أرشيف المقالات

حب الله تبارك وتعالى لعباده

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
حب الله تبارك وتعالى لعباده
 
الله جل جلاله يحب عباده الصالحين الشاكرين، وكيف لا يحبهم وقد خلقهم بيده جل جلاله، ونفخ فيهم من روحه، وأسجد الملائكة لأبيهم تكريمًا وتشـريفًا له ولأبنائه؟ فتحركت قلوبهم لعبادته وتقديسه، واتخذوه إلهًا واحدًا بأمر منه، فعبدوه حق العبادة محبةً وخوفًا ورجاءً، وكان لهم ربًّا بيده الملك والأمر والخَلْق، ففضلهم على كثير من مخلوقاته، ورزقهم من الطيبات، وأطعمهم وسقاهم، وكساهم وشفاهم، وأذاقهم طعم العافية، ومن كرمه تعالى حتى في الحب فإنه قد قدم حبه جل جلاله لعباده على حب العباد له جل جلاله في القرآن الكريم؛ إذ يقول تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]، وذلك من لطفه العظيم، ورحمته الواسعة بهم.
 
وفي الآية قدم الله جل جلاله حبـه للمؤمنين على حبهم له جل جلاله، وذلك لطف منه وكرم عظيم؛ لأن حبهم له جل جلاله لا يمكن أن يكون إلا بتوفيق منه جل جلاله، وذلك التوفيق لا يكون إلا أن يكون الله جل جلاله يحبهم، ثم إن الفعل جاء بصيغة المضارع - يحبهم، يحبونه - الذي يدل على الاستمرار، فما دام العبد يحب الله جل جلاله فإن الله جل جلاله يحبه، ويستمر هذا الحب باستمرار العمل الصالح.
 
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارِب عنهم، فإذا أكثرُهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقًّا، ولا يواسون من مالهم صديقًا، فتأملت الأمر، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئًا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها؛ ليكون أنسُه به"[1].
 
وحب الله جل جلاله للعبد ليس كحب العباد بعضهم بعضًا؛ لأن الحب في مقاييس البشـر هو حاجة أو حاجات يفتقدها المحب، فيجدها عند المحبوب، ولكن الله جل جلاله غني عنا، فحبه جل جلاله لنا حبُّ عطفٍ وتفضل ورحمة، حبُّ قويٍّ لضعيف، وحب غني لفقير، وحب قادر لعاجز، حبُّ عظيمٍ لصغير، وقد بـيَّن القرآن الكريم أن الناس في فهمهم لحب الله جل جلاله لهم نوعان:
النوع الأول: الناس الذين يتذوقون حب الله جل جلاله لهم على وجه الحقيقة، وهؤلاء الناس على نوعين:
1- منهم من سماهم الله جل جلاله بأسمائهم في القرآن الكريم، كنبيِّ الله موسى عليه السلام؛ إذ قال تعالى في حقه عليه السلام: ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 38، 39]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (أحبه وحببه إلى خلقه، قال عكرمة: ما رآه أحدٌ إلا أحبه، قال قتادة: ملاحةٌ كانت في عيني موسى؛ ما رآه أحد إلا عشقه)[2].
 
وأما نبي الله إبراهيم عليه السلام، فقد اتخذه الله جل جلاله خليلاً، وهي أعلى مرتبة في الحب بالنسبة للبشـر، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، والخلـة بالنسبة للبشـر لا يمكن أن يشغلها إلا فرد واحد، وهذا ما حصل مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين اتخذ ربَّه جل جلاله خليلًا، ولو كان في الأمر سعة لاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه خليلًا، ولكن ذلك لم يحصل، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلًا))[3]، ولكن هذا الأمر يختلف مع الله جل جلاله؛ فإن لله جل جلاله له أن يتخذ من يشاء من عباده خليلًا.
 
والله جل جلاله إذا أحب عبدًا قذف حبـه في قلوب من شاء من عباده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحِبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القَبول في أهل الأرض))[4]؛ ولهذا فإن الأنبياء والمرسلين محبوبون، يحبهم جميع الناس، بل حتى أعداؤهم، ولكنهم يعادونهم مخافة زوال ملكهم أو مصالحهم.
 
2- منهم من ذكر القرآن صفاتهم، وهم الذين اجتمعت فيهم صفات إيجابية مترابطة، وتكمل بعضها بعضًا، وذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، فهذه الصفات التي بينتْها الآية هي:
♦ أذلة على المؤمنين، وهنا ذلة خفض الجناح، وتعني التواضع والموالاة، وليس ذلة العبادة أو الكرامة أو العزة؛ لأن الإنسان لا ينبغي أن يذل نفسه إلا لله جل جلاله، وحتى سجود الملائكة لآدم عليه السلام؛ فإنه سجود تكريم له عليه السلام، وليس سجود ذلة من أجل العبادة.
 
♦ أعزة على الكافرين: قال الإمام النووي رحمه الله: "قال الإمام أبو منصور الأزهري رحمه الله تعالى: العزيز من صفات الله تعالى الحسنى، قال أبو إسحاق بن السري: هو الممتنع فلا يغلبه شيء، وقال غيره: هو القوي الغالب على كل شيء، وقيل: هو الذي ليس كمثله شيء، قال: وقوله تعالى: ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ [يس: 14] معناه: قوينا وشددنا.


قال ابن كثير الدمشقي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54] هذه صفات المؤمنين الكاملة؛ أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القـتال، فهو ضحوك لأوليائه، قتَّال لأعدائه" [5].
 
قال الإمام شرف الدين النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات: "وقال الإمام الواحدي رحمه الله تعالى في كتابه البسيط في التفسير: اختلف قول أهل اللغة في معنى العزيز واشتقاقه، فقال أبو إسحاق: العزيز في صفات الله تعالى: الممتنع فلا يغلبه شيء، وهذا قول المفضل، قال: العزيز الذي لا تناله الأيدي، وعلى هذا القول؛ العزيز من عز يعَز بفتح العين إذا اشتد، يقال: عز علي ما أصاب فلانًا؛ أي: اشتد، وتعزز لحم الناقة، إذا صلُب واشتد، والعزاز: الأرض الصلبة، فمعنى العزة في اللغة: الشدة، والعزة هي امتناعه على من أراده.
 
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: العزيز الذي لا يوجد مثله، قال الفراء: يقال عز الشيء يعِـز بالكسـر إذا قل حتى لا يكاد يوجد، عزة، فهو عزيز، وقال الكسائي وابن الأنباري وجماعة من أهل اللغة: العزيز القوي الغالب؛ تقول العرب: عز فلانٌ فلانًا يعزه عزًّا إذا غلبه، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23]، هذا ما ذكره الواحدي، قال أهل اللغة: العز والعزة بمعنى، وهي الرفعة والامتناع والشدة والغلبة، ورجل عزيز من قوم أعزة وأعزاء وأعزاز"[6].
 
♦ يجاهدون في سبيل الله جل جلاله، والجهاد ذروة سنام الإسلام، وله أنواع عديدة، وعلى رأسها القتال في سبيل نشر دين الله جل جلاله في الأرض، والدفاع عن بيضة الإسلام وأهله، ومنه جهاد النفس، وجهاد هوى النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، ومن عظمة القتال في سبيل الله جل جلاله وشرفه أنه كان لفظ الجهاد عامًّا ولكن صار خاصًّا، وهو القتال في سبيل الله جل جلاله، فما أن يقال: (الجهاد) حتى ينصرف الذهن مباشرة إلى القتال.
 
♦ لا يخافون في الله لومة لائم؛ فأولئك الذين يحبون الله جل جلاله لا يعنيهم عتب العاتبين، ولا لوم اللائمين، ولا إرجاف المرجفين؛ لأن الله جل جلاله هو قصدهم ومرادهم، ورضا الله جل جلاله هو مُناهم، فلسان حالهم قول الشاعر:






فليتك تحلو والحياة مريرة ٌ
وليتك ترضى والأنام غضابُ


وليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالمين خرابُ


إذا صح منك الودُّ فالكل هيِّنٌ
وكل الذي فوق التراب ترابُ







جاء في تفسير الكشاف للزمخشري: "لا يخافون لومة لائم قط، وأن تكون للعطف على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله جل جلاله، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - إنكار منكر، أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم، وصلابتهم في أمرهم، واللومة المرة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان، كأنه قيل: لا يخافون شيئًا قط من لوم أحد من اللوام، وذلك إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة، والعزة والمجاهدة، وانتفاء خوف اللومة)[7].
 
فهؤلاء الناس هم المؤمنون الذين يحبهم الله جل جلاله، والذين تفضل وأنعم الله جل جلاله عليهم، وخصهم بذلك الحب، سيحصلون على امتيازات عظيمة، وسيتمتعون بصفات عالية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((من عادى لي وليَّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببتُه، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شـيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته))[8]، فالعبد الذي يحبه الله جل جلاله سيمنح الامتيازات والمنح التي بينها الحديث القدسي الآنف الذكر، والتي هي:
• أن سمعه سيكون بيد الله جل جلاله، فيرتاح العبد لما يسمع من كلمات الحق والفضيلة، ويميزها عن كلمات الباطل والسوء.
 
• يكون بصره موجهًا بأمر الله جل جلاله، فما يرى من آيات الله جل جلاله في خلقه وما يرى من مخلوقات الله جل جلاله في الأرض وفي السماء، فإنه يراها بعين المؤمن الفطن العاقل المتفكِّر الموقن، ويستخدمها لأن تكون محفِّزًا لذكر الله جل جلاله، وخاصة التسبيح، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].
 
• أن أعمال يديه ورجليه تكون في نطاق الحدود التي يسمح بها شـرع الله جل جلاله في أمور العبادة والحياة؛ فيده لا تمتد إلا إلى الحلال ولا تأخذ غيره، ورجله لا تمشي إلا إلى الخير، وتمتنع عن غيره.
 
• يكون مجاب الدعوة، فمتى ما سأل ربه جل جلاله فإنه يعطيه.
 
• يكون معاذًا بالله جل جلاله من كل مخلوق، ويفوز بمعية الله جل جلاله، فمتى ما لجأ إلى الله أعاذه الله جل جلاله.



[1] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص 443.


[2] تفسير البغوي، ج3، ص217.


[3] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ج4، ص1855، حديث:2383.


[4] صحيح البخاري، كتاب التوحيد باب كلام الربِّ مع جبريل، ج6، ص2721، حديث: 7047.


[5] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج2، ص88.


[6] تهذيب الأسماء واللغات، شرف الدين النووي، ج2، ص20.


[7] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، ج1، ص681.


[8] صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب التواضع، ج5، ص 2384، حديث: 6137.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١