شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [18]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في المرأة تستحاض ومن قال: تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض:

حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل فيه) ] .

وهذا الحديث سنده جيد لو لا ما يخشى من أن سليمان بن يسار لم يسمع من أم سلمة رضي الله عنها لأن الأحاديث التي تلت هذا الحديث فيها أن سليمان بن يسار جعل بينه وبين أم سلمة واسطة.

و ابن المنذر يقول: إسناده حسن.

ومعلوم أن سليمان بن يسار مولى ميمونة المدني وهو معدود من الفقهاء السبعة، وقد روى عن زيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة ومولاته ميمونة وأرسل للجماعة، روى عنه قتادة والزهري وعمرو بن شعيب ، قال أبو زرعة ، ثقة مأمون.

[ أما أم سلمة فقد كانت ثقة عالمة رفيعة فقهية.

فلا إشكال في توثيقه لكن الكلام في سماعه من أم سلمة ومع ذلك فالحديث له شواهد، ولهذا حسنه المنذري فقال: إسناده حسن وفيه دليل على أن المستحاضة تجلس عدد الأيام التي كانت تحيضها قبل مرور الدم، فإذا انقضت هذه الأيام اغتسلت ثم استترت بثوبين، أو تتحفظ فقد وجدت الآن حفائظ، وتتوضأ لكل صلاة وتصلي.

وفيه دليل على أن العادة مقدمة على التمييز، فالمستحاضة تعمل بعادتها أولاً، فإن لم يكن لها عادة ونسيت العادة عملت بالتمييز، فإن لم يكن لها تمييز، جلست في أول كل شهر هلالي ستة أيام أو سبعة أيام على حسب عادة النساء كما دلت على ذلك الأحاديث، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم [لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك]، وهذا دليل على أنها تعمل بالعادة، وأن العادة مقدمة، فإذا كانت يصيبها الدم من أول كل شهر سبعة أيام ثم استمر الدم عليها وأطبق فإنها تجلس السبعة الأيام التي كانت تجلسها قبل استمرار الدم.

وإذا كانت تجلسها من منتصف الشهر تجلسها من منتصف الشهر وهكذا، أما إذا لم يكن لها عادة ونسيت العادة تعمل بالتمييز كما سيأتي، فدم الحيض معروف أسود منتن غليظ، فالأيام التي يكون فيها غليظ منتن لا تصلي، والأيام التي يكون فيها أحمر رقيق تصلي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب قالا: حدثنا الليث عن نافع عن سليمان بن يسار : أن رجلاً أخبره عن أم سلمة رضي الله عنها، أن امرأة كانت تهراق الدم فذكر معناه قال: فإذا خلفت ذلك وحضرت الصلاة فلتغتسل ، بمعناه ].

وهذا الحديث أخرجه النسائي ، وابن ماجة ، وفي هذه الرواية مجهول مبهم وذلك في قوله أن رجلاً أخبر عن أم سلمة ، فـسليمان بن يسار راوي الحديث السابق جعل بينه وبين أم سلمة رجل.

فتكون هذه الرواية ضعيفة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا أنس - يعني ابن عياض - عن عبيد الله عن نافع عن سليمان بن يسار عن رجل من الأنصار: أن امرأة كانت تهراق، الدماء فذكر معنى حديث الليث قال: فإذا خلفتهن وحضرت الصلاة فلتغتسل، وساق الحديث بمعناه ] .

وهذا فيه قوله: عن رجل من الأنصار، والصحابة كلهم عدول، فإذا كان المقصود أنه صحابي فكلهم عدول، وإن كان رجلاً من الأنصار من غير الصحابة فيكون فيه مجهول.

وفيه أن الغسل لا يجب إلا إذا حان وقت الصلاة، وأنه لا يجب عليها أن تغتسل قبل وقت الصلاة، وهو الصحيح فلا يكون الغسل واجباً على الفور.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي قال: أخبرنا صخر بن جويرية عن نافع بإسناد الليث ومعناه قال: فلتترك الصلاة قدر ذلك، ثم إذا حضرت الصلاة فلتغتسل، ولتستذفر بثوب ثم تصلي ] .

وهذا كسابقه فما دل عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل قال: أخبرنا وهيب قال: أخبرنا أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها بهذه القصة قال فيه: تدع الصلاة وتغتسل فيما سوى ذلك وتستذفر بثوب وتصلي ] .

قال أبو داود : وسمى المرأة التي كانت استحيضت حماد بن زيد عن أيوب في هذا الحديث قال: فاطمة بنت أبي حبيش ] .

وقد صرح في غير أبي داود أنها فاطمة بنت أبي حبيش وأنها كانت قد استحيضت فأمرها أن ترجع إلى عادتها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة بن سعيد قال: أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر عن عراك عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم، فقالت عائشة رضي الله عنها، فرأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي) .

قال أبو داود : ورواه قتيبة ] .

الحديث أخرجه مسلم ، والنسائي ، وهذا يشهد لحديث أم سلمة السابق، وأنها تجلس قدر عادتها ثم تغتسل، والمركن إناء واسع تغسل فيه الثياب، وهو ما يشبه ما يسمى اليوم بحوض الغسيل أو إدانة وهي لفظة فارسية وقوله: ملآن على وزن عطشان لا ينقلب على وزن فعلان، وفيه دليل على أن المرأة الحائض المستحاضة تجلس عدد الأيام التي كانت تحيضها قبل ذلك ثم تغتسل، ثم تتلجم وتتحفظ بثوب وتصلي، وتتوضأ في وقت كل صلاة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو داود : ورواه قتيبة : بين أضعاف حديث جعفر بن ربيعة في آخرها، ورواه علي بن عياش ويونس بن محمد عن الليث فقالا جعفر بن ربيعة ] .

قوله: بين أضعاف الأضعاف هي الأثناء ويريد في أثناء الحديث، والمعنى أن قتيبة روى هذا الحديث بلفظ جعفر فقط من غير نسبة لأبيه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عيسى بن حماد قال: أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله عن المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير قال: إن فاطمة بنت أبي حبيش حدثته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق، فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء) ] .

وهذا الحديث في إسناده المنذر بن المغيرة وهو مجهول.

قال أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات.

ومع ذلك فالحديث له شواهد ومنها ما سبق، وفيه دليل على أن المستحاضة تجلس أيام عادتها ثم تتلجم وتصلي، وفيه دليل على أن دم الاستحاضة دم عرق وهو يسمى نزف وفيه أن المرأة تصلي من القرء إلى القرء، والقرء يطلق على الطهر ويطلق على الحيض، وقد اختلف العلماء هل المراد بالقرء الطهر، أو الحيض.

قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ، فمن قال: إن القروء الحيض، قال المرأة تعتبر في الحيض إذا كانت تحيض ثلاثة حيض، ومن قال: إن المراد به الطهر قال: تحتجز ثلاثة أطهار ذهب إلى الأول الحنابلة وذهب إلى الثاني الشافعية والجماعة.

والصواب أن المراد به الحيض، وهو الذي تدل عليه النصوص، وتدل عليه اللغة أيضاً، وهو يطلق على الطهر، ولكن المراد به هنا الحيض، ثلاثة قروء: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ، أي: ثلاث حيضات، ولهذا في هذا الحديث إنما ذلك عرق يعني دم الاستحاضة، فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، يريد الحيض، ولو كان المراد به الطهر لم يقل: فلا تصلي، فقوله: إذا أتى قرؤك أي: وقت حيضك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي، فما بين القرء إلى القرء، ما بين الحيض إلى الحيض، وبهذا يتضح أن المراد به الحيض.

فهذا الحديث، وحديث سليمان بن يسار يشد بعضهما بعضاً، فيكونا حجة.

فحديث سليمان بن يسار فيه انقطاع وهذا فيه جهالة فيشد بعضهما الآخر ويشهد لهما أيضاً حديث مسلم السابق من حديث عائشة .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يوسف بن موسى قال: أخبرنا جرير عن سهيل - يعني ابن أبي صالح - عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل ] .

هذا الحديث لا بأس بسنده فهو حسن كما قال المنذري ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل، واستدل به بعضهم على أن الاعتبار للعادة لا للتمييز واستدلوا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وحديث عائشة السابق في قصة أم حبيبة ، كل منهما فيه دليل على أنها تعمل بالعادة، فالعادة مقدمة على التمييز، ولهذا قال: أمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، قبل أن يأتيها الدم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو داود : ورواه قتادة عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي ].

والحديث فيه قتادة وهو مدلس وقد عنعن.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو داود :لم يسمع قتادة من عروة شيئاً ] .

وبتدليس قتادة يكون الحديث منقطعاً، ولكن يشهد له ما سبق من أحاديث، وهو أنها تعمل بالعادة، فتجلس أيام عادتها ثم تغتسل وتصلي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وزاد ابن عيينة في حديث الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة رضي الله عنها كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها .

قال أبو داود : وهذا وهم من ابن عيينة ليس هذا في حديث الحفاظ عن الزهري إلا ما ذكر سهيل بن أبي صالح ].

ذكر هنا أن ابن عيينة زاد في حديث الزهري عن عمرة عن عائشة ، وأن هذا وهم من ابن عيينة فليس في حديث الحفاظ عن الزهري إذاً ابن عيينة فقد وهم في قوله: عن عمرة عن عائشة ، وإنما هو عن سهيل بن أبي صالح كما في الحديث الأول.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد روى الحميدي هذا الحديث عن ابن عيينة لم يذكر فيه: تدع الصلاة أيام أقرائها.

وروت قمير بنت عمرو زوج مسروق عن عائشة رضي الله عنها ].

قمير بفتح القاف، امرأة مسروق وهنا سكت عنها وفيها جهالة وقد قال العجلي : بأنها تابعية ثقة وهو متساهل في هذا رحمه الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروت قمير بنت عمرو زوج مسروق عن عائشة رضي الله عنها: (المستحاضة تترك الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل) .

وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها.

وروى أبو بشر جعفر بن أبي وحشية عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فذكر مثله .

وروى شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي) .

وروى العلاء بن المسيب عن الحكم عن أبي جعفر قال: إن سودة استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضت أيامها اغتسلت وصلت .

وروى سعيد بن جبير عن علي وابن عباس رضي الله عنهم: (المستحاضة تجلس أيام قرئها) .

وكذلك رواه عمار مولى بني هاشم وطلق بن حبيب عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك رواه معقل الخثعمي عن علي رضي الله عنه، وكذلك روى الشعبي عن قمير امرأة مسروق عن عائشة رضي الله عنها.

قال أبو داود : وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء ومكحول وإبراهيم وسالم والقاسم : أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ].

وكل هذه الآثار والمراسيل التي ذكرها المؤلف تدل على ما دلت عليه الأحاديث من أن: المستحاضة تجلس أيام عادتها، وتعمل بعادتها ثم تغتسل وتتلجم وتصلي. فالمؤلف رحمه الله أتى بهذه الآثار والمراسيل كلها لتؤيد ما دلت عليه الأحاديث وتقويها. وذكر أيضاً رحمه الله: أن هذا القول وهو: أنها تجلس أيام عادتها ثم تغتسل، قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء ومكحول وإبراهيم وسالم والقاسم . فكل هؤلاء العلماء ذهبوا إلى ما دلت عليه الأحاديث من أن: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها. يعني: أيام حيضها، ثم تغتسل وتتلجم وتصلي.

قال المؤلف رحمه الله: [ حدثنا أحمد بن يونس وعبد الله بن محمد النفيلي قالا: حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي) ].

وهذا أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة . وفيه: أن فاطمة قالت: (يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر -يعني: يستمر الدم معها، وظنت أنها لا تطهر- أفأدع الصلاة؟ قال: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي). فقوله: (أقبلت الحيضة)، احتج به بعضهم على أن المراد به: العمل بالتمييز. ويحتمل أن المراد: ردها إلى العادة، كما دلت الأحاديث السابقة من أنها تعمل بالعادة ولا شك أن العادة مقدمة، فإن لم تعلم العادة عملت بالتمييز.

فيحتمل أن المراد: ردها إلى العادة، أو: إلى الحالة التي تكون للحيض، من قوة الدم في اللون. وهو محتمل. وعلى كل حال فالعادة مقدمة، فإذا كان لها عادة عملت بها، كما دلت على ذلك الأحاديث السابقة، مثل: حديث أم سلمة وحديث عائشة وغيرهما من أنها تعمل بالعادة، فإذا لم يكن لها عادة عملت بالتمييز.

قال المؤلف رحمه الله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن هشام بإسناد زهير ومعناه قال: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي) ].

وهذا هو الحديث السابق بسند زهير ، وفيه أنه قال: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي)، وفي الحديث الأول: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي)، فقوله: (فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي)، أي: إذا ذهب قدرها من الأيام، أو قدرها من العادة، وهذه الرواية ترجح أن المراد بها العادة، ولا شك أن العادة مقدمة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة.

حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عقيل عن بهية قالت: (سمعت امرأة تسأل عائشة رضي الله عنها عن امرأة فسد حيضها وأهريقت دماً، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آمرها فلتنظر قدر ما كانت تحيض في كل شهر وحيضها مستقيم، فلتعتد بقدر ذلك من الأيام، ثم لتدع الصلاة فيهن أو بقدرهن، ثم لتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي) ].

هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله في إقبال الحيضة، وقد استدل به على أن المرأة إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، وإقبال الحيضة يحتمل إقبالها بالتمييز؛ لأنها تعرف بالتمييز، أو إقبالها بالعادة التي كانت تعرفها من الشهر وعدد الأيام التي تعرفها وتعرف مكانها من الشهر، وهذا الحديث سنده ضعيف؛ لأن فيه أبا عقيل وهو ضعيف، وكذلك بهية ضعيفة، وأما المرأة التي تسأل عائشة رضي الله عنها فلا يضر جهالتها؛ لأن بهية قد سمعت الحديث من عائشة وقد قالت: سمعت عائشة ، فلم تنقل عن المرأة المجهولة وإنما نقلت عن عائشة ومعنى الحديث: صحيح، وقد دل على معناه الأحاديث الصحيحة، فقد دلت على أن المرأة تجلس أيام عادتها إذا كان لها عادة تعرفها في الشهر، فإن لم يكن لها عادة عملت بالتمييز، والحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد ترتقي به إلى درجة الحسن، فالحديث حسن بشواهده، وهو دليل على أن المرأة إذا كان لها عادة فإنها تجلس قدر عادتها ثم تغتسل، وتستثفر بثوب ثم تصلي، فإن لم يكن لها عادة عملت بالتمييز.

شرح حديث: (إن هذه ليست بالحيضة)

قال المؤلف رحمه الله: [ حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان قالا: أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي) ].

وهذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة ، وقوله: ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأختان: هم أقارب زوجة الرجل، يقال لهم: أختاناً، وأقارب الزوج يقال لهم: أحماء، والجميع يسمون أصهاراً.

والمعنى: أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: قريبة من زوجته؛ لأنها أخت زوجته، فهي أخت زينب ، وقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها معتادة، ويحتمل أنها مميزة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي).

والأصل: أن العادة مقدمة إذا كانت معروفة للمرأة، فإن كانت المرأة لا تعرف العادة ونسيتها فإنها تعمل بالتمييز، فإذا كان الدم أسود ثخيناً له رائحة جلست، وإذا كان أصفر أو أحمر رقيقاً فإن هذا دم الاستحاضة.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : زاد سالأوزاعي في هذا الحديث عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (استحيضت أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها -وهي تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه- سبع سنين فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) ].

الكلام على بعض روايات الحديث

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : ولم يذكر هذا الكلام أحد من أصحاب الزهري غير الأوزاعي ، ورواه عن الزهري عمرو بن الحارث والليث ويونس وابن أبي ذئب ومعمر وإبراهيم بن سعد وسليمان بن كثير وابن إسحاق وسفيان بن عيينة ولم يذكروا هذا الكلام ].

يعني: أنه ذكر تسعة عن الزهري بخلاف رواية الأوزاعي ، فـالأوزاعي خالف تسعة من تلاميذ الزهري ، وهم: عمرو بن الحارث والليث ويونس وابن أبي ذئب ومعمر وإبراهيم بن سعد وسليمان بن كثير وابن إسحاق وسفيان بن عيينة ، فكلهم خالفوا الأوزاعي ولم يذكروا هذ الكلام، أي: جملة: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلي) ولم يذكرها إلا الأوزاعي من تلاميذ الزهري .

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ].

يعني: وليس من لفظ حديث الزهري عن عروة ، وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، والمؤلف يريد بهذا ترجيح رواية الأكثرين. وبيان أن الأوزاعي خالف تلاميذ الزهري على طريقة المتقدمين في تقديم رواية الأكثر على رواية الأقل.

وأما المتأخرون فإنهم يقولون: إن الزيادة من الثقة مقبولة، كالحافظ ابن حجر والعراقي والخطيب البغدادي ، وهو أول من تكلم في هذا، فيقبلون رواية الثقة إذا كانت روايته غير منافية لرواية الأكثر، فإنها مقبولة، ولهذا يقول العراقي : واحكم بقول ثقة في الأظهر.

وقال الحافظ ابن حجر في النخبة: وزيادة راويهما -أي: الصحيح والحسن- زيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، وأما المتقدمون كـالنسائي وأبي داود وجماعة فإنهم يقدمون رواية الأكثر، فلهذا المؤلف رحمه الله قدم رواية الأكثر وقال: إن هذه الرواية انفرد بها الأوزاعي عن الزهري ، وخالف فيها تسعة من أصحاب الزهري .

قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو داود : وزاد ابن عيينة فيه أيضاً: (أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها)، وهو وهم من ابن عيينة ].

يعني: زاد سفيان بن عيينة أيضاً في هذا الحديث: (أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها)، يعني: أيام حيضها.

وفيه دليل لمن قال: إن الأقراء هي الحيض، ولكن قال المؤلف: إن هذه الزيادة: (أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها)، وهم من ابن عيينة ؛ لأنه انفرد بها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وحديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه شيء، ويقرب من الذي زاد الأوزاعي في حديثه ].

يعني: حديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه وهم، وهو الحديث الذي سيأتي، ويقرب من زيادة الأوزاعي في حديثه، فكما أن الأوزاعي زاد: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي)، ووهم فيها فكذلك أيضاً حديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه شيء من الوهم.

وعلى هذا تكون زيادة ابن عيينة وزيادة الأوزاعي وحديث محمد بن عمرو وهم، وكل منهم تفرد بما لم يذكره أحد سواه، فتكون ضعيفة، وهذا على طريقة المتقدمين، فوهم الأوزاعي في زيادته، ووهم ابن عيينة ، ووهم محمد بن عمرو .

صفة دم الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [ حدثنا محمد بن المثنى قال: أخبرنا محمد بن أبي عدي عن محمد يعني: ابن عمرو قال: حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: (أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق) ].

وهذا الحديث أخرجه النسائي بإسناد حسن كمال قال المنذري ، وفيه: بيان الفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة، فدم الحيض دم أسود يعرف، ويعرف تروى بالوجهان: يعرَف، بفتح الراء على البناء للمجهول، أي: تعرفه النساء، وروي يعرِف بالكسر، أي: له عرف ورائحة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم فصل الحكم، فقال: (إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك)، وهذا الخطاب للمرأة، يعني: في وقت زمن الحيض، (فأمسكي عليك الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئي)، أي: فهو دم الاستحاضة (فتوضئي وصلي فإنما هو عرق) أي: دم عرق، وقد كانت مميزة. ففيه العمل بالتمييز. ويحتمل: أنها معتادة، ولكن الأظهر: أنها مميزة، فدل على أن: المرأة إذا كانت مميزة ولم تعلم عادتها فإنها تعمل بالتمييز.

وهذا الحديث سبق أن المؤلف رحمه الله قال: إنه فيه شيء من الوهم؛ لأنه تفرد به محمد بن عمرو عن الزهري .

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود: وقال ابن المثنى : حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعد حفظاً قال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (أن فاطمة كانت تستحاض) فذكر معناه ].

أي: أن ابن أبي عدي حدث به مرة من كتابة، وحدث به مرة أخرى من حفظه. فلما حدث به من كتابة قال محمد بن أبي عدي : عن محمد يعني: ابن عمرو قال: حدثني ابن شهاب ، ولما حدث به من حفظة قال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره من كتابه عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش ، وجعله من حفظه من مسند عائشة : ولهذا تكلم العلماء في هذا الحديث. وذكر ابن القيم رحمه الله: أن ابن القطان قال: إن الحديث منقطع؛ لأنه انفرد به محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة، ورواه عن محمد بن عمرو محمد بن أبي عدي مرتين: إحداهما من كتابة، والثانية من حفظه. والمؤلف رحمه الله رد هذا الحديث أيضاً.

وقال ابن القيم رحمه الله: إن الحديث متصل. فقد حدث به محمد بن عمرو من كتابة منقطعاً، وحدث به من حفظه متصلاً، فزاد عائشة ، وهذا فيه نظر، ورد ابن حزم هذا الحديث.

والمقصود: أن هذا الحديث فيه كلام، فالمؤلف يرى أن فيه وهماً، وقال ابن القطان : إن فيه انقطاعاً، وابن القيم يرى أن الحديث لا بأس به، وأن عروة بن الزبير يمكن أن يرويه عن فاطمة ويرويه عن عائشة ، ولا محذور في هذا، ولا يعتبر هذا وهماً، وقال المؤلف رحمه الله: إن فيه وهماً من وهم الأوزاعي ؛ لأن محمد بن عمرو تفرد فيه عن الزهري بما لم يذكره سواه.

ما جاء عن الصحابة والسلف في ترك الصلاة أيام الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : وروى أنس بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في المستحاضة قال: (إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي) ].

والدم البحراني يعني: الدم الكثيف الغليظ الواسع يخرج من قعر الرحم، نسبة إلى البحر لكثرته وسعته، والبحر هو: التوسع والانبساط في الشيء، ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب فرساً عالياً وكان يقال: إنه يتأخر في المشي، فأسرع: (إن وجدناه لبحراً)، يعني: واسع الجري، فقال هنا: إذا رأت الدم الكثير الغليظ فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي.

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال مكحول: إن النساء لا تخفى عليهن الحيضة، إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك وصارت صفرة رقيقة فإنها مستحاضة، فلتغتسل ولتصلي ].

أي أن النساء لا تخفى عليهن الحيضة، بل يعرفنه بالتمييز، فدم الحيض دم أسود غليظ، منتن كريه الرائحة، فإذا ذهب هذا الدم الغليظ المنتن وجاء الدم الأصفر الرقيق فإنها تغتسل وتصلي.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : وروى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم عن سعيد بن المسيب في المستحاضة: (إذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت) ].

وإقبالها يكون بالعادة إن كان لها عادة، فإن لم يكن لها عادة بالتمييز، فإذا أدبرت اغتسلت وصلت.

قال المؤلف رحمه الله: [ وروى سمي وغيره عن سعيد بن المسيب (تجلس أيام أقرائها) ].

يعني: أيام حيضها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وكذلك رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد ].

يعني: كما سبق، أنها تجلس في أيام عادتها.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال أبو داود : وروى يونس عن الحسن : (الحائض إذا مد بها الدم تمسك بعد حيضتها يوماً أو يومين فهي مستحاضة) ].

يعني: إذا استمر بها الدم بعد انقضاء مدته المعلومة، فإنها تمسك عن الصلاة يوماً أو يومين، ثم بعد ذلك هي مستحاضة.

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال التيمي عن قتادة : إذا زاد على أيام حيضها خمسة أيام فلتصل، قال التيمي : فجعلت أنقص حتى بلغت يومين ].

يعني: أنقص الأيام التي زادت على أيام حيضها.

قال المؤلف رحمه الله: [ فجعلت أنقص حتى بلغت يومين فقال: إذا كان يومين فهو من حيضها، وسئل ابن سيرين عنه فقال: النساء أعلم بذلك ].

يعني: النساء تعرف هذا، وقوله: إنها تجلس بعده يوماً أو يومين ليس بوجيه، وإنما تجلس أيام أقرائها كما سبق.

ولا تزيد يوماً أو يومين إلا إذا كان فيه وصف دم العادة، وأما إذا انتهى الدم الغليظ فلا تجلس يوماً أو يومين، فقول الحسن تجلس يوماً أو يومين إذا مد بها الحيض ليس بجيد، وكذلك قول التيمي : فجعلت أنقص حتى بلغت يومين، وأما قول ابن سيرين :النساء أعلم، فهو أصح من قول الحسن ، والمؤلف رحمه الله أكثر النقول عن السلف؛ لأن باب الاستحاضة باب عويص.

والمستحاضة لها ثلاث حالات:

أحدها: أن يكون لها عادة معلومة من الشهر، فتجلس فيها، ثم تغتسل وتصلي.

الثانية: ألا يكون لها عادة، كأن تكون مبتدئة أو لها عادة ونسيتها فتعمل على التمييز، فتجلس إذا كان الدم أسود أو ثخيناً أو منتناً أو أحمر شديد الحمرة، فإذا ذهب اغتسلت وصلت.

الثالثة: ألا يكون لها تمييز ولا عادة، وهذه تسمى متحيرة، فتحيض في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام ثم تغتسل وتصلي. وهذا على حسب عادة نسائها، ممن يشابهنها سمناً وخلقة من نسائها وأبناء جنسها، فإن كن يجلسن سبعة أيام جلست سبعاً، وأن كن يجلسن ستة جلست ستاً.

حديث حمنة بنت جحش في الاستحاضة

قال المؤلف رحمه الله: [ حدثنا زهير بن حرب وغيره قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش رضي الله عنها قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش رضي الله عنها فقلت: (يا رسول الله! إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوباً، فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما فأنت أعلم. قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن، ميقات حيضهن وطهرهن، فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا أعجب الأمرين إلي).

قال أبو داود : ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل ].

وحديث حمنة هذا حديث مشهور، وحمنة بنت جحش كانت تحت طلحة بن عبيد الله ، وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف ، وزينب أم المؤمنين، وكل بنات جحش مستحاضات الثلاث.

وهذا الحديث فيه: بيان أن المتحيرة تتحير في علم الله؛ لأن ظاهرها أنها متحيرة، فتتحير في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام.

والحديث فيه: عبد الله بن محمد بن عقيل ، اختلف في توثيقه وضبطه، وهو عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قيل: في حفظه بعض الشيء، والراجح: أنه ثقة مقبول إذا وافق الثقات، والحديث رواه الترمذي وغيره، وهذا الحديث مما وافق فيه الثقات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: مداره على ابن عقيل ، وهو عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو ثقة صدوق، لم يتكلم فيه بجرح أصلاً، وكان الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون بحديثه، وكان الترمذي يصحح له، وإنما يخشى من حفظه إذا اضطرب على الثقات أو خالفهم، أما إذا لم يخالف الثقات ولم ينفرد فيما ينكر عليه فهو حجة. وقال البخاري في هذا الحديث: هو حديث حسن، وقال الإمام أحمد : هو حديث صحيح، وأما ابن خزيمة فإنه أعله، وقال: لا يصح؛ لأن ابن جريج لم يسمعه من ابن عقيل ، فالحديث مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل ، في حفظه بعض الشيء، ولكن إذا وافق الثقات فلا إشكال فيه، وإنما الأشكال إذا خالف الثقات، وهو هنا قد وافق الثقات، وهو ثقة صدوق، وفيه: أن حمنة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنعت لك الكرسف)، يعني: أصف لك الكرسف، وهو القطن تحتشي به، قال: (فإنه يذهب الدم)، أي: يخفف الدم (فقالت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوباً. فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما فأنت أعلم. قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان) والركضة: ضرب الأرض بالرجل حال المشي. والمراد: أن الشيطان ركض، أو: وجد طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وصلاتها، حتى أنساها حاجتها. فهي ركضة من ركضات الشيطان. والأصل أن يحمل على الحقيقة. وبعضهم تأوله بأن المراد: أن الشيطان قد وجد طريقة إلى التلبيس عليها، أي: أنه ليس ركضاً حسياً. والصواب: أن الأصل الحقيقة. الشيطان له مدخل للإنسان، فـالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. و