خطب ومحاضرات
الإغراق في الجزئيات
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة:
لا أشبه نفسي بين أيديكم في هذه الأمسية المباركة، في ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني لسنة (1412هـ) إلا كما يكون الطالب إذا وقف في صالة الامتحان, وأراد أن يكتب ما في ذهنه من الجواب, فرأى أن أمامه سؤالاً طويلاً عريضاً يستغرق الجواب عنه ساعات وساعات.
فقد تجشمت على إعلان هذا الموضوع، أو الموافقة عليه، ألا وهو: الإغراق في الجزئيات، وكنت أحسبه موضوعاً محدوداً يمكن أن يمر به الإنسان في ساعة أو بعض ساعة، فلما فكرت في هذا الموضوع وتأملت وقلبت وجوهه، وناقشته مع جمع من الدعاة والعلماء والمفكرين، وراجعت فيه ما راجعت، تبين لي أن هذا الموضوع أكبر من أن تحيط به جلسة، أو يحده حديث عابر، إذ أن الإغراق في الجزئيات كظاهرة سلبية في حياة المسلمين اليوم، بل ومنذ عشرات السنين، ليست ظاهرة محصورة في جانب فحسب، ليست خطأ يعيشه الدعاة مثلاً فقط، وإنما هي خطأ يعيشه المسلمون في كل مجالات حياتهم بدون استثناء، فهم مغرقون في الجزئيات في أدق أمورهم وفي أعظمها، واشتغالهم بالجزئيات شغلهم عن العناية بالكليات، والاهتمام بمعالي الأمور.
جهود مبعثرة في الدعوة إلى الله
ومن ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والتعليم ونشر العلم لا تزال جهوداً مبعثرة، يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى، يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته، وبحسب طاقته، وبحسب مستواه ومداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر.
إننا في أمس الحاجة إلى من يقول لنا: هذا أمر كبير وهذا أمر صغير، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا يبدأ به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد.
ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول: إننا لا نكاد نسمعها الآن على أي مستوى، فكل واحد منا لديه اهتمامات، اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه، أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى، أو من أمور بعض القضايا العلمية، أو من أمور الاقتصاد، أو من أمور السياسة، أو من أمور الإدارة، وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التي تشغله دون أن يفكر، هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح، أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى وأهم؟
الناس وجزئيات المسائل
وفي مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى، أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء؛ فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: عبارة عن توافه لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية والنقد والتندر، من طائفة -مع الأسف- من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين.
الدين كله لب
إثارة بعض الدعاة للجزئيات
ولعل أقرب مثال: أن أحد كبار المفكرين، كتب قبل يومين في جريدة سيارة في هذه البلاد وكُتب بخط عريض: لا يوجد دليل من القرآن والسنة -أو كلمة نحو هذا- على تغطية المرأة وجهها!! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد ورد وأخذ وعطاء في هذه المسألة، وليس صحيحاً أن يطرح إنسان وجهة نظره في قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال: يا أخي! وجزئيات، وقشور، هذه توافه.
حسناً إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت؟ ولماذا تتحدث عنها؟ ولماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها وأجدى وأنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم؟؟!
إعطاء كل مسألة حقها في الإسلام
وإزاء هذين الطرفين المتقابلين: طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها؛ كان لابد من طرح هذا الموضوع؛ ولذلك أحببت طرحها، مع أنني أقول: إن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب، بل هي قضية المسلمين.
لو أتيت إلى الرجل في بيته، وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المسئول في إدارته؛ لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك، ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك، هكذا الخبير الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك!
إذاً: العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم، هو داء مستحكم في عقولهم.
أيها الأحبة:
ومن ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والتعليم ونشر العلم لا تزال جهوداً مبعثرة، يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى، يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته، وبحسب طاقته، وبحسب مستواه ومداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر.
إننا في أمس الحاجة إلى من يقول لنا: هذا أمر كبير وهذا أمر صغير، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا يبدأ به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد.
ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول: إننا لا نكاد نسمعها الآن على أي مستوى، فكل واحد منا لديه اهتمامات، اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه، أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى، أو من أمور بعض القضايا العلمية، أو من أمور الاقتصاد، أو من أمور السياسة، أو من أمور الإدارة، وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التي تشغله دون أن يفكر، هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح، أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى وأهم؟
لقد بُلينا بطائفة من المسلمين، بل وأحياناً من الدعاة إلى الله تعالى الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين، همهم تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فأسهروا ليلهم وأمضوا نهارهم في قتل هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، أو أنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، حتى أنَّ من تركها متعمداً لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تثريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليلها.
وفي مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى، أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء؛ فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: عبارة عن توافه لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية والنقد والتندر، من طائفة -مع الأسف- من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين.
مع أننا نقول في حقيقة الأمر: هذا كله دين، الكبير والصغير، والأصل والفرع، والجزء والكل، فكل ما يتعلق بقضية الإسلام فهو دين، وفي الحديث المعروف حديث عمر وأبي هريرة، لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإحسان والإيمان والإسلام كان من ضمن ما سأله -في بعض الروايات- عن قضايا تفصيلية عديدة مثل قضايا الغسل من الجنابة وغيرها، ومع ذلك لما انتهى قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو دين ينبغي الاهتمام والعناية به، وألاّ يكون محط سخرية أو استهزاء أو نقد من أحد، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوضع كل شي في نصابه.
إن من العجيب أيها الأحبة: أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون، أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير، هم الذين يتسببون في كثير من الأحيان في إثارة بعض الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عما عداها من معالي الأمور، هم الذين يتسببون في ذلك؛ لأنهم يطرحون وجهات نظرهم بطريقة غريبة، وطريقة استفزازية، وغير موضوعية وغير صحيحة أيضاً.
ولعل أقرب مثال: أن أحد كبار المفكرين، كتب قبل يومين في جريدة سيارة في هذه البلاد وكُتب بخط عريض: لا يوجد دليل من القرآن والسنة -أو كلمة نحو هذا- على تغطية المرأة وجهها!! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد ورد وأخذ وعطاء في هذه المسألة، وليس صحيحاً أن يطرح إنسان وجهة نظره في قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال: يا أخي! وجزئيات، وقشور، هذه توافه.
حسناً إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت؟ ولماذا تتحدث عنها؟ ولماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها وأجدى وأنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم؟؟!
إذاًً: البحث والدليل رائد الجميع، ونحن لا ننتقد أحداً أن يتكلم في قضية من قضايا الدين، لكن ينبغي أن يتكلم بتعقل وموضوعية، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله عليه السلام، أو إجماع الأمة، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث عن الموضوعات بحسب أهميتها وثقلها في ميزان الإسلام.
وإزاء هذين الطرفين المتقابلين: طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها؛ كان لابد من طرح هذا الموضوع؛ ولذلك أحببت طرحها، مع أنني أقول: إن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب، بل هي قضية المسلمين.
لو أتيت إلى الرجل في بيته، وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المسئول في إدارته؛ لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك، ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك، هكذا الخبير الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك!
إذاً: العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم، هو داء مستحكم في عقولهم.
لا شك أن هذا مما يُحتاج إليه في تقسيم مسائل الدين، أن يُقال: إن مسائل الدين تنقسم إلى أصول وفروع، وإن شئت فقل: إلى كليات وجزئيات، أو أي تعبير آخر، وليس المقصود بالأصول والفروع، أن نقول: الأصول -مثلاً- هي أبواب العقائد والأمور النظرية العلمية، والفروع هي الأشياء العملية، كلا. ولكننا نقول المسائل الجليلة الكبيرة سواءً كانت علمية عقائدية أو كانت عملية، فهي من الأصول، والمسائل الدقيقة سواء كانت مسائل في الأمور العملية، أو كانت في الأمور العلمية فإنها تعتبر فروعاً، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى [6/56].
المسائل العملية فروع وأصول
كما أننا نجد في المسائل العملية فروعاً وجزئيات. فمثلاً قضية الصلاة: الصلاة أصل، لكن تفاصيل سنن الصلاة وما يستحب أن يقال فيها، هذا ليس أصلاً، بل هو من الأمور الدقيقة، فهو يصح أن يسمى فرعاً أو أن يسمى أمراً جزئياً.
فهل ترى يا أخي -مثلاً- أن من العدل أن نستغرق وقتاً في الحديث عن جزئية، من هذه السنن الواردة في الصلاة -كما سيأتي الإشارة إلى شيء منها- كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود، هل يسجد على يديه أولاً، أو على ركبتيه أولاً؟
هل ترى أن من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة ونقتلها بحثاً، ونؤلف فيها عدداً من الكتب، وتكون هي حديثنا في مجالسنا، وهي مجال للمنافرة والمنافسة بين الأقران وبين الطلاب، ويتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم؟
على حين أنك لا تكاد تجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة، وأهميتها ومنـزلتها من الدين، كلاماً يصل إلى قلوبهم ويخاطبهم ويخالط شغافهم، ويدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت..! ولا تجد -مثلاً- من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة، الذي هو روحها ولبها، بل إنك تجد من الفقهاء من يقول: إن الخشوع في الصلاة مستحب وليس واجباً! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع وحضور قلب وإقبال، لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل، ولا خوفًا منه، ولا إقبالاً على الطاعة والعبادة، وإن كانت بكل حال، هي صلاة شرعية ما لم يرتكب فيها ما يبطلها.
المسائل العلمية الاعتقادية فروع وأصول
فمثلاً سؤال: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ مثل آخر: قضية النـزاع في معاني بعض الآيات القرآنية، أو بعض الأحاديث النبوية، بل حتى النـزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها.
كذلك قضية الكلام وما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمونه بالجوهر والعرض، أو بقاء الأعراض، وكذلك قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟
هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية، التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها بياناً واضحاً لا إشكال فيه، بحيث أن يكون المخالف فيها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، بل هي من القضايا التي يمكن أن تعتبر من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية.
وليست هذه كتلك، فالمؤكد -أيضاً- أن العبد لن يُسأل في القبر: هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن به؟
وليس هذا من شروط دخول الجنة -مثلاً- أن يقول هذا أو ذاك. ولكنه ينبغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي منها الإيمان باليوم الآخر وما فيه، مثل الإيمان بالجنة وبالنار، وليس مجرد الإيمان اللفظي، وإنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب، ويتحول إلى سلوك وعمل، ويتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق، والصبر في سبيل الله والجهاد، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الآخرة على الأولى.
فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد، وتلك أمور جزئية والأمر في ذلك -إن شاء الله تعالى- واضح لا إشكال فيه.
الأصول والفروع في أمور الحياة الدنيا
فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال.
لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع.
وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته.
وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء.
مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كـالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم.
هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها.
وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور. لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد.
وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية.
ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء.
فمثلاً: العلم بوجوب الواجبات -كأركان الإسلام الخمسة- هو من قضايا الأصول الظاهرة، مع أنه أمر عملي، الصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبلها أيضاً الشهادتان، وبالذات الأركان الأربعة الأخرى، فإنها ظاهرٌ جداً أنها أمور عملية؛ ومع ذلك فالعلم بوجوبها هو من قضايا الأصول الظاهرة، ولذلك كان من جحدها كافر، مثله في ذلك مثل من جحد مسائل الاعتقاد الثابتة المشهورة المتواترة التي لا تخفى أدلتها، كمن جحد -مثلاً- قدرة الله تعالى أو علمه وأنه بكل شي عليم، أو أنه سميع أو بصير، أو سائر أركان الإيمان الستة، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أننا نجد في المسائل العملية فروعاً وجزئيات. فمثلاً قضية الصلاة: الصلاة أصل، لكن تفاصيل سنن الصلاة وما يستحب أن يقال فيها، هذا ليس أصلاً، بل هو من الأمور الدقيقة، فهو يصح أن يسمى فرعاً أو أن يسمى أمراً جزئياً.
فهل ترى يا أخي -مثلاً- أن من العدل أن نستغرق وقتاً في الحديث عن جزئية، من هذه السنن الواردة في الصلاة -كما سيأتي الإشارة إلى شيء منها- كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود، هل يسجد على يديه أولاً، أو على ركبتيه أولاً؟
هل ترى أن من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة ونقتلها بحثاً، ونؤلف فيها عدداً من الكتب، وتكون هي حديثنا في مجالسنا، وهي مجال للمنافرة والمنافسة بين الأقران وبين الطلاب، ويتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم؟
على حين أنك لا تكاد تجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة، وأهميتها ومنـزلتها من الدين، كلاماً يصل إلى قلوبهم ويخاطبهم ويخالط شغافهم، ويدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت..! ولا تجد -مثلاً- من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة، الذي هو روحها ولبها، بل إنك تجد من الفقهاء من يقول: إن الخشوع في الصلاة مستحب وليس واجباً! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع وحضور قلب وإقبال، لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل، ولا خوفًا منه، ولا إقبالاً على الطاعة والعبادة، وإن كانت بكل حال، هي صلاة شرعية ما لم يرتكب فيها ما يبطلها.
إذاً: في المسائل العملية فروع وأصول وكذلك في المسائل العلمية الاعتقادية كليات وجزئيات، أو فروع وأصول، فمثلاً: أركان الإيمان الستة، التي يقرؤها صغار الطلاب في المدارس، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لا شك فيها، فإنكارها كفر، والحديث عنها من أَوْلى الأولويات وأهم الضروريات، ولكنك تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات، من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة.
فمثلاً سؤال: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ مثل آخر: قضية النـزاع في معاني بعض الآيات القرآنية، أو بعض الأحاديث النبوية، بل حتى النـزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها.
كذلك قضية الكلام وما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمونه بالجوهر والعرض، أو بقاء الأعراض، وكذلك قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟
هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية، التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها بياناً واضحاً لا إشكال فيه، بحيث أن يكون المخالف فيها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، بل هي من القضايا التي يمكن أن تعتبر من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية.
وليست هذه كتلك، فالمؤكد -أيضاً- أن العبد لن يُسأل في القبر: هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن به؟
وليس هذا من شروط دخول الجنة -مثلاً- أن يقول هذا أو ذاك. ولكنه ينبغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي منها الإيمان باليوم الآخر وما فيه، مثل الإيمان بالجنة وبالنار، وليس مجرد الإيمان اللفظي، وإنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب، ويتحول إلى سلوك وعمل، ويتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق، والصبر في سبيل الله والجهاد، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الآخرة على الأولى.
فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد، وتلك أمور جزئية والأمر في ذلك -إن شاء الله تعالى- واضح لا إشكال فيه.
كلنا ندرك ببديهة عقولنا، أن هناك أموراً كلية وجزئية أو هناك أصول وفروع، وأن هناك مهم وهناك أهم، وهذا أمر ليس مخصوصاً فقط بما ذَكَرتُ، بل حتى في أمور الحياة الدنيا.
فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال.
لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع.
وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته.
وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء.
مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كـالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم.
هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها.
وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور. لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد.
وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية.
ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |