خطب ومحاضرات
العمل الصالح وأهميته
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة في الله: لقد رتب الله عز وجل الجزاء في الدنيا والآخرة على فعل المكلف، وجعل مدار السعادتين في الدنيا وفي الدار الآخرة نتيجة سلوك الإنسان، وزود الإنسان بالإمكانات التي تعينه على سلوك طريق الخير باختياره، أو سلوك طريق الشر باختياره، وأقام الحجة على الخلق ببعثة الرسل، وبإنزال الكتب، قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وفطر الإنسان على فطرة الدين، والأرض القابلة لاستنبات الدين هي: الفطرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل: يمسلمانه؛ لأنه مسلم بالفطرة، وفي حديث آخر في صحيح البخاري وهو حديث قدسي، يقول الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء -أي: مستقيمين- فاجتالتهم الشياطين).
ترتيب الجزاء الأخروي على كسب الإنسان الدنيوي
قال عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] فلا يحصل شيء من العبد إلا ويحصل له جزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، يقول عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] فظهر الفساد في البر والبحر: فساد في الهواء، والماء، والثمار، وكل شيء بكسب العباد، فتتأثر جميع المخلوقات بكسب الإنسان بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] وإلا لو أذاق الله العباد كل ما عملوا ما بقي على ظهرها من دابة، ولكن الله حليم يمهل ولا يهمل، ويقول عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26-27] فهذه آية توضح أن القضية قضية كسب، فاكسب خيراً؛ تربح، واعمل سيئات؛ تحسب عليك، فلا يأخذ ذنوبك غيرك، ولا يأخذ حسناتك غيرك، يقول الله عز وجل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] ويقول عز وجل: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:46-52] في الجنة من كل فاكهة زوجان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:53-54] جنى أي: ثمر، فثمر الجنان دان، وأنت جالس يأتيك الثمر في مجلسك، وحين تقوم يقوم معك، وحين تمشي يمشي معك، فأينما اشتهيته وجدته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:55-56] نساء الجنة قاصرات الطرف، فقد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمع في سواه، ولم يطمثها قبله أحد، فهي نظيفة مبرأة، وبعد ذلك يقول الله عز وجل في وصفهن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:57-58].
حورياتك في الجنة وزوجاتك -يا عبد الله- مثل الياقوت والمرجان، فتصور امرأة مثل الياقوتة، كيف يكون وضعها؟ الآن أقل قطعة من الياقوت أو المرجان قيمتها مبالغ طائلة، وحجمها لا يتعدى رأس الإصبع، فكيف تريد ياقوتاً أو مرجاناً بلا قيمة؟ لا.
ثم قال عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:59-60] وهذا الشاهد من الآيات، هل جزاء إحسانهم في الدنيا إلا إحسان الله لهم بالثواب العظيم في الجنة.
في الآية التي تلوتها عليكم يقول الله فيها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [يونس:26] أي: أحسنوا في عقيدتههم فكانت خالصة من الشرك، وأحسنوا في عقيدتهم فكانت صافية من شوائب البدع والخرافات؛ لأن العقيدة لا بد أن تكون صافية من أمرين: ليس فيها شرك ولا بدعة ولا خرافة، وإنما خالصة: توحيد لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أحسنوا في عبادتهم، فيعبدون الله على أفضل صورة، وأحسنوا في سلوكهم، وأخلاقهم، وتعاملهم، فماذا يحصل لهم وهم محسنون؟ قال الله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] ما هي الحسنى؟ قال العلماء: الحسنى هي: الجنة، والدليل: أنها جمعت كل شيء حسن، فكل ما خطر في بالك مما يتصوره عقلك ويذهب إليه خيالك من جميع الملذات والنعم، ففي الجنة أعظم منه، ويكفيك أن الله يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وليس بما كانوا يلعبون، أو يسمرون، أو يضيعون، لا. بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فقد قطعوا لياليهم وأيامهم في طاعة الله، فيقول الله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] أي: الجنة، واحدة بواحدة، لكن بقي مكسب؟ ما هو؟ قال: (وزيادة)، فما هي الزيادة؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها النظر إلى وجه الله الكريم)، وهو أعظم نعيم يحل بأهل الجنة، وهل أعظم من أن تمتع بصرك بالنظر إلى وجه ربك وخالقك؟!
الآن إذا جاء ملك أو وزير أو أمير، ومر من شارع أليس يتدافع الناس ويتسابقون، ويقفون في الشوارع يريدون أن يروه إذا مر، ويريدون أن يروا وجهه إذا عرض، لماذا؟ لأنه صاحب فضل عليهم، وهل هناك صاحب فضل أعظم من فضل الله عليك؟ خلقك من العدم، ورباك بالنعم، وأوجدك من لا شيء، ثم أرسل لك رسوله، وأنزل عليك كتابه، وهيأ لك جنته، ودعاك إلى عبادته، ثم سرت في طريقه حتى أسكنك جنته، وبعد ذلك وأنت في الجنة يتم عليك نعمته بأن تنظر إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم! يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا أرحم الراحمين! نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تمتعنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة، وأن تعتق رقابنا من النار، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وهذه الزيادة تأتي بعد تطمين الله لأهل الجنة، بأنهم يمرون على النار وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ [يونس:26] والقتر هو: الإحراق، فإحراق النار يأتي منه قترة وعذاب شديد وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26] والذلة هي: الخزي؛ لأن عذاب النار ينقسم إلى قسمين: عذاب مادي وهو: الإحراق، وعذاب معنوي وهو: الذلة والانكسار الذي يحصل للإنسان في النار.
والنار كلها سيئة -نعوذ بالله وإياكم من النار وما فيها من العذاب- قال تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26].
جزاء من كسب السيئات في الدنيا والآخرة
فهؤلاء المغفلون الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة وهم يحملون ويكسبون على رءوسهم سيئات، فيكسب أحدهم من عينه سيئات فينظر إلى ما حرم الله، ويكسب من أذنه سيئات فيستمع إلى الأغاني وما حرم الله، ويكسب من لسانه سيئات فيتكلم في الغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن وشهادة الزور ويمين الفجور، ويكسب من بطنه سيئات فيأكل ما حرم الله، ويكسب من فرجه فيقع في الزنا واللواط وما حرم الله، ويكسب من يده فيبطش فيما حرم الله، ويكسب من رجله فيمشي إلى ما حرم الله، فهذا يكسب ويجمع، فماذا يجمع؟ يجمع سيئات. وأين تذهب السيئات؟ أتذهب إلى غيرك أم إليك؟ بل إليك، فأنت الذي أتيت بها، فهل نعطي الجماعة وهم ما فعلوا منها شيئاً؟ لا والله، فما معك إلا الذي معك، يقول الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46] وعندنا مثل في الجنوب -ويمكن أن أكثركم من أهل الجنوب- يقول: (ما غبر صبيح فعلى قرنه)، وصبيح عندنا هو: الثور، وسمي صبيحاً؛ لأن في جبهته بياضاً، فإذا جاء صبيح هذا إلى الحقل أو الزرع جاء إلى الجثوة، والجثوة هي: الدمن، أي: السماد الطبيعي، فيأتي يغرس قرنه ويخوض معركة مع الجثوة، ويأخذ هذا السماد وينطح به في السماء، ويحسب أنه يغبر على القبيلة وهو يغبر على رأسه.
وكذلك نحن نقول لصبيح المعاصي من البشر، نقول: يا صبيح المعاصي! ما عصيت من معصية فعلى قرنك، والله ما تضر أحداً، وما تضر الدولة، ولا الجماعة، ولا أمك، ولا أبوك ولكن تضر نفسك.
فإن كنت تحب نفسك؛ فتوقف عن المعاصي، وإن كنت تكره نفسك؛ فزود، قال تعالى: بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].
قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:27] فماذا نعطيهم؟ أنعطيهم حسنات؟ معقول؛ لأن الذي يعمل السيئات ويتصور أن الله سيعطيه حسنات فهذا يتهم الله بأنه لا يعرف كيف يجازي عباده، لا. قال: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] خذ سيئة وأعط سيئة فليس هناك غير ذلك، وبعدها قال تعالى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس:27] فلا يمنعهم من الله أحد.
وقد يقول شخص: أنا صاحب سيئات، ولكن عندي من يمنعني: فعندي جاه، وسلطة، وقوة، ومال، أيمنعك ذلك من ربي؟ والله لا يمنعك من الله أحد، ولكن الله يمنعك من كل أحد؛ لأن الله غالب على أمره، والتاريخ موجود أمامنا، فهل استطاع فرعون الذي ادعى أنه الرب ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] هل امتنع من الله؟ أبداً.
النمرود الذي يقول لإبراهيم: ادع ربك أن يخرج لي في الميدان، أريد أن أحارب ربك، فأين هو النمرود ؟ ذهب، سلط الله عليه بعوضة دخلت من أنفه واستقرت في دماغه، وصارت تنتفض حتى ضربه عبد من عبيده في رأسه فشطره إلى نصفين وسقط نصف جناح البعوضة، فقال الله لها: أتريدين دية، أم تريدين جناحك؟ قالت: أريد دية، فكم الدية؟ قال: الأرض من يوم أن خلقتها إلى يوم أن أفنيها.
قالت: لا، بل أريد جناحي.
وجاء في الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فمن يمتنع من الله؟ لا أحد.
يقول الله: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس:27] ثم بين الله عز وجل حال وجوههم يوم القيامة، فأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، وجوه مبيضة، ومسفرة، ضاحكة مستبشرة، فرحة بلقاء الله، تفرح بأن الله أنجاها من النار ووعدها بالجنة.
لكن أولئك قال الله فيهم: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [يونس:27] الله أكبر! لا إله إلا الله! كيف يكون وجهه وليس قطعة بل قطع من الليل البهيم الأسود؟ قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] تبيض وجوه أهل الإيمان والعمل الصالح، وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والفجور والمعاصي والعمل السيئ، قال تعالى: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].
ميزان الفلاح في الآخرة
تعال إلى صاحب أكبر رتبة في الدنيا إذا مات، وقل له: كيف أنت في رتبتك؟ يقول: لا شيء.
تعال إلى أكبر تاجر في الدنيا وعنده المليارات واسأله وقد وضع في التراب، وخرج من الدنيا، وليس معه إلا قطعة قماش من ماله كله، وقل له: ماذا نفعك المال؟ سيقول: لا شيء.
تعال لصاحب العضلات، والقوة، والرياضة، إذا لف في أكفانة ووضع في التراب، واسأله: أين عضلاتك؟ يقول: لم تغن عني شيئاً، فما الذي ينفعك هناك؟ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] فالقضية قضية عمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة : (يا
إن المتأمل لآيات الكتاب الكريم ولأحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه يجد هذا واضحاً، بل يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي أن هذا واضح في أكثر من ألف موضع في القرآن الكريم، وهو أن الله دائماً يرتب الجزاء على فعل الإنسان.
قال عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] فلا يحصل شيء من العبد إلا ويحصل له جزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، يقول عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] فظهر الفساد في البر والبحر: فساد في الهواء، والماء، والثمار، وكل شيء بكسب العباد، فتتأثر جميع المخلوقات بكسب الإنسان بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] وإلا لو أذاق الله العباد كل ما عملوا ما بقي على ظهرها من دابة، ولكن الله حليم يمهل ولا يهمل، ويقول عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26-27] فهذه آية توضح أن القضية قضية كسب، فاكسب خيراً؛ تربح، واعمل سيئات؛ تحسب عليك، فلا يأخذ ذنوبك غيرك، ولا يأخذ حسناتك غيرك، يقول الله عز وجل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] ويقول عز وجل: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:46-52] في الجنة من كل فاكهة زوجان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:53-54] جنى أي: ثمر، فثمر الجنان دان، وأنت جالس يأتيك الثمر في مجلسك، وحين تقوم يقوم معك، وحين تمشي يمشي معك، فأينما اشتهيته وجدته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:55-56] نساء الجنة قاصرات الطرف، فقد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمع في سواه، ولم يطمثها قبله أحد، فهي نظيفة مبرأة، وبعد ذلك يقول الله عز وجل في وصفهن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:57-58].
حورياتك في الجنة وزوجاتك -يا عبد الله- مثل الياقوت والمرجان، فتصور امرأة مثل الياقوتة، كيف يكون وضعها؟ الآن أقل قطعة من الياقوت أو المرجان قيمتها مبالغ طائلة، وحجمها لا يتعدى رأس الإصبع، فكيف تريد ياقوتاً أو مرجاناً بلا قيمة؟ لا.
ثم قال عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:59-60] وهذا الشاهد من الآيات، هل جزاء إحسانهم في الدنيا إلا إحسان الله لهم بالثواب العظيم في الجنة.
في الآية التي تلوتها عليكم يقول الله فيها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [يونس:26] أي: أحسنوا في عقيدتههم فكانت خالصة من الشرك، وأحسنوا في عقيدتهم فكانت صافية من شوائب البدع والخرافات؛ لأن العقيدة لا بد أن تكون صافية من أمرين: ليس فيها شرك ولا بدعة ولا خرافة، وإنما خالصة: توحيد لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أحسنوا في عبادتهم، فيعبدون الله على أفضل صورة، وأحسنوا في سلوكهم، وأخلاقهم، وتعاملهم، فماذا يحصل لهم وهم محسنون؟ قال الله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] ما هي الحسنى؟ قال العلماء: الحسنى هي: الجنة، والدليل: أنها جمعت كل شيء حسن، فكل ما خطر في بالك مما يتصوره عقلك ويذهب إليه خيالك من جميع الملذات والنعم، ففي الجنة أعظم منه، ويكفيك أن الله يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وليس بما كانوا يلعبون، أو يسمرون، أو يضيعون، لا. بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فقد قطعوا لياليهم وأيامهم في طاعة الله، فيقول الله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] أي: الجنة، واحدة بواحدة، لكن بقي مكسب؟ ما هو؟ قال: (وزيادة)، فما هي الزيادة؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها النظر إلى وجه الله الكريم)، وهو أعظم نعيم يحل بأهل الجنة، وهل أعظم من أن تمتع بصرك بالنظر إلى وجه ربك وخالقك؟!
الآن إذا جاء ملك أو وزير أو أمير، ومر من شارع أليس يتدافع الناس ويتسابقون، ويقفون في الشوارع يريدون أن يروه إذا مر، ويريدون أن يروا وجهه إذا عرض، لماذا؟ لأنه صاحب فضل عليهم، وهل هناك صاحب فضل أعظم من فضل الله عليك؟ خلقك من العدم، ورباك بالنعم، وأوجدك من لا شيء، ثم أرسل لك رسوله، وأنزل عليك كتابه، وهيأ لك جنته، ودعاك إلى عبادته، ثم سرت في طريقه حتى أسكنك جنته، وبعد ذلك وأنت في الجنة يتم عليك نعمته بأن تنظر إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم! يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا أرحم الراحمين! نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تمتعنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة، وأن تعتق رقابنا من النار، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وهذه الزيادة تأتي بعد تطمين الله لأهل الجنة، بأنهم يمرون على النار وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ [يونس:26] والقتر هو: الإحراق، فإحراق النار يأتي منه قترة وعذاب شديد وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26] والذلة هي: الخزي؛ لأن عذاب النار ينقسم إلى قسمين: عذاب مادي وهو: الإحراق، وعذاب معنوي وهو: الذلة والانكسار الذي يحصل للإنسان في النار.
والنار كلها سيئة -نعوذ بالله وإياكم من النار وما فيها من العذاب- قال تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26].
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:27] وهل السيئات مكسب؟ قال العلماء: ليست مكسباً، ولكن من باب التهكم والسخرية، فيسخر الله منهم ويتهكم بهم.
فهؤلاء المغفلون الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة وهم يحملون ويكسبون على رءوسهم سيئات، فيكسب أحدهم من عينه سيئات فينظر إلى ما حرم الله، ويكسب من أذنه سيئات فيستمع إلى الأغاني وما حرم الله، ويكسب من لسانه سيئات فيتكلم في الغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن وشهادة الزور ويمين الفجور، ويكسب من بطنه سيئات فيأكل ما حرم الله، ويكسب من فرجه فيقع في الزنا واللواط وما حرم الله، ويكسب من يده فيبطش فيما حرم الله، ويكسب من رجله فيمشي إلى ما حرم الله، فهذا يكسب ويجمع، فماذا يجمع؟ يجمع سيئات. وأين تذهب السيئات؟ أتذهب إلى غيرك أم إليك؟ بل إليك، فأنت الذي أتيت بها، فهل نعطي الجماعة وهم ما فعلوا منها شيئاً؟ لا والله، فما معك إلا الذي معك، يقول الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46] وعندنا مثل في الجنوب -ويمكن أن أكثركم من أهل الجنوب- يقول: (ما غبر صبيح فعلى قرنه)، وصبيح عندنا هو: الثور، وسمي صبيحاً؛ لأن في جبهته بياضاً، فإذا جاء صبيح هذا إلى الحقل أو الزرع جاء إلى الجثوة، والجثوة هي: الدمن، أي: السماد الطبيعي، فيأتي يغرس قرنه ويخوض معركة مع الجثوة، ويأخذ هذا السماد وينطح به في السماء، ويحسب أنه يغبر على القبيلة وهو يغبر على رأسه.
وكذلك نحن نقول لصبيح المعاصي من البشر، نقول: يا صبيح المعاصي! ما عصيت من معصية فعلى قرنك، والله ما تضر أحداً، وما تضر الدولة، ولا الجماعة، ولا أمك، ولا أبوك ولكن تضر نفسك.
فإن كنت تحب نفسك؛ فتوقف عن المعاصي، وإن كنت تكره نفسك؛ فزود، قال تعالى: بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].
قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:27] فماذا نعطيهم؟ أنعطيهم حسنات؟ معقول؛ لأن الذي يعمل السيئات ويتصور أن الله سيعطيه حسنات فهذا يتهم الله بأنه لا يعرف كيف يجازي عباده، لا. قال: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] خذ سيئة وأعط سيئة فليس هناك غير ذلك، وبعدها قال تعالى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس:27] فلا يمنعهم من الله أحد.
وقد يقول شخص: أنا صاحب سيئات، ولكن عندي من يمنعني: فعندي جاه، وسلطة، وقوة، ومال، أيمنعك ذلك من ربي؟ والله لا يمنعك من الله أحد، ولكن الله يمنعك من كل أحد؛ لأن الله غالب على أمره، والتاريخ موجود أمامنا، فهل استطاع فرعون الذي ادعى أنه الرب ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] هل امتنع من الله؟ أبداً.
النمرود الذي يقول لإبراهيم: ادع ربك أن يخرج لي في الميدان، أريد أن أحارب ربك، فأين هو النمرود ؟ ذهب، سلط الله عليه بعوضة دخلت من أنفه واستقرت في دماغه، وصارت تنتفض حتى ضربه عبد من عبيده في رأسه فشطره إلى نصفين وسقط نصف جناح البعوضة، فقال الله لها: أتريدين دية، أم تريدين جناحك؟ قالت: أريد دية، فكم الدية؟ قال: الأرض من يوم أن خلقتها إلى يوم أن أفنيها.
قالت: لا، بل أريد جناحي.
وجاء في الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فمن يمتنع من الله؟ لا أحد.
يقول الله: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس:27] ثم بين الله عز وجل حال وجوههم يوم القيامة، فأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، وجوه مبيضة، ومسفرة، ضاحكة مستبشرة، فرحة بلقاء الله، تفرح بأن الله أنجاها من النار ووعدها بالجنة.
لكن أولئك قال الله فيهم: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [يونس:27] الله أكبر! لا إله إلا الله! كيف يكون وجهه وليس قطعة بل قطع من الليل البهيم الأسود؟ قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] تبيض وجوه أهل الإيمان والعمل الصالح، وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والفجور والمعاصي والعمل السيئ، قال تعالى: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].
أيها الإخوة: من كان يريد السعادة والفوز والفلاح؛ فلا بد له من أن يتأمل هذه القضية، وألا يتكل على شيء، إلا على رحمة الله، ثم إيمانه وعمله الصالح. أما الاتكالات والمغالطات -والتي سوف آتي بها إن شاء الله في هذا الدرس- فنريد أن نضعها جانباً، وأن نعمل؛ لأن الميدان ميدان عمل، يقول الله: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ [الملك:2] أكثر أموالاً، أو أرفع رتبة، أو أكبر جسماً، أو أقوى عضلاً كل هذا لا قيمة له.
تعال إلى صاحب أكبر رتبة في الدنيا إذا مات، وقل له: كيف أنت في رتبتك؟ يقول: لا شيء.
تعال إلى أكبر تاجر في الدنيا وعنده المليارات واسأله وقد وضع في التراب، وخرج من الدنيا، وليس معه إلا قطعة قماش من ماله كله، وقل له: ماذا نفعك المال؟ سيقول: لا شيء.
تعال لصاحب العضلات، والقوة، والرياضة، إذا لف في أكفانة ووضع في التراب، واسأله: أين عضلاتك؟ يقول: لم تغن عني شيئاً، فما الذي ينفعك هناك؟ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] فالقضية قضية عمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة : (يا
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |