الإيمان حقيقته وشعبه


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الأحبة في الله: أعظم ما يملكه الإنسان ويحرص على تحصيله في هذه الحياة هو الإيمان.. الإيمان الذي تتحقق به للإنسان سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الحياتين، فلا سعادة في الدنيا إلا بالإيمان، ولا فلاح من العذاب في الآخرة إلا بالإيمان؛ بالإيمان تعرف حقيقة الخلق وحكمة الوجود، وتشعر بلذة وطعم الحياة، وتتصل بخالق الأرض والسماء، ويستقيم سيرك على درب الحياة، وتعرف كيف تتعامل مع الكون والحياة من حولك.

وحينما تغادر الحياة في الرحلة الإلزامية، والسفر الإجباري الذي كتبه الله تعالى على كل مخلوق -لا بد من الرحيل إلى دار القبور، لا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الموت- حينما تلزم بالارتحال، وتخرج من الدنيا رغم أنفك.

لهوت وغرتك الأماني وحينما     أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر

والآخر يقول:

ما للمقابر لا تجيب     إذا رآهن الكئيب

حفر مسقفة عليهن     الجنادل والكثيب

فيهن أطفال وولدان     وشبان وشيب

كم من حبيب لم تكن     عيني لفرقته تطيب

غادرته في بعضهـن     مجندلاً وهو الحبيب

في تلك الرحلة لا تنتفع بشيء: لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا منصب، ولا رتبة، ولا مرتبة، ولا ينفعك في تلك اللحظات الحرجة وفي تلك الأيام الصعبة إلا الإيمان، في بيت الوحشة والظلمة والدود، لا ينفع هناك أحد.

يا مـن بدنياه اشتغل     وغرَّه طول الأمل

وقـد مضى في غفلـة     حتى دنا منه الأجل

المـوت يأتي بغتةً     والقبر صندوق العمل

لا ينفعك في القبر وعرصات القيامة إلا الإيمان: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] لا ينجو من تلك الأهوال إلا أهل الإيمان.

يوم تزفر جهنم، وتتزين الجنة: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:31-34].

هنا الفخر والمجد والشرف والعزة، هنا الفوز والفلاح أيها الإخوة! لكن لمن؟

لمن آمن وعمل صالحاً، ولكن: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

هذه الكلمة: (الإيمان) لها حقيقة وصورة، ولكن الصورة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، فالصورة تعطي فكرة عن الحقيقة لكن لا تؤدي دور الحقيقة، إذا رأيت صورة سيارة، تعرف من الصورة أن هذه سيارة، لكن هل تستطيع أن تقطع بها مسافة؟ أو أن تركب عليها وهي في الورق؟ الجواب: لا.

إذا أريتك صورة عمارة، تعرف من الصورة أنها عمارة، لكن هل تسكن في شقة في الورق؟ الجواب: لا.

إذا أخذت فئة خمسمائة ريال -ورقة مالية- وصورتها وكانت الصورة طبق الأصل: الرقم، والتوقيع، والفئة، وكل شيء، هل تستطيع أن تشتري بالصورة حزمة كراث بريال؟ الجواب: لا. لماذا؟

لأنها صورة.

وإذا أعطيتها صاحب المخبز، وتريد رغيفاً، يقول: اذهب، هذه صورة لا تنفع، لكن أظهر الخمسمائة الريال الحقيقية، تشتري بها حمولة سيارة، لماذا؟

لأن هذه حقيقية وتلك صورة.

والإيمان له حقيقة، وله صورة، صورته النطق باللسان، والادعاء والبيان دون أن تقيم على هذا الادعاء والبيان دليلاً من العمل الصالح لا ينفع، أما حقيقة الإيمان فهي: حقيقةٌ غالية ذات قيمة باهظة، وتكاليف ثقيلة، الإيمان له ثلاث حقائق عند أهل السنة والجماعة:

حقيقة لفظية، وحقيقة قلبية، وحقيقة عملية، ولا بد من توفر الثلاث، وإذا نقصت واحدة فسد الإيمان وتحول إلى إيمان صوري.

حقيقة الإيمان اللفظية

والحقيقة الأولى: حقيقة لفظية لسانية، وهي الإعلان والشهادة بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الركن الأعظم من أركان الإسلام، وهي أساس الدين، وهي أول مطلب يطلب من أي إنسان يريد الدخول في الإسلام، فإذا أراد الإنسان -وهو كافر- أن يدخل في دين الله، فإنه لا يقبل منه أي شيء حتى يعلن هذه الكلمة، فلو صلى قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صلاته؟

الجواب: مردودة، لو صام قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صيامه؟

الجواب: باطل ومردود، لو قاتل حتى مات، ما حكم قتاله وموته؟

الجواب: مات على الكفر؛ لأنه ما شهد أن لا إله إلا الله، وما أعلن هذه الكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا بد منها، وهي أول واجب، وهي أيضاً آخر كلمة يقولها الإنسان حينما يموت، والذي يلهم هذه الكلمة عند الموت هذا دليل على أنه صادق قد أدى مقتضياتها حينما كان حياً، ولهذا جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

فمن علامات حسن الخاتمة أن يلهم المسلم كلمة: (لا إله إلا الله) عند الموت، ولكن من هو الذي يوفق لها؟ هو الذي قالها وصدق وحققها، أما من قالها بلسانه، ولم يحققها بفعلها بجوارحه؛ فهذا يصرف عنها، ولا يوفق إليها عند الموت، بل إذا قيل له: قل: (لا إله إلا الله) يرفض، ولا يستطيع أن ينطق بها؛ لأنه خانها وما أدى أمانتها، هذه كلمة (لا إله إلا الله) وهي تمثل أساس الدين.

وطبعاً من متضمنات (لا إله إلا الله): (محمد رسول الله)، هي كلمة الإخلاص، ولهذا؛ أركان الإسلام خمسة: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فليست ركنين بل ركن واحد.

ومعنى (لا إله إلا الله): تجريد الإخلاص في العبادة لله وحده، ومعنى (محمد رسول الله): تجريد المتابعة في العبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فلا معبود بحق إلا الله، ولا مُتَّبَع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهي الحقيقة الأولى.

حقيقة الإيمان القلبية

الحقيقة الثانية: حقيقة قلبية:

وهي أن تصدر هذه الكلمة من قلبٍ يعتقدها ويقر بها ويصدقها، لا تكون كلمة من اللسان؛ لأن الكلمة من اللسان بغير تواطؤ القلب عليها نفاق، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا الإيمان في أول سورة البقرة، قال عز وجل: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] هم قالوا: آمنا، ولكن الله يقول: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: كاذبين، وقال: مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] فلا بد من تواطؤ القلب واللسان، فاللسان يعبر، والقلب يعتقد، ثم تأتي الحقيقة الثالثة من حقائق الإيمان.

حقيقة الإيمان العملية

الحقيقة الثالثة: العمل:

وهي العمل، والتطبيق، والاستسلام، والخضوع لله عز وجل في فعل الأوامر، وترك النواهي بالجوارح، ويقول أهل العلم: إن الحقيقة الثالثة هي التي تصدق كلمة اللسان، واعتقاد القلب، فإذا اعتقد بقلبه، وقال بلسانه؛ برز هذا الاعتقاد في سلوكه وواقع حياته، أما إذا قال بلسانه وزعم أنه يعتقد بقلبه، ثم نظرنا إلى أعماله فلم نجد أثراً لهذا الاعتقاد الذي زعمه أو لهذا القول الذي لفظه، ولم نجد له أثراً ولا فعاليةً في سلوكه، ولا في ممارساته، ولا عبادته، عرفنا أنه كاذب.

ولذا ما جاء لفظ الإيمان في القرآن مجرداً، وإنما جاء مقروناً بالعمل الصالح:

قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]، وقال تعالى: إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [سبأ:37].

إذ لا يكفي أن تقول: آمنت، بلسانك، ولا يكفي أن تدعي أنك آمنت بلسانك وصدقت بقلبك، حتى تقيم على هذا الادعاء دليلاً من فعلك، وهو التكاليف الشرعية، أمراً ونهياً، والتكليف الشرعي له شقان أوامر أمر الله بها: عقيدة صافية، صلاة، صيام، زكاة، حج، بر، صلة، فعل خير، أمر بمعروف، نهي عن منكر، ذكر الله، دعوة إلى الله، تلاوة لكتاب الله.. هذه اسمها أوامر.

ونواهٍ ومحرمات، تمنع شرعاً حتى الاقتراب منها: عينك غضها عما حرم الله، لسانك كفه عن الحرام، أذنك احفظها من الحرام، يدك كفها عن الحرام، رجلك لا تمش بها إلى الحرام، بطنك لا تدخل فيها حراماً، فرجك لا تطأ به في حرام، هذه نواهٍ.

فإذا رأينا رجلاً يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي؛ عرفنا أنه صادق، أما رجل يقول: آمنت بالله، وأنا مصدق بالله، ولكن لا يفعل أمراً، ولا ينتهي عن نهي؛ فهذا كاذب.

زيادة الإيمان بالطاعات ونقصه بالمعاصي

هذه هي حقائق الإيمان الثلاث، وهي معتقد أهل السنة والجماعة ، عندما يعرفون الإيمان يقولون: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب والجنان، وتطبيق بالجوارح والأركان. ثم يضيفون: يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان؛ لأنه ما دام له علاقة بالعمل، والعمل ليس بمستوى واحد عند الناس، ويتفاوت، فلذلك الإيمان يزيد وينقص، يزيد بماذا؟

بالطاعات، فكلما زدت في الطاعات زاد إيمانك، وينقص، ويتضاءل، ويضمحل بالمعاصي، وكلما وقعت في معصية نحتت في إيمانك، وقطعت فيه، وجرحته.. إلى أن يزول -والعياذ بالله-.

أثر الإخلال بإحدى حقائق الإيمان

هذه -أيها الإخوة- هي حقيقة الإيمان، فلا يكفي أن تأتي بواحدة، من قال: آمنت بلسانه، ولم يصدق بقلبه، ويعمل بجوارحه؛ فهو منافق.

ومن زعم أنه مؤمن بقلبه، ولم يعلنها، وعمل، ولكن لم يقل: (لا إله إلا الله)؛ فهو كافر ولو عمل، فـأبو طالب قام بأعمال عظيمة لا يقوم بها أحد، من حماية الإسلام، والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يقل: (لا إله إلا الله) حتى قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) أي: أتخذها حجة؛ لأنك عملت بعمل عظيم، الرجل آمن بأن النبي رسول حق من عند الله، ولهذا قال في أبيات شعرية له:

ولقد علمت بأن دين محمدٍ     من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة     لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

فهو عرف أن الدين حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، ولكن ماذا منعه؟ خشي أن يلومه أحد من الناس؛ لأنه أسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في آخر لحظة من حياته: (قل: (لا إله إلا الله) يا عم!) قال: هو على ملة عبد المطلب ، فما نطق بـ(لا إله إلا الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك! ما لم أُنْهَ عنك) فلماذا يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم؟

ليس بدافع القرابة، وإنما بدافع المواقف المشرفة التي كان يفعلها أبو طالب معه، ثم إن الله سبحانه وتعالى نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، وقال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

فالإنسان إذا لم ينطق بـ(لا إله إلا الله) وآمن بقلبه، وعمل بجوارحه؛ فهو كافر. ومن عمل بجوارحه الأعمال الصالحة، ولكنه ما نطق بلسانه، ولا اعتقد بقلبه؛ فهو أيضاً كافر، الآن في الشرق والغرب في العالم، أناس يعملون الصالحات، إذا رأيتهم تقول: هذه أعمال أهل الإسلام.

فإذا قالوا صدقوا، فلا يكذبون، بعض الكفار لا يكذب أبداً بأي حال من الأحوال، وإذا وعدوا لا يخلفون، ولهذا إذا قال لك أحد: موعد، تقول له: نعم. قال: موعد إنجليزي؟ تقول: إنجليزي، يعني: موعد مضبوط (100%) أما وعد المسلم فكذب، يقول: آتيك الساعة السادسة، ويأتيك الساعة الثامنة، فلا إله إلا الله!

وإذا اشتغلوا في صناعات لا يغشون، فتفتح العلبة وتجدها مليئة إلى آخرها، ولا ينقص منها شيء، بينما المسلمون يغشون، إذا باع الطماطم يضع الفاسدة بالأسفل والجيدة بالأعلى، ويدقدق العلبة من الجوانب من أجل أن توفر له شيئاً من الطماطم، ذلك عمل صالح: كونه صادقاً في صناعته، ومتقناً في شغله -أيضاً- وفي دوامه: إذا كان يعمل في شركة، والدوام يبدأ الساعة السابعة تجده الساعة السابعة وهو حاضر، ولا ينصرف إلا نهاية الدوام بالضبط، ولا يمكن أن يخرج من العمل في الدولة، أي عمل؛ أو في الشركة أو في العمل دقيقة واحدة، بينما تجد بعض المسلمين يتلاعب، يأتي الساعة التاسعة ويوقع: السابعة والنصف، وهو يعرف أنه كاذب، وينصرف الساعة الواحدة ويكتب الانصراف: الثانية والنصف، ويمرر وقت الدوام في الكلام، وقراءة جرائد، وتلفونات، وضحك، وغير ذلك، وأعمال المواطنين عنده أكوام، وكلما جاء مراجع، قال له: غداً، فالمعاملات كثيرة، ويدعي شهادة: أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا مخطئ، وذاك مخطئ، والحق أن تقولها بلسانك، وأن تعتقد بقلبك، وأن تطبق بجوارحك.

فهؤلاء الكفار رغم أنهم يصدقون في أقوالهم، ويوفون بوعودهم، ويخلصون في أعمالهم لكن هل ينفعهم هذا عند الله يوم القيامة؟ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16] لأنهم ما قالوا: آمنا بالله، ولا قالوا: (لا إله إلا الله محمداً رسول الله)، هذه أيها الإخوة حقيقة الإيمان.

التكاليف الشرعية امتحان لإثبات الإيمان

حتى تربح الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، لا بد أن تحقق هذه الثلاثة الأمور: أن تقول بلسانك، وتعتقد بقلبك، وتطبق بجوارحك، وهذا الأمر ليس أمراً سهلاً بل هو صعب، ولهذا رد الله عز وجل على من يظن أن هذا الأمر سهل، وقال في أول سورة العنكبوت: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] أي: كيف لا يفتنون ويختبرون، وقد قالوا: آمنا؟ إذ لا بد من الاختبار والابتلاء.

وقد فتن الله واختبر العباد بالتكاليف الشرعية، أما تدري أن هذه التكاليف التي فرضها الله علينا نوع من الامتحان؟ صلاة الفجر امتحان؛ لأن الله جعلها في وقت النوم والراحة، صيام رمضان امتحان، خاصة عندما يأتي في فصل الصيف، الحج جزء من الامتحان، المداومة على الصلاة في المسجد وبرمجة الحياة على أساس الصلاة، هذا من الامتحان.

كذلك تحريم المحرمات والشهوات نوع من الامتحان، كونك ترى شيئاً وقلبك يتطلع إليه، وعندك ميل إليه، لكنه محرم فتمتنع عنه؛ ابتلاء، يقول الله تعالى: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

فلا تتصور أن السلعة بسيطة، لا، السلعة غالية ولهذا فثمنها غالٍ، يقول الشاعر:

تهون علينا في المعـالي نفوسنا     ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر

فأنت تخطب الجنة، ولهذا لا تتصور أن السلعة رخيصة، يقول ابن القيم في النونية :

يا سلعة الرحمن لست رخيصةً     بل أنتِ غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها     في الألف إلا واحد لا اثنان

من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في جهنم وواحد إلى الجنة، فليست حظيرة بقر، كل من جاء دخل، لا. لا يدخلها إلا واحد من الألف:

يا سلعة الرحمن كيف تصبَّر الـ     خُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسد     بين الأراذل سفلة الحيوان

هذا أيها الإخوة هو الشق الأول من عنوان المحاضرة، الإيمان .. حقيقته.

والحقيقة الأولى: حقيقة لفظية لسانية، وهي الإعلان والشهادة بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الركن الأعظم من أركان الإسلام، وهي أساس الدين، وهي أول مطلب يطلب من أي إنسان يريد الدخول في الإسلام، فإذا أراد الإنسان -وهو كافر- أن يدخل في دين الله، فإنه لا يقبل منه أي شيء حتى يعلن هذه الكلمة، فلو صلى قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صلاته؟

الجواب: مردودة، لو صام قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صيامه؟

الجواب: باطل ومردود، لو قاتل حتى مات، ما حكم قتاله وموته؟

الجواب: مات على الكفر؛ لأنه ما شهد أن لا إله إلا الله، وما أعلن هذه الكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا بد منها، وهي أول واجب، وهي أيضاً آخر كلمة يقولها الإنسان حينما يموت، والذي يلهم هذه الكلمة عند الموت هذا دليل على أنه صادق قد أدى مقتضياتها حينما كان حياً، ولهذا جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

فمن علامات حسن الخاتمة أن يلهم المسلم كلمة: (لا إله إلا الله) عند الموت، ولكن من هو الذي يوفق لها؟ هو الذي قالها وصدق وحققها، أما من قالها بلسانه، ولم يحققها بفعلها بجوارحه؛ فهذا يصرف عنها، ولا يوفق إليها عند الموت، بل إذا قيل له: قل: (لا إله إلا الله) يرفض، ولا يستطيع أن ينطق بها؛ لأنه خانها وما أدى أمانتها، هذه كلمة (لا إله إلا الله) وهي تمثل أساس الدين.

وطبعاً من متضمنات (لا إله إلا الله): (محمد رسول الله)، هي كلمة الإخلاص، ولهذا؛ أركان الإسلام خمسة: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فليست ركنين بل ركن واحد.

ومعنى (لا إله إلا الله): تجريد الإخلاص في العبادة لله وحده، ومعنى (محمد رسول الله): تجريد المتابعة في العبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فلا معبود بحق إلا الله، ولا مُتَّبَع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهي الحقيقة الأولى.

الحقيقة الثانية: حقيقة قلبية:

وهي أن تصدر هذه الكلمة من قلبٍ يعتقدها ويقر بها ويصدقها، لا تكون كلمة من اللسان؛ لأن الكلمة من اللسان بغير تواطؤ القلب عليها نفاق، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا الإيمان في أول سورة البقرة، قال عز وجل: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] هم قالوا: آمنا، ولكن الله يقول: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: كاذبين، وقال: مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] فلا بد من تواطؤ القلب واللسان، فاللسان يعبر، والقلب يعتقد، ثم تأتي الحقيقة الثالثة من حقائق الإيمان.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع