شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [17]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته.

فعن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).

وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواهما مسلم .

وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت ].

هذا هو السبب الرابع من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم ويسلم بها من شر الذنب، وقد سبق ثلاثة أسباب:

السبب الأول: التوبة، السبب الثاني: الاستغفار، والسبب الثالث: الحسنة الماحية.

وهذا هو السبب الرابع الدافع للعقاب، وهو دعاء المؤمنين للمؤمن واستغفارهم له، وهذا مما يدفع الله به العذاب عن المؤمن حياً كان أو ميتاً، وبهذا يتبين أن من ارتكب الكبيرة فإنه لا يكون كافراً كما يقول الخوارج، ولا يكون في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة، وإنما يكون مؤمناً معه أصل الإيمان وإن كان إيمانه ناقصاً.

استدل المؤلف رحمه الله بحديثين في صحيح مسلم رحمه الله، الحديث الأول حديث عائشة وأنس : (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).

والثاني حديث ابن عباس : (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).

وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالدعاء ينفع الله به الحي والميت جميعاً، فالحي الذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر لو صلى عليها، والميت ينفعه الله بهذا الدعاء الذي يدعو به الأحياء، ويشفعهم الله فيه.

وهذه المغفرة التي تقع للميت بدعاء المصلين عليه يقول المؤلف: لا يجوز أن تحمل على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر، فإن المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر مغفور له حتى عند المنازعين من الخوارج والمعتزلة، إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر غفرت له الصغائر، يقول المؤلف: (فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت) حتى من عليه الكبيرة ينفعه الله بذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الخامس: ما يعمل عنه من أعمال كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة رحمهم الله، وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وثبت مثل ذلك في الصحيح في صوم النذر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، لوجهين:

أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة واستغفارهم له، كما في قول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].

ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99]، وقوله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين.

الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه، وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله تعالى ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم، وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب تفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب، فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل).

وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له ].

أقوال العلماء في وصول الثواب إلى الميت

هذا هو السبب الخامس من الأسباب التي يدفع الله بها العقوبة والعذاب عن الشخص، وهو ما يهدى للميت من ثواب أعمال البر، والذي يهدى للميت من ثواب أعمال البر بالاتفاق عند أهل السنة والجماعة أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية داخلة في ذلك لأنها نوع من الصدقة، فهذه أربعة أشياء متفق عليها، وكذلك الصوم الواجب؛ فإذا كان عليه صوم واجب كصيام رمضان أو النذر أو الكفارة قضي عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فهذه من الأعمال التي ينتفع بها الميت بالاتفاق.

أما إهداء ثواب الصلاة كأن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت، أو يصوم أياماً ويهدي ثوابها للميت، أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو يسبح ويهدي ثوابه للميت، أو يطوف بالبيت سبعة أشواط ويهدي ثوابها للميت، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم:

فمن العلماء من ذهب إلى أنها تنفع الميت، وذهب إلى هذا الحنابلة والأحناف قياساً على الأربعة.

ومن العلماء من قال: نقف عند ما وردت به النصوص؛ لأن العبادات توقيفية، ولا قياس في العبادات، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، وقالوا: نقتصر على الدعاء والصدقة والعمرة والحج والأضحية وصوم الواجب.

وهذا هو الأرجح؛ أن نقتصر على هذه الأربع؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يرد سوى هذه الأربعة، فلم يرد أن الميت يصلى عنه ركعتين، أو يصام عنه يوم ويهدى له ثوابه، أو يقرأ القرآن ويهدى ثوابه للميت، ولكن من أجازه من العلماء قاسوا على هذه الأربع، ومن منع قال: لا قياس في العبادات، فالعبادات توقيفية، ووصفوا العبادات بالمنع والحظر، وهذا هو الأصوب، فما أهدي للميت من ثواب أعمال البر ينفعه الله به، ويدفع عنه العقاب بذلك، وينتفع بالصدقة وكذلك العتق، فالعتق داخل تحت الصدقة.

يقول المؤلف رحمه الله: (إن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة كالصدقة ونحو ذلك بل قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، قوله: (وعليه) أي: الصوم الواجب، أما صوم النفل والتطوع فهو محل خلاف.

وكذلك الخلاف أيضاً في صوم النذر، جاء في اللفظ الآخر: (من مات وعليه صوم نذر)، فبعض العلماء حمله على صوم النذر خاصة، أما الصوم الذي وجد بأصل الشرع كصوم رمضان فلا يقضى عنه، والصواب: أنه يقضى على الميت الواجب سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة، فهذا ينفع الله به الميت، ويكفر عنه، ويدفع الله به العقوبة عنه إذا أهدي له، وكذلك الدعاء أو صدقة أو عمرة أو حج.

الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي

قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما:

الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور.

الجواب الثاني: أن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه.

وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره.

فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك.

وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).

هذا هو السبب الخامس من الأسباب التي يدفع الله بها العقوبة والعذاب عن الشخص، وهو ما يهدى للميت من ثواب أعمال البر، والذي يهدى للميت من ثواب أعمال البر بالاتفاق عند أهل السنة والجماعة أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية داخلة في ذلك لأنها نوع من الصدقة، فهذه أربعة أشياء متفق عليها، وكذلك الصوم الواجب؛ فإذا كان عليه صوم واجب كصيام رمضان أو النذر أو الكفارة قضي عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فهذه من الأعمال التي ينتفع بها الميت بالاتفاق.

أما إهداء ثواب الصلاة كأن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت، أو يصوم أياماً ويهدي ثوابها للميت، أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو يسبح ويهدي ثوابه للميت، أو يطوف بالبيت سبعة أشواط ويهدي ثوابها للميت، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم:

فمن العلماء من ذهب إلى أنها تنفع الميت، وذهب إلى هذا الحنابلة والأحناف قياساً على الأربعة.

ومن العلماء من قال: نقف عند ما وردت به النصوص؛ لأن العبادات توقيفية، ولا قياس في العبادات، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، وقالوا: نقتصر على الدعاء والصدقة والعمرة والحج والأضحية وصوم الواجب.

وهذا هو الأرجح؛ أن نقتصر على هذه الأربع؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يرد سوى هذه الأربعة، فلم يرد أن الميت يصلى عنه ركعتين، أو يصام عنه يوم ويهدى له ثوابه، أو يقرأ القرآن ويهدى ثوابه للميت، ولكن من أجازه من العلماء قاسوا على هذه الأربع، ومن منع قال: لا قياس في العبادات، فالعبادات توقيفية، ووصفوا العبادات بالمنع والحظر، وهذا هو الأصوب، فما أهدي للميت من ثواب أعمال البر ينفعه الله به، ويدفع عنه العقاب بذلك، وينتفع بالصدقة وكذلك العتق، فالعتق داخل تحت الصدقة.

يقول المؤلف رحمه الله: (إن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة كالصدقة ونحو ذلك بل قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، قوله: (وعليه) أي: الصوم الواجب، أما صوم النفل والتطوع فهو محل خلاف.

وكذلك الخلاف أيضاً في صوم النذر، جاء في اللفظ الآخر: (من مات وعليه صوم نذر)، فبعض العلماء حمله على صوم النذر خاصة، أما الصوم الذي وجد بأصل الشرع كصوم رمضان فلا يقضى عنه، والصواب: أنه يقضى على الميت الواجب سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة، فهذا ينفع الله به الميت، ويكفر عنه، ويدفع الله به العقوبة عنه إذا أهدي له، وكذلك الدعاء أو صدقة أو عمرة أو حج.

قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما:

الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور.

الجواب الثاني: أن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه.

وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره.

فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك.

وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).