شرح كتاب السنة للبربهاري [1]


الحلقة مفرغة

تعريف السنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فسوف نشرح -إن شاء الله- كتاب السنة للعالم الفاضل الحنبلي أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري وقد سمي بـالبربهاري نسبة إلى الأدوية التي تجلب من الهند، والمتوفى سنة (329) هجرية، فهو من علماء القرن الرابع والقرن الثالث الهجريين.

وقد سمى هذه الرسالة: شرح السنة، والسنة هي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوحي عن الله عز وجل، وهي الوحي الثاني، وتشمل: مسائل الاعتقاد، ومسائل الفقه، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة وحي ثانٍ، وقال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

والسنة عند العلماء القدامى تشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، وتشمل الواجب والمستحب، واصطلح المتأخرون من الفقهاء والأصوليين على إطلاق السنة على المندوب والمستحب.

ومراد المؤلف رحمه الله بقوله: شرح السنة، ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من مسائل الاعتقاد والإيمان والجنة والنار، ومسائل الفقه أيضاً، ويشمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، كما يبين المؤلف رحمه الله حيث يقول: السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وقد ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاءته امرأة وكان قد قال رضي الله عنه: لعن الله النامصة والمتنمصة، وما لي لا ألعن من لعن الله. فجاءت امرأة فقالت: إنك تقول إن لعن النامصة في القرآن، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد فيه ما ذكرت من لعن النامصة. فقال رضي الله عنه: إن كنت قرأته فقد وجدته، أما تقرئين قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54].

ومن أنكر السنة وزعم أنه لا يعمل بها أو أنه لا حاجة إليها فهو كافر بإجماع المسلمين، وقد بين بعض السلف أن السنة هي التي توضح المشكل من القرآن وهي التي تقيد المطلق، وهي التي تخصص العام، ففي القرآن العظيم وجوب الصلاة، لكن ليس فيه بيان عدد الصلوات وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وإن كان قد يؤخذ هذا من قوله تعالى إجمالاً: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130].

وليس في القرآن بيان عدد ركعات صلاة الظهر، ولا عدد ركعات صلاة العصر، ولا عدد ركعات صلاة المغرب، ولا عدد ركعات صلاة العشاء أو صلاة الفجر.

وقد أوجب الله في القرآن الزكاة، ولكن ليس في القرآن بيان اشتراط وجوب النصاب وبيان اشتراط الحول.

وفي القرآن بيان وجوب الحج، وليس فيه تفصيل المناسك، وأنه يجب على الإنسان أن يقف بعرفة في اليوم التاسع وأنه ركن الحج الأعظم، ويجب عليه أن يقف بمنى ومزدلفة وأن يرمي الجمار.

فمن يزعم أنه لا يحتاج إلى السنة فلا دين له، وكما سيأتي أن السنة تقضي على القرآن والقرآن لا يقضي على السنة، ولهذا ألف العلماء الكتب في العقائد وفي مسائل الإيمان ودخول الأعمال في مسمى السنة، كما ألف الإمام أحمد رحمه الله كتاب السنة، والسنة لابنه عبد الله ، والسنة لـابن أبي عاصم ، ومنها ما ألفه المؤلف.

فالمقصود أن السنة اسم عام يشمل مسائل الإيمان ومسائل التوحيد ويشمل الفروع والأصول، ولهذا فإن المؤلف رحمه الله ذكر في هذا الكتاب جملاً كثيرة من مسائل التوحيد والإيمان، وجملاً كثيرة من مسائل الفقه، وهذه المسائل والموضوعات كثيرة جداً، ولو أردنا أن نتوقف طويلاً عند كل مسألة لما تجاوزنا الصفحة الأولى من الكتاب أو لما تجاوزنا مسألة أو مسألتين، ولكننا إن شاء الله نتكلم على كل مسألة بما يغلب على الظن أن فيه الفائدة، ونحاول أن نأتي على جميع المسائل بحول الله وقوته مع بيان وإيضاح المراد باختصار غير مخل حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعريف الحمد والفرق بينه وبين الثناء والمدح

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط ].

ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، فالله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود بالصفات والنعم المتعدية مع حبه وإجلاله، بخلاف الثناء على المحمود بالصفات الثابتة الملازمة التي لا تتعدى فإنه يسمى مدحاً، فالثناء على المحمود بالصفات الاختيارية التي يفعلها باختياره يسمى ثناء، والثناء عليه بالصفات الملازمة التي لا تكون له باختيار يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً.

والحمد أكمل من المدح، فأنت تمدح الأسد بأنه قوي، ولا يسمى هذا حمداً؛ وتمدح الرجل بالكرم والشجاعة والإحسان فيكون هذا حمداً؛ لأن هذه الصفة باختياره وقعت منه باختياره.

والله تعالى له جميع المحامد، ملكاً واستحقاقاً، فهو سبحانه وتعالى ذو العبودية والألوهية على خلقه أجمعين وما في العباد من نعمة فمن الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، فالله تعالى هو المحمود؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة وبما أنعم به على عباده سبحانه وتعالى، فجميع أنواع المحامد لله ملكاً واستحقاقاً، ولهذا استفتح الله تعالى كتابه العزيز بالحمد لله رب العالمين، ثم قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثناء بعد ثناء.

قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام) وهذه من النعم المتعدية، قال تعالى عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فهذه من النعم العظيمة التي لا يحمد بها إلا الرب عز وجل، فلولا هداية الله لنا بالإسلام لما كنا مهتدين، لكنه هدانا سبحانه وتعالى، فنحمده سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونسأله أن يثبتنا عليها حتى الممات.

تعريف الإسلام

والإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والخضوع والذل، والانقياد لله تعالى بالتوحيد، وأداء الأوامر واجتناب النواهي.

وسمي الإسلام إسلاماً لما فيه من الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، فالمسلم منقاد مستسلم لأمر الله خاضع ذليل، فالإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا به) ولا شك أن الله تعالى هو الذي من علينا، والعباد ليس لهم حق على الله، لكن الله هو الذي تفضل عليهم وأنعم عليهم، فالله تعالى له النعمة وله الفضل، فنحمده سبحانه أن هدانا للإسلام ومن علينا بالإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى في ضعفاء الإيمان في سورة الحجرات: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأخرجنا في خير أمة) يعني: فنحمد الله على هذه الأمور، نحمد الله على أن هدانا للإسلام وأخرجنا في خير أمة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

وهذه الخيرية إنما حصلت للأمة بالإيمان بالله ورسوله وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، فمن حقق هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن ضيع هذه الصفات فاتته الخيرية.

والإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية لأهميتهما وعظم شأنهما، ولأنهما قوام الدين، فالدين كله أمر ونهي، فأنت تأمر نفسك بالخير وتنهاها عن الشر، وتأمر غيرك بالخير وتنهاه عن الشر، فتأتمر بالأوامر، وتنهى نفسك عن النواهي، وتأمر غيرك بالأوامر وتنهاه عن النواهي، ولهذا قدم الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية، وإن كان الإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط)، وهذا دعاء المؤلف رحمه الله لطالب العلم، فهو يعلمك وينصحك ويدعو لك، فقد سأل لنفسه ولإخوانه وللطلبة، قال: (نسأله التوفيق لما يحب ويرضى)، يعني: نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والذي يحبه ويرضاه هو ما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو يحب سبحانه وتعالى من عباده أن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويمتثلوا الأوامر ويجتنبوا النواهي.

التوفيق: يعني الإعانة الإلهية، وهو إعانة يخص الله بها المؤمن، والتوفيق من الله والإعانة من الله، فالإعانة نعمة جليلة خص الله بها المؤمن دون غيره، وحبب إليه الإيمان وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، كما قال سبحانه وتعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، فالمؤمن له نعمة جلية فقد أنعم عليه نعمة جلية وخصه بها دون الكافر، فلولا الإعانة من الله لما اهتدى المهتدون، ولهذا سأل المؤلف رحمه الله الإعانة والتوفيق من الله.

قال: (ونسأله سبحانه التوفيق لما يحب ويرضى) أي: من الأقوال والأعمال، فيفعل المسلم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ويترك ما يسخطه من الأقوال والأعمال، ولهذا قال: (والحفظ مما يكره ويسخط) يعني: نسأل الله أن يحفظنا مما يكره ويسخط وهي النواهي، وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم العدوان على الناس في الدماء والأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فهذا دعاء عظيم جعله المؤلف رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة بعد حمد الله والثناء عليه.

ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في تفاصيل مسائل السنة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فسوف نشرح -إن شاء الله- كتاب السنة للعالم الفاضل الحنبلي أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري وقد سمي بـالبربهاري نسبة إلى الأدوية التي تجلب من الهند، والمتوفى سنة (329) هجرية، فهو من علماء القرن الرابع والقرن الثالث الهجريين.

وقد سمى هذه الرسالة: شرح السنة، والسنة هي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوحي عن الله عز وجل، وهي الوحي الثاني، وتشمل: مسائل الاعتقاد، ومسائل الفقه، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة وحي ثانٍ، وقال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

والسنة عند العلماء القدامى تشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، وتشمل الواجب والمستحب، واصطلح المتأخرون من الفقهاء والأصوليين على إطلاق السنة على المندوب والمستحب.

ومراد المؤلف رحمه الله بقوله: شرح السنة، ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من مسائل الاعتقاد والإيمان والجنة والنار، ومسائل الفقه أيضاً، ويشمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، كما يبين المؤلف رحمه الله حيث يقول: السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وقد ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاءته امرأة وكان قد قال رضي الله عنه: لعن الله النامصة والمتنمصة، وما لي لا ألعن من لعن الله. فجاءت امرأة فقالت: إنك تقول إن لعن النامصة في القرآن، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد فيه ما ذكرت من لعن النامصة. فقال رضي الله عنه: إن كنت قرأته فقد وجدته، أما تقرئين قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54].

ومن أنكر السنة وزعم أنه لا يعمل بها أو أنه لا حاجة إليها فهو كافر بإجماع المسلمين، وقد بين بعض السلف أن السنة هي التي توضح المشكل من القرآن وهي التي تقيد المطلق، وهي التي تخصص العام، ففي القرآن العظيم وجوب الصلاة، لكن ليس فيه بيان عدد الصلوات وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وإن كان قد يؤخذ هذا من قوله تعالى إجمالاً: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130].

وليس في القرآن بيان عدد ركعات صلاة الظهر، ولا عدد ركعات صلاة العصر، ولا عدد ركعات صلاة المغرب، ولا عدد ركعات صلاة العشاء أو صلاة الفجر.

وقد أوجب الله في القرآن الزكاة، ولكن ليس في القرآن بيان اشتراط وجوب النصاب وبيان اشتراط الحول.

وفي القرآن بيان وجوب الحج، وليس فيه تفصيل المناسك، وأنه يجب على الإنسان أن يقف بعرفة في اليوم التاسع وأنه ركن الحج الأعظم، ويجب عليه أن يقف بمنى ومزدلفة وأن يرمي الجمار.

فمن يزعم أنه لا يحتاج إلى السنة فلا دين له، وكما سيأتي أن السنة تقضي على القرآن والقرآن لا يقضي على السنة، ولهذا ألف العلماء الكتب في العقائد وفي مسائل الإيمان ودخول الأعمال في مسمى السنة، كما ألف الإمام أحمد رحمه الله كتاب السنة، والسنة لابنه عبد الله ، والسنة لـابن أبي عاصم ، ومنها ما ألفه المؤلف.

فالمقصود أن السنة اسم عام يشمل مسائل الإيمان ومسائل التوحيد ويشمل الفروع والأصول، ولهذا فإن المؤلف رحمه الله ذكر في هذا الكتاب جملاً كثيرة من مسائل التوحيد والإيمان، وجملاً كثيرة من مسائل الفقه، وهذه المسائل والموضوعات كثيرة جداً، ولو أردنا أن نتوقف طويلاً عند كل مسألة لما تجاوزنا الصفحة الأولى من الكتاب أو لما تجاوزنا مسألة أو مسألتين، ولكننا إن شاء الله نتكلم على كل مسألة بما يغلب على الظن أن فيه الفائدة، ونحاول أن نأتي على جميع المسائل بحول الله وقوته مع بيان وإيضاح المراد باختصار غير مخل حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط ].

ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، فالله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود بالصفات والنعم المتعدية مع حبه وإجلاله، بخلاف الثناء على المحمود بالصفات الثابتة الملازمة التي لا تتعدى فإنه يسمى مدحاً، فالثناء على المحمود بالصفات الاختيارية التي يفعلها باختياره يسمى ثناء، والثناء عليه بالصفات الملازمة التي لا تكون له باختيار يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً.

والحمد أكمل من المدح، فأنت تمدح الأسد بأنه قوي، ولا يسمى هذا حمداً؛ وتمدح الرجل بالكرم والشجاعة والإحسان فيكون هذا حمداً؛ لأن هذه الصفة باختياره وقعت منه باختياره.

والله تعالى له جميع المحامد، ملكاً واستحقاقاً، فهو سبحانه وتعالى ذو العبودية والألوهية على خلقه أجمعين وما في العباد من نعمة فمن الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، فالله تعالى هو المحمود؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة وبما أنعم به على عباده سبحانه وتعالى، فجميع أنواع المحامد لله ملكاً واستحقاقاً، ولهذا استفتح الله تعالى كتابه العزيز بالحمد لله رب العالمين، ثم قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثناء بعد ثناء.

قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام) وهذه من النعم المتعدية، قال تعالى عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فهذه من النعم العظيمة التي لا يحمد بها إلا الرب عز وجل، فلولا هداية الله لنا بالإسلام لما كنا مهتدين، لكنه هدانا سبحانه وتعالى، فنحمده سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونسأله أن يثبتنا عليها حتى الممات.

والإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والخضوع والذل، والانقياد لله تعالى بالتوحيد، وأداء الأوامر واجتناب النواهي.

وسمي الإسلام إسلاماً لما فيه من الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، فالمسلم منقاد مستسلم لأمر الله خاضع ذليل، فالإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا به) ولا شك أن الله تعالى هو الذي من علينا، والعباد ليس لهم حق على الله، لكن الله هو الذي تفضل عليهم وأنعم عليهم، فالله تعالى له النعمة وله الفضل، فنحمده سبحانه أن هدانا للإسلام ومن علينا بالإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى في ضعفاء الإيمان في سورة الحجرات: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأخرجنا في خير أمة) يعني: فنحمد الله على هذه الأمور، نحمد الله على أن هدانا للإسلام وأخرجنا في خير أمة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

وهذه الخيرية إنما حصلت للأمة بالإيمان بالله ورسوله وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، فمن حقق هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن ضيع هذه الصفات فاتته الخيرية.

والإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية لأهميتهما وعظم شأنهما، ولأنهما قوام الدين، فالدين كله أمر ونهي، فأنت تأمر نفسك بالخير وتنهاها عن الشر، وتأمر غيرك بالخير وتنهاه عن الشر، فتأتمر بالأوامر، وتنهى نفسك عن النواهي، وتأمر غيرك بالأوامر وتنهاه عن النواهي، ولهذا قدم الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية، وإن كان الإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط)، وهذا دعاء المؤلف رحمه الله لطالب العلم، فهو يعلمك وينصحك ويدعو لك، فقد سأل لنفسه ولإخوانه وللطلبة، قال: (نسأله التوفيق لما يحب ويرضى)، يعني: نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والذي يحبه ويرضاه هو ما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو يحب سبحانه وتعالى من عباده أن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويمتثلوا الأوامر ويجتنبوا النواهي.

التوفيق: يعني الإعانة الإلهية، وهو إعانة يخص الله بها المؤمن، والتوفيق من الله والإعانة من الله، فالإعانة نعمة جليلة خص الله بها المؤمن دون غيره، وحبب إليه الإيمان وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، كما قال سبحانه وتعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، فالمؤمن له نعمة جلية فقد أنعم عليه نعمة جلية وخصه بها دون الكافر، فلولا الإعانة من الله لما اهتدى المهتدون، ولهذا سأل المؤلف رحمه الله الإعانة والتوفيق من الله.

قال: (ونسأله سبحانه التوفيق لما يحب ويرضى) أي: من الأقوال والأعمال، فيفعل المسلم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ويترك ما يسخطه من الأقوال والأعمال، ولهذا قال: (والحفظ مما يكره ويسخط) يعني: نسأل الله أن يحفظنا مما يكره ويسخط وهي النواهي، وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم العدوان على الناس في الدماء والأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فهذا دعاء عظيم جعله المؤلف رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة بعد حمد الله والثناء عليه.

ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في تفاصيل مسائل السنة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ اعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر ].

يقول المؤلف رحمه الله: (اعلموا) يعني: أيها المخاطبون ومن يقرأ هذا الكتاب من طلبة العلم اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هو الإسلام؛ لأن السنة هي التي جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي وحي ثانٍ، كما قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

إذاً: السنة هي الإسلام، والإسلام: هو الاستسلام لله تعالى والخضوع والذل والانقياد وفعل الأوامر والنواهي، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن وبالسنة، فالإسلام هو السنة؛ لأن السنة توضح القرآن وتفسره وتبين المشكل وتقيد المطلق وتخصص العام، فهي مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه أبداً، فالإسلام هو السنة؛ لأن من ألغى السنة فقد ألغى الإسلام وبطل إسلامه، فمثلاً: لو أراد إنسان أن يفصل السنة عن الإسلام فكيف سيصلي؟ لا يستطيع أن يصلي، فهل في القرآن تحديد للأوقات؟ وذكر عدد الركعات؟ وكيف يزكي وكيف يصوم، وكيف يحج، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يتعامل مع الناس..؟ فالقرآن مجمل، والسنة هي التي فصلت ووضحت وقيدت.

فالإسلام هو السنة يعني: مع القرآن؛ لأنها مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن وجاء بالسنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، ولهذا قال: (اعلموا) والعلم: هو حكم الذهن الجازم، فيقال له علم ويقال له يقين، بخلاف الشك والتردد فلا يسمى علماً، ولا يقيناً؛ لأن الذهن يتردد في صحته.

ولهذا قال: (اعلموا) يعني: تيقنوا أيها المسلمون! ويا طلاب العلم! أن الإسلام هو السنة، وتيقنوا أن السنة هي الإسلام وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، وأن من ألغى السنة فلا إسلام له، ومن ألغى الإسلام فلا سنة له، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، فلا يقوم أحدهما إلا بالآخر، لا إسلام لمن ترك السنة ولا سنة لمن ترك الإسلام.

وبهذا يتبين أن من زعم أنه لا يحتاج إلى السنة فهو كافر، وهناك طائفة يسمون أنفسهم القرآنيين، ويزعمون أنهم يعملون بالقرآن ولا يعملون بالسنة، وهذا كفر وضلال، فقد جاء في الحديث ما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته -أو متكئاً على أريكته- يأتيه الحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه، وما وجدنا في كتاب الله من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وبهذا يتبين ارتباط الإسلام بالسنة وارتباط القرآن بالسنة وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، فمن زعم أنه يعمل بالقرآن ولا يحتاج إلى السنة فهو كافر.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب السنة للبربهاري [4] 2919 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [11] 2645 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [2] 2212 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [9] 2191 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [12] 2027 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [14] 1935 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [8] 1905 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [6] 1764 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [13] 1756 استماع
شرح كتاب السنة للبربهاري [3] 1647 استماع