خطب ومحاضرات
شرح كتاب السنة للبربهاري [4]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل نبي حوض إلا صالح عليه السلام فإن حوضه ضرع ناقته ].
أي: من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في كثير من الأحاديث إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حوض عظيم، يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر من الجنة، وورد أن طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، والآنية التي يشرب فيها عدد نجوم السماء، وهو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الواردين على حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث التي جاءت في إثبات الحوض كثيرة تبلغ حد التواتر، وأنكرها أهل البدع من المعتزلة وأشباههم، وهذا من جهلهم وضلالهم.
ونحن نعلم أن الأحاديث المتواترة قليلة، تقارب أربعة عشر حديثاً، أما أكثر السنة فقد ثبتت بخبر الأحاد؛ لأن خبر الواحد إذا صح سنده واتصل وعدل رواته وجب العمل به في العقائد والأحكام جميعاً، وأكثر ما في الصحيحين -صحيح البخاري وصحيح مسلم - أخبار آحاد.
فالمتواتر هو الذي يرويه جماعة كثيرون يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، عن جماعة آخرين، من أول السند إلى منتهاه ويسندونه إلى محسوس، وما كان دون ذلك فهو خبر الواحد، حيث رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو ما دون التواتر.
فالأحاديث في إثبات الحوض متواترة، والأحاديث المتواترة قليلة -كما قلنا- تقارب أربعة عشر حديثاً منها حديث الحوض، وحديث الشفاعة، ومنها حديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ومنها حديث النهي عن الصلاة بعد العصر.
فالأحاديث في إثبات الحوض متواترة، ومع ذلك أنكرها المعتزلة وأهل البدع، وهذا من جهلهم ومن ضلالهم، فيجب الإيمان بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
قول المؤلف: (ولكل نبي حوض) جاء هذا في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام : صح هذا من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي حوضاً، وأنهم يباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجو الله أن أكون أكثرهم وارداً).
وقوله: (إلا صالح النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن حوضه ضرع ناقته) يعني: أن نبي الله صالحاً ليس له حوض، اكتفاء بالناقة التي أعطيها في الدنيا، فقد كانت تشرب المياه يوماً وتعطيهم من اللبن بقدر ما شربت، وفي اليوم التالي تترك الماء لهم، قال تعالى: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155].
لكن الحديث الذي فيه أن صالحاً عليه الصلاة والسلام ليس له حوض، وأن حوضه ضرع ناقته، لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه حديث موضوع، وعلى هذا فيكون نبي الله صالح له حوض كغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكأن المؤلف رحمه الله لم يعتن بالبحث عن سند هذا الحديث، إما لأنه لم يتيسر له مراجعة الحديث، أو لغير ذلك من الأسباب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا وله شفاعة، وكذلك الصديقون والشهداء والصالحون، ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً ].
أي: يجب على المسلم أن يؤمن بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين، والخاطئون بمعنى المذنبين، لكن الخاطئ غير المخطئ؛ لأن المخطئ هو الذي فعل الشيء من غير تعمد، وهو قد يغفر له، مثل قتل الخطأ، بخلاف الخاطئ، فإن الخاطئ هو المذنب العاصي المتعمد، فهو أشد إثماً من المخطئ.
ففرق بين الخاطئ والمخطئ، ولهذا قال الله تعالى في سورة الحاقة: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:35-37] أي: المذنبون، أما المخطئ فهو الذي فعل الشيء عن غير عمد.
وقد جاء في إثبات الشفاعة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر، وصرحت هذه الأحاديث بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، أي: من أهل التوحيد، مؤمنون موحدون مصلون، لكن دخلوا النار بذنوب ومعاص ارتكبوها ولم يتوبوا منها، فهذا دخل النار لأنه مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على الربا من غير توبة، وهذا مات على عقوق الوالدين من غير توبة، هذا مات على قطيعة الرحم من غير توبة، وهؤلاء العصاة الموحدون منهم من يعفو الله عنه من أول وهلة، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومنهم من يعذب في قبره وتسقط عنه عقوبة جهنم بعذاب القبر، كما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد في يوم القيامة، ويكون ذلك تكفيراً لذنوبه، ومنهم من يستحق دخول النار ثم يشفع فيه قبل أن يدخلها، ومنهم من يدخل النار، ولا بد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر، فقد تواترت الأخبار بهذا.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً بالعلامة، فقد ورد في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيشفعه الله فيمن كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، وفي بعضها مثقال نصف دينار، وفي بعضها: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي بعضها: أخرج من كان في قلبه أدنى من مثقال حبة من إيمان، فهذه أربع شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم للمذنبين الذين استحقوا دخول النار.
وجاء في بعضها أن في المرة الأولى يقال له: أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثالثة: أخرج من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان.
ويشفع كذلك بقية الأنبياء، والملائكة والشهداء والصالحون والأفراط، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا إحساناً قط، يعني: لم يعملوا ما هو زيادة عن التوحيد والإيمان، كل هذا تواترت به الأحاديث.
ومع كون الأحاديث متواترة في هذا فقد أنكرها الجهمية والمعتزلة والخوارج، وقالوا: إن العاصي مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبد الآباد، فالخوارج قالوا: من زنى كفر ويخلد في النار، من سرق كفر ويخلد في النار، من أكل مال اليتيم كفر، من عق والديه كفر، وهكذا، فحكموا على العصاة بالكفر والخلود في النار، والمعتزلة حكموا عليهم بأنهم خرجوا من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فقالوا: إنه يخلد في النار.
فأنكر عليهم أهل السنة، وبدعوهم وضللوهم.
الآن قد يوجد بعض الناس ممن يتأثر بمذهب الخوارج، فبعض الناس وخاصة الشباب تجدهم يكفرون بعض الناس بالمعاصي، فكل من حكم بغير ما أنزل الله كفروه، وكل من فعل معصية كفروه، فهذا الفكر جاء إليهم من الخوارج، فإن العاصي لا يكفر، بل نقول: العاصي ضعيف الإيمان، أو ناقص الإيمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يعني: وهو مؤمن كامل الإيمان، فنفى عنه كمال الإيمان ولم ينف عنه الإيمان، بدليل أن الله أثبت الأخوة بين القاتل والمقتول، مع أن القاتل مرتكب لكبيرة من الكبائر، قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178].
فالإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة حق، وكذلك شفاعة غيره، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن كل نبي تعجل دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، أما الكافر الذي مات على الكفر، فلا حيلة فيه ولا شفاعة له، قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، فهذا في أهل الكفر.
والخوارج والمعتزلة أخذوا النصوص التي في الكفرة وجعلوها في العصاة الموحدين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم)، يعني: من داخل جنهم.
وما من نبي إلا له شفاعة، وكذلك الصديقون يشفعون، والصديق: على وزن فِعِّيل، وهو من قوي تصديقه وإيمانه بالله، فأحرق بقوة تصديقه الشبهات والشهوات، ومقدمهم فينا الصديق الأكبر أبو بكر ، ودرجتهم أعلى من الشهداء، ولما اهتز أحد وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد)، فدرجة الصديقين فوق درجة الشهداء.
ثم بعدها درجة الشهداء، والشهيد: هو الذي بذل نفسه رخيصة في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، فإنه بذل أغلى ما يملك وهي نفسه التي بين جنبيه، فقاتل أعداء الله، لإعلاء كلمة الله.
ثم بعد ذلك درجة الصالحين من المؤمنين على تفاوتهم فيما بينهم، فمنهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالمون لأنفسهم، فالسابقون في أعلى الدرجات، وهم الذين داوموا على الفرائض والنوافل، وتركوا المحرمات والمكروهات، والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الفرائض وترك المحرمات، ولم يفعلوا النوافل وقد يفعلون بعض المكروهات، والظالمون لأنفسهم موحدون مؤمنون، لكنهم قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء عندهم أصل الصلاح وأصل التقوى، فينفعهم هذا الصلاح والتقوى في عدم الخلود في النار، ولكنهم قد يدخلون النار ويعذبون، لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة.
وقول المؤلف: (ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء) يعني: الله تعالى يتفضل بعد ذلك على من يشاء، فيخرج برحمته بقية أهل التوحيد الذين لم يشفع فيهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً).
وهذا قد جاءت فيه الأحاديث التي أثبتت أن المؤمنين العصاة الذين دخلوا النار يحترقون فيها ويصيرون فحماً، وأنهم يخرجون من النار ضبائر ضبائر -أي: جماعات جماعات- بعدما صاروا فحماً، وأنهم يموتون فيها إماتة، كل هذا ثبت في صحيح مسلم وغيره، وأنهم بعد أن يخرجوا من النار يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، يعني: البذرة، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم ].
يجب على المؤمن أن يؤمن بالصراط، وهو جسر منصوب على متن جهنم، وهذا الجسر حسي لا معنوي، يمر عليه الناس على قدر أعمالهم، فمن تجاوز الصراط وصل إلى الجنة، ومن سقط سقط في النار، والعياذ بالله.
فقد جاء في الأحاديث: أن الناس يمرون على حسب أعمالهم، وأن الزمرة الأولى يمرون كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاود الخيل عدواً، ثم كالرجل الذي يعدو عدواً، أي يركض ركضاً، ثم كالرجل الذي يمشي مشياً، ثم كالرجل الذي يزحف زحفاً، على حسب الأعمال، وعلى الصراط كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، فناج مكلم، ومكردس على وجهه في النار، ونبينا صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: (اللهم سلم سلم).
فيجب الإيمان بالصراط، وأنه صراط حسي حقيقي، ومن استقام على الصراط المستقيم في هذه الدنيا -وهو توحيد الله، وإخلاص الدين لله، وأداء الواجبات وترك المحرمات- مر على الصراط الحسي كالبرق، ومن تنكب الصراط وانحرف عنه في الدنيا لم يستطع المرور على الصراط الحسي في الآخرة، بل يسقط في جهنم، فالصراط صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فالصراط في الدنيا هو دين الإسلام.
والصراط الذي جاء على متن جهنم جاء وصفه في الأحاديث أنه أحر من الجمر، وأحد من السيف، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (والإيمان بالصراط على جهنم) يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالأنبياء والملائكة ].
أي: يجب الإيمان بالأنبياء والملائكة، فالإيمان بالأنبياء والرسل أصل من أصول الدين، وأصل من أصول الإيمان، والإيمان بالملائكة كذلك، فلا يصح الإيمان إلا به، فمن أنكر الملائكة أو أنكر واحداً من الملائكة كفر، ومن أنكر الأنبياء أو أنكر واحداً من الأنبياء كفر.
قال الله تعالى في آية البر: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، هذه خمسة أصول، والأصل السادس جاء في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وفي حديث جبرائيل المشهور حين كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بأن الجنة والنار حق، وأنهما مخلوقتان، الجنة في السماء السابعة، وسقفها العرش، والنار تحت الأرض السابعة السفلى، وهما مخلوقتان، قد علم الله تعالى عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا تفنيان أبداً، بقاؤهما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين، ودهر الداهرين ].
أي: يجب على المسلم الإيمان بالجنة والنار، فهما يدخلان ضمن الإيمان باليوم الآخر الذي هو أصل من أصول الإيمان، فمن أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه من البعث، أي: أن الله يبعث الأجساد ويحاسب الخلائق، والإيمان بالميزان والصراط والجنة والنار، فمن أنكر وجود الجنة أو أنكر النار كفر؛ لأنه مكذب لله، قال تعالى: وَبَشِّرِ لَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ )[البقرة:25] [لقمان:8]، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ [فاطر:36]، فمن أنكر الجنة أو النار فقد كذب الله، ومن كذب الله كفر.
قوله: (وأنهما مخلوقتان)، أي: مخلوقتان الآن، هذا هو قول أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار الآن مخلوقتان دائمتان لا تفنيان، وأنكر المعتزلة خلقهما الآن، فقالوا: الجنة والنار لم تخلقا بعد، ولكن سوف يخلقهما الله تعالى يوم القيامة، أما الآن فلا توجد جنة ولا نار.
وسبب هذا القول أن المعتزلة يعملون عقولهم في مقابلة النصوص، فيعارضون النصوص بعقولهم، وهذا من جهلهم ومن ضلالهم، فهم يقولون: لو قلنا إن الجنة والنار مخلوقتان الآن لصار خلقهما عبثاً؛ لأنهما مخلوقتان وليس فيهما أحد، والعبث محال على الله، فتنزيهاً لله نقول: لا توجد جنة ولا نار الآن؛ لكن يخلقهما الله يوم القيامة حين ينتفع المؤمنون بالجنة ويكون الكفرة في النار.
نرد عليهم ونقول: أولاً: قولكم هذا من أبطل الباطل؛ لأن الله تعالى أثبتهما، ونحن نصدق الله ونؤمن بالله، فقد أخبر تعالى أنهما موجودتان، قال عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال عن النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، فهي مرصدة معدة مهيأة.
ثانياً: أن خلق الجنة وخلق النار الآن وإعدادهما أبلغ في الزجر وأبلغ في التشديد، فإذا علم العاصي أن النار معدة الآن صار أبلغ في الزجر، وإذا علم المطيع أن الجنة معدة صار أبلغ في الشوق.
ثالثاً: نقول: من قال إن خلقهما الآن عبث؟ فالجنة فيها الولدان، وفيها الحور، وأرواح المؤمنين تتنعم في الجنة، وأرواح الشهداء تنعم فيها، كما جاء في الحديث: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة وترد أنهارها، وتأكل من ثمارها، حتى يرجعها الله إلى أجسادها)، والمؤمن إذا مات نقلت روحه إلى الجنة على هيئة نسمة طائر يعلق في الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثون.
ونعلم أن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من نعيمها، والكافر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها.
إذاً هناك حكمة وفائدة من خلقهما الآن، فهذا من جهل المعتزلة وضلالهم، حيث إنهم عارضوا النصوص بأفهامهم وآرائهم الفاسدة.
قوله رحمه الله: (الجنة في السماء السابعة وسقفها العرش) هذا جاء في الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وسقفها عرش الرحمن)، والنار تحت الأرض السابعة السفلى، ويوم القيامة تبرز وتظهر، قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:36]، أي في السماء السابعة التي تظهر للناس، وفي الحديث: (يُجاء يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، وتسجر البحار وتكون جزءاً من جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالجنة في السماء السابعة، وسقفها العرش، والنار تحت الأرض السابعة السفلى.
وهما مخلوقتان دائمتان لا تفنيان ولا تبيدان، قد علم الله عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، فالله تعالى قدر المقادير، وخلق للجنة أهلاً، وبعمل أهل الجنة يعملون، وللنار أهلاً، وبعمل أهل النار يعملون، فقد كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ كل ما يكون في هذا الكون من أرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم، والإنسان إذا خلقه الله ومضى عليه أربعة أشهر يأتي إليه الملك بأمر الله، فينفخ فيه الروح، ويقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة؟ ما السعادة؟ ويكتب وهو في بطن أمه شقي أو سعيد، ويكتب رزقه وأجله، وبماذا يموت ومتى يموت، هل يموت طفلاً أو شاباً أو شيخاً أو كهلاً، صغيراً أو كبيراً، وما رزقه، هل يرزقه الله الحلال أم الحرام، فالله تعالى يرزق الحلال والحرام، فيقدر لهذا أن يكون رزقه من الحرام، بأن يأكل من الربا، أو من السرقة، أو من الغصب والنهب، فيكون رزقه حراماً، ومنهم من يكون رزقه حلالاً فالرزق والأجل والعمل كل هذا مكتوب.
فقد علم الله عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، وهما لا تفنيان أبداً، خلافاً للجهمية حيث يقولون: إن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة، وهذا من جهلهم وضلالهم، وهو من أبطل الباطل.
أبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة في القرن الثالث الهجري يقول: يأتي على الجنة والنار وقت تفنى فيه حركات أهلها ويصبحون مثل الحجارة.
و ابن القيم رحمه الله رد عليه فقال: إذا كانت حركات أهل النار ستفنى فما حال من رفع اللقمة إلى فيه ثم انتهت حركته، هل يبقى على هذه الصورة وقد رفع اللقمة إلى فيه؟ وما حال من يجامع زوجته؟ وما حال كذا، يبين بشاعة هذا المذهب.
فالمقصود أن قول هؤلاء الجهمية من أبطل الباطل، وهم كفار، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحق: أن الجنة والنار دائمتان أبداً، لا تفنيان ولا تبيدان، وهما باقيتان -كما قال المؤلف- مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين ودهر الداهرين، يعني: إلى ما لا نهاية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وآدم عليه السلام كان في الجنة الباقية المخلوقة فأخرج منها بعدما عصى الله عز وجل ].
هذا الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله، بأن آدم كان في الجنة الباقية المخلوقة فأخرج منها، وهذا قول قال به بعض أهل العلم، وقيل إنه لم يكن في الجنة الباقية المخلوقة، وإنما في جنة أخرى غير هذه الجنة، والله أعلم.
والله تعالى أخبر أنه أدخل الجنة، وأنه أهبط منها، حتى قال بعضهم: إن الجنة التي أخرج منها هي بستان من البساتين، لكن ظاهر الأدلة أنها جنة في السماء، لكن هل هي الجنة الباقية أو غيرها؟ فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالمسيح الدجال ].
أي: يجب الإيمان بـالمسيح الدجال، وهو رجل من بني آدم، وجاء في حديث الجساسة، وهو حديث تميم الداري الذي رواه الإمام مسلم : أنهم ركبوا في سفينة، فلعب بهم الموج شهراً، وأنهم أرسوا إلى جزيرة في البحر، فجاءت جساسة وهي الدابة العظيمة التي لا يعرف قبلها من دبرها فقالت: ائتوا إلى هذا الرجل الذي في الدير، فهو إلى أخباركم بالأشواق، فأتوا إليه، فرأوا رجلاً عظيم الخلقة، قد جمعت يداه وغلتا في عنقه، فدخلوا عليه، فجعل يسألهم عن أشياء، حتى سألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسألهم عن بحيرة طبرية وعن النخل، وغير ذلك، ثم قالوا له: من أنت؟ قال: قدرتم على خبري، فلما انتهى أخبرهم بأنه المسيح الدجال، وهو حديث صحيح، ثابت في صحيح مسلم ؟
والمسيح يخرج في آخر الزمان، وهو أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، وسمي المسيح؛ لأن عينه ممسوحة.
والمسيح هذا لقب للدجال ولقب لـعيسى بن مريم، لكن عيسى مسيح الهدى، والدجال مسيح الضلال، ومسيح الهدى يقتل مسيح الضلال في آخر الزمان.
والمسيح الدجال أعور العين اليمنى -كما قلنا- كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤها كل واحد، وهو سيخرج في آخر الزمان، وإذا خرج فإنه يدعي أولاً الصلاح، ثم ينتقل فيدعي النبوة، ثم ينتقل فيدعي الربوبية، ويقول للناس: أنا ربكم.
وجاء في صحيح مسلم أنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول طوله سنة، تطلع الشمس ولا تغرب إلا بعد ثلاثمائه وخمسة وستين يوماً، ثم اليوم الثاني طوله شهر، تطلع الشمس ولا تغرب إلا بعد ثلاثين يوماً، ثم اليوم الثالث طوله أسبوع، تطلع الشمس ولا تغرب إلا بعد سبعة أيام، ثم بقية الأيام السبعة والثلاثين طولها كسائر الأيام، أي: مثل أيامنا هذه.
ولا يترك بلداً إلا دخلها إلا مكة والمدينة، فإن عليهما الملائكة تحرسهما، لكنه يأتي إلى السبخة التي قرب المدينة وينعق فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة، وكل خبيث وخبيثة، ولا يبقى في المدينة إلا الصالحون، وحينئذ تنفي المدينة خبثها.
والمسيح الدجال له ميزة عظيمة، وفتنته فتنة كبيرة، فإن معه صورة الجنة ومعه صورة النار، ابتلاء وامتحاناً، ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويقطع رجلاً بالسيف ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له قم، فيستوي قائماً.
وخروج المسيح الدجال هو العلامة الثانية من علامات الساعة الكبرى، والعلامة الأولى هي خروج المهدي، وهو رجل باسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته ككنيته، محمد بن عبد الله المهدي، يبايع له بين الركن والمقام في وقت ليس للناس فيه إمام، والفتنة تحصر الناس إلى جهة الشام، وفي زمانه يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى بن مريم بعد ذلك فيقتل المسيح الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج فهذه العلامات متوالية.
ولا بد من الإيمان بـالمسيح الدجال وفتنته العظيمة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم : (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة، أمر أعظم أو أشد من
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويموت ويدفنه المسلمون ].
أي: من معتقدات أهل السنة والجماعة: الإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو العلامة الثالثة من علامات الساعة الكبرى، فالأولى خروج الإمام المهدي، ثم خروج الدجال، ثم عيسى بن مريم.
ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، وهو حي الآن وموجود، ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يموت.
وقوله: (خلف القائم) يعني: خلف المهدي الذي هو إمام المسلمين.
وجاء في الحديث أنه ينزل في وقت الصلاة، تقام الصلاة فيقدمه إمام المسلمين فيقول: لا، تقدم أنت، إمامكم منكم، تكرمة الله لهذه الأمة، وهذا حق، فلا بد من الإيمان بنزل عيسى بن مريم عليه السلام.
قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري : (لينزلن فيكم ابن مريم حكماً عدلاً - وفي رواية - مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)، فإذا نزل عيسى عليه السلام فإنه يقوم بكسر الصليب الذي يعبده النصارى؛ ليبين لهم بطلان ما هم عليه من الدين.
والنصارى لماذا يعبدون الصليب؟ يقولون: إن عيسى قتل وصلب، فاتخذوا الصليب شعاراً لهم وعبدوه.
وهذا من جهلهم وضلالهم؛ لأنه إذا كان نبيهم قتل وصلب، فكيف يعبدون الصليب، ولماذا يعبدونه؟ فإن فعلهم هذا يوحي بأنهم فرحوا بقتله وصلبه، فإنهم إذا كانوا صادقين في محبة نبيهم وتعظيمه فكان يجب عليهم أن يكرهوا الصليب ويبغضوه ويكسروه، فكيف يعبدون الصليب إذا كانوا صادقين.
وعيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب في الحقيقة، ولكن الله رفعه، قال الله تعالى: وَمَا قَتَلُوْهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157-158]، فإذا نزل عليه السلام كسر الصليب، لبيان بطلان ما عليه النصارى من الدين المحرف، وقتل الخنزير أيضاً، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، يعني النصارى واليهود الآن يخيرون بين الإسلام أو السيف أو الجزية، فهذه الأحكام الثلاثة مستمرة حتى ينزل عيسى، فإذا نزل انتهت الجزية، ولا يبقى إلا الإسلام أو السيف، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل عيسى انتهى هذا الحكم، وهو قبول الجزية، فالجزية مقبولة من اليهود والنصارى إلى نزول عيسى، فإذا نزل انتهى قبول الجزية، ويبقى حكمان: الإسلام أو السيف.
ففي الحديث: (والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)، وفي اللفظ الآخر: (حتى تكون السجدة أحب إليكم من الدنيا وما فيها)، يعني: أن الناس يزهدون في الدنيا لقرب الساعة، وظهور علاماتها الكبرى.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب السنة للبربهاري [11] | 2644 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [2] | 2210 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [9] | 2188 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [12] | 2026 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [14] | 1933 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [8] | 1902 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [6] | 1762 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [13] | 1755 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [3] | 1644 استماع |
شرح كتاب السنة للبربهاري [7] | 1600 استماع |