تأملات قرآنية في سورة الأنعام [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الأحبة في الله: هذا الدرس بعنوان: (تأملات قرآنية) ويأتي ضمن سلسلة الدروس التي هي بهذا العنوان، وتلقى بشكل دوري، مرة في كل شهر، ونتناول فيها بعض المفاهيم والنظرات والوقفات التي تهدي إليها وتدل عليها بعض آيات سورة الأنعام.

والآيات التي سوف نتأملها هذه الليلة هي في سعة رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقد جاءت في بيان الله عزَّ وجلَّ أنه كتب على نفسه الرحمة، وجاءت هذه الآية في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، وما ختم الله عزَّ وجلَّ به من التهديد المخيف، ومن الوعيد الشديد لأولئك المكذبين والمعرضين، والذين يعدلون بالله عزَّ وجلَّ غيره من آلهتهم المزعومة، ثم ما جاء به من لفت الأنظار، وتوجيه القلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين من الأمم الغابرة، وأن مصير من يكذب لن يختلف عن مصير أولئك المكذبين.

كما أنها تأتي -هذه الآيات- بعد الحديث الذي عرض حقيقة الألوهية في المجال الكوني والمجال الإنساني، وفي كل مجالات الحياة؛ عرضت حقيقة الألوهية في مجال خلق السماوات والأرض، فافتتح الله عزَّ وجلَّ السورة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].

ثم لفت النظر من خلال خلق الإنسان من طين: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2].

ثم إحـاطة علم الله عزَّ وجلَّ بسر وجهر الناس، وبما يكسبونه: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3].

تأتي هذه الآيات بسؤال يوجهه الله عزَّ وجلَّ إلى الناس، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، فيقول ربنا عزَّ وجلَّ للرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12] ثم يأمره الله بالجواب، فيقول: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] فإنه المالك، ولا يستطيع أحد أن يقول أو يتطاول أو يزعم أن له ما في السماوات وما في الأرض إلا الله، قد يزعم أو يتطاول بعض الناس فيدعي أن له شيئاً مما في السماوات والأرض، فقد تقول أنت: هذه أرضي ومزرعتي وعمارتي وشقتي؛ هذه جزئية لك، بقدرك .. بحسبك، وقد يقول -مثلاً- أمير منطقة: هذه منطقتي، ويقول رئيس دولة: هذه بلادي .. مملكتي .. دولتي .. لكن من يجرؤ على أن يقول: الأرض كلها أرضي، والسماء كلها سمائي، وما بينهما وما تحت الثرى لي، وما فوق الأرض والسماء لي؟! من يستطيع إلا الله؟! فالله تعالى يقول: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:12-13].

تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض ...)

هذه المساءلة تأتي لبيان وتقرير، ثم لمفاصلة، ومن ثَمَّ يبدأ التوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواجهة، مواجهة المشركين الذين يعرفون أن الله هو الخالق، وما كان مشركو العرب ينكرون هذه الحقيقة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] فما كانوا يشركون في الربوبية، فقد كانوا يعرفون أن الخالق هو الله؛ لكنهم لا يتبعون هذه الحقيقة -حقيقة الربوبية- بالحقيقة الملازمة لها، وهي حقيقة الألوهية، فما دام أنه الرب فإنه المعبود لوحده، لكنهم كانوا يفصلون بينهما، ويعبدون آلهة مع الله.

وبدأت المواجهة بتقرير الربوبية من أجل جعلها لازماً للألوهية، فيقول عزَّ وجلَّ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12] التي لا يجادلون فيها، فيقول الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] ولقد كان العرب -كما قلت لكم- في جاهليتهم أخف ضلالاً من جاهلية الناس في هذا الزمان، لماذا؟ تلك الجاهلية فيها ضلال وزيغ؛ ولكن الجاهلية الحديثة؛ جاهلية البعد عن الله في أبشع الصور، وهي درجة الإلحاد، هذه لا تؤمن بالحقائق، ولا تعرف حقيقة أن الله هو خالق الكون والحياة، والتي هي متعلقة بفطرة الإنسان وبتكوينه، وأن الله هو الذي خلق الإنسان وفطره على الإيمان به، يقول الله عزَّ وجلَّ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

حتى الفطرة المركبة في الإنسان والتي هي أرضية لاستنبات هذا الدين، مُسخت هذه الفطرة وغُيِّرت، وجُعلت مضادة لما يمكن أن يكون صالحاً لإسعاد هذا الإنسان، إنهم كانوا يعرفون ويقرون أن لله ما في السماوات والأرض؛ ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه القضية نتائجها المنطقية من إفراد الله عزَّ وجلَّ بالعبودية والحاكمية في الأرض، وبهذا اعتُبروا من المشركين، وسُميت حياتهم بالحياة الجاهلية، فكيف -أيها الإخوة- بمن يخرجون على أمر الله كله، وعلى اختصاص الله كله، ويزاولون هذا بأنفسهم؟! بماذا يوصفون؟! وبماذا يمكن أن توصف به حياتهم؟! لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك؛ إنها الكفر، والظلم، والفسق، كما قررها الله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله)

يتصور بعض الناس أن هذه الآية فقط مصروفة إلى الحُكَّام والرؤساء الذين لا يحكمون الشرائع، وهي آية عامة تشمل الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، وكلُّ مخاطب بهذه الآية يجب أن يحكم أمر الله فيه.

فعينُـك هذه محكـومة بأمر الله، أي: أمَر الله فيها بحكم، وقال لك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، هذا حكم الله في عينك، هل أخضعت عينك لحكم الله؟! أم أن عينك متمردة على حكم الله؛ فهي تنظر إلى ما حرم الله؟!

وأذنك هذه مأمورة بأمر، فلا تسمع ما حرم الله، فهل حكَّمت فيها أمر الله فمنعتها من استماع الغناء وما حرم الله؟!

ولسانك هذا محكوم بأمر الله، فهل أخضعت هذا اللسان لشرع الله، وحكمته بشريعة الله؟! أم أنه محكوم بالهوى والشهوة والعادة والطبيعة؟!

وفرجُك، ويدُك، ورجلك، وبيتك، وزوجتك، وعملك، ومؤسستك، وحياتك كلها .. ما من جزئية من جزئياتك إلا وفيها أمر لله، هل حكمته بأمر الله؟! وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

قال العلماء: كيف تعدد الحكم بين: (كافرون، ظالمون، فاسقون)؟! رغم أن المعصية واحدة.

قالوا: الناس أمام أمر الله ثلاثة أصناف:

الأول: صنف يواجهه أمر الله، فلا يؤمن به أصلاً، ويرفضه، ويتصور أن أمره أحسن من أمر الله، فهذا كافر.

الثاني: صنف يواجهه أمر الله وهو ظالم، وأمر الله يأمر بالعدل، فيرى أن أمر الله يرد ظلمه، فيرفضه ليستمر في ظلمه، فهو ظالم.

الثالث: صنف يواجهه أمر الله، ويعرف أن أمر الله حق؛ لكن أمر الله يحول بينه وبين ممارسة فسقه ومعاصيه، وهو إنسان يحب الشهوات، وإذا عرف أن أمر الله ينفذ عليه، فلا يريده من أجل الشهوة، فهذا فاسق.

والذي تتوفر فيه الثلاثة كلها؛ يرفض أمر الله؛ لأنه لا يريده أصلاً، ولا يرى أنه أفضل شيء، ثم هو ظالم، ثم هو فاسق، فتجتمع فيه الصفات كلها -والعياذ بالله-.

تفسير قوله تعالى: (قل الله...)

قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] اكتفى بالرد بهذه الآية فقط؛ إذ لا سبيل إلى المرية أو الشك أو المنازعة في هذا، لا يوجد أحد يستطيع أن يقول: إن أحداً مع الله شريك في السماوات والأرض، والدليل على ذلك: أن كل من يدَّعي ملك شيء يترك هذا الملك، فبيتك هذا تقول: بيتي. طَيِّبٌ! لا تقل: بيتي، قل: بيت الورثة؛ بعد سنة أو سنتين إذا بك نازل على رأسك وقد كنت تمشي على رجليك، والآن تُنَزَّل منكوساً، إذاً هذا بيتك، أم بيت الناس؟! بيت الناس.

تقول: هذه سيارتي. تَرَكْتَها.

تقول: هذه زوجتي. تَرَكْتَها.

تقول: هذه إدارتي. فصلوك منها.

تقول: هذه رتبتي. نزعوها من على كتفك وتركوك.

تقول: هذه وزارتي. أحالوك.

تقول: هذه مملكتي. متَّ وأخرجوك.

إذاً: لمن الملك أصلاً؟! لله.

ولهذا يوم القيامة بعد أن يفني الله عزَّ وجلَّ الكون كله، ينادي تبارك وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟! أين الجبابرة؟! أين القياصرة؟! أين الأكاسرة؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على نفسه تبارك وتعالى فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] لا شريك له فهو المالك.

ولـهذا لَـمْ تأت الآية بمزيد توضيح؛ إذ لا مجال للمراء والشك في هذه القضية، فهي قضية من المسلَّمات، قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] لكن العبرة والعظة فيما جاء بعدها: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] سبحانه ما أعظمه! المالك الذي لا ينازَع في ملكه؛ ولكن منه فضلاً ورحمة ومِنَّةً كتب على نفسه الرحمة، مَن ألزمه بأن يكتبها؟! من طلب منه أن يكتبها؟! كتبها ابتداءً منه وفضلاً منه، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] كتبها بمشيئته وبإرادته، لم يوجبها عليه موجِب، ولم يقترحها عليه مقترح، ولم يقتضها منه مقتضٍ، ولم يطلبها منه طالب؛ ولكنها إرادته المطلقة، وربوبيته الكريمة.

هذه المساءلة تأتي لبيان وتقرير، ثم لمفاصلة، ومن ثَمَّ يبدأ التوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواجهة، مواجهة المشركين الذين يعرفون أن الله هو الخالق، وما كان مشركو العرب ينكرون هذه الحقيقة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] فما كانوا يشركون في الربوبية، فقد كانوا يعرفون أن الخالق هو الله؛ لكنهم لا يتبعون هذه الحقيقة -حقيقة الربوبية- بالحقيقة الملازمة لها، وهي حقيقة الألوهية، فما دام أنه الرب فإنه المعبود لوحده، لكنهم كانوا يفصلون بينهما، ويعبدون آلهة مع الله.

وبدأت المواجهة بتقرير الربوبية من أجل جعلها لازماً للألوهية، فيقول عزَّ وجلَّ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12] التي لا يجادلون فيها، فيقول الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] ولقد كان العرب -كما قلت لكم- في جاهليتهم أخف ضلالاً من جاهلية الناس في هذا الزمان، لماذا؟ تلك الجاهلية فيها ضلال وزيغ؛ ولكن الجاهلية الحديثة؛ جاهلية البعد عن الله في أبشع الصور، وهي درجة الإلحاد، هذه لا تؤمن بالحقائق، ولا تعرف حقيقة أن الله هو خالق الكون والحياة، والتي هي متعلقة بفطرة الإنسان وبتكوينه، وأن الله هو الذي خلق الإنسان وفطره على الإيمان به، يقول الله عزَّ وجلَّ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

حتى الفطرة المركبة في الإنسان والتي هي أرضية لاستنبات هذا الدين، مُسخت هذه الفطرة وغُيِّرت، وجُعلت مضادة لما يمكن أن يكون صالحاً لإسعاد هذا الإنسان، إنهم كانوا يعرفون ويقرون أن لله ما في السماوات والأرض؛ ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه القضية نتائجها المنطقية من إفراد الله عزَّ وجلَّ بالعبودية والحاكمية في الأرض، وبهذا اعتُبروا من المشركين، وسُميت حياتهم بالحياة الجاهلية، فكيف -أيها الإخوة- بمن يخرجون على أمر الله كله، وعلى اختصاص الله كله، ويزاولون هذا بأنفسهم؟! بماذا يوصفون؟! وبماذا يمكن أن توصف به حياتهم؟! لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك؛ إنها الكفر، والظلم، والفسق، كما قررها الله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

يتصور بعض الناس أن هذه الآية فقط مصروفة إلى الحُكَّام والرؤساء الذين لا يحكمون الشرائع، وهي آية عامة تشمل الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، وكلُّ مخاطب بهذه الآية يجب أن يحكم أمر الله فيه.

فعينُـك هذه محكـومة بأمر الله، أي: أمَر الله فيها بحكم، وقال لك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، هذا حكم الله في عينك، هل أخضعت عينك لحكم الله؟! أم أن عينك متمردة على حكم الله؛ فهي تنظر إلى ما حرم الله؟!

وأذنك هذه مأمورة بأمر، فلا تسمع ما حرم الله، فهل حكَّمت فيها أمر الله فمنعتها من استماع الغناء وما حرم الله؟!

ولسانك هذا محكوم بأمر الله، فهل أخضعت هذا اللسان لشرع الله، وحكمته بشريعة الله؟! أم أنه محكوم بالهوى والشهوة والعادة والطبيعة؟!

وفرجُك، ويدُك، ورجلك، وبيتك، وزوجتك، وعملك، ومؤسستك، وحياتك كلها .. ما من جزئية من جزئياتك إلا وفيها أمر لله، هل حكمته بأمر الله؟! وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

قال العلماء: كيف تعدد الحكم بين: (كافرون، ظالمون، فاسقون)؟! رغم أن المعصية واحدة.

قالوا: الناس أمام أمر الله ثلاثة أصناف:

الأول: صنف يواجهه أمر الله، فلا يؤمن به أصلاً، ويرفضه، ويتصور أن أمره أحسن من أمر الله، فهذا كافر.

الثاني: صنف يواجهه أمر الله وهو ظالم، وأمر الله يأمر بالعدل، فيرى أن أمر الله يرد ظلمه، فيرفضه ليستمر في ظلمه، فهو ظالم.

الثالث: صنف يواجهه أمر الله، ويعرف أن أمر الله حق؛ لكن أمر الله يحول بينه وبين ممارسة فسقه ومعاصيه، وهو إنسان يحب الشهوات، وإذا عرف أن أمر الله ينفذ عليه، فلا يريده من أجل الشهوة، فهذا فاسق.

والذي تتوفر فيه الثلاثة كلها؛ يرفض أمر الله؛ لأنه لا يريده أصلاً، ولا يرى أنه أفضل شيء، ثم هو ظالم، ثم هو فاسق، فتجتمع فيه الصفات كلها -والعياذ بالله-.

قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] اكتفى بالرد بهذه الآية فقط؛ إذ لا سبيل إلى المرية أو الشك أو المنازعة في هذا، لا يوجد أحد يستطيع أن يقول: إن أحداً مع الله شريك في السماوات والأرض، والدليل على ذلك: أن كل من يدَّعي ملك شيء يترك هذا الملك، فبيتك هذا تقول: بيتي. طَيِّبٌ! لا تقل: بيتي، قل: بيت الورثة؛ بعد سنة أو سنتين إذا بك نازل على رأسك وقد كنت تمشي على رجليك، والآن تُنَزَّل منكوساً، إذاً هذا بيتك، أم بيت الناس؟! بيت الناس.

تقول: هذه سيارتي. تَرَكْتَها.

تقول: هذه زوجتي. تَرَكْتَها.

تقول: هذه إدارتي. فصلوك منها.

تقول: هذه رتبتي. نزعوها من على كتفك وتركوك.

تقول: هذه وزارتي. أحالوك.

تقول: هذه مملكتي. متَّ وأخرجوك.

إذاً: لمن الملك أصلاً؟! لله.

ولهذا يوم القيامة بعد أن يفني الله عزَّ وجلَّ الكون كله، ينادي تبارك وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟! أين الجبابرة؟! أين القياصرة؟! أين الأكاسرة؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على نفسه تبارك وتعالى فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] لا شريك له فهو المالك.

ولـهذا لَـمْ تأت الآية بمزيد توضيح؛ إذ لا مجال للمراء والشك في هذه القضية، فهي قضية من المسلَّمات، قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] لكن العبرة والعظة فيما جاء بعدها: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] سبحانه ما أعظمه! المالك الذي لا ينازَع في ملكه؛ ولكن منه فضلاً ورحمة ومِنَّةً كتب على نفسه الرحمة، مَن ألزمه بأن يكتبها؟! من طلب منه أن يكتبها؟! كتبها ابتداءً منه وفضلاً منه، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] كتبها بمشيئته وبإرادته، لم يوجبها عليه موجِب، ولم يقترحها عليه مقترح، ولم يقتضها منه مقتضٍ، ولم يطلبها منه طالب؛ ولكنها إرادته المطلقة، وربوبيته الكريمة.

تعريف الرحمة

الرحمة كما يقول العلماء: قاعدة قضائه في خلقه؛ الأصل في كل شيء رحمة الله؛ لسعتها وشمولها، ولأنها مكتوبة؛ كتبها الله عزَّ وجلَّ بإرادته وفضله، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12].

فالرحمة قاعدة معاملته مع خلقه في الدنيا والآخرة، ولو أن الله يؤاخذ الناس بغير الرحمة ما ترك على ظهرها من دابة، ولأهلك الناس من زمن طويل، ولم يبق أحداً؛ لأن كل واحد يذنب في كل يوم ذنباً؛ لكن ما أعظم رحمة الله عزَّ وجلَّ! انظر إلى نفسك أنت كم تخطئ في اليوم الواحد؟! وكم تقترف من الذنوب والمعاصي؟! ففي هذا اليوم من الصباح إلى المغرب كم نظرت إلى النساء؟! هل سمعت منكراً؟! هل تكلمت في محذور؟! هل فكرت في حرام؟! هل صليت في المسجد؛ الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء؟! هل عملتَ خيراً؟! تصدقت؟! أصلحت؟! أمرت بمعروف، نهيت عن منكر؟! كل هذه الأسئلة يجب أن تدور في ذهنك .. وستجد في المقابل الثاني معاصٍ، فلو أخذك الله بالمعاصي لأهلكك اليوم، وأهلك أهل أمس، وما بقي أحد؛ ولكن القاعدة الأصلية في تعامل الله عزَّ وجلَّ مع خلقه، ويعاملهم به في الدنيا وفي الآخرة هي: رحمته فله الفضل والمنة، وله الشكر على هذه النعمة.

مقتضى رحمة الله لعباده

هذه -أيها الإخوة- تقتضي مِنَّا أن نكون مؤدبين مع الله؛ فعندما نعلم أنه واسع الرحمة يجب أن نكون كثيري الطاعة، لا المعصية معتمدين على سعة الرحمة، كما يقول الحسن البصري : [إن قوماً غرَّهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، كذبوا والله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل].

مثال: ولله المثل الأعلى؛ إذا وُجد مدير إدارة، ذو خلق كريم، وشهم .. يقدر الرجال، يؤدي العمل ويحترمه، ويحترم الأفراد العاملين معه، ويراعي ظروفهم، ويحقق مصالحهم، ويهيئ لهم كل فرص تحسين الوضع، وإذا وقع لأحد العاملين ظرفاً ساعده وفزع له ويعطيه إجازة، وإذا حصل عليه شيء يجمع له، المهم رجل شهم بمعنى الكلمة، كيف يتعامل الناس مع هذا المدير؟!

على رجلين:

الأول: موظف شهم فاضل؛ فيتعامل معه من هذا المنطلق، فتجده من أحسن الناس أداء، ودواماً، وإتقاناً؛ لماذا؟ لأنه يحترم المدير، يقول: هذا المدير رجل فاضل، نستحي والله أن نتأخر، أو أن نؤخر العمل عندنا، أو أننا نغلط معه، هذا رجلٌ أَكْرَمَنا وغطَّانا بفضله، كيف نتعامل معه؟! هذا هو منطق الأخلاق؛ أن تتعامل مع المدير بمثل ما يتعامل معك به.

الثاني: موظف سافل لا خير فيه، ولا خُلُق، استغلَّ طيبة المدير وخلقه وكرامته وشهامته؛ فضيَّع العمل .. ما رأيكم في هذا الإنسان؟! بماذا سيتعامل معه المدير؟! هل بنفس الأسلوب أم يغيره له، ويقلب له ظهر المجن، تجد المدير هذا الذي هو أحسن واحد، يصير أشرس واحد، لماذا؟ يقول: هذا لا يستحق التعامل الحسن.

ولله المثل الأعلى! إن سعة رحـمة الله يجب أن لا تطمعنا في معصيته، وتجرِّئنا على مخالفة أمره، وهذا مذهب المرجئة ، يقول فيهم زيد بن علي : " إني أبرأ إلى الله من المرجئة ؛ فإنهم أطمع الفسَّاق في رحمة الله، وأجرؤهم على معصية الله."

ولكن هناك توازن في التعامل مع الله، فتطمع في رحمته وتشفق من عقوبته، فتحملك معرفتك برحمته على الرجاء، وتحملك معرفتك بعقوبته وشدة بأسه على الخوف، فتعيش متوازناً بين الخوف والرجاء، هذه هي مسألة المؤمن؛ فالمؤمن يعيش بين الخوف والرجاء إلى أن يموت، وفي ساعات الموت ماذا يفعل؟ يدع الخوف ويُغَلِّب الرجاء، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك مجال للعمل؛ أي: لم يعد معك إلا ما تحسن به الظن، ويضرب العلماء في هذا مثالاً: الطالب وهو يذاكر أثناء العام الدراسي يعمل بين الخوف والرجاء، الخوف من نتائج الامتحان والأسئلة التي سوف يضعها الأستاذ، والرجاء لأنه والحمد لله مذاكر وذكي وفاهم للمادة، وأيضاً الأستاذ يعرف كيف يصحح الأسئلة والإجابات الصحيحة، هذا خوف ورجاء؛ لكن إذا دخل الصالة، ماذا يُغَلِّب؟! ووقع الورقة وكتبها وخرج إلى الخارج وقرأ الأسئلة وقارنها لم يعد عنده خوف، بل يصير عنده رجاء؛ رجاء في عطف الأستاذ ورحمته، ورجاء في اللجنة التي يسمونها لجنة الشفقة -لجنة الرحمة- التي تنظر في الأوراق إذا بقيت نصف علامة أو علامة ونصف فتضيفها.

وأنت كذلك يجب عليك في هذه الحياة أن تعيش متوازناً بين الرجاء والخوف؛ ولكن تغلِّب في الدنيا جانب الخوف لكي تنحجز عن المعاصي وتمشي في الطاعات، فإذا كنت مودعاً للدنيا إلى الآخرة تغلب جانب الرجاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموت أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)، وإحسان الظن كما يقول ابن القيم : يقتضي إحسان العمل، فمن أحسن الظن بالله أحسن العمل في التعامل مع الله عزَّ وجلَّ.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2926 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2925 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2803 استماع
أمن وإيمان 2674 استماع
حال الناس في القبور 2674 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2602 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2570 استماع
النهر الجاري 2474 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2465 استماع
مرحباً شهر الصيام 2397 استماع