خطب ومحاضرات
من آفات القراء
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الدعاة والمعلمين والمرشدين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فموضوع هذه المحاضرة كما قرأتم وسمعتم هو (من آفات القراء) وهذا العنوان ليس جديداً لا لفظاً ولا معنى فأما في اللفظ فإنني قد استعرته من الإمام المحدث اللغوي أبي سليمان الخطابي رحمه الله، وذلك في كتابه العزلة حيث عقد فيه فصلاً بعنوان (آفات القراء) وقد أعجبني هذا العنوان فاقتبسته منه.
وأما من حيث الموضوع فهو -أيضاً- موضوع مطروق، أعني به الحديث عن آفات طلاب العلم -وليس القراء إلا طلاب العلم- فقد كتب وتكلم في هذا الموضوع عدد غير قليل من الأئمة منهم: الخطابي -كما أسلفت- والإمام ابن قتيبة، والإمام العسكري في غير واحد من كتبه.
وكذلك: الإمام الذهبي في رسالة له عنوانها "بيان زغل العلم" إضافة إلى كتابات ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم.
وهؤلاء العلماء الذين تكلموا عن هذا الموضوع قد أشبعوه بحثاً، في حين أنني لا أستطيع في هذه العجالة إلا أن أشير إلى جوانب سريعة من هذا الموضوع الواسع المهم.
أسباب الحديث عن الموضوع
السبب الأول: أن هؤلاء القراء هم كالثوب الأبيض النقي ما إن يقع عليه شيء من الدنس حتى يبين فيه، فيحتاج إلى غسل وتنظيف، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أنه كان يدعو بين التكبير والقراءة بقوله: {اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} أما غيرهم من الناس فهم كالثوب الأسود، وقد تقع فيه الأوساخ ويقع فيه الدنس؛ فلا يبين فيه.
السبب الثاني: أن القراء هم -كما سماهم ابن المبارك وغيره- ملح البلد؛ لأن الناس إذا فسدوا ينتظر أن يصلحهم طلاب العلم والموجهون والقراء، فإذا فسد هؤلاء فغيرهم من باب أولى.
كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول:
يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد |
وقد نقل هذا المعنى عن عيسى ابن مريم عليه السلام كما في كتاب الزهد لـابن المبارك.
السبب الثالث: أن مثالب القراء وعيوبهم وآفاتهم أحياناً تتزيا في زي محاسن، ويتدسس بها الشيطان إلى نفس القارئ أو الطالب على أنها حسنة وفضيلة يقتبسها ويتقمصها، فهي أحوج ما تكون إلى البيان والكشف والتعرية؛ حتى يحذرها القارئ وطالب العلم.
أما عن الآفات التي سأتحدث عنها، فسأتحدث باختصار حتى لا أطيل عليكم عن عدد من هذه الآفات.
وقد يسأل بعض الإخوة عن السبب في اختيار هذا الموضوع، ومن المعلوم أن آفات الناس كثيرة؛ فلماذا نختار القراء منهم للحديث عن آفاتهم؟! فأقول: إنما اخترت الحديث عن آفات القراء بالذات؛ لأسباب منها:
السبب الأول: أن هؤلاء القراء هم كالثوب الأبيض النقي ما إن يقع عليه شيء من الدنس حتى يبين فيه، فيحتاج إلى غسل وتنظيف، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أنه كان يدعو بين التكبير والقراءة بقوله: {اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} أما غيرهم من الناس فهم كالثوب الأسود، وقد تقع فيه الأوساخ ويقع فيه الدنس؛ فلا يبين فيه.
السبب الثاني: أن القراء هم -كما سماهم ابن المبارك وغيره- ملح البلد؛ لأن الناس إذا فسدوا ينتظر أن يصلحهم طلاب العلم والموجهون والقراء، فإذا فسد هؤلاء فغيرهم من باب أولى.
كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول:
يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد |
وقد نقل هذا المعنى عن عيسى ابن مريم عليه السلام كما في كتاب الزهد لـابن المبارك.
السبب الثالث: أن مثالب القراء وعيوبهم وآفاتهم أحياناً تتزيا في زي محاسن، ويتدسس بها الشيطان إلى نفس القارئ أو الطالب على أنها حسنة وفضيلة يقتبسها ويتقمصها، فهي أحوج ما تكون إلى البيان والكشف والتعرية؛ حتى يحذرها القارئ وطالب العلم.
أما عن الآفات التي سأتحدث عنها، فسأتحدث باختصار حتى لا أطيل عليكم عن عدد من هذه الآفات.
أولها: الكبر: وهي أهم آفة وأسؤها يمكن أن يبتلى بها الإنسان؛ حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح كما في الصحيحين وغيرهما: {أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر}.
وسئل -كما في صحيح مسلم- فقيل له: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} ونحن لو نظرنا في سيرة إمام الأئمة، وعالم العلماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوجدنا أنه كان يتحلى ويتجمل بالتواضع؛ حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يضاحك الصبيان ويباسطهم ويمازحهم، ويجلس مع أصحابه على الأرض، ويركب كما يركبون، ويمشى على قدميه كما يمشون، ويخصف نعله، ويرفع ثوبه ويفلي رأسه إذا أصابه القمل أو غيره، ويباشر شئونه بنفسه.
وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها سَئَلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يكون في بيته، فقالت: {كان يكون في مهنة أهله، أي: في شغلهم، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة}. وفى الشمائل للترمذي وغيره وفى الصحيحين عن أنس {أن امرأة قالت: يا رسول الله لي إليك حاجة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: كوني في أي طرق المدينة شئت -أو نحو ذلك- فكانت المرأة تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثه في بعض شئونها}. والنبي صلى الله عليه وسلم -في ذلك- بعيد عن التكبر أو التجبر، وقال عليه الصلاة السلام: {
ازدراء الناس وتتبع أخطائهم
وفى رواية: { غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم.. فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا.
فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله.
فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه.
إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم.
وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق.
مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!!
وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!!
فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم.
فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه.
فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره.
فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع.
الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب
ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـعبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك..إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه.
فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه.. وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم.
إعجاب المرء بنفسه وتعامله بغير علم
وما أجمل الكلمة التي قالها الإمام ابن القيم رحمه الله -في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد -حيث قال وهو يتحدث عن الحذر من الألفاظ المكروهة والممنوعة، ختم حديثه بقوله: وليحذر كل الحذر من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون، وقارون، فأما إبليس فقال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
وأما فرعون فكان يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] وأما قارون فكان يقول: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] قال رحمه الله: وأفضل ما وضعت فيه هذه الألفاظ في نحو قولك: لي الذنب، ولي الجرم، ولي الإثم، ولي الذل.
وأفضل ما وضعت فيه (أنا) نحو قولك: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحو ذلك.
وأفضل ما وضعت فيه (عندي) اللهم اغفر لي خطئي وهزلي وعمدي وجدي وكل ذلك عندي، وهذه الكلمة مقتبسة من الحديث المتفق عليه عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن الألفاظ التي يجدها القارئ اليوم في بعض الكتب التي انتشرت في هذا الوقت: أن كثيراً من الطلاب قد يكون بإمكانه أن يحقق كتاباً، أو يؤلف بحثاً في موضوع ما، وهذا الأمر أصبح ميسوراً لتوفر الكتب والدراسات، فإذا عرف الإنسان طريق البحث والتخريج واستطاع أن يجمع عدداً من المخطوطات -مثلاً- ويحققها، ويخرجها للناس، ويعلق عليها بتعليقات مفيدة، لكن الشيء المنتقد ليس هذا! لكن أن تتسرب إلى بعض هذه المؤلفات عبارات -إن كانت لائقة بالعلماء فليست لائقة بالقراء- مثلاً كما يقول بعضهم بعد أن ينقل أقوال العلماء: (قلت) وكأنه الإمام أحمد أو أبو حاتم الرازي أو أبو زرعة الرازي أو الدارقطني وغيره.
بل إن منهم من ينقل أقوال هؤلاء العلماء ويعقب عليها بقوله: (قلت: أخطأ فلان وأخطأ فلان) وقد يسوق لك أقوال عدد من العلماء أذكر منهم في أمثلة واقعية، -مثلاً- إماماً كـالدارقطني إمام من أئمة الدنيا في معرفة الحديث وعلله وأسانيده، فتجد الواحد ينقل كلام الدارقطني فيقول: الدارقطني بشر، يخطئ، ويصيب، فيخطئه.
وبعضهم يعبر ويقول: أخطأ الدارقطني، ونحن لا نقول إن الدارقطني لا يخطئ فهو بشر، لكن! هذا ليس أسلوباً وإن فرض -فعلاً- أن الدارقطني خالف غيره من العلماء في مسألة يرد عليه بكلام أهل العلم، ويقال: الدارقطني إمام ولكن خالفه من هو أعظم منه وأعلم منه وهو فلان.
وتجد بعضهم يستعملون ألفاظاً فخمة: قرأت في أحد الكتب -مثلاً- أن محقق هذا الكتاب يمدح عالماً من علمائنا في هذا العصر ويثني عليه، حتى يقول: ولو حلفت بين الركن والمقام أنه لم تر عيني مثله ولم ير هو مثل نفسه لرجوت ألا أحنث!! معقول أن يقول الذهبي مثل هذه الكلمة في ابن تيمية لكن من غير المناسب في نظري أن يقولها طالب علم، وإن كان لـه مكانة في العلم، وعنده شيء من التمكن؛ لأنه كم رأت عينك من العلماء الفطاحل الذي تقول: ما رأت عيني مثل فلان منهم ولا رأى هو مثل نفسه، أو يقول -مثلاً- وما أسفت على شيء أسفي على أنني فاتني لقيا فلان وفلان من العلماء، حيث ماتوا قبل أن يلقاهم، وكأنه قد لقي الشيوخ وجمع الأسانيد والتقى بأعداد كثيرة من العلماء.
وهذه الأساليب قد تنم عن نوع من التعالم كما سماه الشيخ الدكتور الباحث بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه المفيدالتعالم وأثره على الفكر والكتاب، فمثل هذه العبارات تنم عن نوع من تعجل التصدر والتمشيخ، وشعور الإنسان بأنه أصبح شيئاً يرى، وكلما استطاع طالب العلم أن يتحرر من هذه الألفاظ كان أجدر.
وهذه الأمثلة التي ذكرت لست أعني بالضرورة من استعملوها؛ لأن الإنسان قد يلاحظ أن بعض هذه العبارات تتسلل دون علم الإنسان؛ لأنك إذا قرأتها في كتاب وربما يكون من أشرت إليهم جاءت على لسانهم عفواً دون أن يقصدوا.
ولذلك أحببت التنبيه إليها، حتى يتجنبها الطالب وينتبه إليها.
انتظار الإجلال والأجر من الناس
ولذلك يقول الشاعر في ذكر نعم الله، وإن كل ما عند الإنسان فهو نعمة:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر |
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر |
فإذا كنت تعتقد أن ما بك من نعمة كنعمة العلم -مثلاً- إنها نعمة من الله تعالى، فحينئذٍ أنت تعلم أن هذه النعمة يجب شكرها بنشرها والدعوة إليها وتعليمها، ولا يأخذك في ذلك عجب ولا اغترار، وهذا الشكر لنعمة العلم يتطلب منك شكراً آخر، وهكذا حتى يظل الإنسان في شكر متجدد لنعم الله عز وجل المتجددة.
كثير من المتعلمين قد يصابون بشيء من الكبر: وهو سبب لكل داء، فمن الأدواء التي تترتب على الكبر ازدراء الناس واحتقارهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -في تفسير الكبر أنه-: { بطر الحق وغمط الناس}.
وفى رواية: { غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم.. فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا.
فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله.
فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه.
إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم.
وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق.
مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!!
وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!!
فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم.
فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه.
فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره.
فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع.
الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب
ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـعبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك..إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه.
فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه.. وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |