لهم دار السلام عند ربهم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله! هذا الدرس ضمن سلسلة تأملات قرآنية في سورة الأنعام، يلقى بعد مغرب يوم السبت الموافق للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة (1415هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك بمدينة جدة بمسجد كيلو12، عنوان هذا الدرس: لهم دار السلام عند ربهم.

ودار السلام هي الجنة -جعلنا الله وإياكم من روادها ومن أهلها- وسماها الله عز وجل دار السلام؛ لأنها سلمت من كل آفة ومن كل خلل ونقص، والسلام بمفهومه الشامل: السلامة من الموت، والسلامة من المرض، والسلامة من الفقر والهرم، والسلامة من الهم، والسلامة من التعب والنصب، والسلامة من كل آفة وعلة، وتوفر كل نعمة: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] إنها الجنة! نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

وقد كان الدرس الماضي عن النار -أعاذنا وإياكم منها- وهو بعنوان: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وذكرنا ما ذكره الله في كتابه، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من بيان وتوضيح للنار، وما أعد الله فيها من النكال والعذاب الذي لا يتصوره عقل ولا يخطر على قلب بشر، ولما كان القرآن مثاني -هذا أسلوب القرآن- إذا جاء بذكر النار عقب بذكر الجنة؛ لأن النفوس لا تمشي إلا بالسوْق وأيضاً بالحدو، السوْق: سوط في ظهورها، والحدو: صوت يهيجها، مثل الإبل، فهناك إبل إذا قام الحادي يعطي لها أصواتاً؛ ترنمت ونشطت وهملجت وقطعت الأرض، وهناك إبل مريضة لا تمشي إلا بالسوط وإلا بركت.

وإن من الناس من يهيجه ذكر الجنة، فإذا سمع بما فيها نشط، ومنهم من يزعجه ذكر النار فإذا سمع بما فيها نشط في العبادة، ومن الناس -وهم غالب البشر- من يهيجه ذكر الجنة وأيضاً يزعجه ذكر النار على السواء، وهذا ملاحظ إذا قرأت القرآن، فإنك لا تجد الله تبارك وتعالى يخوف عباده من النار إلا ويبشرهم بالجنة، فجاء القرآن الكريم بذكر الجنة ثم بذكر النار، أو ذكر النار بداية، وفي الغالب أن الله عز وجل يذكر النار دائماً باستمرار قبل الجنة، ويقول العلماء: إن في هذا سراً، وهو أن القلوب الغافلة لا يزعجها إلا الألم، فإذا انتبهت وصار عندها خوف جاء الأمل بذكر الجنة وما أعد الله لأهلها.

وهذه الجنة أيها الأحبة جاء ذكرها في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [الأنعام:126] أي: هذا الدين، هذا القرآن، هذا الإسلام، هذا صراط الله، هذا الكتاب الكريم، هذه السنّة المطهرة، هذا الرسول الكريم، صراط وطريق واضح: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126] فصّل الله الآيات، وبين الله الأمر وأقام الحجة، لكن لمن؟ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126] لقوم عندهم عقول وذاكرة وأفهام وألباب، أما الغافلون المغطى عليهم، أما المخمورون المخدوعون، فإنه لا يزعجهم سوى النار، فإذا وقعوا في النار قالوا: يا ليتنا نرد، ولكن لم يعد هناك مرد، انتهى الأمر، فليس هناك إلا النار.

أما الذين يذَّكرون وتزعجهم قوارع القرآن، فقد قال الله عز وجل وهو يطمئنهم: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:126-127] ليس فقط دار السلام، وإنما عند ربهم، وتصور عندما تكون عند ربك، ربك الذي رحمك، ربك الذي خلقك ورزقك، ربك الذي هداك وسددك، ثم لما مِت وأنت على دينه أحبك وأكرمك وقربك وأدخلك جنته، ولهذا تقول امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وهي تدعو الله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ [التحريم:11] لا تريد بيتاً في الجنة فقط بل تقول: عندك يا رب! يقولون: سألت الجار قبل الدار: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] لأن بيتاً ليس عند الله لا يصلح، ونعيماً وسلاماً ليس عند الله لا يصلح، والله يقول: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [الأنعام:127] وهذا شرف لهم فوليهم الله، ومن كان الله وليه فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، بسبب ماذا؟ قال الله: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127].

لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [الأنعام:127] بسبب ماذا؟ هل لأن لهم جنسية معينة؟ أم لأن لهم أرصدة في البنوك كثيرة؟ أم لأن عندهم شهادات عالية؟ أم لأن لهم مقاماً رفيعاً في المجتمع، أم لأن لهم رتباً أو مناصب أو جاهاً أو سلطاناً؟ لا. فهذا في الدنيا فقط، لكن في الجنة: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127] أي: بسبب ما كانوا يعملون من عمل صالح بوأهم الله هذه المنزلة وأحلهم هذه الدرجة، فلهم دار السلام التي سلمت من كل آفة، وعند ربهم، والله وليهم.

أيها الإخوة: هذه الجنة هي دار النعيم، أعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين المتقين الأبرار جزاء إيمانهم الصادق وعملهم الصالح في هذه الدار، وجزاء تركهم للمعاصي والذنوب والسيئات، قال عز وجل: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] ويقول عز وجل: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً [مريم:63] أما الفاجر لا يرث إلا النار، ويقول عز وجل: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين:22] أبرار جمع بَر، والرجل البَر هو الرجل الصالح، رجلٌ بَرٌ تقي ليس بفاجر ولا شقي: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14] ويقول عز وجل: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12] صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله، وصبروا على أقدار الله المؤلمة، أما الذي لا يصبر على الطاعة، لا يفلح فالصلاة فيها مشقة، صلاة الفجر في المسجد فيها نوع من التعب، لكنه لم يصبر، يريد أن ينام، ولم يصبر عن معصية الله؛ لأن المعاصي محببة، والشهوات مطلوبة عند النفس، لكنه لم يستطع أن يصبر، لم يصبر عن الغناء، ولم يصبر عن الزنا، ولم يصبر عن الربا، ولم يصبر عن الحرام -والعياذ بالله- فهذا لم ينجح ولن ينجح.

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا [الإنسان:12] جزاهم بسبب صبرهم: جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12] ثم بعد ذلك رغب الله الناس وشوق الله الناس، فكان يكفي في القرآن الكريم أن يقول الله: من أطاعني فله الجنة ومن عصاني فله النار، ويبين لنا ما في الجنة من شيء، لكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالترغيب والتشويق والتنويع والتفصيل لما أعد الله في الجنة لعباده المؤمنين من أجل تشويق النفوس وجذبها إلى هذه الجنة العالية، يقول الله عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين!

(سابقوا) إلى ماذا؟ إلى جنة. كم هي مساحتها؟ عرضها كعرض السماء والأرض. أعدت وهيئت لمن؟ للذين آمنوا بالله ورسله. بعد ذلك قال الله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ [الحديد:21] ذلك الفضل العظيم يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ثم قال في سورة آل عمران: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] لما أمر الله عز وجل بالسير إلى الجنة أمر بالمسارعة والمسابقة والفرار، فقال في سورة الحديد: سَابِقُوا [الحديد:21] وقال في سورة آل عمران: سَارِعُوا [آل عمران:133] وقال في سورة الذاريات: فَفِرُّوا [الذاريات:50] كلها إلى الله، ولما أمرنا الله بالسير في الدنيا والمعيشة قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] امشوا على مهلكم، وكلوا من رزقه، ليس من رزقكم، والله إن أسرعت أو أبطأت لن تأكل إلا رزقك، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه) مفتوح قلبه على الدنيا -والعياذ بالله- مثل جهنم: هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] طالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما زاد شربه زاد عطشه: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ جوفه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).

يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) الملايين في (البنك) لكنه لا يرى إلا الفقر، لا يرى الأرصدة ولا يرى العمارات ولا يرى السيارات، لا يرى إلا الفقر! وإذا رأيته تراه ملهوفاً كمثل الكلب إن تتركه يلهث أو تحمل عليه يلهث، تسأله: ماذا عندك؟ قال: والله الأمور صعبة، والسيولة منعدمة هذه الأيام، والأحوال متأزمة، كأنه لا يملك عشاء ليلته، لماذا؟ لأنه لا يرى إلا الفقر بين عينيه: (وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).

(ومن أصبح والآخرة همه) في قلبه مثل النار مما أمامه من الأهوال والأخبار، همه القبر والحشر، همه الجنة كيف يدخلها، همه النار كيف ينجو منها، كيف صلى، كيف صام، كيف تصدق، كيف ربى ولده، كيف حفظ زوجته، كيف بنى دينه، كيف حمى عقيدته، كيف دعا إلى دينه، هذا الذي همه الآخرة، قال: (ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله -أموره المتفرقة يجمعها الله له- وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة) هو لا يفكر فيها لكن تأتيه، وليس من شأن المسلم أن يرفض الدنيا إذا جاءته فلا يرفضها، بل يأخذها ويسخرها في طاعة الله؛ لأن الدنيا مثل الدابة إما أن تركب عليها أو تركب عليك، فإن كنت مؤمناً ركبت عليها، وذهبت بها إلى الله، وإن كنت فاجراً ركبت عليك وجعلتك حماراً لها تذهب بك إلى النار، فكن راكباً على دنياك، ولا تكن مركوباً لها.

فالله عز وجل أمرنا أن نسارع وأن نسابق إلى الجنة، وأما الدنيا فأمرنا أن نسير وأن نمشي فيها، ولكن هل الناس -أيها الإخوة- واقعيون مع هذه الآيات في حياتهم، أم أنهم يلهثون ويسارعون بل ويقتحمون ويقتتلون على الدنيا؟ وأما الآخرة فقليل من يسير في طريقها، وإذا أراد طريقها فإنه لا يسرع وإنما يمشي، وبعضهم يعثر وبعضهم لم يمش خطوة واحدة في طريق الله، وهو يسارع بكل أسلوب بالليل والنهار، وبكل تفكير واهتمام في الدنيا، أما إذا جاءت الصلاة والدين فإنه يعثر الخطا.

فهذا لم يعرف الله ولم يعرف دينه، وهو خاسر وسوف يعض أصابع الندم ولكن حين لا ينفع الندم.

أخي الكريم: اعلم -كمقدمة- أن الجنة فوق ما تقرأ وما تسمع وما تتصور، وأعظم مما يخطر في بالك؛ لأن الإدراك لا يمكن أن يحيط بما في الجنة، والله يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ [السجدة:17] لا تعلم ما أعدّ لك في الجنة؟ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] تصور الآن حين يقال لك: إن زوجتك في الجنة حورية، تصور بكل خيالك جمال هذه الحورية! اذهب بخيالك إلى كل مذهب وتصور كل تصور للجمال ثم سيقف تصورك ولا يمكن أن يصل إلى تصور ما أعد الله لك من الحور العين؛ لأن الله يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].

يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] قال: [لا يشبه شيء مما في الجنة مما في الدنيا إلا في الأسماء] التشابه فقط في الأسماء، يعني: يوجد خمر في الدنيا، لكن هل خمر الجنة مثل هذا؟ لا. ويوجد لبن في الدنيا، لكن هل لبن الجنة مثل هذا؟ لا. وتوجد نساء في الدنيا، لكن هل حور الجنة مثل نساء الدنيا؟ لا. قصور الجنة، أنهار الجنة، ولدان الجنة، طعام الجنة، لباس الجنة، شراب الجنة، كل ما في الدنيا لا يمكن أن يساوي ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، أما في الحقائق والكيفيات فقد نفى الله ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمامان البخاري ومسلم في الصحيحين ، قال الله عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).

عدد الجنان ومراتبها وتفاضلها

اعلم يا أخي في الله! أن الجنة ليست جنة واحدة وإنما هي جنان، ذكر الله عز وجل في القرآن أربع جنان، وقيل: إنها ثمان، قال الله عز وجل: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] كما أن في الجنة من التفاضل في المنازل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى درجة في الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، ومن فوقها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) اللهم إنا نسألك الفردوس من الجنة.

ويروي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق).

فأهل الجنة وهم في الجنة يرون أهل الغرف العالية مثلما نرى نحن النجوم التي في أعلى السماء، وذلك من تفاوت ما بينهم في الدرجات، وأعلى الجنان الفردوس، ثم عدن، ثم الخلد، ثم المأوى، وهذه هي الجنان الأربع قد بينها الله عز وجل في سورة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] ووصف ما فيهما من الأنهار فقال بعدما وصفها: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:48-58] تصور زوجتك ياقوتة وأخرى مرجانة تمشي أمامك، كيف تتصور امرأة من ياقوت، هل لك أن تتصور هذا في الدنيا؟ لا يمكن. لكن نسأل الله أن يجعلنا نراهن حقيقة في جنته ومستقر رحمته، وأن نتمتع بهن في الجنة.

وهذه لا تأتي -يا إخواني- إلا بتعب دائم، فالسلعة الغالية لا أحد ينالها إلا بتعب: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالجنة لا تنالها الهمم الضعيفة:

يا سلعة الرحمن لست رخيصة     بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها     في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ     خطاب عنك وهم ذووا إيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد     بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن لولا أنها     حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف     وتعطل دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة     ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي ترنو إلى     رب العلا في طاعة الرحمن

هذه الجنة العالية يقول الله فيها بعد ذلك: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وبعد ذلك ذكرها ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62] يعني: أقل من هذه الاثنتين جنتان: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:63] فما نوعهما؟ قال: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64] بينما قال في الأخرى: ذَوَاتَى أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:48-49].. فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66] وقال في الأخرى فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] والعين الجارية ليست كالعين التي تنبع وهي في مكانها لا تجري، والعين الجارية أفضل.

وبعد ذلك قال في الفاكهة: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] أما في الأخرى فقال: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] وبعد ذلك لما جاء عند الحوريات قال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:70-72] أما في الأخرى فقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ [الرحمن:56] يقول ابن القيم : فرق بين القاصرة والمقصورة، فالقاصرة قصرت نفسها، والمقصورة جبرت على قصر نفسها: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74].. مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن:76].. تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78].

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما من فضة وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه عز وجل في جنة عدن).

أبواب الجنة

للجنة -أيها الإخوة- ثمانية أبواب، وسعة هذه الأبواب ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً -وهذا الأمل يفتح لها قلوبنا إن شاء الله، ونسأل الله أن نكون من المزاحمين على هذه الأبواب- المسافة بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً يقول في الحديث: (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) اللهم اجعلنا ممن يزاحم على هذا الباب يا رب العالمين!

يا أخي! يا أيها الملتزم! يا أيها المستقيم! لا تتصور أنك أنت المستقيم لوحدك، فهناك ملايين البشر ساروا في طريق الله، فلست لوحدك بل معك ملايين من البشر، فاسلك سبيل الصالحين ولا تغتر بقلة السالكين، واحذر طريق الهالكين ولا تنخدع بكثرة الهالكين، فإن العبرة بمن نجا، كيف نجا وليست العبرة بمن هلك كيف هلك؛ لأن دواعي الهلكة كثيرة، أما دواعي النجاة قليلة، والناس من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم وواحد إلى الجنة، جاء في الحديث الصحيح: (يقول الله: يا آدم! قال: لبيك ربِ وسعديك، قال: أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: ربِ! وكم بعث الجنة؟ قال: من كل ألف واحد، وتسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم) فمتى تأتي هل في المائة الأولى أم المائة الثانية أم الثالثة أم الرابعة؟ لا إله إلا الله!

باب من هذه الأبواب الثمانية، مخصص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقية الأبواب لسائر الأمم ويشارك فيها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم باب خاص لا يدخل فيه شخص من الأمم الثانية، لكن أمة محمد يدخلون من هذا الباب ويدخلون من الأبواب كلها، وهذا من فضل الله على هذه الأمة.

وهذه الأبواب كل منها مخصص لعمل خاص، ففيها باب للصائمين يسمى باب الريان، وفيها باب للمصلين يسمى باب الصلاة، وفيها باب للمتصدقين يسمى باب الصدقة، وفيها باب للبارين بوالديهم يسمى باب البررة، يعني: إنسان ليس عنده كثير عمل صالح لكنه بار بوالديه، فيدخله الله الجنة من هذا الباب، وآخر متخصص في الصدقة، لا يصلي كثيراً، يصلي الفرائض فقط، لكن يده تبذل بالصدقة والخير، فيدخل من باب الصدقة، وآخر متخصص في الصلاة، يصوم الفريضة ويتصدق بالفريضة ولكن في الصلاة لا تراه إلا مصلياً، فيدخل من باب الصلاة، وآخر متخصص في الصيام، يصلي الفريضة ولا يستطيع أن ينفق فلا يملك مالاً، لكنه دائماً يصوم فيدخل من باب الصائمين، وشخص متخصص في الحج لا تفوته حجة، بينما لا يقوم الليل، ولا يكثر من صيام النوافل، ولا يتصدق كثيراً، لكن إذا جاء الحج شد رحله وحج، وهذا يدخل من باب الحج ومن باب العمرة.

ومن الناس من يدخل من كل الأبواب، أي نعم. وهذا قليل في الأمة، ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً منهم وهو: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان يسبق في كل باب، إن جئت إلى باب الصدقة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الجهاد وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصلاة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصيام وإذا به الأول، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أعلى أحد أن يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم. وأنت منهم يا أبا بكر !) وهذا شرف كبير -يا أخي- أن تكون لك خيارات عديدة، فلا تقول: أنا والله متخصص في الصلاة، بل افرض أن الصلاة لم تقبل منك، وإذا بك ضائع، لا. تخصص في الصلاة وتخصص في الصيام، وأكثر من الحج، وأكثر من ذكر الله، وأكثر من الدعوة إلى الله، وسابق في كل خير، والله تبارك وتعالى يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

روى مسلم وأصحاب السنن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح في صحيح مسلم، حديث عظيم وفضله كبير جداً، والعمل فيه بسيط-: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) ما أعظم هذا الفضل!

وورد في رواية أخرى ليست في الصحيح، وهي في السنن : (اللهم اجعلنا من التوابين المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

اعلم يا أخي في الله! أن الجنة ليست جنة واحدة وإنما هي جنان، ذكر الله عز وجل في القرآن أربع جنان، وقيل: إنها ثمان، قال الله عز وجل: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] كما أن في الجنة من التفاضل في المنازل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى درجة في الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، ومن فوقها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) اللهم إنا نسألك الفردوس من الجنة.

ويروي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق).

فأهل الجنة وهم في الجنة يرون أهل الغرف العالية مثلما نرى نحن النجوم التي في أعلى السماء، وذلك من تفاوت ما بينهم في الدرجات، وأعلى الجنان الفردوس، ثم عدن، ثم الخلد، ثم المأوى، وهذه هي الجنان الأربع قد بينها الله عز وجل في سورة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] ووصف ما فيهما من الأنهار فقال بعدما وصفها: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:48-58] تصور زوجتك ياقوتة وأخرى مرجانة تمشي أمامك، كيف تتصور امرأة من ياقوت، هل لك أن تتصور هذا في الدنيا؟ لا يمكن. لكن نسأل الله أن يجعلنا نراهن حقيقة في جنته ومستقر رحمته، وأن نتمتع بهن في الجنة.

وهذه لا تأتي -يا إخواني- إلا بتعب دائم، فالسلعة الغالية لا أحد ينالها إلا بتعب: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالجنة لا تنالها الهمم الضعيفة:

يا سلعة الرحمن لست رخيصة     بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها     في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ     خطاب عنك وهم ذووا إيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد     بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن لولا أنها     حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف     وتعطل دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة     ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي ترنو إلى     رب العلا في طاعة الرحمن

هذه الجنة العالية يقول الله فيها بعد ذلك: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وبعد ذلك ذكرها ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62] يعني: أقل من هذه الاثنتين جنتان: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:63] فما نوعهما؟ قال: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64] بينما قال في الأخرى: ذَوَاتَى أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:48-49].. فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66] وقال في الأخرى فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] والعين الجارية ليست كالعين التي تنبع وهي في مكانها لا تجري، والعين الجارية أفضل.

وبعد ذلك قال في الفاكهة: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] أما في الأخرى فقال: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] وبعد ذلك لما جاء عند الحوريات قال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:70-72] أما في الأخرى فقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ [الرحمن:56] يقول ابن القيم : فرق بين القاصرة والمقصورة، فالقاصرة قصرت نفسها، والمقصورة جبرت على قصر نفسها: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74].. مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن:76].. تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78].

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما من فضة وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه عز وجل في جنة عدن).

للجنة -أيها الإخوة- ثمانية أبواب، وسعة هذه الأبواب ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً -وهذا الأمل يفتح لها قلوبنا إن شاء الله، ونسأل الله أن نكون من المزاحمين على هذه الأبواب- المسافة بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً يقول في الحديث: (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) اللهم اجعلنا ممن يزاحم على هذا الباب يا رب العالمين!

يا أخي! يا أيها الملتزم! يا أيها المستقيم! لا تتصور أنك أنت المستقيم لوحدك، فهناك ملايين البشر ساروا في طريق الله، فلست لوحدك بل معك ملايين من البشر، فاسلك سبيل الصالحين ولا تغتر بقلة السالكين، واحذر طريق الهالكين ولا تنخدع بكثرة الهالكين، فإن العبرة بمن نجا، كيف نجا وليست العبرة بمن هلك كيف هلك؛ لأن دواعي الهلكة كثيرة، أما دواعي النجاة قليلة، والناس من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم وواحد إلى الجنة، جاء في الحديث الصحيح: (يقول الله: يا آدم! قال: لبيك ربِ وسعديك، قال: أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: ربِ! وكم بعث الجنة؟ قال: من كل ألف واحد، وتسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم) فمتى تأتي هل في المائة الأولى أم المائة الثانية أم الثالثة أم الرابعة؟ لا إله إلا الله!

باب من هذه الأبواب الثمانية، مخصص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقية الأبواب لسائر الأمم ويشارك فيها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم باب خاص لا يدخل فيه شخص من الأمم الثانية، لكن أمة محمد يدخلون من هذا الباب ويدخلون من الأبواب كلها، وهذا من فضل الله على هذه الأمة.

وهذه الأبواب كل منها مخصص لعمل خاص، ففيها باب للصائمين يسمى باب الريان، وفيها باب للمصلين يسمى باب الصلاة، وفيها باب للمتصدقين يسمى باب الصدقة، وفيها باب للبارين بوالديهم يسمى باب البررة، يعني: إنسان ليس عنده كثير عمل صالح لكنه بار بوالديه، فيدخله الله الجنة من هذا الباب، وآخر متخصص في الصدقة، لا يصلي كثيراً، يصلي الفرائض فقط، لكن يده تبذل بالصدقة والخير، فيدخل من باب الصدقة، وآخر متخصص في الصلاة، يصوم الفريضة ويتصدق بالفريضة ولكن في الصلاة لا تراه إلا مصلياً، فيدخل من باب الصلاة، وآخر متخصص في الصيام، يصلي الفريضة ولا يستطيع أن ينفق فلا يملك مالاً، لكنه دائماً يصوم فيدخل من باب الصائمين، وشخص متخصص في الحج لا تفوته حجة، بينما لا يقوم الليل، ولا يكثر من صيام النوافل، ولا يتصدق كثيراً، لكن إذا جاء الحج شد رحله وحج، وهذا يدخل من باب الحج ومن باب العمرة.

ومن الناس من يدخل من كل الأبواب، أي نعم. وهذا قليل في الأمة، ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً منهم وهو: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان يسبق في كل باب، إن جئت إلى باب الصدقة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الجهاد وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصلاة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصيام وإذا به الأول، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أعلى أحد أن يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم. وأنت منهم يا أبا بكر !) وهذا شرف كبير -يا أخي- أن تكون لك خيارات عديدة، فلا تقول: أنا والله متخصص في الصلاة، بل افرض أن الصلاة لم تقبل منك، وإذا بك ضائع، لا. تخصص في الصلاة وتخصص في الصيام، وأكثر من الحج، وأكثر من ذكر الله، وأكثر من الدعوة إلى الله، وسابق في كل خير، والله تبارك وتعالى يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

روى مسلم وأصحاب السنن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح في صحيح مسلم، حديث عظيم وفضله كبير جداً، والعمل فيه بسيط-: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) ما أعظم هذا الفضل!

وورد في رواية أخرى ليست في الصحيح، وهي في السنن : (اللهم اجعلنا من التوابين المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

أيها الإخوة: أما ما أعد الله عز وجل من النعيم مما تشتهيه النفوس وتلذ به الأعين، فقد جاء مفصّلاً وموضحاً توضيحاً عظيماً في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتفصيل هو:

أرض الجنة وتربتها

المعروف أن الأرضية عندنا تراب، وإذا أردت أن تمقت إنساناً تقول له: خذ تراباً؛ لأن التراب ليس له قيمة، ونحن الآن نتنافس على التراب، بينما نزهد في التربة الغالية تربة الجنة، وما هي تربتها؟ تربتها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ، وملاطها المسك الأذفر.

روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! مم خُلق الخلق؟ قال: من الماء. قلت: الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب. قلت: ما ملاطها يا رسول الله؟! قال: المسك الأذفر. قلت: وما حصباؤها؟ قال: اللؤلؤ والياقوت. قلت: وما تربتها يا رسول الله؟! قال: الزعفران، من يدخل ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم) -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- هذه هي تربة الجنة وأرضيتها.

أنهار الجنة

لكل مسلم في الجنة في قصره أنهار تجري من تحته، ذكر الله هذه الأنهار وأنها من أربعة أنواع، تنحدر من الفردوس وتمر بالجنان الأربع، وهي: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل مصفى، يقول الله عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15] والأسن: آفة تصيب الماء إذا ركد، إذا تركت الماء راكداً أياماً وليالي تأتي عليه وقد تغير، وتعفنت رائحته، و(آسنَ) يعني: تسمم ولم يعد يصلح للاستعمال، لكن ماء الجنة غير آسن.

وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] وهذه آفة في اللبن أنه إذا مر عليه وقت تغير طعمه، هذا اللبن الموجود في الأسواق إذا اشتريته اليوم يكون له مذاق، وإذا اشتريته بعد أسبوع يصبح حامضاً، أما بعد أسبوعين فإنه يتسمم ولا يصلح للاستعمال، ولهذا يضعون على كل علبة تاريخ انتهاء الصلاحية، لكن لبن الجنة ليس له انتهاء في الصلاحية، ولا يتغير طعمه.

وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15].

قصور الجنة

يا أصحاب العقار! يا من تحبون العقار! يا من تحبون المباني! استمعوا إلى وصف قصور الجنة وعماراتها! يقول عز وجل: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20] ويقول عز وجل: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان:75] ويقول عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الفرقان:10].

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة) هذه لأهل الخيام، وتلك للذين يحبون العقار؛ لأن هناك من الناس من يحب العقار لكنه يريد أن يعمل له في الحوش أو في الحديقة أو في البستان بيت شعر، أو يعمل له خيمة؛ لأنه ضاق من الغرف والمجالس ومل منها، فيريد أن يأتيه الهواء من كل جانب، فاسمع ما لك من خيمة في الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين : (إن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة -كل الخيمة من لؤلؤة- عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها -من زوايا هذه الخيمة- أهلٌ -يعني: زوجة- لا يرون الآخرين -يعني: أن بينها وبين رفيقتها مسافة بحيث أنها لا تراها من كبر المسافة، كم مساحة هذه الغرفة؟- يطوف عليهن كلهن) أي: أن المؤمن يطوف على زوجته هذه وتلك في خيمة واحدة لا يرى بعضهم بعضاً، لا إله إلا الله!

فرش الجنة وآنيتها

يقول عز وجل بالنسبة للفرش: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن:54] يقول ابن القيم : البطانة من استبرق فكيف الظاهر؟ ماذا يكون؟ لا يعلمه إلا الله، وتجد دائماً أنك عندما تعمل فراشاً تضع البطانة من النوع الرديء، لكن الذي في واجهة الناس من النوع الحسن، ولهذا عندما تشتري -الآن- مجلساً عربياً ترى أنهم يضعون القماش الحسن مما يلي الجالس، ولكن إذا قلبت المسند ترى قماشاً ليس بنفس الجودة تلك، بل أقل بكثير؛ لأن هذا لا يراه أحد، ولكن في الجنة لا يوجد هذا. فالبطائن من استبرق، وهو أعظم أنواع الحرير حسناً، والذي يظهر للناس الذي يجلسون عليه ما هو؟ أخفاه الله من أجل أن تتشوق النفوس إليه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

ويقول عز وجل: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] ويقول: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:15-16] .. ويقول: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:13-16] هذا بالنسبة للفرش.

أما الأواني فهي من صحاف وأكواب وكئوس كلها من الذهب، يقول عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] ولكن لمن؟ للذي لم يشرب ويأكل فيها في الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشربوا ولا تأكلوا في آنية الذهب والفضة في الدنيا، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) لا تأكلوا ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة فإنها للكفار في الدنيا -إذ عندهم مال- ولكن أنتم إن شاء الله هي لكم في الجنة.

قال عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] ويقول عز وجل: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً [الإنسان:15-16] فكيف تكون هناك ذهب وهنا فضة؟ قالوا: آنية الذهب للذي في الجنة التي من الذهب، وآنية الفضة للذي في الجنة التي من الفضة.

نساء الجنة

ولقد جاء التفصيل الكثير في الجنة فيما يتعلق بالنساء، يقول ابن القيم رحمه الله: وفي هذا سر بليغ، فإن أعظم لذائذ الحياة الدنيا هي النساء، ولهذا قدم الله عز وجل هذا في سورة آل عمران، فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] ثم أباح الله الزواج الحلال وحرم الزنا، وحتى لا يتصور من يرفض الزنا ويستعف ويكتفي بما أحل الله عز وجل، حتى لا يتصور أنه محروم جاء التعويض له في الجنة والترغيب والتشويق بذكر ما أعد الله عز وجل له في الجنة بشكل ملفت للنظر، سمى الله نساء الجنة فقال: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] .. وقال في آية أخرى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49] وقال في آية أخرى: كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:23] وقال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70] وقال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] وقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] يعني: وصف عظيم لنساء الجنة.

كما جاء الوصف في السنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لكل مؤمن في الجنة زوجتان من نساء الدنيا) أما من الحور العين فعلى قدر أعماله، والحد الأدنى أن له اثنتان من نساء الدنيا، فإن كان عمله (100%) أخذ سبعين حورية، وإن كان عمله أقل من ذلك -مثلاً- أخذ خمسين حورية، يعني: يتفاوتون في الحوريات؛ لأن الحوريات أنشأهن الله إنشاءً: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

ولعلك تقول: مالنا ولنساء الدنيا؟! بعض الناس يقول: أنا أهرب -الآن- منها في الدنيا وتلقاني أيضاً في الجنة؟ وهناك شخص ماتت زوجته فلما ماتت وأراد أن يتزوج -ولم تمت حتى آذته- فلما ماتت قال له أحد أولاده: أسأل الله يا أبي! أن يجمعك بها في الجنة، فقال الأب: أسأل الله ألا يجمعني بها في الجنة! يقول: أن يجعلها في دار غير الجنة؛ لأنه كان قد ضاق ذرعاً بها. ولعل شخصاً من الناس يقول: حسناً.. ما لنا ونساء الدنيا؟ نريد فقط نساءً حورياتٍ، وأما نساء الدنيا فلا نريدهن. نقول: لا. إن نساء الدنيا غير نساء الجنة؛ لأن الله تبارك وتعالى ينزع من النساء سوء الأخلاق، وينزع منهن جميع الصفات السيئة، ولا يبقى فيها إلا الخلق القويم الجميل؛ ولأن المؤمن لا يتلذذ التلذذ الكامل إلا بنساء الدنيا، فاعلم أن النساء المؤمنات المسلمات الصالحات اللاتي استقمن على دين الله وأدخلهن الله الجنة سيكن لك في الجنة خير وأجمل من الحور العين، وأجمل أيضاً في الأخلاق من الحور العين، وأن الحور العين خدم لهن، فالحورية في الجنة تكون خادمة للمؤمنة من نساء أهل الجنة، يقول الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].

واعلم أن نساء أهل الجنة مطهرات، ليس كما كانت في الدنيا، سواء منهن المسلمات أو الحور العين، فلا بول ولا غائط ولا حيض ولا نفاس، ولا ولادة، وإنما أبكار، كلما جاءها زوجها رجعت بكراً كما كانت، فليس هناك شغل عند المؤمن إلا افتضاض الأبكار في الجنة، يأتيها بكراً ويذهب فيردها الله بكراً مرة أخرى، كيف؟ لا نعلم. هذا نعيم أعده الله لأهل الجنة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

يقول الله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] ويقول: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] وسماهن الله كواعب: وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:33]، وأتراب أي: في سن واحدة، وكواعب: يعني: ناهدات، أي: مرتفعات النهود.

أرأيت يا أخي! لو أن رجلاً أو شاباً أراد أن يتزوج وأخبره أحد الناس عن فتاة جميلة مهذبة ذات خلق ودين وجمال، فحببه إليها، حتى ازداد شغفاً لها ورغبة فيها، وبذل المال الطائل في سبيل الزواج منها، ولربما أدى هذا إلى إتلاف روحه في سبيل نيلها، وهذا رب العالمين -أيها الإخوة- أصدق المخبرين: ِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] يخبرنا عن الحور العين ويصفهن ويحببهن إلينا بما يجعلنا نرغب فيهن، ونعمل من أجل الحصول عليهن، والزواج منهن، فهل من خاطب -أيها الإخوة- في الحوريات؟ هل من راغب لهن في الجنة، إن كنت خاطباً فبرهن على صدقك بدفع المهر المقدم، إنه الإيمان بالله، إنه العمل الصالح، إنه اجتناب محارم الله. ولا تكن كمثل ذلك الأعرابي الذي صلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحسن الصلاة، صلى صلاة خفيفة ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك حوراء عيناء في الجنة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أحسنت الخطبة ولكنك أسأت المهر) تريد جنة وفيها حوراء عيناء بهذه الصلاة المضطربة! لا ينفع هذا المهر.

إن الجنة -أيها الإخوة- لا بد أن تدفع فيها المهر الغالي.

ومن يخطب الحسناء     لم يغله المهر

يقول ابن القيم رحمه الله:

فكن مبغضاً للخائنات بحبهـا     لتحظى بها من دونهن وتسلم

ويا خاطب الحسناء إن كنت راغباً     فهذا زمان المهر فهو المقدم

إن كنت تريد الحوراء فقدم المهر، وهو: الإيمان والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله، وإليك هذا الحديث الشريف الذي يزيدك حباً في الحوريات، يروي الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينها -يعني: ما بين الخافقين- ولملأت ما بينهما ريحاً -ما بين السماء والأرض- ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) فما ظنك -يا أخي- إن كان خمارها خير من الدنيا وما فيها، وريحها يعبق ما بين السماء والأرض؟ فيا سعادة من تكن له هذه الزوجة!

اللهم وفقنا للعمل الصالح والإيمان الصادق حتى نكون من أزواجهن برحمتك يا أرحم الراحمين!

واعلم يا أخي! أن من في الجنة لا يحتاج إلى مرآة، فإذا كنت في الجنة فلا يوجد هناك مرايات لكي ترى شكلك ومنظرك، وإنما تنظر في وجهها وفي صدرها فترى وجهك في صدرها، وترى مخ ساقها من وراء الحلل كما ترى اللبن في القارورة، لا تخفيه حللها، ويحكى أن رجلاً من الصالحين لما سمع قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] لما سمع هذه الآية، قال: الله اشترى مني ودفع لي الجنة، فقام وجاهد حتى وجدوه وقد قتل في سبيل الله عز وجل.

الخدم والغلمان في الجنة

ومن تمام سعادة الإنسان في الجنة أن يكون له خدم يخدمونه؛ لأنه إذا خدم نفسه تنغصت معيشته، لكن عندما يكون لديه خدم يقومون على خدمته، ويشرفون على أموره فإنه يزداد سعادة، بحيث لا تبذل أي جهد وإنما يوزع الأعمال على خدمه وغلمانه من حوله، فهذا يقدم له الماء، وهذا يقدم له الطعام، وهذا يقدم له الملابس، وهذا يقدم له الحذاء، وهذا يفتح له باب السيارة، وهذا يعمل في المزرعة، وهذا يرتب المكان، خدمة عظيمة!

من الذي يخدمك في الجنة؟ وصف الله عز وجل خدم الجنة وغلمانها بأنهم لؤلؤ مكنون، فقال عز وجل: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً [الإنسان:19] وإذا كان الخدم مثل اللؤلؤ المنثور فكيف بالمخدومين، لا إله إلا الله!

واعلم يا أخي! أن أولئك الغلمان هم ملك لأهل الجنة، وليسوا أجراء، وإن أدنى أهل الجنة منزلة من يقف ويكون على خدمته ثمانون ألف غلام، يقول الله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24] ويقول: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71] ويقول عز وجل: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:17-21].

طعام وشراب أهل الجنة

أما طعامها وشرابها، فقد ذكر الله عز وجل الطعام بأنه من ألذ اللحوم وهو الطير، قال عز وجل: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21] وقال: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور:22] وهذا اللحم غير منقطع، فمتى شئته وجدته، بخلاف ثمرات الدنيا وفاكهة الدنيا، ولحوم الدنيا فإنها توجد في أوقات وتنعدم في أوقات، أما فاكهة الجنة وثمار الجنة فإنها لا مقطوعة ولا ممنوعة، لا مقطوعة بزمن، ولا ممنوعة بثمن: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] واعلم أن الجنة فيها من جميع الثمار ومن جميع الفواكه، التي تعلمها والتي لا تعلمها، ولا تعرف مكانها ولا تحمل في سلة أو كيس وإنما معلقة في أشجارها، وإذا أردتها تدلى لك الغصن، يقول الله عز وجل: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54] وقال عز وجل: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:14].

وورد في الحديث أن المؤمن وهو جالس في الجنة يشتهي الفاكهة وهي في الشجرة فيتدلى له الغصن ثم يقطف منه ويأكل ثم يعود الغصن كما كان، يقول الله عز وجل: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23] فلا يذهب ليأتي بها ولكنها دانية.

ويروي الترمذي عن أنس رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]) ولعلك تقول: يا أخي! إن هذه الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام فكيف يستطيع أن يأكل من جميع الثمار، فاعلم يا أخي! أن أغصان الجنة ملتفة حول بعضها من كثرتها، يقول الله: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48] أي: ملتفة بعضها على بعض، ولكن تأكل من كل الثمار، وتجد لآخر فاكهة، أو لآخر طعام من اللذة والطعم ما لأول أكلة، لماذا؟ قال العلماء: لأن طعام الجنة ليس كطعام الدنيا، فأنت تأكل طعام الدنيا على أساس تقوية جسمك وتعويضه بالمواد الغذائية، فإذا اكتفى جسمك فإنك بعد ذلك لا تريد، ولهذا إذا شبعت وأتى شخص وأجبرك بشيء طيب، فإنك تقول: طعام طيب ولكني شبعت، فلا أستطيع، وإذا أجبرك وقال: والله لابد أن تأكل -هذا إكرام أم ماذا؟ إهانة- وفتح فمك وأدخل فيه الطعام بالقوة فإنك ستموت أو تتقيء؛ لأنك تأكل لغرض، وهذا الغرض هو تعويض الجسم بالطعام، لكن في الجنة لا تأكل لغرض تعويض الجسم، وإنما تأكل لغرض المتعة.

وفي قول الله عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف:71] ذكر ابن كثير حديثاً، قال: (يطوف على رأس كل رجل من أهل الجنة عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان: صحفة من ذهب وصحفة من فضة، في كل صحفة لون من الطعام ليس في الثانية مثله) يعني: عشرة آلاف في صحفتين كم تصبح؟ عشرين ألف نوع من الطعام، يأكل من أوله حتى يصل إلى آخره، فيجد لآخر لقمة من الطعم واللذة مثل ما لأول لقمة، لا إله إلا الله! اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين!

هذه ثمارها وطعامها.

لباس وزينة أهل الجنة

أما لباسهم فهو الحرير، يقول الله عز وجل: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ [الإنسان:21] وهذه الثياب لها خاصية أنها لا تبلى، وكلما طال عليها الزمن تزداد جمالاً وجودة، أما الرجال فيلبسون على رءوسهم التيجان المرصعة باللؤلؤ.

روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة جرد مرد) ليس هناك لحى في الجنة، إذا كان معك لحية في الدنيا وأتعبتك وأزعجتك بالإحراجات وبما يصفك الناس به فاصبر عليها، فإنك في الجنة ستكون أجرد أمرد، من أجل النعيم، لكن إذا كنت أجرد أمرد هنا تكون معك لحية هناك، لكن أين تكون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!

أخي: لا بد أن نتمسك بهذه السنة -أيها الإخوة- هذه السنة ليست شعر، لا. هذا هدي نبوي، هذا دين، هذا شرع، هذا أمر الله، يقول الله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] الرسول أمرنا أن نعفي لحانا، قال: (قصوا الشوارب) (اعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخو اللحى) (أسدلوا اللحى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) كانت لحيته الشريفة ما بين منكبيه، تملئ وجهه.

فالقضية ليست قضية شعر، وإنما قضية انتماء، قضية اعتزاز، قضية فخر، قضية محبة للرسول صلى الله عليه وسلم.

من أحب مخلوق عندك أنت أيها المسلم؟! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من الرجل المثالي في كل حياتك، والذي تتشرف أنت أن تكون من أتباعه ومتأسٍ به؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] هذا الذي يكون له أسوة في رسول الله، من كان يرجو الله، ويرجو ما عند الله، وذكر الله كثيراً، أما من يحلق لحيته ويعتدي عليها -أيها الإخوة- فإنه يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالف أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول يقول: (أكرموا اللحى) فهل أكرمها مَن حلقها؟ لا والله. بل أهانها، أين يحلق الرجل لحيته؟ إما في غسالة البيت، وتذهب بعد ذلك في المجاري أو عند الحلاق، يحلقها ثم يدوس عليها برجله، ثم يكنسها بالمكنسة، ويضعها في صندوق القمامة، ثم تمر سيارة البلدية ويدعيهم فيقول: خذوا ثمانين لحية واذهبوا بها إلى المحرقة.

هذه لحى المجرمين! أكرم ما فيك وجهك ولحيتك، ولهذا لو جاء شخص وجذب لحيتك فإنك تأكله، كل شيء يهون فيك إلا لحيتك، وكان الآباء والأجداد يوم أن كان للحية قيمة إذا قال الشخص كلمة وأراد أن يلتزم بها قال: في لحيتي، يعني: انتهى.

لكن الآن لو قال لك: في لحيته، يعني في ماذا؟ في عظمه، ولا وحول ولا قوة إلا بالله!

(إن أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، عليهم التيجان، وإن لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وأما النساء فيلبسن على رءوسهن الخمر) سبحان الله! يقول العلماء: إن المؤمن والمؤمنة في الجنة يعفيان من كل تكاليف الشرع الإسلامي، لا صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولا حج ولا بر، ولا شيء، ليس هناك إلا أكل ونكاح، حتى النوم لا يوجد، لماذا؟ قال العلماء: لأن النوم في الجنة يفوت على الشخص النعيم؛ ولأنه إذا نام فاته الأكل والشرب والنكاح، ولا يوجد نوم في النار، لماذا؟ لأن النوم يريحهم من العذاب، ولهذا قال الله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً [النبأ:24] قالوا: البرد يعني: النوم، لا يذوقون النوم، فأهل الجنة لا ينامون حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، وأهل النار لا ينامون حتى لا يستريحون من العذاب.

إلا تكليف واحد أبقاه الله على النساء في الجنة، وهو: الحجاب.

ولهذا قال الله: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] أي: محجبات، والمرأة في الجنة وهي في الجنة أيضاً محجبة، وهذا شرف عظيم لها، أن الله عز وجل يغار عليها في الدنيا ويغار عليها أيضاً في الجنة، وعلى رءوسهن الخمر، وقد علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن خمارها أي: غطاءها خير من الدنيا وما فيها.

وأما الزينة والحلي، فهي أسوار، يقول الله عز وجل: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23] ويقول: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21] والحديث في سنن الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة طلع فبدا إسوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم) الآن في الليل هل ترون النجوم؟ نعم. لكن في الصباح والنهار هل نراها؟ لا. هي موجودة ونورها موجود لكن لا نراه، لماذا؟ لأن الشمس طمسته، كذلك لو طلعت إسورة فقط من حلي مؤمن من أهل الجنة لطمست الشمس كما تطمس الشمس النجوم، فلن ترى الشمس من بريق إسورة فقط من أساور أهل الجنة.

فهذه الجنة -يا أخي- وهذا وصفها.

حال أهل الجنة

أما عن حال أهلها ونعيم أهلها -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فإنهم يدخلون الجنة شباباً، سواءً مت كبيراً أو صغيراً، شيخاً أو كهلاً، فإنك تعود إلى سن ثلاث وثلاثين سنة، وهذا المعدل أفضل معدل لسن الشاب، أما قبله وبعده فليس بحسن، لكن هذا السن أحسن شيء، وطول الواحد منهم طول آدم، ستون ذراعاً، والعرض سبعة أذرع، والجمال جمال وحسن يوسف عليه السلام، والخلق خلق محمد صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار) نعوذ بالله وإياكم من النار.

وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من ذهب، وأمشاطهم من ذهب، ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك) والألوة هي العود، وهو عود الطيب، والعرق الذي يخرج من أهل الجنة المسك.

ويقول عليه الصلاة والسلام -والحديث أيضاً أخرجه الترمذي - : (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة النصف، والثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان) وهكذا يعيشون في الجنة يأكلون ويشربون، لا يتغوطون ولا يبولون، وإنما يرشح منهم الطعام والشراب رشحاً لونه رشح وريحه ريح المسك، كما أنهم لا يموتون ولا يمرضون، ولا يهرمون ولا يضعفون، ولا يحزنون ولا يتعبون، وليست بينهم عداوة ولا بغضاء، وليس بينهم حسد ولا نزاع، بل إخوة متحابون، يقول الله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35].. وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].

روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً -السوق هذا كل جمعة- فتهب ريح -يسمونها ريح الشمال- فتحثوا وجوههم وثيابهم بشيء من الجمال، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلوهم: والله لقد ذهبتم وعدتم إلينا وقد ازددتم حسناً وجمالاً فيقولون: والله وأنتم لقد ازددتم حسناً وجمالاً) يعني: مع كثرة الاستمرارية والعيش في الجنة يمل بعضهم بعضاً، فيجري التجديد للجمال كل أسبوع، يعني: كل أسبوع ومعك زوجة فيها جمال غير الجمال الأول.

وقارن في الدنيا عندما يكون معك سيارة (موديلها) [95] تستريح فيها، لكن عندما تطلع [96] فماذا تفعل؟ تنظر إلى [96] وتقول: الله ما هذا الجمال! هذه ممتازة، هذه شكلها حسن! وتبقى سيارتك في نظرك قديمة، وإذا جاء (موديل) [97] أصبحت سيارتك أقدم، إلى أن تستقبحها وتبيعها.

لكن لو كان لك كل (موديل)، كلما ظهر (موديل) اشتريته، معناها أنك رجل في مكان عالٍ، كذلك أهل الجنة كل أسبوع، وليس كل سنة، كل أسبوع يجتمعون في سوق اسمه سوق الجنة، وهذا السوق يحصل فيه بيع وشراء، لكن من غير ثمن، السلع موجودة وأنت تأخذ منها ما تشاء، والله يتجلى على الناس في ذلك اليوم:

ويرونه سبحانه من فوقهم     نظر العيان كما يرى القمران

وبعد ذلك يرجعون إلى بيوتهم، فإذا دخلوا على زوجاتهم لا يعرفنهم، تقول الزوجة: والله ما أنت الأول، ازددت والله حسناً وجمالاً، وهو يقول: وأنت أيضاً لست الأولى، ماذا فعلت؟ ازددت حسناً وجمالاً.

تغير (الموديل)! كل أسبوع ومعك (موديل) عظيم في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

يقول عز وجل وهو يبين أن أعظم نعمة هو النظر إلى وجهه الكريم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: مشرقة وجميلة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: مشاهدة، ويقول: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] والزيادة هي: النظر إلى وجه الله الكريم، ويقول: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] والمزيد هو: النظر إلى وجه الله الكريم، فعندما يتجلى الله عز وجل ويكشف لهم الحجاب يخرون سجداً لله عز وجل فيقال لهم: ارفعوا رءوسكم يا عبادي! إن عهد العبادة قد مضى في الدنيا وانقطع، وأنتم اليوم في درا النعيم، ودار الجزاء: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] فلا صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهاد، بل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]. ويزداد النعيم عليهم عن طريق الملائكة التي تدخل من أجل التبريك والتهنئة، يقول الله عز وجل: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].

أخلاق أهل الجنة

أما في ما بينهم -أيها الإخوة- من أخلاق وتعامل، فلا خصام ولا كذب ولا لغو ولا حسد، بل تحيتهم فيها سلام، يقول الله: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [إبراهيم:23].. وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع