فهذا كافر عند الاتحادية، بل كل شيء عند الاتحادية يعبد، فمن عبد الأصنام، ومن عبد الأوثان، ومن عبد النار، ومن عبد الصلبان، كلهم على حق، والكفر إنما هو بالتخصيص، فالذي يخصص هو الكافر، ولما خصص فرعون نفسه بالألوهية أغرق تطهيراً له من هذا الحسبان وهذا الوهم، فلما أغرق تطهر وصار بريئاً خلياً من الذنوب، هكذا يقول: ابن عربي والاتحادية، والعياذ بالله.

وعلى هذا فيكون مذهب الاتحادية أنه ليس هناك خالق ومخلوق، ولا رب ولا عبد، ولا شريعة، ولا حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، ولا كفر ولا إيمان، إلا الذي يخصص الشيء، فهو الكافر عندهم، والذي يترك الناس على حالهم، كل يعبد ما يشاء هو الموحد، فالذي يعبد الصنم على حق، والذي يعبد الله على حق، والذي يتدين باليهودية على حق، والذي يتدين بالنصرانية على حق، والذي يتدين بالوثنية على حق، لأن الوجود واحد، نسأل الله السلامة والعافية.

فهؤلاء كفار ملاحدة زنادقة، تجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا؛ لأنهم يخفون الكفر، وهو في مؤلفاتهم وفيما بينهم، وعلى مر العصور إذا وجدت الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود فإنهم يخفونه حتى لا تقطع رقابهم، فهؤلاء الاتحادية تعاملهم الدولة الإسلامية معاملة المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين، فيغسلون ويصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المسلمين ويورثون، إلا من أظهر كفراً أو أظهر شيئاً من كفره فإنه يعامل معاملة المرتد ويقتل، وعبد الله بن أبي هو رئيس المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما مات -كما ثبت في صحيح البخاري- ودلي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به فأخرج من حفرته ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه جذب عمر ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر، فإني قد خيرت، فقيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت ) فصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد جاءه النهي عن هذا في أول الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ألبسه قميصه مكافأة له؛ لأن عبد الله بن أبي أعطى قميصه للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عبد الله بن أبي طويلاً وكان العباس طويلاً، ولم يجد العباس ثوباً يناسبه إلا ثوب عبد الله بن أبي، فأعطاه مكافأة له، ورجاء أن ينفعه الله بذلك؛ لأنه لم ينه، وكان في ذلك مراعاة للأنصار؛ فإن أصله من الأوس من الأنصار، ومراعاة لـابنه عبد الله بن عبد الله ، فقد كان من أصلح المؤمنين، ولما قال عبد الله بن أبي مقالته الخبيثة، كما قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8] وقف له ابنه عبد الله وقال: والله لا تدخل المدينة حتى تكون أنت الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما معناه: سمعتك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك فمرني آتيك برأسه، فلا أحب أن أرى قاتل أبي، وبعدما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية بالنهي عن الصلاة على المنافقين، فقال تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على أحد من المنافقين، وهذا ثابت عند البخاري في كتاب الجنائز وفي غيره.

إذاً: الاتحادية زنادقة منافقون، والمنافقون تجري عليهم أحكام الإسلام في الدنيا إذا لم يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر منهم ما يدل على كفرهم فإنهم يعاملون معاملة المرتدين ويقتلون، ومن ذلك القصة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه (التوحيد)، وساقها ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60] وحاصلها أن رجلاً من اليهود ورجلاً من المنافقين اختصما في شيء، فقال: اليهودي نتحاكم إلى محمد. لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف. لعلمه أنه يأخذ الرشوة، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى عمر، فتحاكما إليه وأخبراه بالخبر، فسأل عمر المنافق: أحق ما يقول صاحبك أنك لم ترض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم. فدخل عمر بيته واحتمل سيفه فضرب عنق المنافق؛ لأنه أظهر نفاقه، فإن صحت هذه القصة ففيها دليل على أن المنافق إذا أظهر نفاقه قتل، ولكن هذا يكون من قبل ولاة الأمور بعد أن يقام عليه الحكم الشرعي.

والمقصود أن الاتحادية والحلولية حكمهم في الدنيا حكم المنافقين الزنادقة؛ لأنهم يبطنون الكفر العظيم ويظهرون الإسلام، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل، أما في الآخرة فالاتحادي في الدرك الأسفل من النار إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وهل تقبل توبته أو لا تقبل؟

إذا أخذ قبل التوبة فإنه لا تقبل توبته، بل يقتل، وأما إذا أخذ بعدما أظهر التوبة، ففيه خلاف بين أهل العلم على قولين:

القول الأول: أنه لا تقبل توبته؛ لأن هذا كفر عظيم، بل لا بد من قتله ولو ادعى التوبة، فالمنافق ومن سب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه ورسله، وكذلك الساحر لا تقبل توبته، بمعنى أنه لا بد من أن ينفذ فيهم حكم القتل، قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الصواب.

وأما في الآخرة فأمرهم إلى الله، فمن صدق في توبته فالله يقبل توبة الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين، لكن في الدنيا يعاملون معاملة المرتدين ولا تقبل توبتهم، بل يقتلون حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر العظيم الوخيم.

فالاتحادية -والعياذ بالله- يقولون: إن الله هو الوجود المطلق، اكتسته الماهيات فهو عينها، والماهيات، هي الذوات، اكتسته فهو عينها، ولا تزال المحدثات تكتسيه وتلبسه وتخلعه، فالموجود المطلق معناه أنه موجود في كل شيء، تلبسه المحدثات، فالنبات يلبسه، والماء يلبسه، وهكذا، ويلبسه هذا ويخلعه، هذا هو الوجود المطلق، نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا هو مذهب المعطلة والجهمية الغلاة، وهكذا وصل بهم الحال، وهذا سببه الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على العقول وزبالة الأذهان، وضعف الأفكار، والاعتماد على مناهج أهل الفلسفة وأدلة أهل المنطق، والعياذ بالله.

والجهمية هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان ، وهذا الرجل ظهر في أوائل المائة الثانية، ونسب إليه تعطيل الصفات؛ لأنه هو الذي نشر عقيدة نفي الصفات بين الناس وأظهرها، وقد سبقه رجل آخر أسس عقيدة نفي الصفات، وهو الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق.

وتعطيل الجعد بن درهم كان في كلمتين فقط: الكلمة الأولى: نفيه أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والكلمة الثانية: نفيه أن يكون الله كلم موسى تكليماً، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، بفتوى من علماء زمانه وأكثرهم من التابعين رحمهم الله.

ولكن الجهم سبق له أن اتصل به وأخذ عنه، وكان الجهم قد حصل له مناظرة مع طائفة من أهل الهند في ذلك الزمان يقال لهم: السمنية، فناظروه وهم لا يؤمنون إلا بالحسيات، فقالوا: إلهك هذا الذي تعبد هل تراه؟! قال: لا، قالوا: هل سمعته؟! قال: لا، قالوا: هل شممته؟! قال: لا، قالوا: هل ذقته؟! قال: لا، قالوا: هل لمسته؟ قال: لا، قالوا: إذاً هو معدوم، فشك في ربه ومكث أربعين يوماً لا يصلي ولا يعرف أن له رباً، ثم وسوس الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجوداً مطلقاً، فأثبت وجوداً لله مطلقاً، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات، والوجود المطلق إذا قيل فمعناه أنه مطلق عن جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه لا يكون إلا في الذهن فقط، فهو وجود يفرضه الذهن ويتخيله، ولا وجود له في الخارج، نسأل الله السلامة والعافية.

وكان هذا الرجل قد اتصل بـالجعد كما سبق، والجعد أخذ عن أبان بن سمعان ، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد ، وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان -أيضاً- قد نشأ في أرض حران، وفي ذلك الوقت انتشر فيها الصابئة والمشركون والوثنيون، فصارت عقيدة نفي الصفات متصلة باليهود والمشركين وعباد الكواكب والنصارى والوثنيين.

و الجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز أمير خراسان في عهد آخر خلفاء بني أمية، لكن هذه العقيدة انتشرت فسميت بعقيدة الجهمية، نسبة إلى هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل هو الذي ابتدع هذه العقيدة وهي عقيدة نفي الصفات، فإذا قيل: عقيدة الجهمية فالمراد بها: نفي الصفات والأسماء، والجهم هو الذي تمنى أن يحك من المصحف آية الاستواء: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وكان له زوجة معطلة مثله، يقال: إن زوجته دخلت إلى سوق الدباغين فسمعت قارئاً يقرأ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] فقالت: محدود على محدود، وقصدها من ذلك إنكار الاستواء، أي: أن الله لا يحده شيء، وهذا إنكار لكون الله فوق السموات وعلى العرش، فمذهب الجهمية هو تعطيل الله عن أسمائه وصفاته.

يقول الجهمية: لو قلنا إن الله متصف بالأسماء والصفات للزم من ذلك تعدد القدماء، فيكون القدماء متعددين، وهم يقولون: إن القديم واحد لا يتعدد، فالموجودات قسمان:

القسم الأول: قديم، وهو الله الواحد لا شريك له.

والقسم الثاني: المخلوقات، وهي حادثة.

يقول الجهمية: فإذا أثبتنا لله العلم، والسمع، والقدرة، والعزة، والعظمة، والكبرياء صارت هذه أموراً متعددة، وصار القدماء متعددين، والله قديم واحد لا يتعدد، فقالوا بنفي الأسماء والصفات؛ حتى لا يتعدد القديم بزعمهم.

وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الله له أسماء وصفات لشابه المخلوق، ولكان جسماً، فالله ليس بجسم ولا يشابه المخلوق، فلأجل الفرار من ذلك نفوا جميع الأسماء والصفات.

والحق أن الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له في الخارج، وإنما يكون وجوده في الذهن، والذهن يتخيل المحال ويفرضه، فهاتوا شيئاً موجوداً في الخارج ليس له اسم ولا صفة! وهذا معروف عند العقلاء جميعاً.

وبذلك يكون مذهب الجهمية القول بأن الله لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن، ولهذا فإن مذهب الجهمية أفضى بقوم إلى القول بالحلول، وأفضى بقوم آخرين إلى القول بالاتحاد.

فأوصل قوماً إلى القول بأن الله حال في كل شيء، والذي فتح لهم باب هذا الشر هم الجهمية، ووجه ذلك أنهم لما نفوا الصفات والأسماء وبالغوا في نفيها تنزيهاً لله بزعمهم، وتعظيماً لمن أظهر الولاية لله، قالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح أو في الرجل الصالح، فقالوا بحلول الله في الصالحين فقط؛ لأن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح؛ لأنهم عظموا الله بزعمهم ونزهوه وعظموا من أظهر الولاية له، فقالوا: إن الله حل فيه، ثم تدرج بهم الحال فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في كل شيء وفي كل مكان حتى لا نجعله في شيء معين، فبذلك وصلوا إلى القول بأن الله حال في كل مكان، نسأل السلامة من الجهمية.

فليس هناك شيء إلا وهم يقولون: إن الله حل فيه، وهذا هو ربهم ومعبودهم الذي تخيلوه والعياذ بالله، وأما رب العالمين فهو -سبحانه وتعالى- فوق ما يظنون، وفوق ما يتصورون ويتوهمون، ومعبود الجهمية في كل مكان، والعياذ بالله، فهو في الحشوش والأبنية والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

كما أن مذهب الجهمية -وهو القول بتعطيل الله من أسمائه وصفاته- أوصل قوماً آخرين إلى القول بالاتحاد، والقول بوحدة الوجود.

ووجه ذلك أن الذي حملهم على نفي الأسماء والصفات بزعمهم هو تنزيه الله حتى لا يشابه المخلوق، وحتى يكون هو الواحد فليس له شريك، فبالغوا في هذا التنزيه طلباً لمرضاة الله، فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن ننسى أنفسنا، فنسوا أنفسهم، وتناسوا كل شيء يرونه في هذا الوجود، فلما تناسوا ذلك صاروا يرون أنهم لا يرون في هذا الوجود شيئاً إلا الله، فقالوا: ننسى كل شيء، ومن تعظيم الله ومحبته أن ننظر إليه فقط، وأن نتناسى كل شيء، حتى لا تشوش علينا هذه الأشياء في سيرنا إلى الله وطريقنا إليه، فالسماوات والأرضون والشمس والقمر والآدميون يشوشون علينا، فنحن ننساها من الشهود لا من الوجود، وتناساها حتى لا تشوش علينا العبادة، فلا ننظر إلا إلى الله، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروا وجودها، فقالوا: لا يوجد في هذا الكون إلا الله، فاتحد وجود الموجودات عندهم، فقالوا: إن كل شيء تراه هو الله والعياذ بالله، وهكذا فعلت الصوفية، فغلاة الصوفية وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، وذلك أنهم قالوا: إن من تمام تعظيم الله وتنزيهه ألا نشاهد إلا الله، فالمغالي من الصوفية يقول: أنا أتناسى كل شيء، أتناسى السماوات والأرضين، ويقول: أنا لا أنكرها، لكن لا أشاهدها حتى لا تشوش علي، فلا أستطيع أن أنظر إلى هذه المخلوقات المتعددة فتشوش علي سيري إلى الله، فأنا ألغيها من الشهود وكأنها ليست موجودة، وألغي نفسي -أيضاً- حتى لا تشوش علي عبادتي مع الله، فأنكروها في الشهود، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروها في الوجود، وقالوا: ليست موجودة، بل كل شيء تراه هو الله، وكل شيء تراه هو مظهر لتجلي الله، فالسماوات والأرضون والآدميون هي الله، وهي أسماء وصفات لله، وهي مظاهر لتجلي الله، فأنت الرب وأنت العبد، فاتحد وجود الموجودات عند الاتحادية والعياذ بالله، والذي فتح لهم هذا الباب وهذا الشر هم الجهمية.

الحلولية والاتحادية كلهم كفار والعياذ بالله، وهم من أكفر خلق الله، فالحلولية هم الذين يقولون: إن الله حل في كل مكان، كالماء حل في الكوز، فهم يقولون بوجودين اثنين، لكن أحدهما حل في الآخر، وبناء على ذلك كان من فروع مذهبهم أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله، فإذا عبدوا الصنم فقد عبدوا الله؛ لأن الله حل في الصنم حسب زعمهم، فكل من عبد شيئاً فهو مصيب، وكذلك فرعون مصيب حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]؛ لأن الله حل فيه.

وأما الاتحادية فلا يقولون: إن هناك موجودين حل أحدهما في الآخر، بل يقولون: إن الموجودات كلها شيء واحد، فالرب عين العبد، والعبد عين الرب، فالحق المنزه هو عين الحق المشبه، فهو عين الآكل وعين المأكول، وعين الذابح وعين المذبوح، فليس هناك شيئان، فهو آية كل شيء وله في كل شيء آية، وهو نفس الدليل ونفس المستدل عليه، ونفس الآكل ونفس المأكول ونفس الذابح، ونفس المذبوح، فمن قال عنهم: إنهم حلولية يقولون له: أنت محجوب عن معرفة باطن المذهب وحقيقة المذهب، فالقول بالحلول تثنية ونحن لا نقول بالتثنية، وزعيم الاتحادية ورئيسهم هو ابن عربي الطائي رئيس وحدة الوجود، ومن أقواله:

الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف

فما دام أن الرب هو العبد والعبد هو الرب، فمن هو المكلف بالعبادة؟!

يقول:

إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف

وفي رواية: (إن قلت عبد فذاك نفي). أي: منفي لا وجود له، وإن قلت: رب أنى يكلف، إذاً: لا يوجد تكليف.

ويقول ابن عربي أيضاً: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول: علي على من وما ثم إلا هو؟! وعن ماذا وما هو إلا هو؟! ويقول:

سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فيه فالواسع الله.

يقول: (سر حيث شئت فالله ثم). أي: كل شيء تراه هو الله، و(ثم) أي: هناك، (وقل ما شئت فيه فالواسع الله). وبعض الناس قد يستغرب من مثل هذا الكلام، وهذا الكلام موجود الآن مؤلف ومدون، والاتحادية الآن يسمون العارفين بالله والمحققين، ويسمى ابن عربي أكبر العارفين، ومؤلفاته موجودة ومنتشرة في البلدان العربية وغيرها، وتطبع بطبعات واضحة، وأوراق فخمة، ويعتنى بها وتحقق، ويذكر عنهم أنهم بلغوا الغاية في المعرفة، فلا تظن أن هذا الكلام بعيد عنا، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة، فقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وهذا ثابت في صحيح البخاري ، فهذا شر بليت به الأمة، وهو أعظم أنواع الكفر.