خطب ومحاضرات
الرحمن فاسأل به خبيراً
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سورة الفرقان سورة مكية، وللقرآن المكي سمة ظاهرة، وهي: أنه يخاطب القلب، روى البخاري في صحيحه من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (دخلت المدينة في فداء أسارى بدر -وكان قال جبير : حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37]، قال: كاد قلبي أن يطير
السمة الظاهرة للقرآن المكي أنه يخاطب القلب، يعرف الناس بالله عز وجل، وأنه المنعم والمتفضل، فهو أهل أن يعبد دون غيره.
كما قال تبارك وتعالى في سورة النمل، وهي سورة مكية أيضاً: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:59-64]الذي فعل كل ذلك أولى أن يعبد ولا يعبد سواه.
دخل هشام بن عبد الملك المسجد النبوي فوجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما جالساً في المسجد.
فقال له: (ألك حاجة؟
وهشام أمير المؤمنين، وهو الذي يقول لـسالم بن عبد الله بن عمر في المسجد النبوي: ألك حاجة؟) فقال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب : إني أستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته، فلما خرج من المسجد تبعه هشام ، وقال له: الآن خرجت من المسجد ألك حاجة؟
قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟! واعتز بالله عز وجل؛ فالذي يملك الدنيا والآخرة أولى أن يعبد.
في أواخر سورة الفرقان هذا النمط من تذكير العباد بالنعم، ثم ذكر ما يفعله العباد في مقابل هذه النعم: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:43-44].
هناك نمط من البشر الكلب أفضل منه؛ فهو لا يستحق الحياة، وهذه شهادة الله عز وجل عليهم، وإذا جرح الله عز وجل عبداً فلن تجد له معدلاً أبداً :وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].
إذا جرح الله عبداً وسخط عليه لا يرفعه أحد: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] أي: جعل هواه إلهاً، كلما أعجبه شيء فعله، لا يصدر إلا عن هوى نفسه، هذا هو الذي جعل إلهه هواه.
إن الله عز وجل علمنا وأدبنا فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى تؤمروا، هذا هو معنى قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله).
من فعل ما لم يؤمر به فقد تقدم بفعله بين يدي الله ورسوله، ومن امتثل أمراً غير أمر الله عز وجل، فقد تقدم بين يدي الله ورسوله.
والذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله من المسلمين هم اليوم بالألوف المؤلفة يسمعون القول ولا يمتثلونه.
ربا البنوك أجمع العلماء على أنه حرام، وهكذا اتفقت كلمة المجامع العلمية على أنه حرام، وشذ رجل اتهموه بالجهل في أصول الشريعة، وقالوا: إنه لا يفقه شيئاً في الأصول! وكتبهم موجودة. فقال: ربا البنوك حلال، فماذا كان رد فعل العامة تجاه هذه الفتوى؟
مذهب العامة أنه إذا قام رجل فقال قولاً يخالف المعهود عندهم يقولون له: أأنت أهدى أم كل هؤلاء؟ ويستدلون على الحق بالكثرة، وهذا ليس بدليل صحيح، فإن الله عز وجل وصم الكثرة بالضلال، قال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75].
والحق مع القلة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) ، فلا تستدل على الحق بالكثرة، فإن الكثرة لم تكن مظهراً من مظاهر الحق أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
فيقولون للرجل المتفرد -ولو كان معه الحق-: أأنت على حق وكل هؤلاء على باطل؟!
وأنا أدين هذا العامي بمذهبه في هذه المسألة، وأقول له: أكل المجامع العلمية على ضلال وهذا وحده على حق؟! أين مذهبك؟! مذهبك أن الحق مع الكثرة، فلماذا خالفت الكثرة هنا، واتبعت رأي الفرد الشاذ؟!
إنه الهوى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] فلأن البنك يأتي له بفائدة ومكسب اتبع قول من يبيحه له. فكلما هوي شيئاً اتخذه إلهاً، وعبده من دون الله عز وجل، قال الله عز وجل:أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].
لقد اتهموا الحمار بالغباء، والحمار ذكي! لو أن الحمار مشى في طريق مرتين ألفه ولم يضل، فهذا الحمار المجني عليه أذكى من كثير من بني آدم، فإن ثلثي الكرة الأرضية يكفرون بالله العظيم. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].
ثم شرع الله عز وجل يعدد نعمه على العباد، ويعدد ما فعله لهم، ثم ذكر النتيجة المحزنة بعد إنهاء تعداد النعم: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:45-54].
تأمل! (وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي) أربع مرات، ضمير الرفع المنفصل هو يأتي لتأكيد التفرد، أي: هو الذي فعل لا غيره، لم يشاركه أحد في كل هذه النعم، فهو الذي فعل كذا وكذا وكذا وكذا، ما هي النتيجة؟ قال عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] فهذا هو رد الجميل، وهذه هي النتيجة؟ بعد تعداد كل تلك النعم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم..!
فهذا خطاب للقلب، وأي رجل عنده قلب يسمع هذا البيان، فإنه يرجع إلى الله عز وجل، ويخلع الأنداد من دون الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تفرد بالعبادة، وهذه من طريقة القرآن الرائعة في إقامة الحجة على الناس.
أقام الحجة على أنه الإله المتفرد بالعبادة، بالنعم التي أنعم بها على العباد، فالذي أوجد، والذي خلق، والذي رزق أولى أن يعبد من دون غيره الذي لم يخلق شيئاً.
ثم تأمل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] نوع من الكفران بالله عز وجل سجله الله على العباد في هذه الآية: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان:48-50] ما هو هذا الذي صرفه الله بينهم؟ المطر، الماء، وليس القرآن: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ [الفرقان:50]، أي: صرفنا الماء بينهم؛ لأن الضمير ينبغي أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الماء وليس للقرآن ذكر: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ [الفرقان:48-49] والمراد به الماء (مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الفرقان:50].
من مظاهر كفر العبد لنعم الله
وجه الكفران ورد في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الشيخان أن الله عز وجل قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي مؤمن بالكواكب).
أنزل الله عز وجل الماء، لكنهم يقولون لك: الرياح الشمالية العكسية الغربية هي التي دفعت الماء، ثم أبرق السحاب وأرعد ونزل الماء.
من الذي فعل كل ذلك؟ لا يذكرونه في كلامهم، لا يذكرونه في حديثهم، لا يقولون: أرسل الله الرياح وأرسل المطر وأرسل البرق، لا يقولون ذلك، إنما مطرنا بالرياح الشمالية الغربية العكسية، لا يذكرون الله، لماذا لا يذكرون الله وهو الذي فعل كل ذلك؟
! (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب) ، سنة من السنوات كتب عنوان في الجريدة الرسمية: "بحيرة ناصر أنقذتنا من الجفاف" عنوان! " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30] لو أن الله استرد هذا الماء، من الذي يرد الماء إليكم؟! لماذا لا تنسبون الفضل إليه تبارك وتعالى؟!
هذا مظهر من مظاهر الجحود والكفران: أن تنسب الخير إلى غيره وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ [الفرقان:50]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام) ، كمية الماء التي قدرها الله عز وجل وتكفي العباد مقدرة، وتنزل كل سنة.
لكن أين يذهب الماء عندما يصاب العباد بجفاف؟!
قال صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام، ولكن إذا عمل العباد بالمعاصي صرفه الله في البحر)، فكمية المطر هي هي، لكن لا تنزل عليهم، إنما تمطر على البحار، والعباد في أمس الحاجة إلى قطرة ماء: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130].
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43].. لولا إذ رأوا بأسنا استكانوا ورجعوا وأخبتوا واعترفوا بذنبهم! فإن الله عز وجل يحب العبد المعترف بذنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي فليفعل عبدي ما شاء) .
فليفعل ما شاء ليس معناها: أن يرتكب المعاصي كما يشاء، لكن معناها: إذا عصيت الله فمتى رجعت تلقاك، لكن بشرط أن تلقاه لا تشرك به شيئاً، هذا هو الشرط الوحيد.
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) .
لذلك أخطر سيئة هي الشرك، فهي سيئة تأكل كل الحسنات، ولا تبقي منها حسنة، رغم أن الله عز وجل قال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] لكن هناك سيئة واحدة لا تبقي حسنة وهي الشرك، الذي لا يقبل الله عز وجل من صاحبه صرفاً ولا عدلاً.
فيرسل الماء الذي به قوام حياة كل حي على وجه الأرض، ومع ذلك لا ينسبون هذا الخير إليه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان:50-52]، جاهدهم به: أي بالقرآن.
ما هو وجه الكفران الذي عناه الله عز وجل؟
وجه الكفران ورد في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الشيخان أن الله عز وجل قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي مؤمن بالكواكب).
أنزل الله عز وجل الماء، لكنهم يقولون لك: الرياح الشمالية العكسية الغربية هي التي دفعت الماء، ثم أبرق السحاب وأرعد ونزل الماء.
من الذي فعل كل ذلك؟ لا يذكرونه في كلامهم، لا يذكرونه في حديثهم، لا يقولون: أرسل الله الرياح وأرسل المطر وأرسل البرق، لا يقولون ذلك، إنما مطرنا بالرياح الشمالية الغربية العكسية، لا يذكرون الله، لماذا لا يذكرون الله وهو الذي فعل كل ذلك؟
! (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب) ، سنة من السنوات كتب عنوان في الجريدة الرسمية: "بحيرة ناصر أنقذتنا من الجفاف" عنوان! " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30] لو أن الله استرد هذا الماء، من الذي يرد الماء إليكم؟! لماذا لا تنسبون الفضل إليه تبارك وتعالى؟!
هذا مظهر من مظاهر الجحود والكفران: أن تنسب الخير إلى غيره وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ [الفرقان:50]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام) ، كمية الماء التي قدرها الله عز وجل وتكفي العباد مقدرة، وتنزل كل سنة.
لكن أين يذهب الماء عندما يصاب العباد بجفاف؟!
قال صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام، ولكن إذا عمل العباد بالمعاصي صرفه الله في البحر)، فكمية المطر هي هي، لكن لا تنزل عليهم، إنما تمطر على البحار، والعباد في أمس الحاجة إلى قطرة ماء: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130].
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43].. لولا إذ رأوا بأسنا استكانوا ورجعوا وأخبتوا واعترفوا بذنبهم! فإن الله عز وجل يحب العبد المعترف بذنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي فليفعل عبدي ما شاء) .
فليفعل ما شاء ليس معناها: أن يرتكب المعاصي كما يشاء، لكن معناها: إذا عصيت الله فمتى رجعت تلقاك، لكن بشرط أن تلقاه لا تشرك به شيئاً، هذا هو الشرط الوحيد.
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) .
لذلك أخطر سيئة هي الشرك، فهي سيئة تأكل كل الحسنات، ولا تبقي منها حسنة، رغم أن الله عز وجل قال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] لكن هناك سيئة واحدة لا تبقي حسنة وهي الشرك، الذي لا يقبل الله عز وجل من صاحبه صرفاً ولا عدلاً.
فيرسل الماء الذي به قوام حياة كل حي على وجه الأرض، ومع ذلك لا ينسبون هذا الخير إليه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان:50-52]، جاهدهم به: أي بالقرآن.
القرآن فيه مناظرات مع أهل الشرك والكفر، والقرآن فيه الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل، القرآن يعلمك كيف تقيم الحجة على المعاند، فقال الله عز وجل:فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].
(لا تطع الكافرين) فهي لفتة عظيمة أن الكافرين لا يتركون لك القرآن، والمنافقين أيضاً لا يتركون لك القرآن، بل يثيرون على آياته الشبهات، واستخدمت كلمة "الجهاد" هنا من الجهد، وتعني: جهاد الدعوة.
لماذا صار جهاداً وجهداً؟
لأن هناك كفرة ومنافقين لا يتركون لك أدلة القرآن، يثيرون عليها الشبهات، فأنت مطالب أن تتحرك في أكثر من محور، تذود عن القرآن شبه الكافرين والمنافقين، والمحور الآخر: تقدم هدايات القرآن لمن يريد من المؤمنين؛ فأنت تعمل مرتين.
المشركون حاجوا المسلمين فلم يستطع المسلمون أن يردوا عليهم حتى أنزل الله عز وجل الرد، قال الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ [المائدة:3]، كل هذا حرام.
المنخنقة: التي تموت خنقاً.
والموقوذة: التي تضرب بآلة حادة على رأسها.
والمتردية: التي تسقط من قمة جبل أو من مكان عالٍ.
والنطيحة: التي نطحتها أختها فماتت.
حسناً.. ما هو الحلال بالنسبة لنا؟
الحلال: أن نذبح، فقال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟!
فهم يقولون للمسلمين: ماذبحتموه أنتم فقتلتموه تجعلونه حلالاً وتأكلونه، أما التي ماتت -وهي التي قتلها الله فإنكم تحرمونها ولا تأكلونها؟!
فإن المتردية والنطيحة والموقوذة كل ذلك الله عز وجل هو الذي قتله؟!
فعجز المسلمون عن الرد، فأنزل الله عز وجل الرد على هؤلاء المشركين: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] هذه شبهة شيطانية يثيرها بين الحين والحين واحد من الكفرة أو المنافقين.
إقامة الحجة على من يحرف القرآن من أصحاب التفسير الإشاري
واحد من الذين يقولون: هناك تفسير إشاري للقرآن الكريم.
التفسير الإشاري هو تفسير ليس على ظاهر الكلام، وهم يسمونه (روح النص) فيفسر أحدهم آيات القرآن الكريم تفسيراً لا علاقة له بالكلام: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] أي واحد يسمع الآية هذه وهذه أعظم آيات القرآن آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] ما معنى الآية هذه؟
أي: من الذي يشفع عند الله إلا بعد إذن الله له بالشفاعة؟! والجواب: لا أحد: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ [مريم:87] أبداً، إذا أذن الله له شفع، هذا معنى الآية.
يأتي هذا الرجل ويفسرها كالآتي:
يقول: (من ذل ذي يشفَ عِ) كلام جديد! (من ذل) من الذل، و(ذي) اسم إشارة إلى النفس، ذي وهذا وهذه وهذي... أسماء إشارة، فـ(ذي) اختصار اسم الإشارة هذي، وحذف الهاء، فكلمة (ذي) إشارة إلى النفس.
يعني: (من ذل نفسه يشف) من الشفاء.
(عِ): فعل أمر من وعى، أي: احفظ هذا الكلام، وهذا المعنى.
أي كلمة في الآية تدل عليه؟! أين لفظة (الذل) في الآية؟! لقد أدخل بعض الكلام على بعضه وعجنه، وخرج بعبارة جديدة..!
فهذا أشر من اليهود الذين كانوا يحرفون المعاني، أما هذا فيحرف لفظ القرآن ويسمي هذا التحريف تفسيراً.
فعلى المجاهد الداعية إلى الله عز وجل أن يرد على هؤلاء، وهم بالألوف المؤلفة..!
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ
فلا جرم أن الله عز وجل ذكر الجهاد بالدعوة في القرآن: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ [الفرقان:52] ولا يستميلوا قلبك، ولا يخطفوا قلبك بالشبه وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].
بعض الناس يحرف آيات القرآن الكريم بدعوى التفسير، وكل هذا يحتاج إلى جهد الدعاة؛ ليدفعوا عن القرآن، وبعد أن يدفعوا عن القرآن عليهم أن يعلموا المؤمنين؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَجَاهِدْهُمْ [الفرقان:52] جهاد قتال، تعمل على محورين.
واحد من الذين يقولون: هناك تفسير إشاري للقرآن الكريم.
التفسير الإشاري هو تفسير ليس على ظاهر الكلام، وهم يسمونه (روح النص) فيفسر أحدهم آيات القرآن الكريم تفسيراً لا علاقة له بالكلام: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] أي واحد يسمع الآية هذه وهذه أعظم آيات القرآن آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] ما معنى الآية هذه؟
أي: من الذي يشفع عند الله إلا بعد إذن الله له بالشفاعة؟! والجواب: لا أحد: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ [مريم:87] أبداً، إذا أذن الله له شفع، هذا معنى الآية.
يأتي هذا الرجل ويفسرها كالآتي:
يقول: (من ذل ذي يشفَ عِ) كلام جديد! (من ذل) من الذل، و(ذي) اسم إشارة إلى النفس، ذي وهذا وهذه وهذي... أسماء إشارة، فـ(ذي) اختصار اسم الإشارة هذي، وحذف الهاء، فكلمة (ذي) إشارة إلى النفس.
يعني: (من ذل نفسه يشف) من الشفاء.
(عِ): فعل أمر من وعى، أي: احفظ هذا الكلام، وهذا المعنى.
أي كلمة في الآية تدل عليه؟! أين لفظة (الذل) في الآية؟! لقد أدخل بعض الكلام على بعضه وعجنه، وخرج بعبارة جديدة..!
فهذا أشر من اليهود الذين كانوا يحرفون المعاني، أما هذا فيحرف لفظ القرآن ويسمي هذا التحريف تفسيراً.
فعلى المجاهد الداعية إلى الله عز وجل أن يرد على هؤلاء، وهم بالألوف المؤلفة..!
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ
فلا جرم أن الله عز وجل ذكر الجهاد بالدعوة في القرآن: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ [الفرقان:52] ولا يستميلوا قلبك، ولا يخطفوا قلبك بالشبه وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].
ثم قال الله عز وجل بعد تعداد هذه النعم: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان:55] يعبدون ما لا ينفعهم: كلام سائب، رجل يعبد ما لا ينفعه! مجنون طبعاً، لكن رجل يعبد ما لا يضره، ومن الذي يرجو الضرر؟ يعبدون ما لا ينفعهم مجانين، (يعبدون ما لا يضرهم) من الذي يرجو من يضره؟!
فما معنى (ولا يضرهم)؟ إن كل إنسان فيه داعية الألوهية، كل واحد فينا على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كل واحد عنده هذا الاستعداد، واعتبر بحال فرعون (قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر).
لعل كثيراً منكم سمعوا خطاب ذلك المتكلم في ذلك الزمان لما قال: أنا لن أرحم، لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعباد!
كيف ساغ له؟ وهو كان يعترف في أحاديثه المكتوبة والمسموعة أنه كان يشتغل في مطلع حياته حمالاً في المحطات، يرفع الشوال على ظهره، كيف آل به نهاية الأمر أن يقول: لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعباد؟!
والذي لا يبدل القول لديه هو الله عز وجل، العليم بما تئول إليه عواقب الأمور، لكن أمثالنا يغير ويبدل لجهله بالعواقب.
عمل خطة معينة اكتشف أن هذه الخطة ضعيفة، لماذا؟ لأن لها سلبيات فيما بعد، فغير، لكن الله عز وجل العليم، الذي لا تخفى عليه خافية لا يغير، إذا قال قولاً ثبته ولا يغيره؛ لأن علمه بلا حدود.
فكيف ساغ لهذا الرجل أن يقول ذلك وهو الذي قال: أنا كنت أشتغل حمالاً؟!
اعتبر بهذا في العصر الحديث، وكل رجل منا عنده داعية الألوهية، فلابد لهذا الإنسان من رجل يوقف طغيانه، ويوقف زحفه، ويضره بأن يمرضه، يظل رهين الفراش، لأنه لو ترك حياً طليقاً لكفر.
إذاً إلحاق الضرر به نعمة، هو ضرر من وجه نظره، لكن إذا نظرت إلى عواقب الأمور ومآلها فهي النعمة بذاتها.
فأنا أحتاج إلى من ينفعني ويلحق بي الضرر لنفعي أيضاً، ولأن هناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هناك أناس لا يرجعون إلى الله إلا بعد أن تقرعهم المصائب، الجماد أفضل منهم، قال الله عز وجل للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] فلماذا لا يعود هؤلاء إلى الله إلا كرهاً؟ لماذا لا يعودون طوعاً؟ والله عز وجل حقيق بأن يعبد، جدير بألا يعبد غيره تبارك وتعالى.
ولذلك عاب الله عليهم أنهم يعبدون مالا ينفعهم، ومالا يوقف طغيانهم لنفعهم أيضاً.
ثم قال أيضاً: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] إذا رأى عدواً لله انضم إليه على الله، يظاهر كل عدو لله على الله وعلى أولياء الله عز وجل: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] أعاذنا الله وإياكم من الكفران به.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] هذه الآية فيها لطائف لو قلت: (وتوكل على الحي وسبح بحمده) لا يتم المعنى الجميل إلا إذا ذكرت (الذي لا يموت)، مع أن الذي لا يموت هو الحي، الحي الذي لا يموت.
فلماذا أكدت الحياة بنفي الضد؟
أكدت الحياة بنفي الضد لأكثر من معنى:
المعنى الأول: تأكيد المثبت وهو الحياة؛ حتى لا يظن أحد أن حياته يلحقها نقص فهي حياة تامة، الحي الذي لا يموت جاء تأكيد المثبت بنفي الضد، كما لو قلت: (رأيت بعيني) مع أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، وتقول: سمعت بأذني. والسمع والسماع لا يكون إلا بالأذن، وكما قال الله عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51] مع أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة: لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51] كل هذا جاء تأكيداً.
لو أن رجلاً سخياً كريماً -وليكن هذا الرجل أباك- كلما اشتهيت شيئاً أعطاك وأمدك، لا يخطر ببالك شيء مهما كان ثمنه غالياً إلا أعطاك وزيادة، فإن أعظم مصيبة تصيبك أليست هي موت هذا الرجل؟! لأنه إذا مات هذا الرجل فستحتاج، لن تجد أحداً في كرمه، لن تجد أحداً يسد فاقتك ولا فقرك؛ فموت هذا الرجل هي أعظم كارثة تصيب هذا الإنسان، فجاء قول الله عز وجل (الذي لا يموت) لطمأنة قلبك، اطمئن، فإن الذي توكلت عليه لا يموت، بل سيرثك.
فممن تخاف؟! ولماذا تخاف من المستقبل؟!
الجماعة الذين عندهم رعب دائم من المستقبل والغيب والمجهول، لماذا تخافون؟!
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] إن الله هو الحي الذي لا يموت، فلماذا تخاف؟! ولماذا يضطرب قلبك؟!
ولذلك جاء هذا مصدراً بقوله عز وجل: وَتَوَكَّلْ [الفرقان:58].
أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، التوكل يذكر في كل منحى من مناحي الحياة، لكن أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، وأكثر ما يشغل العباد الرزق، قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا [النحل:73] يعيب الله عليهم ذلك.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، خماصاً: جائعة، ليس في حوصلتها حبة واحدة، هذا الطائر لا يدري من أين يلتقط الحب، لكنه يمر ويرى الحبة من فوق وينزل، ولذلك قال الهدهد: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ [النمل:25]، الخبء: هذا الذي يعاينه الهدهد مخبوء في الأرض، يخرج الخبء، فهذا الطائر يغدو في الصباح لا له دكان، ولا له حرفة ولا وظيفة، فيرزقه الله عز وجل.
(بطاناً) أي: ملأى بالطعام.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) .
وفي مسألة الرزق لأنها أكثر شيء يشغل العباد، قال الله عز وجل:وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] يعني: ليس في الأرض.
فلماذا ذكر أن الرزق في السماء؟
حتى لا تخشى من طغيان طاغية، إذ لو كان في الأرض لانتهبه منك، فقال لك: رزقك ورزقه في السماء، ليس هو في متناول يد واحد منكم وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] ثم أقسم الله عز وجل بذاته العلية: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23]، وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]جاءت المسألة في معرض التوكل، وحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، وهذه مسألة مهمة ضل فيها جِبلٌّ كثير.
التوكل والأخذ بالأسباب
لا ينافي التوكل، ولا ينافي اعتماد القلب على الله، انظر إلى اعتماد قلبه على الله وهو في الغار، حين قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحداً نظر تحت قدمه لرآنا -هنا ظهر التوكل- قال: يا
هذا هو التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله، لكن لا يمنع من أخذ السبب.
كما أنك تأكل لدفع الجوع، وهذا كله من الأسباب التي قدرها الله عز وجل، وأكلك لحفظ حياتك لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل العباد يعدون تارك الأسباب بدعوى التوكل مجنوناً.
فلو قال رجل: أنا لن أتزوج، ولو أراد الله عز وجل أن يرزقني بالولد لرزقني بالولد، يقول الناس: مجنون! إذ كيف يرزق الولد بغير زوجة؟!
لو قال: أنا لا آكل، ولو شاء الله لحفظ حياتي ولم يمتني بدون أكل؛ لعد العباد ذلك نقصاً.
ولو جلس رجل في بيته وانتظر أن ينزل الرزق من السماء؛ لقال الناس: مجنون.
إذاً التوكل ليس معناه نفض اليد من الأسباب، إنما معناه: اعتماد القلب على الله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] لتمام حياته وقيوميته.
ثم ختم الآية ختاماً في غاية العجب والروعة! وَكَفَى بِهِ [الفرقان:58] تأملوا في عجز الآية، إنها آية! وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] لماذا ذكر الذنب؟ هذا الآية تكررت مثيلاتها مرة واحدة في القرآن، في سورة الإسراء: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء:17]، فلماذا ذكر الذنب؟
ذُكر الذنب -والله أعلم- لسببين:
السبب الأول: لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب، يفعل أحدهم الذنب في الخفاء، فإذا كان يجتهد في إخفاء الذنب ويعلمه الله عز وجل؛ فهذا يدل على تمام حياته وقيوميته على عباده، تأكيد للحياة، أثر من آثار حياته تبارك وتعالى وأنه لا يموت أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ [الرعد:33]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] تذكر القيومية مع الحياة، إذاً لما قام على كل نفس بما كسبت ذكر الذنب؛ لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب بخلاف الطاعة، فإن العبد يظهرها أمام الناس، ويتبجح بها.
المعنى الثاني: (كفى به) كلمة (كفى) أول ما تسمعها تتذكر معنى الكثرة والإحاطة: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الإسراء:96] فيها معنى الإحاطة والكثرة.
وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] فالآية لها تعلق بالرزق، فالله يرزقك وقد ضمن للعباد أن لا يجيعهم.
فما هي النتيجة؟
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] يدل على أن ذنوب العباد فاقت كل تصور مع إنعامه وتفضله، وأنه رغم ذنوبهم يقول: إلي! إلي! تعالوا..! رغم ذنوبهم لا يتبرأ منهم، وهو أرحم بهم من الأم بولدها: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] مع كثرة ذنوبهم يقول لهم: توكلوا علي؛ لأنهم لا يجدون له عدلاً ولا نظيراً.
حقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، أي: أنه ليس معنى التوكل التواكل، وترك السبب.. لا، الرسول عليه الصلاة والسلام لما خرج من مكة إلى المدينة ماذا فعل؟ ألم يختبئ في الغار؟! لماذا اختبأ؟ كان يمكن أن يمشي، ويقول: أنا متوكل على الله، ولن يروني، ولن يستطيعوا إيصال الضر إلي، كان هذا ممكناً، ولكن لماذا اختبأ في الغار؟ هل هذا ينافي التوكل؟
لا ينافي التوكل، ولا ينافي اعتماد القلب على الله، انظر إلى اعتماد قلبه على الله وهو في الغار، حين قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحداً نظر تحت قدمه لرآنا -هنا ظهر التوكل- قال: يا
هذا هو التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله، لكن لا يمنع من أخذ السبب.
كما أنك تأكل لدفع الجوع، وهذا كله من الأسباب التي قدرها الله عز وجل، وأكلك لحفظ حياتك لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل العباد يعدون تارك الأسباب بدعوى التوكل مجنوناً.
فلو قال رجل: أنا لن أتزوج، ولو أراد الله عز وجل أن يرزقني بالولد لرزقني بالولد، يقول الناس: مجنون! إذ كيف يرزق الولد بغير زوجة؟!
لو قال: أنا لا آكل، ولو شاء الله لحفظ حياتي ولم يمتني بدون أكل؛ لعد العباد ذلك نقصاً.
ولو جلس رجل في بيته وانتظر أن ينزل الرزق من السماء؛ لقال الناس: مجنون.
إذاً التوكل ليس معناه نفض اليد من الأسباب، إنما معناه: اعتماد القلب على الله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] لتمام حياته وقيوميته.
ثم ختم الآية ختاماً في غاية العجب والروعة! وَكَفَى بِهِ [الفرقان:58] تأملوا في عجز الآية، إنها آية! وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] لماذا ذكر الذنب؟ هذا الآية تكررت مثيلاتها مرة واحدة في القرآن، في سورة الإسراء: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء:17]، فلماذا ذكر الذنب؟
ذُكر الذنب -والله أعلم- لسببين:
السبب الأول: لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب، يفعل أحدهم الذنب في الخفاء، فإذا كان يجتهد في إخفاء الذنب ويعلمه الله عز وجل؛ فهذا يدل على تمام حياته وقيوميته على عباده، تأكيد للحياة، أثر من آثار حياته تبارك وتعالى وأنه لا يموت أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ [الرعد:33]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] تذكر القيومية مع الحياة، إذاً لما قام على كل نفس بما كسبت ذكر الذنب؛ لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب بخلاف الطاعة، فإن العبد يظهرها أمام الناس، ويتبجح بها.
المعنى الثاني: (كفى به) كلمة (كفى) أول ما تسمعها تتذكر معنى الكثرة والإحاطة: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الإسراء:96] فيها معنى الإحاطة والكثرة.
وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] فالآية لها تعلق بالرزق، فالله يرزقك وقد ضمن للعباد أن لا يجيعهم.
فما هي النتيجة؟
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] يدل على أن ذنوب العباد فاقت كل تصور مع إنعامه وتفضله، وأنه رغم ذنوبهم يقول: إلي! إلي! تعالوا..! رغم ذنوبهم لا يتبرأ منهم، وهو أرحم بهم من الأم بولدها: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] مع كثرة ذنوبهم يقول لهم: توكلوا علي؛ لأنهم لا يجدون له عدلاً ولا نظيراً.
قال الله عز وجل: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58-59] أي: لا تسل جاهلاً عن الله، إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به.
وهذه الوقفة التي أردت أن أقفها في هذا الدرس، نحن فيما بيننا لا نذهب إلى طبيب جاهل ولا إلى عامل جاهل، وكلنا يبحث عن أمهر الأطباء وأمهر العمال، يقال: هذا خبير، هذا خبير بالمرض الفلاني، أو هذا خبير بالآلة الفلانية.
ويعد العباد أن من الخسارة أن يذهب إلى رجل جاهل، فكيف جئت على أتم المطالب وأهمها -وهي معرفة الله- ولم تسأل أعلم الناس بالله؟!
الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59] وانظر لفظة (الرحمن) ما أجملها في هذا الموضع! انظر سياق الآيات: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:58-59] هي قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] استواءً حقيقياً بغير تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلاله تبارك وتعالى، واستواؤه على العرش مدح له عز وجل، ربنا سبحانه وتعالى لما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] مدح نفسه بهذا الاستواء.
والعرش في السماء وليس في الأرض، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وذكر الجنة- قال: (سقفها عرش الرحمن) سقف الجنة عرش الرحمن، إذاً الرحمن تبارك وتعالى: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59] ليحببك فيه.
لماذا أنت تسأل خبيراً بالله؟ حتى يحببك في الله عز وجل!
إن الله عز وجل يتحبب إلينا بآلائه ونعمه، يعدد نعمه لنحبه؛ ولنشعر بالتقصير في حقه.
افترض -ولله المثل الأعلى- أن عندك رجل ساكن في شقة مكونة من ثلاث غرف، وعندك ولد في الثانوية العامة أو ولد في امتحان شهادة، وأنت أفرغت له غرفة لوحده، وأنتم كلكم تكدستم في غرفتين، وأعلنت حالة الطوارئ، ممنوع الهمس! الولد يذاكر! ممنوع الصياح! الولد يذاكر! جعلت له ثلاجة لكي يأكل ويشرب المرطبات، وجعلت له مدفأة لكيلا يشعر بالبرد، هيأت له سريراً لوحده، كل هذا وأنت تقول له: يا بني! ذاكر وأنا أصرف عليك.
لكن الولد في نهاية السنة رسب، فماذا ستقول له؟ ستقول له: ألم أجعل لك غرفة لوحدك وتكدسنا في غرفتين؟! ألم أجعل لك ثلاجة؟! ألم أعطك الذي نفسك فيه: تأكل وتشرب؟! ولطالما ضربت إخوتك ورميتهم في الشارع؛ لكيلا يزعجوك؛ حتى تنام جيداً.. أليس هذا ما ستقوله؟! لماذا؟!
لأن ذكر النعم في موضع التقصير أشد من ضرب السيف، لكن لمن هذا؟ للذي عنده دم، للذي عنده إحساس، يفضل أن يضرب بالسيف ولا يلام هذا اللوم ولا هذا التقريع.
فربنا سبحانه وتعالى يخاطب قلب الإنسان: عملت لك.. وعملت لك.. وعملت لك.. وعملت لك.. وعملت كذا وكذا وكذا.. ورزقتك.. وخلقتك.. ونجيتك.. ورفعت عنك الأمراض.. ودعوتني واستجبت لك.. لكن ما هي النتيجة؟!
ولذلك تعداد النعم طريقة قرآنية فريدة تمس القلب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) وهذه طريقة لو تدبرتها في التعامل مع العباد تجد أنها أنجع وأقوى من أي وسيلة أخرى.
مثلاً اليهود أكثر منا بالحيلة واللين بمائة مرة من الذي كانوا يصفونه بالشدة؟
فاليهودي الذي اسمه شامير كانت طريقته قائمة على الشدة: سنبني مستوطنات، والذي لا يعجبه سأطلع قلبه.. فكان يستنفر الناس، وظهر أطفال الحجارة وانتفاضة الحجارة، وذلك كرد فعل طبيعي للعنف.
فقال اليهود لبعضهم: هؤلاء المسلمون نفسهم طويل، وهم الذين يعرفون مصطلح الجهاد والفداء.
وهؤلاء اليهود جبناء، لم يأخذوا قوتهم إلا من ضعفنا، هم ليس لديهم قوة، ربنا هو الذي قال هذا، فهو ليس حكمنا، إنما هو حكم اللطيف الخبير، العالم بالسرائر، قال الله عز وجل: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].
وفي نفس الوقت اليهودي يحب الحياة، يتمنى أن يعيش ولو ذليلاً مهاناً ولا يموت؛ قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] (حياة) هكذا من غير ألف ولام، من غير ألف ولام لماذا؟ نكرة من أجل أن يدل تنكيرها على الرداءة، أي حياة، أهم شيء أن يعيش..!
وصاحب الفداء والجهاد الموت محبب إليه، والمسلمون فقط دون غيرهم هم أصحاب الجهاد والفداء، وأصحاب النفس الطويل، لو تحداك بدينه لا يغلب؛ ولذلك كان رجوع الأمة لدينها أمر في غاية الأهمية، لا تهزم إذا رجعت إلى دينها، لماذا؟ لأن عندهم فداء، وعندهم نفس، وعندهم تضحية.
مثال: العرب المشركون في الجاهلية كان الواحد منهم يقول: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب.
واحد يستنجد بك وأنت لا تعرفه، ويمكن أن يطعنك بخنجر أو يرميك برصاصة وأنت تعرف هذا جيداً، ومع ذلك إذا استنجد بك تجد روح الفداء عندك وتنزل: (إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب).
فالفداء والتضحية هذه لا تجدها إلا عند المسلمين فقط.
فقال اليهود: نحن سنظل نناوئهم، والصحوة الإسلامية مدها يعلو، والأطفال هؤلاء لن يستمروا بالضرب بالحجارة، رغم أنني رأيت منظراً لا أنساه أبداً: جنود من اليهود أمسكوا طفلاً وكسروا له عظم يديه الاثنين لكيلا ينتفع بيديه بعد ذلك، وكل من أمسكوه كسروا له عظم يديه وتركوه لكن هؤلاء المجاهدين استمروا يضربون بالحجارة سنوات طويلة..!
فقال اليهود: لا بد أن نغير الخطة، ما هي الخطة البديلة؟
لا نعمل مثل النجار الغشيم، يأتي على حائط صلب مثل هذا ومعه مسمار، ويضرب ضربة واحدة فإذا بالمسمار مكسور نصفين، أو رجع إلى عينه. أنت عندما ترى حائطاً صلباً مثل هذا، وتريد أن تدق فيه مسماراً، تظل تدق وتدق برفق! فلو ضربته بالعنف لا يمشي معك، تأتيه بالرفق يمشي معك.
فقال اليهود: ولماذا نظل نحاربهم؟ نحن سنقول لهم: نحن أحبة، ونحن إخوان... إلخ، وهيا بنا إذاً نتبادل الزراعة والصناعة والثقافة، ونحن مع ذلك نتلف لهم عقائدهم، ونؤكلهم أناناس وهو محقون بالهرمونات؛ فيحصل لهم فشل كبدي! وفشل كلوي! وسرطانات... إلخ، وبهذا نكون انتهينا منهم، ونحن هكذا نظل أحبة ولا توجد مشاكل..!
الرفق في التعامل مع الخصوم
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
انظر إلى الحكمة.. لم يذكر فيها حسناً، والموعظة ذكر أنها حسنة، والجدال ذكر أنه أحسن؛ فهي ثلاث درجات وراء بعض: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] ربنا سبحانه وتعالى خاطب قريشاً ثلاث عشرة سنة بالقرآن المكي، وكله تذكير بالنعم.
فأحب من تدعوه وأشعره بالحب أولاً وحنن قلبه، وبعد ما تبذل جهدك في الترغيب، وتحنن قلبه، وتأتي له بكل وسيلة ولم يأت، فعندها ما بقي إلا الترهيب.
ولا تبتدئ بالترهيب، فإن الله ما ابتدأ به، إنما بدأ بالترغيب، ودائماً يقدم رحمته تبارك وتعالى على غضبه نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50].
وفي الحديث الصحيح: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده: إن رحمتي تغلب غضبي).
وقال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90] فكل خير، وكل عدل نحن نبتدئ به.
استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أسئلة وأجوبة[1] | 2879 استماع |
التقرب بالنوافل | 2827 استماع |
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده | 2769 استماع |
لماذا نتزوج | 2706 استماع |
انتبه أيها السالك | 2697 استماع |
سلي صيامك | 2670 استماع |
منزلة المحاسبه الدرس الاول | 2656 استماع |
إياكم والغلو | 2632 استماع |
تأملات فى سورة الدخان | 2619 استماع |
أمريكا التي رأيت | 2602 استماع |