أسماء يوم القيامة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يوم القيامة يوم عظيم، يومٌ تحدث فيه من الأحداث والمشاهد العظيمة ما يجعل الولدان شيباً، والمرضعة تذهل عما أرضعت، والحوامل يضعن أحمالهن؛ خوفاً وفزعاً ورهباً من تلك الأحداث العظيمة التي تتغير فيها معالم الكون.

يوم القيامة لو علمت بهوله     لفررت من أهل ومن أوطانِ

يوم عبوس قمطرير أمره     فيه تشيب مفارق الولدانِ

ويقول الآخر:

مَثّل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمورُ

إذ كورت شمس النهار وأدنيت     حتى على رأس العباد تسيرُ

وإذا الجبال تقلعت بأصولها     ورأيتها مثل السحاب تسير

وإذا البحار تأججت نيرانها     ورأيتها مثل الحميم تفورُ

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت      فتقول للأملاك أين نسيرُ؟

فيقال سيروا تشهدون فضائحاً     وعجائباً قد أحضرت وأمورُ

وإذا الجنين بأمه متعلق     خوف الحساب وقلبه مذعورُ

هذا بلا ذنب يخاف لهوله     كيف المقيم على الذنوب دهورُ

يوم القيامة هائل جداً، طوله خمسون ألف سنة، وخمسون ألف سنة سهلة باللفظ لكنها في التعداد العملي صعبة! خمسون ألف سنة والناس واقفون في ذلك اليوم العظيم الذي تتقطع فيه القلوب، وتشخص فيه الأبصار، والناس فيه يتوقعون كل عذاب، وهناك أناس آمنون لا يغشاهم الحزن: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

هذا اليوم ضربه الله عز وجل موعداً لفصل القضاء، وللجزاء، وللوعد والوعيد، يوم تنصب فيه الموازين، وتنشر فيه الدواوين، ويبعث فيه الخلق أجمعون، وتتفطر السماء، وينزل منها الملائكة: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37] وتحضر الأعمال، ويجزى الناس على ضوء أعمالهم في هذه الحياة.

وهذا اليوم يسبقه إبادة شاملة وكاملة لجميع الأحياء؛ لأن النفخة نفحتان: النفحة الأولى: نفخة الصعق: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] هذه نفخة الصعق لا يبقى بعدها أحد، كل الناس يموتون، والنفخة الثانية: نفخة البعث: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] قيل: ما بين النفختين الأولى والثانية أربعون عاماً، وهذه المدة من أجل إعادة تكوين الأجساد البشرية كما كانت، وفي هذه المدة ينزل مطر من ماءٍ يقال له: ماء الحيوان، تنبت منه أجساد العباد؛ لأن الناس إذا ماتوا يفنى منهم كل شيء، إلا عجب الذنب في آخر العمود الفقري، وهو مثل بذرة الذرة، فأنت عندما تأتي ببذرة الذرة تكون صغيرة، إذا ما قستها مع الشجرة التي تنتج هذه البذرة.. أين هذه من تلك؟ تضعها في الطين وتسقيها بالماء، وتنبت لك نبتة الذرة وفيها سنابل، وأعذاق، وأوراق، وأغصان، وأصلها ماذا؟ حبة ذرة.

كذلك أنت -أيها الإنسان- أصلك نطفة، ولا يبقى منك إلا هذا العضو الصغير -عجب الذنب- لا يفنى، ولا ينبت في الأرض بأي ماء إلا بالماء الذي ينزله الله في آخر الزمان، وهذا الماء ورد في الحديث أنه يشبه مني الرجال، ينزل على الأرض فتنبت منه أجساد وأجسام العباد كما تنبت الحبة في حميل السيل، حتى تعود الأجساد كما كانت -يوم موت أصحابها- لكن بدون أرواح.

ثم ينفخ النفخة الثانية، والنفخة الثانية في الصور (البوق)، والصور: قرن من نور حاوٍ لجميع أرواح الخلائق، كل الخلائق الموجودة يموتون عند النفخة الأولى، وإذا كانت النفخة الثانية تطايرت الأرواح، وعادت كل روح إلى جسدها، فيقوم الناس كلهم من القبور كأنهم كانوا في نوم عميق، يقول تبارك وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس:51] والأجداث القبور، وينقسمون إلى قسمين: أناس يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] وأهل إيمان يقولون: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:52-53] هذا اليوم الذي تباد فيه الخلائق كلها، كما قال الله عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27] وكما قال الله تبارك وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] وكما قال سبحانه وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

وفي هذا اليوم يلاقي العباد شيئاً عظيماً من الكربات والأهوال؛ لأن الشمس تدنو من الرءوس حتى تصير على بعد ميل -قيل: ميل المكحلة، وقيل: ميل المسافة- حتى إنها لتغلي منها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، والعرق يبلغ من الناس مبلغاً، لدرجة أن منهم من يسبح في عرقه، وورد في الحديث الصحيح: (أن منهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يغطيه، ومنهم يسبح في العرق) ولك أن تتصور مقدار الحرارة في ذلك اليوم! في الدنيا، لو كانت الحرارة مائة درجة فإنه الناس يموتون.. بل حتى إذا بلغت حرارة الجو [50مه]، [55مه]، [60مه] هناك من يموت، ونسمع في الأخبار أن موجات من الحر تمر على بعض الدول فيموت الناس من الحر، وهذه الدرجة لا تبلغ أن يسيل من الإنسان عرق بحيث يصير مثل الماء يُطبخ فيه، نعم! يسيل منه عرق لكن إذا كان كثيراً يبلل ثيابه، إما أن يسيل عرقه حتى يكون مثل السيل أمامه فلا!

أيها الأحبة: وهناك في يوم المحشر أقل واحد هو من يسير في عرقه، فكيف الذي يغطيه؟! لا إله إلا الله.

هذه الأهوال والكربات لا ينجو منها إلا من أعد لذلك اليوم عدته، واستعد لذلك اليوم، وقدم المؤهلات من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه ينجو في ذلك اليوم، أما من يأتي يوم القيامة وهو مفلس من الإيمان، والعمل الصالح؛ فإنه يشقى، ويتعذب، ويكابد؛ ولو كانت عنده أموال الدنيا وزينتها من أولاد، وعمارات، ومؤسسات، وسيارات، ومنصب، وجاه؛ لم تغن عنه ولم تنفعه يوم القيامة بشيء.

والكفار كانوا في الدنيا يعتدون بأموالهم، كما يعتدي الناس الآن، صاحب الثراء والمنصب تجده مبسوطاً كل يغبطه.. هؤلاء الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معتدين بأموالهم وبأولادهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل في القرآن الكريم: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] يقولون عندنا مال، ورجال، والعذاب منا بعيد، ولا يقدر علينا؛ لأن عندنا ما نمتنع به، فالله عز وجل قال: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37] ما تغني عنكم ولا تنفعكم شيئاً: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].

وفي نهاية هذا اليوم بعد التمحيص والاختبار، والفحص والتقسيم والتمييز بين الخلائق؛ ينقسم الناس إلى فريقين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] نعوذ بالله من دار السعير، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهل الجنة.

هذا اليوم العظيم ورد ذكره في القرآن الكريم بأسماء عديدة، وكل أسمائه مخيفة مرعبة؛ لأنه يستحق أن يسمى بمثل هذه الأسماء، فهو يوم تدمير وتغيير لجميع معالم الكون.

في الدنيا إذا هبت رياح عاتية، أو نزلت أمطار غزيرة، أو جاءت عواصف تقتلع البيوت والأشجار؛ كيف الناس عند ذلك؟

تجدهم في حال من الخوف والرعب، فكيف: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:1-8]، أحداث ضخمة تجعل الإنسان في غاية الرعب والخوف بحيث يذهل عن أهم شيء عنده، وقد عبر الله عز وجل بذهول المرضعة ورضيعها؛ لأن المرضعة هي أحنى وأعطف وأرحم الناس برضيعها، فقد تنسى نفسها ولا تنسى رضيعها، لكن في حالات الرعب القصوى تذهل عنه ولا تذكره، بل حتى نفسها لا تذكرها.

هذا اليوم الذي هو يوم القيامة سماه الله عز وجل بأسماء عديدة منها:

يوم القيامة

(يوم القيامة) ورد هذا الاسم في كثير من آيات الله؛ لأنه الاسم الدال على هذا اليوم، يقول الله عز وجل: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87] ويقول: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً [الإسراء:97] يحشر الله الكفرة، والفسقة الذين تعاموا وتصامّوا في الدنيا عن دين الله.. يحشرهم الله على وجوههم من جنس صنيعهم وفعلهم: لما تعاموا في الدنيا أعماهم الله هناك في الآخرة، ولما تصامُّوا عن الدين، كما يفعل كثير من الناس الآن يصمّ أذنيه فلا يريد أن يسمع هدى الله، حتى لو أعطيته شريطاً وقلت له: اسمع، يقول: يا شيخ! اتركنا لا تعقدنا، تلاحظ أنه أصم، لكن أعطه شريط أغانٍ، يقول: شكراً على هذه الهدية، إذا قلت له: خذ كلام الله، لا يريده، وإذا قلت: خذ كلام الشياطين، يريده، لماذا؟ تراه أصم أذنيه عن دين الله، وإذا أعطيته كتاباً، أو مجلة إسلامية، أو جريدة إسلامية، أو موضوعاً إسلامياً، وتقول له: اقرأ، يقول: ما هذا؟! شكراً!!

لكن أعطه مجلة رخيصة هزيلة، عارية فاضحة، يقول: شكراً. لماذا؟ لأنه أعمى، لا يريد أن ينظر إلى دين الله، أو يسمع كلام الله، أو حتى يتكلم بشيء مما يرضي الله عز وجل، هؤلاء يحشرهم الله يوم القيامة من جنس صنيعهم: عمياً كما كانوا عمياً هنا، بكماً كما كانوا بكماً هنا، صماً كما كانوا صماً هنا. والزيادة ماذا؟

عَلَى وُجُوهِهِمْ [الإسراء:97] كيف على وجوههم؟ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية ذلك فقال: (أليس الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم؟) بلى قادر. وفي الدنيا حيوانات نعرفها تمشي على وجوهها كالزواحف والحيات والثعابين، كذلك هذا يبعث يوم القيامة كالحية يمشي على بطنه أو وجهه -والعياذ بالله- والله يقول: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:48-49] فهذا يوم القيامة، يقول الله فيه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ [الإسراء:97] أي: كلما انطفأت وخف توهجها زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97] ويقول: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] والله هذا هو الخسران، ثم يقول الله بعدها: أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ليست الخسارة أن تخسر وظيفتك، أو زوجتك، أو دراستك، أو سيارتك أو عمارتك، نعم. كل خسارة يوجد عوض عنها، يقول الشاعر:

وكل كسر فإن الدين جابـره     وما لكسر قناة الدين جبران

كل كسر في الدنيا ومعك دين فهو يجبره، لكن إذا انكسر دينك فمن يجبره؟!

قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:15-16] هذه هي الخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

والقيامة مصدر من قام يقوم قيامة أو قياماً، من أصل كلمة (قام)، ودخلتها تاء التأنيث للمبالغة والتعظيم في هولها وعظمها، وهي مأخوذة من قيام الناس لرب العالمين، يقول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] ويوم القيامة هو من أبرز أسماء اليوم الآخر.

اليوم الآخر

من أسماء ذلك اليوم: (اليوم الآخر) في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] إلى آخر الآية.

وكذلك يقول الله عز وجل: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:232].

ويقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].

وأحياناً يسمى في القرآن بـ(الدار الآخرة)، يقول الله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ [النساء:74].. تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

وسمي ذلك اليوم بـ(اليوم الآخر) أو بـ(الدار الآخرة)؛ لأنه لا شيء بعده، هذه اسمها (دنيا) وتلك اسمها (آخرة)، والآخر: ليس وراءه شيء، إذا دعوت ضيوفاً عشرة، وجاء تسعة ثم جاء آخر واحد، هل ستنتظر أحداً؟ لا. فآخر واحد ما بعده شيء، وكذلك أيام الله عز وجل، أيام دنيا ويوم آخر، فإذا جاء يوم الآخرة فما بعده شيء؛ ولذا سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا شيء بعده من الأيام، وما بقي إلا أيام الله الخالدة في الجنة لأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- ولأهل النار في النار أعاذنا الله جميعاً منهم.

الساعة

من أسماء ذلك اليوم العظيم: (الساعة) سماها الله الساعة، يقول عز وجل: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85] ويقول سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16] أي: فتهلك، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1].

والساعة إذا أطلقت يراد بها جزء من الوقت، كما تقول لشخص: انتظرني ساعة وسآتيك، هذا في الإطلاق اللغوي، وإذا حُددت وأُريد بها جزء من أربعة وعشرين جزءاً من اليوم: الليل والنهار، كما إذا حددت الساعة الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة أُريد بها هذا، وإذا أطلقت فإنه يراد بها أي جزء حتى لو كان يسيراً أو لحظةً من الوقت، وإذا قيدت بصفة فإنما تطلق على اليوم الآخر.

وسميت القيامة بالساعة لعدة أسباب:

إما لقربها، ومهما كانت بعيدة فهي قريبة فإن كل ما هو آتٍ قريب، أي شيء سوف يأتي فهو قريب، وإن جاء اليوم أو غداً أو بعده.

وإما أن تكون تسميتها بهذا للدلالة على ما فيها من الأحداث الضخمة التي تصهر الجلود، وتذيب الجبال، حتى تصير كالهباء.

وقيل: إنما سميت بالساعة؛ لأنها تأتي بغتة، أو في لحظة، أو في ساعة معينة وإذا بالقيامة قد قامت، والناس غير منتبهين لتلك الأحداث.

يوم البعث

من أسماء ذلك اليوم: (يوم البعث) يقول عز وجل في سورة الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] من البعث أي: من يوم القيامة، الذي يُبعث فيه من في القبور، ويقول عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم:56].

ويوم البعث أي: الإحياء والإخراج.. إخراج الموتى من قبورهم، وإعادة الحياة إليهم، وبعثهم مما كانوا فيه من العدم والتلاشي إلى الوجود والإعادة، كما كانوا قبل أن يموتوا، لفصل القضاء، وبعث الموتى هو: إخراجهم من قبورهم؛ لفصل القضاء عند الله عز وجل.

يوم الخروج

سمي أيضاً يوم القيامة بـ(يوم الخروج)، يقول الله عز وجل: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:42] ويقول: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].

وسمي بيوم الخروج كما في قوله عز وجل: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم:25].

والخروج يعبر به عن حركة يؤديها الإنسان، كما لو كان شخص في بيته، لا أحد يراه، ثم فتح بابه، قالوا: خرج؛ لأنه كان مختفياً في دكانه أو مكتبه، لكن لو كان ظاهراً أمامهم، لا يقولون: خرج، وإنما يقولون: جاء.

كذلك سمي يوم الخروج؛ لأن الناس كانوا في قبورهم مقفلاً عليهم، هذه القبور الآن لا نعلم ما هي أوضاع الناس فيها، ولكن يوم القيامة تخرج كل الخلائق من القبور، لعل من الناس من يخرج من العمارات حتى هذه المباني لعل جزءاً منها هو من عظام البشر، يقول الناظم:

طر إن استطعت في السماء رويداً     لا اختيالاً على رفات العباد

خفف الوطء ما أظن أديم الـ     أرض إلا من هذه الأجساد

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب     فأين القبور من عهد عاد؟

أين الناس من عهد عاد؟ لعل الآن عمارتك كم فيها جماجم وعظام، وتنظر وقد خرج عليك يوم القيامة من جدار البيت، لا تدري عن هذا، فسمى الله عز وجل يوم القيامة يوم الخروج؛ لأنهم يخرجون من الأماكن التي دفنوا فيها: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].

القارعة

من أسماء يوم القيامة: (القارعة). وسميت بالقارعة؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها، يقول الله عز وجل: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-3] والتكرار هنا للتهويل والتعظيم، وقوله: (وما أدراك ما القارعة) أيضاً للتهويل والتعظيم، ويقول الله عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4] لأنها تقرع القلوب، يقال: قد أصابتهم قوارع الزمان، وفلان قرعه الدهر، أو الزمان، أو الحوادث؛ أي: ضربته، وأصابته وآلمته، فيوم القيامة سُمي قارعة؛ لأنه لا يقرع فلان ولا علان، ولا مجموعة من الناس؛ بل يقرع العالمين منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة، وكلهم يعيشون في أهوالها.

الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4] والفراش من أضعف الحشرات، ويضرب به المثل في الضعف، إذا قالوا فلان فراشة، يعني: أقل ضربة تُسقطه فيموت منها، فالناس يوم القيامة في حالة من الضعف يكونون معها كالفراش المبثوث.

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:4-5] الجبال الضخمة تكون يوم القيامة كالقطن المنفوش، ولاحظ أنك إذا ضغطت على قطن منفوش يصير لا شيء.

وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:5-11].

يوم الفصل

من أسماء يوم القيامة: (يوم الفصل) يقول الله عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] ويقول: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً [النبأ:17] ويقول: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات:38] ويقول: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات:21].

والفصل يعني: التقسيم والتمييز بين الأشياء المختلفة، أنت لما تحصد الحب من مزرعتك، قبل أن تخزنه تفصل التبن من البر، ثم تخزن كل شيء بما يناسبه، تخزن البر في مخازنه، وتخزن التبن في مخازنه، يقول ابن القيم : الناس زرع -نبات- وملك الموت حاصده. كل يوم وهو يحصد في الزرع، والقبر دراسه -يعني المكان الذي يفصل الناس فيه- والجنة والنار مخازنه.

فالجنة يخزن فيها أهل الإيمان، والنار يخزن فيها أهل الكفر، وتعرفون أن التبن أكثر من البر دائماً، فإذا حصد الإنسان عشرة أكياس بر حمل معها مائتي كيس تبن، ولذا أكثر الناس غير صالحين، يقول الله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] ويقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116] يعني: لا تجعل عبرتك بالكثرة فالكثرة لا يعتد بها، الآن إذا الذهب غالٍ؟ لأنه نادر، لكن لو أنه كثير لكان مثل الطين، فهو نوع من المعادن لكن لما كان نادراً وعنصره فريداً ونفيساً أصبح غالياً جداً، وما ذاك إلا لندرته، وكذلك المؤمن لندرته غالٍ عند الله يوم القيامة، وفي يوم القيامة يخرج الله بعث النار، والحديث في صحيح البخاري ، يقول الله عز وجل لآدم: (أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: رب، وكم بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون لجهنم وواحد إلى الجنة) الله المستعان!!

هذا الحديث شق على الصحابة لما سمعوه وخافوا منه خوفاً شديداً، ونحن ينبغي أن نخاف؛ لأنه من كل ألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار -والعياذ بالله- لكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العدد يُغطِّى من الأمم التي سوف تأتي في آخر الزمان، وهي أمم الكفر: أمم يأجوج ومأجوج وغيرها، وأن المؤمنين في هذه الأمم مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات:38] يقول عز وجل: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السجدة:25].

والخلاف الآن قائم، ووجهات النظر متباينة في أمر البعث، ولكن يوم القيامة تستقر وجهات النظر على الحقائق، وكل شخص يعرف الحق من الباطل، حتى أهل النار والكفر يقولون: هذا يوم الفصل، ثم يطلبون الرجعة من أجل التصحيح، ولكن لا يجابون، وتتضح الأمور على أصولها في يوم القيامة، فسمي يوم الفصل لفصل الجزاء، ولأنه فيه من الأمور والقضايا ما يعيد الأمور إلى حقائقها ونصابها.

يوم الدين

أيضاً من أسماء يوم القيامة: (يوم الدين). يقول الله عز وجل: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار:14-15] ويقول: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات:20] ويقول عز وجل: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19] والدين في لغة العرب هو الحساب والجزاء.

حصادك يوماً ما زرعت فإنمـا     يدان الفتى يوماً كما هو دائن

يدان كما هو دائن، تدان: أي: تحاسب وتجازى بما فعلت، وسمي ذلك اليوم بيوم الدين؛ لأن الله عز وجل يجزي ويحاسب الخلائق، ثم يدينهم بما عملوا في ذلك اليوم العظيم.

الصاخة

من الأسماء أيضاً: (الصاخة).

يقول عز وجل: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].

يقول عكرمة : الصاخة التي تصخ القلوب والأسماع.

أنت الآن إذا سمعت صوتاً خفيفاً لا تتأثر به، لكن إذا سمعت صوتاً هائلاً مرعباً يكاد يفجر أذنيك، ويطير قلبك فزعاً منه؛ فإنك تخاف وتفزع منه، هذه من أسماء يوم القيامة؛ لأن أحداثها وأهوالها تصخ القلوب، وتفجر الأسماع والأذان، والتعبير بها أيضاً فيه نوع من القوة في البلاغة والبيان، يقول عكرمة : (الصاخة) هي التي تصخ القلوب، وهي النفخة الأولى التي يسمعها الخلق كلهم فيموتون وتتقطع قلوبهم في أجوافهم، وهو معنى قول الله عز وجل: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر:68] يصعق أي: يموتون كلهم من تلك النفخة.

وعكرمة هذا تابعي، ونأخذ جزءاً من سيرته العطرة، فهو تابعي وحافظ وعلامة ومفسر لكتاب الله عز وجل، وكان مولىً لـابن عباس ، مولى أي: عبد مملوك لـعبد الله بن عباس ، وأخذ عنه العلم، وحدث عن جمع كبير من الصحابة وحدث عنه خلق كثير، أجازه ابن عباس في الإفتاء، وكان مولى عنده، وقال له ابن عباس في يوم من الأيام: [انطلق فأفت الناس -يقول: اذهب فإذا سألك أحد فأفته- وإذا سألوك عن أمر مشكل فأنا لك عون] يقول: إذا أشكل عليك من الأمور شيء فأنا لك عون، قال عكرمة وهو معتد بعلمه ويريد أن يطمئن ابن عباس إلى أنه أهل للفتيا، قال: والله لو كان الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم، قال: انطلق. أي: اذهب ما دام أنك على هذا المستوى.

أيضاً مما يحكى عنه أنه كان رجلاً طويلاً، له عمامة بيضاء، ولحيته بيضاء، ويلبس أرديةً بيضاء، رضي الله عنه، قال عنه شهر بن حوشب : لم يكن في الأمة حبر إلا هذا الرجل -يعني: ابن عباس - وإن مولى ابن عباس -يعني: عكرمة - هو حبر هذه الأمة.

وقال عنه ابن عباس نفسه: [ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليَّ في حياته مرة قط] الله أكبر! سبحان الله! هذه الأخلاق عندهم، عبد مولى يشتغل عنده ويقول عنه: [ما حدثكم عني فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليّ مرة قط].

وقيل لـسعيد بن جبير : تعرف أحداً أعلم منك في الأرض؟ قال: نعم عكرمة.

ويقول عنه الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة رضي الله عنه.

ويقول عنه قتادة : كان أعلم التابعين أربعة: عطاء وكان عالماً بالمناسك وسعيد بن جبير في التفسير، وعكرمة في السيرة، والحسن البصري كان أعلم الناس في عهده بالحلال والحرام رضي الله عنهم.

و عطاء هو: عطاء بن أبي رباح ، كان رجلاً قصير القامة، مشوه الخلقة، أسود البشرة، بحث عن مصدر للرزق فلم يجد، وكان كلما ذهب إلى عمل طرد، لا جسم ولا لون، فدخل على أمه في يوم من الأيام وقال لها: ما لقيت رزقاً ولا مصدر عمل. قالت له: ألا أدلك على عمل إذا عملته هابتك الملوك، وانقاد لك به الصعلوك، فتعجب الرجل! وقال: الملوك يهابونني! أنا ما لقيت لقمة عيش الآن! كيف يهابني الملوك؟! قالت: نعم. يهابك الملوك إذا عملته. قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم.

فأخذ قلمه ومحبرته ونزل مكة ، وعكف على العلم، فحفظ كتاب الله، ثم حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم آلت إليه الفتيا في عصره، فلا قول إلا قول عطاء ، الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها إذا اختلفت في أمر، قالوا: ماذا قال فيه عطاء ؟

حج أحد الخلفاء، فلما حج ودخل مكة سأل عن أعلم أهل الأرض؟ قالوا: عطاء ، قال: أين هو؟ قالوا: في بيته، قال: احضروه إليَّ، فلما أرسل له قال: إن كان لك حاجة فيما عندنا فتعال، أما أنت فليس لنا حاجة فيما عندك، -يقول: الذي عندك لا نريده، والذي تريده عندنا!- قال: لقد أنصف عطاء ، فلما جاء إلى بيته، وكان جالساً يصلي، طرق الباب، فنزل إليه ولده، وإذا بأمير المؤمنين، ورجاله، وخيله بالباب، فذهب إلى أبيه يقول له: أمير المؤمنين بالباب، وكان يصلي ركعتين فانتهى من الصلاة، وزاد ركعتين، ثم انتهى، وقعد يدعو، وذاك واقف عند الباب، وبعدها بفترة، قال له: ائذن له، فدخل فلما دخل غضب الأمير وقال: ما هذه الإهانة يا عطاء !؟ قال: أي إهانة تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: دعوناك فلم تأتنا وجئناك فلم تأذن لنا، قال: أما دعوتك لي وعدم مجيئي فقد أخبرتك، ما لي حاجة فيما عندك، وإذا كان لك حاجة فيما عندي أتيت، أما عدم دخولك وعدم الإذن لك فإني كنت بين يدي من هو أعظم منك فكرهت أن أقطع مقابلته لمقابلتك، فلما فرغت من مقابلته فتحت لك، فسأله بعض المسائل فأجابه، فلما ذهب أرسل واحداً من صبيانه بصرةٍ فيها عشرة آلاف دينار، فلما أعطاه ركلها برجله وطرده بها وقال: ردها وقل له: ندله على ما ينجي، ويدلنا على ما يُفني. نعطيه النجاة، ويعطينا الهلاك، يعني: الدنيا، يقول الخليفة: والله ما رأيت نفسي ذليلاً في حياتي إلا بين يدي هذا العبد، خليفة وملك يقول عن نفسه: أنه ما رأى في يوم من حياته ذلة إلا بين يدي هذا العالم العظيم.

وهذا معنى كلام أمه: هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك. وكان أعلم الناس في الفقه والمناسك وغيرها.

قال حبيب بن أبي ثابت : اجتمع عندي خمسة -اجتمع في بيتي في مناسبة عشاء خمسة- قل أن يجتمع مثلهم على طعام واحد في الدنيا كلها -من هم الخمسة؟- قال: عطاء بن أبي رباح ، وطاوس اليماني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة -خمسة من رءوس التابعين- يقول: فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان التفسير على عكرمة فما سألاه عن آيةٍ إلا فسرها.. يناقشونه وهم قمم، من نماذج البشر القلائل في هذه الحياة.

قال الثوري : خذ التفسير عن أربعة: سعيد ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك .

لقيه عالم اسمه سليمان بن الأحول ومعه ولده، قال له: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً يا عكرمة ؟ يظن أن ولده مثله، يقول: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً؟ قال: ألا تعلم أنه يقال: أزهد الناس في عالم أهله، هذه كلمة قالها وقيلت قبله وهي حقيقة، أن أزهد الناس في عالم، وداعية، وفاضل أهله، تجد بعض الناس في أرض بعيدة يتمنى أن يراه بعينه، وبعضهم يتمنى أن يجلس معه لحظة، وتجد ولده أو زوجته أو بنته تضيق منه ولا يريدون أن يقعد معهم، نعم: أزهد الناس في عالم أهله، يعني: كأنه يقول ولدي هذا لا يعرف من حديثي شيئاً، وليست قاعدة مطردة فقد يكون من الأولاد من هو على منهج والده ويسير على خطاه، ويأخذ عنه العلم، والفضل، ويسير مثله في منهج الدعوة، ويرث هذه التركة العظيمة، فإن خير ما يورث في هذه الدنيا العلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) لأن العلم هو نور المجد والحياة في هذه الدنيا، والناظم يقول:

ففز بعلم تعش عزاً به أبداً     الناس موتى وأهل العلم أحياء

العالم لا يموت بل يحيا يوم يموت، ابن القيم هو الآن ميت أم حي؟ حي لا يمر يوم إلا ويذكر اسمه، ولا يُقرأ كتاب له إلا ويُقال: قال المؤلف رحمه الله، وما يذكر في مكان إلا ويقال: غفر الله له، فهو حيٌ بذكره وإن كان قد مات، لكن أصحاب الأموال ماتوا، وبعد أن ماتوا تقاسمها أولادهم ونساؤهم، بل لعلهم لا يدعون لهم، بل ربما ولده يدعو عليه، ويقول: ألهب الله عظامه ما حاول أن يشتري لنا أرضية على الشارع العام، ولا اشترى لنا مزرعة يوم أن كانت الأراضي رخيصة الثمن، فما استغلها تلك الأيام، بل ضيع الفرص، أبونا هذا غافل، وهو قد أعطاهم خيراً، لكن ما يريدون منه إلا الدنيا، لا حول ولا قوة إلا بالله!

وكان عكرمة سريع البديهة، ذكياً جداً، شكا إليه شخص وقال: قذفني فلان في المنام. قال: إذا وقف في الشمس اضرب ظله، واجلده ثمانين سوطاً. انظر كيف التعبير الذكي، يقول: إن فلاناً قذفني في عرضي، وأنا نائم. قال: إذا وقف في الشمس ورأيت ظله فاضرب ظله ثمانين سوطاً. يعني أنك تضرب شيئاً غير حقيقي كما أنه ما قذفك حقيقةً، هل الإنسان يملك أنه يرى رؤيا؟ هل الإنسان يحدد الرؤيا وهو يراها؟ لا. ولذا الرؤى أمرها مشكل عند كثير من الناس.

جاءني أحد الإخوة يقول: رأيت فلاناً من الناس يشرب الدخان، والرجل الذي رؤي أنه يشرب الدخان رجل فاضل ولا نزكي على الله أحداً. فقلت: ما رأيك؟ قال: أظن أنه لا خير فيه. قلت: لماذا؟ قال: لأني رأيته يشرب الدخان. قلت: هل أنت تعمدت أن تراه يشرب الدخان. قال: لا. قلت: هل هو تعمد أن تراه وهو يشرب الدخان؟ قال: لا. قلت: هل له ذنب أنك رأيت هذه الرؤيا؟ قال: لا. قلت: هل يؤاخذه الله على رؤيا أنت رأيتها؟ قال: لا. قلت: إذن، لماذا تحكم أنه ليس فيه خير، لعلك أنت ليس فيك خير؛ لأن الرؤيا منك، الناس يقاسون ويوزنون على ضوء تصرفاتهم وأعمالهم لا على ضوء ما يُرى لهم، لعل الشيطان يريد أن يزعزع ثقتك في أخيك المسلم، فجاءك في صورته، ومعه سيجارة من أجل أن تراه فتكرهه، تقول: والله البارحة رأيته وهو يشرب الدخان، والله ما أسُلم عليه.

وجاء شخص ثانٍ قال: إن الداعي الفلاني مخلص وطيب، لكن من يوم أن رأيت له هذه الرؤيا كرهته، ولن أحضر مجالسه، لماذا؟ قال: رأيته حالقاً لحيته، قلت: وهل هو حالق لحيته الآن؟ قال: لا. قلت: وإن كان شيطانه جاءك بصورته كي تكرهه... وهذه وسيلة من وسائل الشيطان، فلا يؤاخذ الناس على الرؤى، ولا على الأحلام التي لا علاقة لهم بها.

فـ(الصاخة) قيل: إنها صاخة؛ لأنها تصخ الأسماع وتخرقها، وتبلغ في إسماعها وشدتها أنها تفجرها، ولذا الذين يقذفون بالمدافع يضعون في آذانهم قطناً، والذين يشتغلون في محطات التوليد الضخمة يضعون على آذانهم واقيات من أجل ألا يسمعوا؛ لأن قدرة طبلة الأذن التي تستقبل الصوت محدودة، إذا جاء شخص وصاح فيها بقوة ربما يفجرها، وكذلك يوم القيامة الصيحة والنفخة في الصور تفجر الأسماع، وسميت الصاخة؛ لأنها تصخ الأسماع.

الطامَّة

(يوم القيامة) ورد هذا الاسم في كثير من آيات الله؛ لأنه الاسم الدال على هذا اليوم، يقول الله عز وجل: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87] ويقول: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً [الإسراء:97] يحشر الله الكفرة، والفسقة الذين تعاموا وتصامّوا في الدنيا عن دين الله.. يحشرهم الله على وجوههم من جنس صنيعهم وفعلهم: لما تعاموا في الدنيا أعماهم الله هناك في الآخرة، ولما تصامُّوا عن الدين، كما يفعل كثير من الناس الآن يصمّ أذنيه فلا يريد أن يسمع هدى الله، حتى لو أعطيته شريطاً وقلت له: اسمع، يقول: يا شيخ! اتركنا لا تعقدنا، تلاحظ أنه أصم، لكن أعطه شريط أغانٍ، يقول: شكراً على هذه الهدية، إذا قلت له: خذ كلام الله، لا يريده، وإذا قلت: خذ كلام الشياطين، يريده، لماذا؟ تراه أصم أذنيه عن دين الله، وإذا أعطيته كتاباً، أو مجلة إسلامية، أو جريدة إسلامية، أو موضوعاً إسلامياً، وتقول له: اقرأ، يقول: ما هذا؟! شكراً!!

لكن أعطه مجلة رخيصة هزيلة، عارية فاضحة، يقول: شكراً. لماذا؟ لأنه أعمى، لا يريد أن ينظر إلى دين الله، أو يسمع كلام الله، أو حتى يتكلم بشيء مما يرضي الله عز وجل، هؤلاء يحشرهم الله يوم القيامة من جنس صنيعهم: عمياً كما كانوا عمياً هنا، بكماً كما كانوا بكماً هنا، صماً كما كانوا صماً هنا. والزيادة ماذا؟

عَلَى وُجُوهِهِمْ [الإسراء:97] كيف على وجوههم؟ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية ذلك فقال: (أليس الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم؟) بلى قادر. وفي الدنيا حيوانات نعرفها تمشي على وجوهها كالزواحف والحيات والثعابين، كذلك هذا يبعث يوم القيامة كالحية يمشي على بطنه أو وجهه -والعياذ بالله- والله يقول: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:48-49] فهذا يوم القيامة، يقول الله فيه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ [الإسراء:97] أي: كلما انطفأت وخف توهجها زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97] ويقول: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] والله هذا هو الخسران، ثم يقول الله بعدها: أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ليست الخسارة أن تخسر وظيفتك، أو زوجتك، أو دراستك، أو سيارتك أو عمارتك، نعم. كل خسارة يوجد عوض عنها، يقول الشاعر:

وكل كسر فإن الدين جابـره     وما لكسر قناة الدين جبران

كل كسر في الدنيا ومعك دين فهو يجبره، لكن إذا انكسر دينك فمن يجبره؟!

قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:15-16] هذه هي الخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

والقيامة مصدر من قام يقوم قيامة أو قياماً، من أصل كلمة (قام)، ودخلتها تاء التأنيث للمبالغة والتعظيم في هولها وعظمها، وهي مأخوذة من قيام الناس لرب العالمين، يقول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] ويوم القيامة هو من أبرز أسماء اليوم الآخر.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع