خطب ومحاضرات
السيرة النبوية
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الدرس يلقى في مسجد (الشربتلي) في مدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (23 من شهر جمادي الأولى عام 1417 للهجرة) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو الدرس الأول من سلسة تأملات في السيرة النبوية.
سيرة من؟!
إنها سيرة خير البشر، وأفضلهم، وأكرم الخلق، فسير العظماء والأبطال والعباقرة جديرةٌ بالدراسة؛ لاستخلاص العبر، ولأخذ المواقف، لكن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من كل سيرة.
إنه ليس رجلاً عبقرياً عظيماً فحسب، وليس بطلاً فقط، يكفيه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ليس رسولاً فقط، بل هو من أولي العزم، بل هو أفضل الرسل على الإطلاق، وخير وأكرم من خلق الله.
نادى ربنا تبارك وتعالى كل الأنبياء بأسمائهم يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:104-105].. يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46].. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ [آل عمران:55].. يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ [القصص:31] وهذا شيءٌ طبيعي أن ينادي الله عز وجل عبيده بأسمائهم، فهم وإن كانوا رسلاً وأنبياء إلا أنهم عبيد، والسيد إذا دعا العبد دعاه باسمه، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم ما ناداه ربه باسمه في القرآن، فليس في القرآن يا محمد! بل فيه نداءان اثنان يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:67] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التوبة:73].
علام يدل هذا التخصيص؟
يدل على عظم المنزلة، وسمو المكانة، وأنه خير من خلق الله، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وخير من سار على الأرض في هذه الدنيا، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من يطرق باب الجنة، وأول من يؤذن له بالشفاعة يوم القيامة.
اجتماع الخلق في أرض المحشر
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير |
وإذا الجبال تقلعت بأصـولهـا ورأيتها مثل السحاب تسير |
وإذا البحار تأججـت نيرانهـا ورأيتها مثل الحميم تفور |
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضـرت فتقول للأملاك أين نسير؟! |
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور |
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور |
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور |
في ذلك اليوم العظيم يطول على الناس الموقف، وعدة ذلك اليوم خمسون ألف سنة، واليوم منها بألف سنة مما نعد، قال عز وجل: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فاليوم من أيام الآخرة يعدل ألف سنة، واضرب ألف سنة في خمسين ألف سنة، فهذا يوم القيامة والناس وقوف، والشمس تدنو من الرءوس ولا توجد مظلة إلا مظلة الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وليس هناك ماء إلا حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، نرجو الله أن يسقينا من حوضه، ويحشرنا في زمرته، ويجعلنا من أتباع سنته، ومن الناصرين لدينه وهداه.
والموقف طويل، والانتظار صعب على النفوس، فأنت لا تستطيع أن تنتظر ولا تحب الانتظار، ولو سافرت في رحلة فستظل ترقب الساعة متى يحين موعد الإقلاع، فلا تريد أن تبقى ولو لعشر دقائق. وإذا أتيت إلى المطار، وأعلن أن الرحلة تأخرت ساعة فكيف يكون وضعك؟! ستقول في نفسك: أأجلس، أم أرجع، وتضيق عليك نفسك وأنت جالس تحت المكيف، وعلى الكرسي، وإذا قيل: تأخرت الطائرة ثلاث ساعات أو أربع انزعجت. وإذا أتيت إدارة حكومية ووجدت أمامك عشرة أشخاص أو خمسة عشر، أو عشرين؛ جلست تترقب وصول شخص ما ليساعدك ويخلصك من هذه الزحمة، فلا تريد أن تنتظر. فكيف تنتظر يوم القيامة على تلك الحال؟
موقف أولي العزم في المحشر
ومن غضب الله أن دمر الكون كله؛ لأن الساعة تقوم حينما لا يقال في الأرض: الله .. الله، فيغضب الله ويدمر الكون، فلا يوجد من يجرؤ على الشفاعة في ذلك اليوم.
فالآن المدير عنده السكرتير، ومدير المكتب، والمساعدون، فإذا كان غاضباً وجاء من يقول: من فضلكم! لدي معاملة وأريدكم أن تشفعوا لي عند المدير، فيقال له: المدير ليس في مزاج حسن اليوم، فاذهب وعد في وقت يكون فيه مزاجه حسناً، فيختارون الأوقات المناسبة لذلك.
في ذلك اليوم الأنبياء يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي.
فالنبي يقول: نفسي نفسي، فكيف بنا أنا وأنت -يا أخي- يوم القيامة، لا إله إلا الله! نستغفر الله من الذنوب! فإذا كان الأنبياء المعصومين الذين لا يعصون الله لا يجرءون على سؤال الله شيئاً، فكيف بالمقصرين والمذنبين أمثالنا.
فيقال: اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم، فيقولون له: ألا تشفع إلى ربنا في فصل القضاء؟ فيقول: نفسي نفسي، ويذكر أنه قد كذب ثلاث مرات، ويقول: إني أستحي أن أسأل الله وقد كذبت كذبات ثلاث.
وما هي كذبات إبراهيم عليه السلام؟ إنها كذبات من أجل الدعوة، وهي صدق فيه تورية، فالمرة الأولى: حين خرج قومه لعبادة الأوثان وتقديم القربان قال: إني سقيم، وصدق! يقول: إن في قلبي مرضاً من عبادتكم لهذه الأصنام، لا أقدر أن أخرج معكم فأنا سقيم، قلبي مريض مما فيه من عبادتكم لغير الله، لكنه من محاسبته لنفسه اعتبرها كذبة.
- والثانية: لما قام على الأصنام وحطمها وعلق الفأس على كبيرها، قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] فلما جاءوا: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60] فتىً! فأين فتيان الإسلام؟ في المقاهي والمدرجات والأرصفة، وأمام المسلسلات والدخان والجرائد والمجلات إلا من عصم الله، فكان إبراهيم فتىً من فتيان الله، من فتيان الدين: فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ فلما جيء به قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60-62] فقال لهم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] ويشير إلى الصنم بإصبعه، وهو يعني أن إصبعه هذه كبيرة الأصابع هي التي حطمتها؛ لأنه لولا وجود هذه الإصبع لما قدر الإنسان على عمل شيء، فالإصبع السبابة تعد كبيرة الأصابع، وإذا فقدت هذه الإصبع لا يستفاد من بقية الأصابع بأي حال، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] يعني: إصبعه، فهم ظنوا أنه يعني الصنم، قال: فَاسْأَلُوهُمْ [الأنبياء:63] وهو أراد أن يقررهم على نقص عقولهم وقلة أفهامهم، إذ كيف يعبدون من لا يمنع نفسه؟ قال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] أي: أنت تعلم أنهم لا يتكلمون، قال: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] لأنكم تعبدون شيئاً لا يمنع نفسه، ولا ينفع، ولا يضر.
- والثالثة: لما دخل مصر وكان حاكمها طاغية مفتوناً بالنساء؛ فلا يرى امرأة جميلة إلا أخذها، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام جميلة، فلما أخبروه بها وقالوا: هناك امرأة دخلت ليس لها وصف، فقال: أحضروها، ولما جيء بها ومعها زوجها، فلو قال: زوجتي، فماذا سيصنع به؟ سيذبحه؛ لأنه لا يمكن أن يسمح له بزوجته، قال: ما تكون لك؟ قال: أختي. وصدق! فهي أخته في العقيدة والإسلام؛ لأنه ليس في الأرض مسلم إلا إبراهيم وزوجه، فقال: اجلس هنا، وأخذها الملك وذهب بها إلى حيث لا يراها زوجها، فلما أرادها دعت الله عز وجل فجمده في مكانه، حاول وحاول ولكن بدون فائدة، فقال: اسألي الله أن يطلقني ولن ألمسك، قالت: اللهم أطلقه، فأطلقه الله، ولما ولت جاءه الشيطان فلحقها فدعت الله عليه ففعل ذلك ثلاث مرات يراودها وهي تدعو الله، حتى ظن أنها ليست من الإنس، فأمر بإخراجها، وفي هذه الأثناء كشف الله لإبراهيم الحجب حتى يرى كل شيء، فلا يبقى في نفسه شك، فلما خرجت أخدمها الملك هاجر وهي أم إسماعيل، ولما دخلت على إبراهيم قال: ما صنعتِ، قالت: أخزى الله الكافر فكف يده وأخدمنا هاجر .
هذه كذبات إبراهيم -في نظره- ومع هذا يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقول: نفسي نفسي، إني قد قتلت نفساً، فجريمتي لا تؤهلني لأشفع للناس عند الله، وهو من أولي العزم ومن أفضل الرسل، وقد اصطفاه الله، يقول الله تعالى له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ويقول فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فأقوم وإذا موسى قائم عند العرش فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهو من أولي العزم، ومع هذا يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فلا يذكر ذنباً وإنما يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد، لا أسألك اليوم إلا نفسي.
الإذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى لأهل المحشر
والشفاعة حق لكنها لا تكون إلا بشرطين:
- الشرط الأول: الإذن من الشافع.
- والثاني: الرضى عن المشفوع له، فإذا لم يتوفر الشرطان فليس هناك شفاعة.
قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، ويفتح الله عليَّ من المحامد والثناء بما لم يفتح عليَّ من قبل، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي) اللهم اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أمة الإجابة.
فالأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، فأمة الدعوة تشمل كل من على وجه الأرض منذ مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ لأنه دعاهم كافة، أما أمة الاستجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لأن الله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] فالدعوة عامة ولكن الهداية خاصة وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد الله له وقال جل ذكره: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فمن الذي يقول هذا؟ إنه الله، وقال له بعد أن سرد الأنبياء في سورة الأنعام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] ووزع الله جميع الكمالات البشرية في البشر كلهم وأعطى الأنبياء أعظم قدر من ذلك، ثم جمع جميع كمالات البشر في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من صفة وكمال إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى قدر منها، فإن قلت: الصدق، فهو أصدق البشر، وإن قلت: الشجاعة، فهو أشجع البشر، وإن قلت: الكرم، فهو أكرم البشر، وإن قلت: القوة، فهو أقوى البشر، وإن قلت: الحلم، فهو أحلم البشر.. فأي صفة تأتي بها تجده يملك الحظ الأوفر منها.
في الصحيحين : يجتمع الناس في عرصات القيامة في يوم شديد الكرب، شديد الهول، السماء فيه تنفطر، والنجوم تنكدر، والجبال تسير، والقبور تبعثر، والبحار تسجر، وأهوال يشيب لها رأس الوليد الصغير الذي ليس له ذنب، فهو يوم يجعل الولدان شيباً، قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير |
وإذا الجبال تقلعت بأصـولهـا ورأيتها مثل السحاب تسير |
وإذا البحار تأججـت نيرانهـا ورأيتها مثل الحميم تفور |
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضـرت فتقول للأملاك أين نسير؟! |
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور |
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور |
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور |
في ذلك اليوم العظيم يطول على الناس الموقف، وعدة ذلك اليوم خمسون ألف سنة، واليوم منها بألف سنة مما نعد، قال عز وجل: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فاليوم من أيام الآخرة يعدل ألف سنة، واضرب ألف سنة في خمسين ألف سنة، فهذا يوم القيامة والناس وقوف، والشمس تدنو من الرءوس ولا توجد مظلة إلا مظلة الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وليس هناك ماء إلا حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، نرجو الله أن يسقينا من حوضه، ويحشرنا في زمرته، ويجعلنا من أتباع سنته، ومن الناصرين لدينه وهداه.
والموقف طويل، والانتظار صعب على النفوس، فأنت لا تستطيع أن تنتظر ولا تحب الانتظار، ولو سافرت في رحلة فستظل ترقب الساعة متى يحين موعد الإقلاع، فلا تريد أن تبقى ولو لعشر دقائق. وإذا أتيت إلى المطار، وأعلن أن الرحلة تأخرت ساعة فكيف يكون وضعك؟! ستقول في نفسك: أأجلس، أم أرجع، وتضيق عليك نفسك وأنت جالس تحت المكيف، وعلى الكرسي، وإذا قيل: تأخرت الطائرة ثلاث ساعات أو أربع انزعجت. وإذا أتيت إدارة حكومية ووجدت أمامك عشرة أشخاص أو خمسة عشر، أو عشرين؛ جلست تترقب وصول شخص ما ليساعدك ويخلصك من هذه الزحمة، فلا تريد أن تنتظر. فكيف تنتظر يوم القيامة على تلك الحال؟
يضج الناس في المحشر، ويذهبون إلى الأنبياء والرسل باعتبار أن لهم مكانة ومنزلة؛ من أجل الشفاعة عند الله ليقضي بين العباد ولو إلى النار، فيأتون إلى نوح أول الأنبياء والرسل، فيقول: نفسي نفسي، إن لي دعوة قد دعوتها على قومي ليس لي غيرها، ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.
ومن غضب الله أن دمر الكون كله؛ لأن الساعة تقوم حينما لا يقال في الأرض: الله .. الله، فيغضب الله ويدمر الكون، فلا يوجد من يجرؤ على الشفاعة في ذلك اليوم.
فالآن المدير عنده السكرتير، ومدير المكتب، والمساعدون، فإذا كان غاضباً وجاء من يقول: من فضلكم! لدي معاملة وأريدكم أن تشفعوا لي عند المدير، فيقال له: المدير ليس في مزاج حسن اليوم، فاذهب وعد في وقت يكون فيه مزاجه حسناً، فيختارون الأوقات المناسبة لذلك.
في ذلك اليوم الأنبياء يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي.
فالنبي يقول: نفسي نفسي، فكيف بنا أنا وأنت -يا أخي- يوم القيامة، لا إله إلا الله! نستغفر الله من الذنوب! فإذا كان الأنبياء المعصومين الذين لا يعصون الله لا يجرءون على سؤال الله شيئاً، فكيف بالمقصرين والمذنبين أمثالنا.
فيقال: اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم، فيقولون له: ألا تشفع إلى ربنا في فصل القضاء؟ فيقول: نفسي نفسي، ويذكر أنه قد كذب ثلاث مرات، ويقول: إني أستحي أن أسأل الله وقد كذبت كذبات ثلاث.
وما هي كذبات إبراهيم عليه السلام؟ إنها كذبات من أجل الدعوة، وهي صدق فيه تورية، فالمرة الأولى: حين خرج قومه لعبادة الأوثان وتقديم القربان قال: إني سقيم، وصدق! يقول: إن في قلبي مرضاً من عبادتكم لهذه الأصنام، لا أقدر أن أخرج معكم فأنا سقيم، قلبي مريض مما فيه من عبادتكم لغير الله، لكنه من محاسبته لنفسه اعتبرها كذبة.
- والثانية: لما قام على الأصنام وحطمها وعلق الفأس على كبيرها، قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] فلما جاءوا: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60] فتىً! فأين فتيان الإسلام؟ في المقاهي والمدرجات والأرصفة، وأمام المسلسلات والدخان والجرائد والمجلات إلا من عصم الله، فكان إبراهيم فتىً من فتيان الله، من فتيان الدين: فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ فلما جيء به قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60-62] فقال لهم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] ويشير إلى الصنم بإصبعه، وهو يعني أن إصبعه هذه كبيرة الأصابع هي التي حطمتها؛ لأنه لولا وجود هذه الإصبع لما قدر الإنسان على عمل شيء، فالإصبع السبابة تعد كبيرة الأصابع، وإذا فقدت هذه الإصبع لا يستفاد من بقية الأصابع بأي حال، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] يعني: إصبعه، فهم ظنوا أنه يعني الصنم، قال: فَاسْأَلُوهُمْ [الأنبياء:63] وهو أراد أن يقررهم على نقص عقولهم وقلة أفهامهم، إذ كيف يعبدون من لا يمنع نفسه؟ قال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] أي: أنت تعلم أنهم لا يتكلمون، قال: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] لأنكم تعبدون شيئاً لا يمنع نفسه، ولا ينفع، ولا يضر.
- والثالثة: لما دخل مصر وكان حاكمها طاغية مفتوناً بالنساء؛ فلا يرى امرأة جميلة إلا أخذها، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام جميلة، فلما أخبروه بها وقالوا: هناك امرأة دخلت ليس لها وصف، فقال: أحضروها، ولما جيء بها ومعها زوجها، فلو قال: زوجتي، فماذا سيصنع به؟ سيذبحه؛ لأنه لا يمكن أن يسمح له بزوجته، قال: ما تكون لك؟ قال: أختي. وصدق! فهي أخته في العقيدة والإسلام؛ لأنه ليس في الأرض مسلم إلا إبراهيم وزوجه، فقال: اجلس هنا، وأخذها الملك وذهب بها إلى حيث لا يراها زوجها، فلما أرادها دعت الله عز وجل فجمده في مكانه، حاول وحاول ولكن بدون فائدة، فقال: اسألي الله أن يطلقني ولن ألمسك، قالت: اللهم أطلقه، فأطلقه الله، ولما ولت جاءه الشيطان فلحقها فدعت الله عليه ففعل ذلك ثلاث مرات يراودها وهي تدعو الله، حتى ظن أنها ليست من الإنس، فأمر بإخراجها، وفي هذه الأثناء كشف الله لإبراهيم الحجب حتى يرى كل شيء، فلا يبقى في نفسه شك، فلما خرجت أخدمها الملك هاجر وهي أم إسماعيل، ولما دخلت على إبراهيم قال: ما صنعتِ، قالت: أخزى الله الكافر فكف يده وأخدمنا هاجر .
هذه كذبات إبراهيم -في نظره- ومع هذا يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقول: نفسي نفسي، إني قد قتلت نفساً، فجريمتي لا تؤهلني لأشفع للناس عند الله، وهو من أولي العزم ومن أفضل الرسل، وقد اصطفاه الله، يقول الله تعالى له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ويقول فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فأقوم وإذا موسى قائم عند العرش فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهو من أولي العزم، ومع هذا يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فلا يذكر ذنباً وإنما يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد، لا أسألك اليوم إلا نفسي.
يأتي أهل المحشر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم شفَّع نبيك فينا، وهذا هو المشروع عند أهل السنة والجماعة : أن تدعو الله أن يشفع نبيه فيك؛ لأن الشفاعة له: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28].. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].
والشفاعة حق لكنها لا تكون إلا بشرطين:
- الشرط الأول: الإذن من الشافع.
- والثاني: الرضى عن المشفوع له، فإذا لم يتوفر الشرطان فليس هناك شفاعة.
قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، ويفتح الله عليَّ من المحامد والثناء بما لم يفتح عليَّ من قبل، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي) اللهم اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أمة الإجابة.
فالأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، فأمة الدعوة تشمل كل من على وجه الأرض منذ مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ لأنه دعاهم كافة، أما أمة الاستجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لأن الله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] فالدعوة عامة ولكن الهداية خاصة وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد الله له وقال جل ذكره: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فمن الذي يقول هذا؟ إنه الله، وقال له بعد أن سرد الأنبياء في سورة الأنعام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] ووزع الله جميع الكمالات البشرية في البشر كلهم وأعطى الأنبياء أعظم قدر من ذلك، ثم جمع جميع كمالات البشر في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من صفة وكمال إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى قدر منها، فإن قلت: الصدق، فهو أصدق البشر، وإن قلت: الشجاعة، فهو أشجع البشر، وإن قلت: الكرم، فهو أكرم البشر، وإن قلت: القوة، فهو أقوى البشر، وإن قلت: الحلم، فهو أحلم البشر.. فأي صفة تأتي بها تجده يملك الحظ الأوفر منها.
عنوان هذا الدرس: (لماذا ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟)
والكتاب الذي اخترته ليكون مرجعاً كتاب عظيم اسمه: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، ومؤلفه أستاذ مشارك في جامعة الملك محمد بن سعود في كلية التربية وهو الدكتور/ مهدي رزق الله أحمد .
وهو كتابٌ عظيم يتميز أولاً: بترتيبه وحسن تنظيمه.
وثانياً: بتوثيقه لمصادره، واقتصاره على الصحيح مما ثبت عن طريق أهل الحديث، يعني أنه أخذ السيرة من كتب أهل الحديث، واهتم ووثق، وبالإضافة إلى ذلك يتميز هذا الكتاب بميزة استخلاص العبر، وأخذ الحكم من مواقف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فهو من أعظم الكتب، وأوصي إخواني طلبة العلم أن يقتنوه، ويراجعوا هذه الدروس، ويقرءوها على أهليهم في بيوتهم، ويقرءوها مع زملائهم، فإنها من أعظم ما يربى عليه الإنسان، فإذا أتيت بيتك في الليل وبعد أن تتناول طعام العشاء تجمع زوجتك وأولادك، وتقول: تعالوا نتدارس درساً من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم، وتأتي بهذا الكتاب وتدرس موقفاً واحداً وتستخلص منه العبر، وفي الليلة الثانية مثل ذلك، فتنشئ أولادك وبيتك على هدي وسيرة أكرم خلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السيرة طريق إلى التطبيق العملي لأحكام الإسلام
فإذا درست السيرة؛ وقفت بنفسك على التطبيق العملي، فالقرآن متمثل بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث لما سئلت عائشة رضي الله عنها فقيل لها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن) فإن أردت أن ترى خلق النبي صلى الله عليه وسلم فاقرأ القرآن، كل ما في القرآن من هدىً وفضائل ونور متمثل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن يلزمك أن تقرأ سيرته، لماذا؟ لترى التطبيق العملي لأحكام القرآن، فمثلاً: حين تسمع أن الله أمر بالصدق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] فأنت تريد نموذجاً من البشر قد تمثل فيه خلق الصدق، فتقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتخرج بنتيجة مفادها أنه منذ خلق حتى مات ما كذب كذبة واحدة، حتى إنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى ملوك العرب والعجم، كان من ضمن الكتب كتاب إلى هرقل ، فلما قرأه قال: هل هنا أحد من العرب؟ فبحثوا فوجدوا أبا سفيان ومعه نفر من العرب كانوا في تجارة، فأتي بهم، فوقف أبو سفيان وكان كافراً آنذاك، ووقف أصحابه من خلفه، فقال هرقل : إني سائله، فإن صدق فاسكتوا، وإن كذب فأشيروا إليَّ بأنه كذاب، ثم بدأ يسأل أبا سفيان ومن ضمن الأسئلة قوله: هل جربتم على هذا الرسول كذباً؟ قال: لا. ولو علم أبو سفيان على رسول الله كذبة واحدة لكان قال: نعم. لكنه يعرف أنه لو قال: نعم؛ للزمه أن يحكيها، فما كذب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته قط.
وبعد أن أخبره -والحديث طويل في صحيح البخاري - قال له هرقل : وسألتك: هل جربتم عليه كذباً، فقلت: لا. قلت: فما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله. فمن يستحي أن يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لن يكذب على الله. قال هرقل : فما كان -انظر إلى حكمة الرجل- ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، فعرفت أنه نبي.
السيرة سبيل إلى التأسي برسول الله
إن قدوتك هو رسول الله، ولهذا يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فهذه ثلاثة شروط لمن كان يريد أن يكون له أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزمه أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، وأن يذكر الله كثيراً، هذا هو الذي له في رسول الله أسوة حسنة، أما الذي لا يرجو الله، ولا يؤمن بلقائه، ولا يذكره فلن يكون محمد قدوته، فتكون له قدوات أخرى، فيكون قدوته اللاعب الفلاني، أو المغني الفلاني، أو الممثل الفلاني، أما أنت أيها المؤمن! يا من ترجو لقاء الله! يا من تؤمن بالله! يا من تذكر الله! من قدوتك؟ من الرجل الكامل الذي تتخذه قدوة يقودك إلى النجاة في الدنيا والآخرة؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما دمنا مأمورين بالاقتداء به؛ فإن الأمر يقتضي معرفة أحواله وشمائله وأخلاقه في جميع الأمور والأحوال والمناسبات؛ لأن من عرف شمائله وأخلاقه أحبه، ومن أحبه اقتدى به، وعلى ذلك سينال الأجر العظيم من الله في الدنيا والآخرة، حيث سيحشر معه، يقول أنس بن مالك في الحديث الصحيح: (جاء رجل أعرابي فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أين السائل؟ قال: هأنذا يا رسول الله -فربطه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل- قال: ما أعددت لها؟ -القضية ليست قضية أسئلة- قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت) يقول أنس : فما فرحنا يومئذٍ بأعظم من هذا، فإنا والله نحب الله ورسوله.
ونحن أيها الإخوة! نحب الله ورسوله، نسأل الله أن يوفقنا لأن نترجم هذه المحبة إلى عمل؛ لأن المحبة إما صادقة، وإما كاذبة، فالمحبة الصادقة هي التي يتبعها فعل، والكاذبة هي التي لا تتجاوز اللسان، يقول:
تعصي الإله وأنت تزعم حبـه هذا لعمري في القياس بديع |
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب يطيع |
فإذا أحببت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنك تنساق إلى طاعته واتباعه من غير مشقة؛ لأنك تحبه، وهذا واقع في حياة الناس الآن، فإذا قلت لزوجتك: إني أحبك، وقالت لك في الصباح: اقض لنا الحاجة الفلانية. فسترد عليها قائلاً: أرجوكِ! إن المحبة في القلب، وليست في قضاء الحوائج. فماذا ستقول المرأة؟ هل تصدقك في أنك تحبها؟ أتحبها ولا تقضي لها حوائجها؟ أتحبها ولا تهدي إليها هدية؟ أتحبها ولا تكسوها؟ لأنه من المعلوم أن الذي يحبك يعطيك، ويطيعك، ويحفظك، ولا يحب أن يسيء إليك. فكيف تدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنت ضد سنته؟ ومخالف لهديه؟ فأنت في وادٍ، وشريعته في وادٍ وتقول: والله إني لأحبه، فهذه محبة الكذابين، فإذا أردت أن تكون محباً فاتبع، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] يقول ابن عباس : [امتحن الله الخلق بهذه الآية] فهي اختبار، (قل) هنا للشرط، إن كنتم تحبون الله بصدق؛ فاتبعوا رسول الله، لماذا؟ لأن الله ما أرسله إلا ليطاع، يقول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64] فكيف يرسل الله لك رسولاً ولا تطيعه؟
لو أرسل لك مدير قسم الشرطة باستدعائك إلى القسم، فماذا تفعل؟ بالطبع ستقطع أعمالك وتذهب مباشرةً، فهل تشرع في الاستجابة احتراماً للعسكري أم للذي أرسله؟ للذي أرسله بطبيعة الحال.
لكن لو امتنعت ولم تذهب مع العسكري، فسيأتي من يأخذك قهراً مكبل اليدين؛ لأنك رفضت طاعة العسكري الذي يمثل من أرسله وهناك قد تكون قضيتك الأولى بسيطة، لكن يفتح لك تحقيقاً جديداً في موضوع التمرد والعصيان، فكيف يرسل لك رجل الدولة، والذي يحمل شعار الدولة ويعطيك الأمر وتقول: لن تأتي؟! إذاً فأنت عاصٍ، وعلى هذا قد تضاعف لك العقوبة، وتفتح لك قضية، ويمكن أن يحكم عليك بالسجن؛ لأنك عصيت رجلاً من رجال الدولة، وهذا حق، فلا ينبغي أن تعصي، لماذا؟ لأن طاعة العسكري من طاعة ولي الأمر، وطاعة ولي الأمر من طاعة الله بالمعروف، وأنت مأمور بطاعة ولي الأمر وإلا فإنك تستحق العقوبة.
وكذلك حين يرسل الله إليك رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنت ترفض إجابة دعوته؛ فإن الله سيرسل إليك برسول آخر اسمه ملك الموت يأخذك قهراً، وإذا أخذك قلت: رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً وأطيع الرسول قال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:100-101].
إذن فيقتضي الاقتداء برسول الله أن ندرس شمائله، وأحواله، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
السيرة سبب لثبات الدعاة إلى الله
وفي السيرة أيضاً كثير من العظات والعبر والحكم التي يعتبر بها المسلم، ويستفيد منها المؤمن؛ لأنها التطبيق العملي الصحيح لدين الله ولشريعته عز وجل.
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم دروس عملية لكثير من الناس وهي تتعلق بالابتلاء؛ لأن البلاء سنة كونية أرادها الله عز وجل لتمحيص الناس، حتى يتبين الصادق من المدعي الكاذب، يقول الله تعالى: ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] فابتلى الله الناس بعدة ابتلاءات ومنها: الابتلاء بالأوامر التي فرضها الله علينا، فالتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، هل كلها تنفع رب العالمين، ومردودها يعود على الله؟ كلا. فقد قال تعالى في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) فالطاعات والتكاليف الشرعية فرضها الله على الناس للاختبار والابتلاء، ولتكون سبباً في دخول الجنة، وحتى يتميز الصادقون عن اللاهين.
كذلك المحرمات التي حرمها الله، فقد حرم الله الزنا، والربا، والخمور، والكذب، فكل هذه من المحرمات، لماذا؟ لتصلح الحياة وليتميز الناس، ليعرف الصادق من الكاذب. إذا ابتلاك الله بمرض في ولدك أو جسمك أو زوجتك، فهذا نوع من البلاء، ليعلم الله هل أنت صابر أم عبد للعافية فقط، فبعض الناس عبد للعافية، وإذا جاءه المرض أشرك بالله، يقول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يعني: بلاء انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11] فهو موحد حال العافية، فإذا مرض أو مرضت المرأة، أو الولد؛ ذهب للمشركين، وللكهنة، وللمشعوذين، وإذا قيل له: هذا شرك، يقول: ماذا أعمل؟ فقد ذهبنا للمستشفيات فلم نجد علاجاً، وذهبنا إلى من يقرءون القرآن فما نفعوا، فماذا أعمل؟ أأقعد مريضاً؟ لا. ومعنى كلامه: إما أن يعافيني ربي، وإما أن أشرك به، والعياذ بالله! فأين العبودية؟ إن العبودية في أن تصبر؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] فإذا جاءك المرض؛ فاسلك الطرق الشرعية للعلاج، فإما أن يكون العلاج عضوياً في المستشفيات أو نفسياً أو معنوياً عند القراء الذين يقرءون القرآن والسنة فقط. أما أن تذهب إلى كاهن، أو ساحر، أو مشعوذ، أو كذاب، أو عراف؛ فتصدقه فيما قال فعند ذلك تكون قد كفرت، والحديث في صحيح مسلم : (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) بمعنى أنه لو مات في فترة الأربعين يوماً، يموت على غير الإسلام -والعياذ بالله- فهذا المرض بلاء.
كذلك الفقر: فالذي قسم الأرزاق بين العباد هو الله، يقول الله عز وجل: نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32] (نحن) هنا، من؟ أي: الله، مرسوم رباني، و(قسمنا) بصيغة الماضي، يعني: المسألة مقسومة ومنتهية: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] فالله جعل هذا غنياً وهذا فقيراً، فابتلى الله الغني بالمال، والفقير بالفقر، فماذا يحصل عندك إذا كان الله ابتلاك بالفقر؟ عليك أن تصبر، أما أن تتضجر وتتسخط وتقول: ما بالي أنا من دون الناس؟ الناس كلهم أغنياء إلا أنا، إذن فخذ رزقك بالقوة إن استطعت إلى ذلك سبيلاً، فهذا لا يصح، وما معك إلا الفقر، والفقر مقسوم لك، رضيت أو لم ترض، لكن الرضا يعوضك في آخرتك، وإلا فقد كتب رزقك، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فالرزق أمر مفروغ منه، وما على الناس إلا السعي فقط، يقول عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره، ولا يجلبه حرص حريص) فإذا ابتلاك الله بالفقر فارض بما قسمه الله لك مع أخذك بالأسباب، ولا تستسلم، وتقول: أنا فقير وسأنام، لا. بل اعمل واطلب الرزق من الله عز وجل، واسترزق الله، ولكن بعد ذلك ارض بما قسم الله.
وأفضل وسيلة لطلب الرزق أيها الإخوة! هي التقوى والاستغفار، يقول عليه الصلاة والسلام: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق فرجاً، ومن كل همٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) فعليك إذا ما أتاك رزق في ذلك اليوم أن تقول: أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! استغفر طوال يومك، وإذا ما أتيت إلى السوق تريد أن تعمل والعمال كثر، والطلب قليل، فاقعد واستغفر الله، فما تبرح حتى يرسل الله إليك من يكون سبباً في رزقك ذلك اليوم، لماذا؟ لأنك استغفرت ربك، فهنيئاً لك الرزق، وقد تستغفر ولا يأتيك رزق؛ لأن بعض الناس يدعو ويستغفر ويريد أن يختبر الله، فإن رزقه وإلا أمسك عن الدعاء والاستغفار، فأنت بهذا ما استغفرت من أجل الله، بل استغفرت من أجل المال، والله علم أن نيتك ليست خالصة له فما آتاك الرزق، لكن لو أنك استغفرت وعلم الله صدقك لرزقك؛ لأن الله يعلم ما في قلبك، ويعلم الموحد من المشرك، والصادق من الكاذب، والمخلص من المرائي، فهو يعلم السر وأخفى، أي: يعلم السر الذي في نفسك ولا يعرفه إلا أنت، ويعلم ما هو أخفى من السر والذي ستعرفه فيما بعد، فالله يعلمه وأنت ما علمت به بعد، فلا إله إلا الله! فيكون البلاء بالمرض، وبالفقر، وبالغنى، وبالزوجة والأولاد: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165] فهذا كله بلاء.
فعلى المسلم إذا درس السيرة أن يأخذ العبرة، ويتأسى، ويعرف أنه لا بد له من البلاء، ولا بد للبلاء من صبر.
السيرة تعين على فهم الأحكام المجملة
السيرة تتناول ما يحتاجه طالب العلم
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كيف تنال محبة الله؟ | 2926 استماع |
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2925 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2803 استماع |
أمن وإيمان | 2674 استماع |
حال الناس في القبور | 2674 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2602 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2570 استماع |
النهر الجاري | 2474 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2465 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2397 استماع |