أساليب المشركين في محاربة الدعوة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله! مرحباً بكم وحياكم الله على مائدة العلم والإيمان، تلك المائدة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، المائدة الربانية، التي من أقبل عليها ورتع فيها وعاش في ظلالها أدرك السعادة بحذافيرها، ونال خيري الدنيا ونعيم الآخرة.

ومجالس العلم هي مجالس الهدى، ومجالس النور، ومجالس الروح، ومجالس الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وحاجة القلوب إلى سماع العلم الرباني والهدي السماوي أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث، فكما أن المطر هو غيث الأرض، كذلك الذكر والعلم هو غيث القلوب، وكما أن المطر إذا انقطع عن الأرض اغبرت وأقفرت وانقطع خيرها وكثر شرها، كذلك القلوب إذا انقطع عنها الغيث السماوي، وانقطع عنها العلم القرآني، والهدي الرباني، قست وتحجرت وأظلمت، وكثر شرها وانعدم خيرها، وما ترونه اليوم في كثيرٍ من الأحوال من قسوة في القلوب وتحجر في العيون، وجرأة على المعاصي وكسل في الطاعات؛ كل هذا بسبب حرمان القلوب من سماع ذكر الله سبحانه وتعالى، ومن بعد القلوب عن مجالس الرحمة، هذه المجالس التي تحفها الملائكة، وتغشاها السكينة، وتنزل على أهلها الرحمة، ويذكر الله سبحانه وتعالى الجالسين فيها عنده في الملأ الأعلى، أي كرامة أعظم من هذه الكرامات وأي عزة يبلغها الإنسان أعظم من هذه العزة، أن تجلس والملائكة تحفك، والسكينة تنزل عليك، والرحمة تغشاك، ويباهي بك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فهنيئاً لكم -أيها الإخوة- وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الجلسة التي نقضيها في هذا المجلس ثواباً في موازيننا يوم نلقى الله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة! دراسة السنة أو السيرة النبوية الطاهرة من الضرورات للمسلم؛ لأن السيرة هي التطبيق العملي الصحيح لتعاليم الكتاب والسنة؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم والجيل الأول جيل الصحابة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم هم الذين تمثلوا هذه التعاليم، وأبرزوها في واقع الحياة، ولذا من الضروري أن نترجم تلك المعاني التي نقرأها نصوصاً في الكتاب والسنة، نجد لها ترجمة عملية في واقع الحياة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تطبيق أصحابه رضي الله عنهم في السلف الأول وفي القرون المفضلة.

إن دارسة السيرة النبوية من الأوليات ومن الضروريات حتى تعرف كيف تعبد الله، وكيف تتعامل مع الحياة من حولك، وكيف تدعو إلى الله، وكيف تنظر إلى المجتمع، وكيف تنظر إلى الفرد، وكيف تنظر إلى الأمة، تلك النظرات لا تكون صائبة ولا مسددة إلا إذا كان الإنسان على علم وعلى فهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد درسنا طرفاً من هذه السيرة في الجلسات الماضية، واليوم نستأنف هذه المجالس لنتعرف على سيرة الحبيب العطرة صلوات الله وسلامه عليه، وعنوان هذا الدرس هو: (أساليب المشركين في محاربة الدعوة).

حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما يؤمر به من الدين وأن يعرض عن المشركين، استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، وشمر عن ساعد الجد، وصدع بالحق، ودعا إلى هجر الأوثان، وإلى عبادة الرحمن، وبين حقائق الإسلام، ودحض أباطيل وشبهات المشركين التي عشعشت في عقولهم وخيمت على قلوبهم، وعندما رأى المشركون في مكة أن أثر هذه الدعوة لم يكن محدوداً كما كان الحال في الماضي، وإنما رأوا أن هذه الدعوة بدأت تنتشر وتنفذ إلى قلوب الناس في القريب والبعيد، بدءوا في المواجهة للصد عن دين الله ولإطفاء نور الله، وسلكوا في ذلك أساليب متعددة.

من أبرز تلك الأساليب: محاولة التأثير على عمه أبي طالب حتى يكفه عن الدعوة أو يجرده من الحماية والجوار الذي كان يتمتع به في ظل وجود عمه أبي طالب ، فقد ذهبت مجموعة من أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفنا أو تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه؛ لأن أبا طالب كان على الشرك ومات عليه، لكنه كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات أبو طالب ).

وما نال المشركون منه شيئاً حتى مات أبو طالب ، كان يشكل الحماية الخارجية، ولهذا سمي العام الذي مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة سمي (عام الحزن)؛ لأنه انكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في المواجهة الخارجية، وأيضاً فقد الدعم الداخلي في المنزل من صاحبة الرأي والمشورة، وصاحبة المواقف البارزة وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، فحزن صلى الله عليه وسلم حزناً عميقاً بعد وفاة أبي طالب ووفاة خديجة، ولذا قال الكفار لـأبي طالب: إنك على مثل ما نحن عليه. أي: أنت مشرك مثلنا، والذي يتعرض لنا هو -أيضاً- ينالك أنت أولاً، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ورد عليهم رداً جميلاً وانصرفوا عنه، لكن لم يستجب أبو طالب لهم ولم يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يدعو إلى دين الله، ويستمر في نشر الدعوة، وهنا غضبت قريش وحقدت على النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا مرة أخرى إلى عمه أبي طالب ، لكن جاءوا إليه بأسلوب آخر، الأسلوب الأول كان طلباً، الأسلوب الثاني تهديداً وقالوا له: يا أبا طالب ، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا -أي: لك مكانة- لست رجلاً مغموراً ولا رجلاً هامشياً؛ لأنه من أشرافهم وكبرائهم، فذكروه بمكانته وبمنزلته، قالوا: لك سن، ولك شرف، ولك منزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأقسموا له بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفه عنهم أو ينازلوه -أي: ينازلوا أبا طالب، حتى يهلك أحد الفريقين- عند هذا عظم خطب أبي طالب؛ لأنه شق عليه أن يفارق قومه ويعاديهم، وأيضاً شق عليه أن يسلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويخذله، ولذا استدعى النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغه بالذي قاله له الكفار، وطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، وألا يحمله من الأمر ما لا يطيقه، وقال له: وضعتني في خيار صعب: إما أن أسلمك لهم، وإما أعاديهم، وكلاهما صعب، فالأفضل والحل الوسط أنك تتركهم وتترك آلهتهم وتترك محاربتهم؛ حتى لا تعرضني أنا لضرر منهم، أو تعرض نفسك لأذى لا تطيقه؛ لأنه ليس بإمكانك أن تواجه القبيلة بأسرها.

وفي رواية لـابن إسحاق : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمس من عمه في هذه العبارات الضعف والإشارة إلى عدم القدرة على نصرته، ولذا قال له في جواب عظيم: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد علق ترك الدين والدعوة إليه على المستحيل، يقول: على فرض أنهم جاءوا بالشمس ووضعوها -وهذا مستحيل- في يميني والقمر في يساري -وهذا مستحيل- ما تركت، حتى لو فعلوا المستحيل، حتى يظهره الله أو أموت دون هذا الدين، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، ولم يبكِ صلى الله عليه وسلم بكاء الضعيف، ولكنه بكاء الشجاع الذي يقول هذه الكلمات العظيمة التي تهتز الجبال الرواسي أمامها وأمام قوتها وصلابتها، ثم يستجيش العاطفة في قلب أبي طالب، وكأنه يقول له: أنت عمي وما أرى أن تخذلني، ثم قام من عند عمه، وولى عنه، فلما ولى ناداه أبو طالب، وقال: أقبل يا ابن أخي، فلما أقبل قال: اذهب على ما أنت عليه فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لهم أبداً.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامه؛ ليس لأنه عمه من حيث النسب، لا. ولكن لمثل هذه المواقف التي وقفها في حماية الدعوة، ولهذا كان حريصاً حتى آخر لحظة من لحظات حياته، وهو يلفظ الروح جاء إليه يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) يريد فقط مبرراً وحجة، يقول: لا إله إلا الله، ما عاد في صلاة ولا صوم، لكنه وبتأثير من قرناء السوء الذين قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ، فنظروا إليه ونظر إليهم، ثم قال في آخر لحظة من لحظات حياته: على ملة عبد المطلب . ومات مشركاً.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فاستغفر صلى الله عليه وسلم لعمه، فأنزل الله عز وجل النهي له وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة، وقال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] لأن القرابة قرابة العقيدة، والصلة صلة الدين، فإذا كان ليس على مثل ما أنت عليه من الدين فلا صلة ولا قربى، ولو كان أباك، ولو كان ولدك، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] لماذا؟

أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22] من كتب الله في قلبه الإيمان تجد في قلبه التجرد، والحب في الله والبغض في الله، يحب عباد الله ولو كانوا من أبعد مكان ومن أي لون ومن أي جنس، ويبغض أعداء الله ولو كانوا أقرب الأقربين إلى نفسه، ولهذا نوح عليه السلام لما قال الله له: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] ظن عليه السلام أن معنى أهلك أي: أهلك في النسب، زوجتك وأولادك وجماعتك، فركب وركب أهله لكنه ابنه أبى أن يركب، قال: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ [هود:42-43] فقال نوح لربه: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] أنت قلت: وأهلك، وهذا من أهلي، أي: لا تغرقه، دعه يسلم مع بقية الناس، قال الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وهو ابن نوح، لكن الله ينفي عنه الأهلية، ويقول: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] ما دام ليس هو على دينك، ليس من أهلك.

وكذلك -أيها الإخوة- هذا هو الضابط ويشكل مبدأ من مبادئ المسلم وهو: أن يحب في الله ويبغض في الله، ولهذا جاء حديث في صحيح مسلم وصحيح البخاري : (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أبي طالب بسبب مواقفه تلك التي وقفها، لكن لما نهاه الله لم يعد يستغفر له، وقد خفف على أبي طالب من العذاب في النار، ولكن لا تخفيف في النار، جعله الله في ضحضاح من نار، والضحضاح في اللغة هو: الماء الذي يغطي الكعب، فالنار تغطي أهل النار كلهم إلا أبا طالب فالنار إلى كعبه فقط، ما رأيكم هل هذا تخفيف؟ هل تستطيع أن تمشي في النار، إذا أتيت مكاناً حاراً هل تمشي عليه؟ جرب عندما تخرج من الحرم وما معك حذاء، فتمشي من الباب إلى السيارة لا تستطيع المشي، تنسلخ رجليك من حرارة الأرض فكيف بالنار!

ولهذا لا يرى أبو طالب أن في النار أشد عذاباً منه، وهو في ضحضاح من نار -نعوذ بالله وإياكم من عذاب النار-.

في هذا الموقف وفي هذا الأسلوب عبرة وحكمة وهو: أن هذا الموقف القوي من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين ينسجم مع ما أمر به من البلاغ، فإن الله فقال له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] وبعد ذلك طمأنه قال: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [الحجر:95].

موقف فيه عبرة وهو موقف أبي طالب، وهذا الموقف عجيب: مشرك وكافر ولكن يقوم بهذه الخدمة للدين، وليس لهذا تفسير، وقد اجتهد العلماء على هذا منهم ابن كثير قال: إن الله سبحانه وتعالى امتحن قلب أبي طالب بحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم حباً طبيعياً لا حباً شرعياً؛ لأنه لو أحبه حباً شرعياً لأحب دينه، لكن أحبه حباً طبيعياً؛ لأنه ابن أخيه، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي مكة وجاههة ولا مكانة، ولحاربوه مثلما حاربوا غيره من المسلمين، لكن ليحمي رسول الله بقي على دين قومه، ولما هابوه واحترموه، لو عرفوا أنه قد أسلم لتجرءوا عليه ولمدوا أيديهم عليه وألسنتهم إليه بالسوء، ولكن سبحان الله! وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

وقد قسم الله العباد إلى أقسام:

فهذان العمان كافران، أبو طالب وأبو لهب ، اثنان أحدهما يحمي والآخر يحارب، فـأبو طالب كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو لهب كان يحارب الرسول حرباً شعواء، ولكن يوم القيامة يكون أبو طالب في ضحضاحٍ من نار، ويكون أبو لهب في الدرك الأسفل من النار، بل أنزل الله عز وجل فيه سورة تتلى وتقرأ على المنابر وفي القلوب وفي السطور تتضمن خبراً من الله أنهسَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:3-4] وظل أبو طالب طوال حياته يحمي النبي صلى الله عليه وسلم ويذود عنه، وينأى عن الدخول في الإسلام.

من الأساليب التي طرقها الكفار بعد هذا الاتجاه إلصاق التهم والادعاءات الباطلة؛ لتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس؛ لأنهم رأوا النفوذ قوياً، والاستجابة جارفة، وأيديهم تفلس، والناس ليس في مكة فقط بل في الطائف والمدينة في كل مكان بدءوا يدخلون في الدين، فما بقي إلا التضليل الإعلامي والتشويه لصورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس، فألصقوا به العديد من التهم.

اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون

منها: اتهامه بالجنون، كما قال الله عنهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول سورة القلم: نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2] ويكفيه تزكية الله له.

وأيضاً يحكي الله عز وجل هذا عنهم ويقول: إنهم يقولون: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51] وهذا من عجائب الأمور أن تنعكس المفاهيم، وتنقلب التصورات، ويوصف أعقل البشرية وأهدى الإنسانية المعلم الأول للإنسانية بأنه مجنون، وهم أصحاب القلوب المتحجرة، وأصحاب العقول المنكوسة الضالة هم العقلاء، وهم يعبدون الأحجار، ويزنون بحلائل الجار، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، ويصفون أنفسهم بأنهم أصحاب العقول، ومن يأتي لينقذهم من هذه الضلالات ويحررهم من هذه الخرافات والخزعبلات يوصف بأنه مجنون، هذا والله من عجائب الأمور، ولذا فقد توجه مثل هذه التهم إلى بعض الناس في كل زمان وفي كل مكان، ولكن يكفيك -يا أخي- أنك على الحق.

اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر

أيضاً من اتهاماتهم وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس: أنهم اتهموه بأنه ساحر، يقول الله سبحانه وتعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4].. وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً [الفرقان:8].

وقد تحير الوليد بن المغيرة حينما أرسله كفار قريش ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم ويساومه على تقديم أي شيء يريده نظير أن يترك الدين، قال له: يا ابن أخي! إن كنت إنما أتيت بما جئت به تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك أي: جعلناك ملكاً، وإن كنت تريد زوجاً زوجناك بأجمل فتاة، وإن كان الذي يأتيك رئي من الجن -أي: يأتيك شيء من الجن صرع- بذلنا لك حتى نعالجك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع يا أبا الوليد ، وقرأ عليه فواتح سورة فصلت، حتى بلغ قول الله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً [فصلت:13] فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وخاف من الصاعقة، قال: أسألك الله والرحم، ثم رجع وقد تغير موقفه، بناء على سماع القرآن، وقال: والله يا قوم! إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر. فلما قال هذه الكلمات نخر في كفار قريش، قالوا: أصبأت يا أبا الوليد ؟ ماذا يقول السفهاء إذا سمعوا كلامك؟ والله لا تقوم حتى تقول فيه قولاً يؤثر عنك، قم فكر، قال: دعوني أفكر، فقام وفكر، ثم فكر، ثم قدم وأخر، فلعن كيف قدر، وقال كما قال الله عنه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر:11] يقول: اتركني يا محمد، اترك هذا الذي يقول هذا الكلام: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:12-16] الآيات الواضحات والدلائل البينات التي سمعها ورفضها موقفه منها العناد كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:16]والجزاء: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] صعود جبل في جهنم اسمه صعود، سيكلف بصعود هذا الجبل، لماذا؟ قال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25] قال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30] والعياذ بالله.

وكانوا يتلقون الركبان والذين يقدمون إلى مكة ويحذرونهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون: إنه ساحر يفرق بين الرجل وبين ولده، وبين الزوج وزوجته، ولكن لم يكن الناس يستجيبون لهم، إلا البسطاء المغفلين، وأما العقلاء فيقولون: نسمع منه، ومنهم: الطفيل بن عمرو الدوسي، هو من أشراف قومه، ومن نبلاء عشيرته، رجل عظيم من بلاد زهران ، من بلاد دوس، دخل مكة وتلقوه على أبوابها، وقالوا: هذا قطن ضعه في أذنك، قال: لماذا؟ قالوا: هناك رجل عند الكعبة إذا سمعته يسحرك، يقول: فوضعت الكرسف -القطن- في أذني وجئت أطوف، وإذا بي أسمع، قلت: حسناً.. يا طفيل أنت رجل عاقل ولبيب، أخرج القطن واسمع إن كان خيراً، فلما سمع القرآن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله. الله أكبر! لا إله إلا الله!

اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب

أيضاً من الاتهامات الباطلة التي رمي بها النبي صلى الله عليه وسلم: اتهامه بالكذب، وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأن أصدق البشرية على الإطلاق هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يعرفوا عنه كذبة واحدةً في حياته قبل الرسالة ولا بعد الرسالة، أربعين سنة ما كذب كذبة واحدة على الناس، هل يتصور أن يكذب على الله؟! ولهذا قال هرقل لـأبي سفيان لما سأله قال: أتتهمونه بالكذب؟ قال: لا. وأبو سفيان كان كافراً، ولو عرف أنه يكذب كذبة واحدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لقالها، لكن لا يستطيع، لماذا؟ لأنه يوجد أناس وراءه، قال هرقل : إذا كذب أخبروني. وكان يخشى أبو سفيان أن يقول كلمة فتنقل عنه كذبة، وكانوا يتعيرون بالكذب في الجاهلية، قال هرقل بعد ذلك: سألتك هل جربتم عليه كذباً؟ فقلت: لا. فقلت: ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، بل هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وكانوا يسمونه -أيضاً-: مفترٍ. يقولون: كما قال الله عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4].

وقالوا: إنه يكتتب هذه الآيات، وهذه الآيات سموها أساطير، قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] وقالوا: إن هذا الكلام ليس من عند الله وإنما يتعلمه من الناس، لكن من الذي يتعلمه منه؟ نسبوا هذا إلى رجلٍ أعجمي، كان يصنع السيوف في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عنده ينظر إلى صنعته قبل البعثة، فأخذوا بأثر رجعي، قالوا: نعم كان يجلس عنده إذاً هو الذي علمه.

قال الله عز وجل ليبطل هذه الشبهة: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] لكن ماذا؟ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] كيف يعلمه وهو أعجمي؟! فالأعجمي لا يعرف الكلام بالعربية، وإذا تكلم تكلم بغير الفصحى، وهذا قرآن عربي بلسان مبين، وقد عجزتم أنتم أيها الفصحاء والبلغاء، ملوك البيان وأساطير الفصاحة في العالم -قريش- أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور مفتريات من مثله، أو بسورة واحدة، ثم أقام التحدي عليهم وعلى الجن إلى يوم القيامة: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] ليس الإنس فقط عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] كيف يأتي به من عند أعجمي؟!!

انظروا الضلال والعقول المقلوبة، هذه كلها افتراءات باطلة.

منها: اتهامه بالجنون، كما قال الله عنهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول سورة القلم: نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2] ويكفيه تزكية الله له.

وأيضاً يحكي الله عز وجل هذا عنهم ويقول: إنهم يقولون: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51] وهذا من عجائب الأمور أن تنعكس المفاهيم، وتنقلب التصورات، ويوصف أعقل البشرية وأهدى الإنسانية المعلم الأول للإنسانية بأنه مجنون، وهم أصحاب القلوب المتحجرة، وأصحاب العقول المنكوسة الضالة هم العقلاء، وهم يعبدون الأحجار، ويزنون بحلائل الجار، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، ويصفون أنفسهم بأنهم أصحاب العقول، ومن يأتي لينقذهم من هذه الضلالات ويحررهم من هذه الخرافات والخزعبلات يوصف بأنه مجنون، هذا والله من عجائب الأمور، ولذا فقد توجه مثل هذه التهم إلى بعض الناس في كل زمان وفي كل مكان، ولكن يكفيك -يا أخي- أنك على الحق.

أيضاً من اتهاماتهم وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس: أنهم اتهموه بأنه ساحر، يقول الله سبحانه وتعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4].. وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً [الفرقان:8].

وقد تحير الوليد بن المغيرة حينما أرسله كفار قريش ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم ويساومه على تقديم أي شيء يريده نظير أن يترك الدين، قال له: يا ابن أخي! إن كنت إنما أتيت بما جئت به تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك أي: جعلناك ملكاً، وإن كنت تريد زوجاً زوجناك بأجمل فتاة، وإن كان الذي يأتيك رئي من الجن -أي: يأتيك شيء من الجن صرع- بذلنا لك حتى نعالجك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع يا أبا الوليد ، وقرأ عليه فواتح سورة فصلت، حتى بلغ قول الله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً [فصلت:13] فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وخاف من الصاعقة، قال: أسألك الله والرحم، ثم رجع وقد تغير موقفه، بناء على سماع القرآن، وقال: والله يا قوم! إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر. فلما قال هذه الكلمات نخر في كفار قريش، قالوا: أصبأت يا أبا الوليد ؟ ماذا يقول السفهاء إذا سمعوا كلامك؟ والله لا تقوم حتى تقول فيه قولاً يؤثر عنك، قم فكر، قال: دعوني أفكر، فقام وفكر، ثم فكر، ثم قدم وأخر، فلعن كيف قدر، وقال كما قال الله عنه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر:11] يقول: اتركني يا محمد، اترك هذا الذي يقول هذا الكلام: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:12-16] الآيات الواضحات والدلائل البينات التي سمعها ورفضها موقفه منها العناد كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً [المدثر:16]والجزاء: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] صعود جبل في جهنم اسمه صعود، سيكلف بصعود هذا الجبل، لماذا؟ قال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25] قال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30] والعياذ بالله.

وكانوا يتلقون الركبان والذين يقدمون إلى مكة ويحذرونهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون: إنه ساحر يفرق بين الرجل وبين ولده، وبين الزوج وزوجته، ولكن لم يكن الناس يستجيبون لهم، إلا البسطاء المغفلين، وأما العقلاء فيقولون: نسمع منه، ومنهم: الطفيل بن عمرو الدوسي، هو من أشراف قومه، ومن نبلاء عشيرته، رجل عظيم من بلاد زهران ، من بلاد دوس، دخل مكة وتلقوه على أبوابها، وقالوا: هذا قطن ضعه في أذنك، قال: لماذا؟ قالوا: هناك رجل عند الكعبة إذا سمعته يسحرك، يقول: فوضعت الكرسف -القطن- في أذني وجئت أطوف، وإذا بي أسمع، قلت: حسناً.. يا طفيل أنت رجل عاقل ولبيب، أخرج القطن واسمع إن كان خيراً، فلما سمع القرآن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله. الله أكبر! لا إله إلا الله!

أيضاً من الاتهامات الباطلة التي رمي بها النبي صلى الله عليه وسلم: اتهامه بالكذب، وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأن أصدق البشرية على الإطلاق هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يعرفوا عنه كذبة واحدةً في حياته قبل الرسالة ولا بعد الرسالة، أربعين سنة ما كذب كذبة واحدة على الناس، هل يتصور أن يكذب على الله؟! ولهذا قال هرقل لـأبي سفيان لما سأله قال: أتتهمونه بالكذب؟ قال: لا. وأبو سفيان كان كافراً، ولو عرف أنه يكذب كذبة واحدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لقالها، لكن لا يستطيع، لماذا؟ لأنه يوجد أناس وراءه، قال هرقل : إذا كذب أخبروني. وكان يخشى أبو سفيان أن يقول كلمة فتنقل عنه كذبة، وكانوا يتعيرون بالكذب في الجاهلية، قال هرقل بعد ذلك: سألتك هل جربتم عليه كذباً؟ فقلت: لا. فقلت: ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، بل هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وكانوا يسمونه -أيضاً-: مفترٍ. يقولون: كما قال الله عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4].

وقالوا: إنه يكتتب هذه الآيات، وهذه الآيات سموها أساطير، قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] وقالوا: إن هذا الكلام ليس من عند الله وإنما يتعلمه من الناس، لكن من الذي يتعلمه منه؟ نسبوا هذا إلى رجلٍ أعجمي، كان يصنع السيوف في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عنده ينظر إلى صنعته قبل البعثة، فأخذوا بأثر رجعي، قالوا: نعم كان يجلس عنده إذاً هو الذي علمه.

قال الله عز وجل ليبطل هذه الشبهة: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] لكن ماذا؟ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] كيف يعلمه وهو أعجمي؟! فالأعجمي لا يعرف الكلام بالعربية، وإذا تكلم تكلم بغير الفصحى، وهذا قرآن عربي بلسان مبين، وقد عجزتم أنتم أيها الفصحاء والبلغاء، ملوك البيان وأساطير الفصاحة في العالم -قريش- أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور مفتريات من مثله، أو بسورة واحدة، ثم أقام التحدي عليهم وعلى الجن إلى يوم القيامة: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] ليس الإنس فقط عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] كيف يأتي به من عند أعجمي؟!!

انظروا الضلال والعقول المقلوبة، هذه كلها افتراءات باطلة.

ولما لم تنجح تلك الأساليب وهي أساليب إلصاق التهم؛ لأن التهم لا تلصق إلا بصاحبها، الثوب النظيف نظيف، لا يلصق به أي شيء، لكن المتسخ والملوث يمكن أن تلصق به أي شي، أما الثوب النظيف فأي شيء تضعه عليه يظهر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم نظيف في حياته، أنظف مخلوق على وجه الأرض، اختاره الله، كما قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] يقول عليه الصلاة والسلام: (اختارني الله عز وجل، فأنا خيار من خيار) صلى الله عليه وسلم، ما اجتمع عليّ أو لي أبوان على باطل، أو على سوء، من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

لما عجزوا أن يلصقوا به شيئاً من التهم الباطلة، لجئوا إلى الغمز واللمز والضحك والاستهزاء والسخرية والتعالي على المؤمنين، وأوضح الله جل وعلا هذا في كتابه، يقول الله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] يقولون: لم يجد الله من يمتن عليهم إلا هؤلاء الضعفاء: بلال الحبشي ، وصهيب الرومي ، وسلمان الفارسي ، وابن مسعود الهذلي ، ضعفاء القوم، أي: أنتم الذين تدخلون، لماذا لم ينزل القرآن على رجل صاحب شخصية؟ وقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] ما وجد الله إلا أنت يا محمد؟ قال الله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:32] فالله هو الذي قسم الرحمة بين العباد.

وروى البخاري في صحيحه: أن امرأة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم -امرأة مشركة كافرة- وهي ساخرة ومستهزئة: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً -تقول: لماذا لم يأتك شيطانك؟ أي: تتصور أن الذي يأتي بالوحي أنه الشيطان- فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3].

وروى البخاري -أيضاً-: أن أبا جهل قال مستهزئاً متحدياً كما قال الله: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32] فنزل قول الله عز وجل: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32] قال الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] وجود النبي صلى الله عليه وسلم كان أماناً من العذاب وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الأنفال:23-34].

وذكر ابن إسحاق حديث العراشي الذي باع لـأبي جهل الإبل ومطل بأثمانها، فـأبو جهل كافر مماطل خبيث اشترى من شخص من قبيلة عراش قطيعاً من الإبل، ثم وعده بأن يعطيه الثمن بعد ذلك وماطله، فلما جاء الأعرابي إلى قريش قالوا له: ما تريد؟ قال: أبو جهل اشترى مني ولم يعطني المال، قالوا: تريد رجلاً يعطيك؟ قال: نعم. قالوا: اذهب إلى محمد، لماذا؟ من باب الاستهزاء والتهكم؛ لأن وضع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مستضعف، لا يستطيع أن يحمي نفسه، وأبو جهل هو سيد القوم وكبيرهم، فالأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فذهب معه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل ، وقال له: أعطه حقه، قال: حسناً.. وذهب أبو جهل وأعطاه ماله، ما له كاملاً، فلما سمعت قريش أنه أعطاه، سألوه، قالوا: ما هذا؟ كيف تعطيه؟ كيف سلمته؟ قال: ويحكم والله ما هو إلا أن طرق بابي، وسمعت صوته حتى ملئت رعباً وفزعاً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلاً من الإبل فاغراً فاه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه، والله لو أبيت لأكلني. فقد كان فاغراً فاه الناب الأعلى عند رأسي والناب الثاني عند رجلي، يريد أن يبلعني.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30] كل شخص يقول: انظر وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:31]. وهذه الآية وإن كانت تفسر حادثة من حوادث الزمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنها خلق العصاة والمجرمين في كل زمان، وهو الاستهزاء بالذين آمنوا، ولذا انتبه واحذر من أن تستهزئ بشيء فيه ذكر الله؛ لأنه يعرضك للوقوع في الكفر والعياذ بالله.

ثبت -أيضاً- من طرق صحيحة في مسند أحمد في بعض الأحاديث: أن أشراف قريش اجتمعوا يوماً في الحجر وتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما هم في شأنه إذ طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فسكتوا، ثم بدءوا يغمزونه، فقال لهم: (يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) وكان في وقته وقت ضعف الإسلام والمسلمين لا يقدر أحدهم أن يسلم، فالذي يسلم يحارب، ومع هذا يقول لهم هذه الكلمة لرفع شعار من شعارات التقوى، وهذا يدل على قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وعلى رده على استهزاء هؤلاء، ومن منطلق الاستعلاء والكبرياء على الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نجالس هؤلاء -أي: صهيباً وبلالاً وخبيباً - اطردهم عنا، اجعل لنا مجلساً، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يوافق ويجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عز وجل : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52] ويقول عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

وفي يومٍ من الأيام مر صلوات الله وسلامه عليه على مجموعة من المشركين فاستهزءوا به، فغاضه وامتلأ قلبه غيضاً، فأنزل الله عليه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10].

ومن كبار المستهزئين الذين تولوا كبر الاستهزاء والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة: منهم: الأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة المخزومي أبو خالد بن الوليد رضي الله عنه، والعاص بن وائل السهمي أبو عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحارث بن الطلاطلة الخزاعي، فأنزل الله عز وجل في هؤلاء: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [الحجر:95] أي: سوف نقضي عليهم، وقد ثبت أن جبريل رمى في وجه الأسود بن عبد المطلب ورقة خضراء فعمي، أذهب الله بصره وطمس عينيه؛ لأنه كان مستهزئاً كبيراً، ومر الأسود بن عبد يغوث بجبريل فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه -انتفخ- حتى صار مثل الجرة ثم مات، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح صغير في أسفل كعبه فانتقض الجرح، وكان قبل سنين قد سل، فانتقض الجرح ثم مات، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار يريد الطائف ، فربض به حماره على نبات خفيف فدخلت شوكة في أخمص رجله فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فتحرك الصديد فيه وقتله، ومن كبار المستهزئين أبو جهل وأمية بن خلف ، والنضر بن الحارث ، والأخنس بن شريح ، وأبي بن خلف ، وهؤلاء كلهم قتلوا وقضي عليهم في معركة بدر وبعدها، نصراً لنبيه صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع