خطب ومحاضرات
الإصرار على المعاصي
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
طلب العلم الشرعي -علم الكتاب والسنة- فريضة من فرائض الدين، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وليس في الحديث مسلمة، ولكنها تدخل ضمن المعنى؛ لأن كل تكاليف الشرع موجهة إلى الرجل والمرأة ما لم يختص الرجل بحكم وتختص المرأة بحكم، وإلا فإن الأصل أن كل تكاليف الشرع موجهة إلى الإنسان بجنسيه: الذكر والأنثى.
فالعلم المفروض هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلم ينقسم إلى قسمين من حيث هو فريضة: فرض عيني، وفرض كفائي.
فالفرض العيني هو علم القرآن والسنة مما يتعلق بعبادة الإنسان وعقيدته وسلوكه، فهذا لا يعذر بجهله أحد وإنما يجب عليه شرعاً أن يتعلم ذلك.
أما الفرض الكفائي فهو بقية العلوم -أي: علوم الإنسان التجريبية- كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء.. وجميع هذه العلوم. فليس مفروضاً على كل مسلم أن يكون طبيباً أو مهندساً، ولكنه فرض كفائي يجب على الأمة في العلوم، فإذا قامت به بعض الأمة سقطت العهدة عن البقية، إذ ينبغي ويجب أن يكون في المجتمع المسلم أطباء ومهندسون وعلماء في كل مجالات الحياة، حتى يعمروا هذه الحياة عمارة حقيقية، ويكونوا خلفاء لله في أرضه؛ لأن الدين يشمل وينتظم كل مصالح الدنيا والآخرة، وسعي الناس في طلب العلم -والحمد لله- خاصة الشباب منهم في هذا الزمن، الذين نسأل الله عز وجل أن يوفقهم ويثبتنا وإياهم، ويبصرهم في دينه، فإن حرصهم على حضور حلقات العلم هو قيام بالواجب، وليس في ذلك شك؛ لأنهم يؤدون فريضة الله، وهي ظاهرة تدل على الصحوة الإيمانية التي يشعرون بها، نسأل الله أن يزيدهم توفيقاً وهداية وثباتاً.
ولا نريد أن نبالغ إذا قلنا: إن الشباب في خير؛ حتى لا يحصل لهم شيء من الغرور، ويظنون أنهم قد قاموا بالواجب على أكمله؛ لأن الدارس لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة السلف رضي الله عنهم، ورؤيته للجهد الجهيد والمعاناة التي كان يشاهدها ويلاقيها السلف في سبيل تحصيل العلم، يرى في ذلك أنه لا نسبة ولا تناسب بيننا وبينهم؛ لأنهم كانوا يقطعون الفيافي والقفار والمدن والشهور في سبيل تحصيل العلم.
موسى عليه السلام وحرصه على طلب العلم
أكثر الناس يجهل محمد بن عبد الوهاب وغيره من الأعلام، ولا يعرف إلا الأسماء التي يسمعها في الليل والنهار عن المغنين.
المضيق هذا اسمه مضيق طارق بن زياد ، وهو فاتحٌ وقائدٌ إسلامي عظيم، فتح الأرض حتى وصل إلى أسبانيا عبر المضيق وأحرق السفن، وقال للجيش: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، فاقتحموا وفتحوا بلاد أسبانيا وجزءاً من بلاد فرنسا ، يوم أن كانت راية الإسلام مرفوعة وعلم الجهاد عالياً.
أخبر الله موسى أن هناك عبداً صالحاً أعلم منه، فقطع المسافة من بلاد فلسطين حتى مغرب الشمس.
انظروا! يقطع الطور ويأتي إلى مصر ويعبرها إلى ليبيا وتونس والجزائر ثم المغرب ، كل هذا على قدمه، وليس معه شيء إلا غلامه وهو يوشع بن نون ، وهم يعبرون الطريق في سبيل تحصيل العلم؛ من أجل أن يقف على عالم يأخذ منه علماً، فلما وجده قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] الغرض من الرحلة الطويلة أنه يتعلم منه، فقال له الخضر عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] فالعلم يحتاج إلى صبر، ومن لم يصبر لا يتعلم.
والصبر أنواع عدة: صبر في الطلب، والأدب، والأداء، والحفظ، والمجالسة؛ لأن مجالس الذكر تطول وتكثر عليك، فلا بد من الصبر والتحصيل والحفظ.
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] ..قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69] قال: من أول الآداب أن تمشي ولا تسأل، أي: لاحظ وارصد، لكن لا تسأل قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا [الكهف:70-71].
وعبر الرحلة كانت هناك ثلاثة مشاهد، تستوجب من موسى عليه السلام أن يسأل عنها؛ لأنها أشياء في ظاهرها الإفساد وعدم التعقل:
المشهد الأول: عندما ركب السفينة خرقها، والخرق تدمير وتخريب، وموسى نبيٌ مرسل للإصلاح ومحاربة الإفساد، فلم يصبر على الذي يراه.. السفينة تُخرق، والماء قد يدخل وتغرق السفينة، فقال للخضر: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] فكان الجواب مباشرة أن قال له الشرط: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الكهف:72-74].
المشهد الثاني: دخلا مدينة، فوجدا غلاماً يلعب مع الأطفال فلحقه الخضر وأمسكه بإحدى يديه ورأسه بيده الأخرى ثم قطع رأسه، فاستنكر موسى هذا الأمر؛ لأنه قتل للنفس بغير حق، وقال: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] في الآية السابقة قال: شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] أي: يدعو إلى العجب؛ الناس يركبونك في السفينة وأنت تخرقها، ولكن هنا لم يقل له: (شَيْئاً إِمْراً) ولكن قال له: (شَيْئاً نُكْراً)، أي: أمر منكر لا يمكن أن أسكت عليه، فقال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75] ففي الآية السابقة قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الكهف:72] لكن في المرة الثانية: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ) وهذه فيها زيادةٌ توبيخ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76] أي: أعطني فرصة أخيرة ومحاولة ثالثة وأخيرة: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف:76].
المشهد الثالث: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] عندما وصلوا إلى القرية لم يضيفوهما، وطلبوا من أهلها الطعام فلم يطعموهما، ثم وجد الخضر جداراً يريد أن ينقض فقال لموسى: دعنا نبني هذا الجدار، قال موسى: سبحان الله! كيف يطردونا ولا يطعمونا وأنت تبني لهم جداراً دون مقابل، على الأقل خذ عليه أجراً قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:77-78] أنت لا تصلح لطلب العلم، فالعلم يريد صبراً سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] ثم ذكر له القصة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى، لو صبر لأرانا من عجائب علم الله عند الخضر عليه السلام) لأن الله قال: عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] علم لدني أي: من الله تبارك وتعالى أطلعه الله عليه، ففاصله بعد أن أخبره الخبر، ويوم أن أراد أن يعود ليودعه كان في المحيط الأطلسي طائر ينقر في المحيط، ويأخذ بمنقاره نقطة من الماء، قال الخضر: أترى هذا يا موسى؟ قال: نعم. قال: هل ينقص هذا المنقار من هذا المحيط شيئاً؟ قال: لا. قال: والله ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا المحيط لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98].. لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] ويعلم كل ورقة، وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] سبحانه لا إله إلا هو! يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
وقطع الرحلة موسى عليه السلام وعاد، وهذا كله في سبيل تحصيل العلم.
السلف وطلب العلم
إذاً: هذه العلوم والثروة العظيمة كانت ببركة الصبر والسعي والجهد والتحصيل العلمي لإرضاء الله عز وجل، لم يدرسوا العلم من أجل الشهادات كما هو الآن في غالب أحوال الناس من طلب العلم للحصول على المؤهل، فإذا حصل على الشهادة نسي العلم كله.
ولهذا لو سألت الطالب الذي يختبر اليوم في مادة التوحيد وعنده بعد يومين مادة التفسير، تعال واسأله بعد أن يخرج من التفسير عن التوحيد الذي دخله قبل يومين، يقول: والله قد نسيت، أين علمك عن التوحيد؟ قال: وضعته في الورقة. فالهدف من تحصيله للعلم أنه يقدم للامتحان، بينما السلف هدفهم العلم لوجه الله عز وجل.
يروى عن الإمام أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يحفظ ألف ألف حديث، أي مليون حديث بأسانيدها، وأنه أشكل عليه رجل في سند حديث، فسأل عنه فقيل له: إنه عند عبد الرزاق الصنعاني ، صاحب المصنف ، وكان يسكن في صنعاء بـاليمن، وكان الإمام أحمد يسكن في بغداد بـالعراق ، فرحل من بغداد إلى اليمن ، يريد أن يأخذ السند.
وكان معه في الرحلة يحيى بن معين ، ومرا في طريقهما إلى اليمن بـمكة فحجا، ولما كانا يطوفان بالبيت رأيا عبد الرزاق الصنعاني ، قد جاء من اليمن للحج ، وكان يحيى بن معين يعرف عبد الرزاق ، فسلم عليه بعد أن طاف، وقال للإمام أحمد : يا أبا عبد الله ! قد كفيت مسيرة شهر ومؤنتها، يقول: وفر الله عز وجل عليك مسيرة شهر إلى اليمن وأيضاً النفقة فيها؛ لأنها على حسابهم بدون انتداب، وبدون مؤنة، وكانت وسائل النقل في ذلك الوقت الحمير، لا يوجد عندهم سيارات ولا طائرات؛ يمشون على أقدامهم في الحر والقر والبرد والجوع والخوف! وفي سبيل العلم يقطعون كل هذه المسافات، فقال يحيى بن معين للإمام أبي عبد الله : لم لا نسأله الآن؟ قال الإمام أحمد : والله لا نرجع عن النية التي قد أردناها لوجه الله، والله لا آخذ هذا الحديث إلا في صنعاء، لأنني خرجت من هناك لوجه الله، فلا أريد أن أعطل نيتي بطلب العلم، ولا أبد أن أرحل.
ولكن من الناس اليوم من تكون الندوة بجوار بيته، والعالم يأتي إلى قريته، ثم لا يأتي للصلاة؛ لأن المحدث سوف يؤخره نصف ساعة أو ساعة، وبعضهم يأتي يصلي فإذا قام المحدث أو العالم أو طالب العلم يذكر خرج وتركه والعياذ بالله، ربما كانت الحلقة العلمية موجودة في أبها في مسجد الشيخ عائض أو أحمد بن حسن ولكنه لا يحرص على الحضور إليها، وكيف يريد هذا الإنسان أن يرزق العلم، ويؤتى الإيمان، وتحل البركة وهو معرض مدبر عن الله عز وجل!
إن أقصى درجاتك أن تحرص على طلب العلم على الأقل بدون شد رحال، فكيف إذا كنت في مدينة تقام فيها ندوات ولا تحضرها؟! أجل. كيف تريد أن تهتدي؟!
عظم أجر طالب العلم
انظر الفرق بين النزول والغشيان، النزول يقول العلماء: يكون على موضع، أما الغشيان فيكون على العموم، فتنزل السكينة على موضع، أين تنزل السكينة؟ في القلوب (إلا نزلت عليهم) أي: على قلوبهم، (السكينة) وهي ضد القلق، والتبرم والتضجر والحرج، و(غشيتهم) أي: تغشى الموجودين، حتى الذي ما نزلت عليه السكينة في قلبه تنزل عليه الرحمة، ولو كان قلبه ليس خاشعاً كأن يكون ليس من أهل الذكر أو المجلس، أو مر لغرض وسمع الصلاة قامت وجاء يصلي، لكنه يدخل معهم في الرحمة؛ لأنهم (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).. (وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
ثم قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: وسائل النقل التي يعبر عليها الناس يوم القيامة هي العمل، أما النسب فلا يسرع ولو كنت ابن الملك أو ابن الأمير أو ابن الوزير أو ابن أي شخصية في الدنيا وما عندك عمل والله لا تمشي على الصراط خطوة واحدة، ولا ينفعك في القبر لا ملك ولا مال ولا جاه ولا سلطان ولا نسب ولا أي شيء من مقومات الدنيا، لكن تأتي وعندك إيمان قوي، ولو كنت ابن أوضع إنسان فإن الله تبارك وتعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
الوسائل التي يقطع بها الناس الأهوال يوم القيامة هي وسائل الإيمان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة : (يا
موسى عليه السلام لما وقف خطيباً في بني إسرائيل وقال: إنه لا يعلم في الأرض أعلم منه، ولم يستثن ويقول: إلا الله، فأراد الله أن يخبره أن في الأرض من هو أعلم منه، فأوحى إليه أن هناك عبداً صالحاً آتاه الله علماً، وأنه يسكن في مجمع البحرين؛ ومجمع البحرين في نهاية قارة إفريقيا في الشمال الغربي منها، عند التقاء البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي في مضيق جبل طارق ، في أرض المغرب في مدينة اسمها طنجة ، أي عند التقاء المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط ، في المضيق الذي يسمونه الآن: مضيق طارق ، ليس طارق عبد الحكيم ؛ لأن بعض الناس لا يتصور إلا هذا الاسم، وإذا قلت له: محمد عبد الوهاب ، لم يخطر في ذهنهم إلا الموسيقار، لا يعرفون أنه يوجد شخص اسمه محمد بن عبد الوهاب ؛ الإمام المجدد الذي دعا إلى دعوة التوحيد، والذي قامت على دعوته هذه الدولة، والذي نظف وطهر الله بدعوته هذه الجزيرة العربية من أدران الشرك، بعد أن كان الشرك مهيمناً ومخيماً عليها، لدرجة أنهم في نجد كانت المرأة التي لا تحمل تأتي إلى عذق النخل وتقول له: يا فحل الفحول! أعطني بعلاً قبل الحول. وكان يطاف بقبر زيد بن الخطاب في اليمامة كما يطاف بالكعبة، ولكن بأثر دعوة هذا الشيخ المبارك، ثم بتعاون أسرة آل سعود مع الشيخ في أول الدعوة، وكان لهذا الأثر قيام التوحيد، ومن ثمرة التوحيد هذه الدولة الموحدة إن شاء الله.
أكثر الناس يجهل محمد بن عبد الوهاب وغيره من الأعلام، ولا يعرف إلا الأسماء التي يسمعها في الليل والنهار عن المغنين.
المضيق هذا اسمه مضيق طارق بن زياد ، وهو فاتحٌ وقائدٌ إسلامي عظيم، فتح الأرض حتى وصل إلى أسبانيا عبر المضيق وأحرق السفن، وقال للجيش: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، فاقتحموا وفتحوا بلاد أسبانيا وجزءاً من بلاد فرنسا ، يوم أن كانت راية الإسلام مرفوعة وعلم الجهاد عالياً.
أخبر الله موسى أن هناك عبداً صالحاً أعلم منه، فقطع المسافة من بلاد فلسطين حتى مغرب الشمس.
انظروا! يقطع الطور ويأتي إلى مصر ويعبرها إلى ليبيا وتونس والجزائر ثم المغرب ، كل هذا على قدمه، وليس معه شيء إلا غلامه وهو يوشع بن نون ، وهم يعبرون الطريق في سبيل تحصيل العلم؛ من أجل أن يقف على عالم يأخذ منه علماً، فلما وجده قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] الغرض من الرحلة الطويلة أنه يتعلم منه، فقال له الخضر عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] فالعلم يحتاج إلى صبر، ومن لم يصبر لا يتعلم.
والصبر أنواع عدة: صبر في الطلب، والأدب، والأداء، والحفظ، والمجالسة؛ لأن مجالس الذكر تطول وتكثر عليك، فلا بد من الصبر والتحصيل والحفظ.
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] ..قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69] قال: من أول الآداب أن تمشي ولا تسأل، أي: لاحظ وارصد، لكن لا تسأل قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا [الكهف:70-71].
وعبر الرحلة كانت هناك ثلاثة مشاهد، تستوجب من موسى عليه السلام أن يسأل عنها؛ لأنها أشياء في ظاهرها الإفساد وعدم التعقل:
المشهد الأول: عندما ركب السفينة خرقها، والخرق تدمير وتخريب، وموسى نبيٌ مرسل للإصلاح ومحاربة الإفساد، فلم يصبر على الذي يراه.. السفينة تُخرق، والماء قد يدخل وتغرق السفينة، فقال للخضر: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] فكان الجواب مباشرة أن قال له الشرط: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الكهف:72-74].
المشهد الثاني: دخلا مدينة، فوجدا غلاماً يلعب مع الأطفال فلحقه الخضر وأمسكه بإحدى يديه ورأسه بيده الأخرى ثم قطع رأسه، فاستنكر موسى هذا الأمر؛ لأنه قتل للنفس بغير حق، وقال: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] في الآية السابقة قال: شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] أي: يدعو إلى العجب؛ الناس يركبونك في السفينة وأنت تخرقها، ولكن هنا لم يقل له: (شَيْئاً إِمْراً) ولكن قال له: (شَيْئاً نُكْراً)، أي: أمر منكر لا يمكن أن أسكت عليه، فقال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75] ففي الآية السابقة قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الكهف:72] لكن في المرة الثانية: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ) وهذه فيها زيادةٌ توبيخ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76] أي: أعطني فرصة أخيرة ومحاولة ثالثة وأخيرة: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف:76].
المشهد الثالث: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] عندما وصلوا إلى القرية لم يضيفوهما، وطلبوا من أهلها الطعام فلم يطعموهما، ثم وجد الخضر جداراً يريد أن ينقض فقال لموسى: دعنا نبني هذا الجدار، قال موسى: سبحان الله! كيف يطردونا ولا يطعمونا وأنت تبني لهم جداراً دون مقابل، على الأقل خذ عليه أجراً قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:77-78] أنت لا تصلح لطلب العلم، فالعلم يريد صبراً سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] ثم ذكر له القصة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى، لو صبر لأرانا من عجائب علم الله عند الخضر عليه السلام) لأن الله قال: عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] علم لدني أي: من الله تبارك وتعالى أطلعه الله عليه، ففاصله بعد أن أخبره الخبر، ويوم أن أراد أن يعود ليودعه كان في المحيط الأطلسي طائر ينقر في المحيط، ويأخذ بمنقاره نقطة من الماء، قال الخضر: أترى هذا يا موسى؟ قال: نعم. قال: هل ينقص هذا المنقار من هذا المحيط شيئاً؟ قال: لا. قال: والله ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا المحيط لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98].. لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] ويعلم كل ورقة، وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] سبحانه لا إله إلا هو! يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
وقطع الرحلة موسى عليه السلام وعاد، وهذا كله في سبيل تحصيل العلم.
كان سلف هذه الأمة يقطعون المسافات الطويلة في سبيل تحصيل العلم، وما هذه الآثار العظيمة التي بين أيدينا من كتب وتفاسير ومصنفات وشروحات إ لا نتيجة تحصيل السلف للعلم، حتى إننا نعجز عن عَدِّ أسمائها ومعرفتها فضلاً عن قراءة ما فيها، ومن الناس من عنده كتباً لم يقرأها أبداً، بل من الناس من لا يعرف بعض أسماء الكتب لبعض المؤلفين الكبار.
إذاً: هذه العلوم والثروة العظيمة كانت ببركة الصبر والسعي والجهد والتحصيل العلمي لإرضاء الله عز وجل، لم يدرسوا العلم من أجل الشهادات كما هو الآن في غالب أحوال الناس من طلب العلم للحصول على المؤهل، فإذا حصل على الشهادة نسي العلم كله.
ولهذا لو سألت الطالب الذي يختبر اليوم في مادة التوحيد وعنده بعد يومين مادة التفسير، تعال واسأله بعد أن يخرج من التفسير عن التوحيد الذي دخله قبل يومين، يقول: والله قد نسيت، أين علمك عن التوحيد؟ قال: وضعته في الورقة. فالهدف من تحصيله للعلم أنه يقدم للامتحان، بينما السلف هدفهم العلم لوجه الله عز وجل.
يروى عن الإمام أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يحفظ ألف ألف حديث، أي مليون حديث بأسانيدها، وأنه أشكل عليه رجل في سند حديث، فسأل عنه فقيل له: إنه عند عبد الرزاق الصنعاني ، صاحب المصنف ، وكان يسكن في صنعاء بـاليمن، وكان الإمام أحمد يسكن في بغداد بـالعراق ، فرحل من بغداد إلى اليمن ، يريد أن يأخذ السند.
وكان معه في الرحلة يحيى بن معين ، ومرا في طريقهما إلى اليمن بـمكة فحجا، ولما كانا يطوفان بالبيت رأيا عبد الرزاق الصنعاني ، قد جاء من اليمن للحج ، وكان يحيى بن معين يعرف عبد الرزاق ، فسلم عليه بعد أن طاف، وقال للإمام أحمد : يا أبا عبد الله ! قد كفيت مسيرة شهر ومؤنتها، يقول: وفر الله عز وجل عليك مسيرة شهر إلى اليمن وأيضاً النفقة فيها؛ لأنها على حسابهم بدون انتداب، وبدون مؤنة، وكانت وسائل النقل في ذلك الوقت الحمير، لا يوجد عندهم سيارات ولا طائرات؛ يمشون على أقدامهم في الحر والقر والبرد والجوع والخوف! وفي سبيل العلم يقطعون كل هذه المسافات، فقال يحيى بن معين للإمام أبي عبد الله : لم لا نسأله الآن؟ قال الإمام أحمد : والله لا نرجع عن النية التي قد أردناها لوجه الله، والله لا آخذ هذا الحديث إلا في صنعاء، لأنني خرجت من هناك لوجه الله، فلا أريد أن أعطل نيتي بطلب العلم، ولا أبد أن أرحل.
ولكن من الناس اليوم من تكون الندوة بجوار بيته، والعالم يأتي إلى قريته، ثم لا يأتي للصلاة؛ لأن المحدث سوف يؤخره نصف ساعة أو ساعة، وبعضهم يأتي يصلي فإذا قام المحدث أو العالم أو طالب العلم يذكر خرج وتركه والعياذ بالله، ربما كانت الحلقة العلمية موجودة في أبها في مسجد الشيخ عائض أو أحمد بن حسن ولكنه لا يحرص على الحضور إليها، وكيف يريد هذا الإنسان أن يرزق العلم، ويؤتى الإيمان، وتحل البركة وهو معرض مدبر عن الله عز وجل!
إن أقصى درجاتك أن تحرص على طلب العلم على الأقل بدون شد رحال، فكيف إذا كنت في مدينة تقام فيها ندوات ولا تحضرها؟! أجل. كيف تريد أن تهتدي؟!
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كيف تنال محبة الله؟ | 2926 استماع |
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2925 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2803 استماع |
أمن وإيمان | 2674 استماع |
حال الناس في القبور | 2674 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2602 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2570 استماع |
النهر الجاري | 2474 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2465 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2397 استماع |