مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فهذه المحاضرة تلقى في جامع الشربتلي بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (25) من شهر محرم الحرام عام (1418هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

ويأتي هذا الدرس ضمن السلسلة الشهرية المعنونة بـ: "تأملات في السيرة النبوية" وعنوان هذه المحاضرة: "مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم" إذ مرت الدعوة في حياته صلوات الله وسلامه عليه بمراحل، التي يقسمها العلماء إلى أربع مراحل:

المرحلة الأولى: الدعوة السرية والتي استمرت ثلاث سنين.

المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية، ولكن مع كف اليد عن القتال، وإنما فقط الدعوة بالكلمة دون المواجهة، واستمرت هذه إلى الإذن بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .

المرحلة الثالثة: استمرارية الدعوة جهراً مع قتال المبتدئين بالقتال، واستمرت إلى وقوع صلح الحديبية وتوقيع المعاهدة مع المشركين في عام الحديبية .

المرحلة الرابعة: وهي استمرارية الدعوة جهراً مع قتال كل من يقف في طريق الدعوة، ويصد عن سبيل الله عز وجل.

هذه هي المراحل التي مرت بها الدعوة في بداياتها، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يجب على كل من يدعو إلى الله التقيد بهذه المراحل بمداها الزمني، كما وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يدعو أول شيء إلا سراً، ثم ينتقل جهراً؟

والجواب: إن ذلك غير مطلوب من الدعاة أن يتقيدوا بذلك؛ وذلك لأن المدى الزمني الذي حددت فيه تلك المراحل تقدير رباني، وليس جهداً بشرياً فقط، فالتقيد بهذه المراحل لا يتلاءم ولا يتماشى مع مرونة الإسلام في معالجة الأمور ومواجهة القضايا.

والسيرة النبوية تمثل حركة الإسلام، وتفتح أمام الدعاة والعاملين للإسلام نماذج كثيرة لخيارات متعددة، بحسب الأحوال والملابسات التي يعيشها المسلم، فقد تقتضي الضرورة في بعض الظروف أن تكون الدعوة سراً، وذلك في البلاد الكافرة التي تحارب الإسلام وتحارب الدعاة، فهناك لابد للمسلمين الذين يريدون نشر الدين أن ينشروا دينهم بطريقة سرية، حتى لا تضرب دعوتهم من قبل الكفار.

أما إذا كانت الدعوة تمارس في بلاد المسلمين، فليس لدى المسلم شيء يخفيه على المسلمين، فنحن عندما ندعو الناس إلى الله لا نقدم لهم شيئاً نخاف عليه أو نخشى منه، نحن نقدم لهم وسيلة النجاة، وندعوهم إلى سفينة الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، والإسلام هو البديل الصحيح، وهو يمثل الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، فما نقدمه للمسلمين إنما هو عملية تذكير لهم، فلا نخاف على شيء ولا نخشى من شيء، وبالتالي لا داعي للسرية؛ لأنك تمارس دعوتك بين المسلمين، وظروف الغفلة والشهوات والشبهات التي أضلت بعضهم تقتضي أن تذكرهم، ولهذا جاء الأمر من الله عز وجل بالدعوة إلى الذكرى، قال عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10].

وخلاصة القول في الموضوع هذا: أن قضية الدعوة سراً أو جهراً إنما تقدر بقدرها، بحسب الظروف التي يعيشها الداعية والمسلم في زمانه ومكانه، ولكل حال وزمان علاج يناسبه، وقد لا يناسبه في زمان آخر ولا في مكان آخر.

وسنتحدث إن شاء الله بالتفصيل عن المراحل الأربع مرحلةً مرحلة.

عندما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم للأوامر الربانية التي صدرت له من الله بتبليغ الرسالة، جاءت هذه الآيات في أول الوحي واضحة من قول الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7] هذه الآيات من أوائل ما نزل.

الرسول صلى الله عليه وسلم نُبئ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، فكانت بداية النبوة والوحي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وفي المرة الثانية نزلت هذه سورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وقد لخصت هذه الآيات رغم قصر عباراتها، ورغم اختصارها، وهذا كله في الآيات المكية، والذي يقرأ القرآن يلاحظ أن الآيات التي نزلت في مكة تتميز بقوة العبارة وبقصرها واختصارها، بينما الآيات التي نزلت في المدينة تتميز بالإطالة والإطناب في بيان أحكام الشرع، فالآيات الطوال كلها آيات المدينة، بينما المكية كلمتان أو ثلاث فقط: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المقام لا يقتضي التطويل، إنما يقتضي كلمات معدودة، في تكليف محدود، وفي عمل مشروع، وكانت هذه البداية.

ملخص الأوامر الربانية بالدعوة في سورة المدثر

لقد لخصت هذه الآيات مضمون الدعوة التي أنيط بالنبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى الناس، ولا تكاد جميع السور المكية تخرج عن إطار هذه الآيات التي جاءت في أول سورة المدثر.

ففي قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المدثر: الذي أخذ دثاره وتلحف بثيابه، وجلس يريد الراحة والسكينة، ويريد الجلوس والأنس، جاءت هذه الآيات لتشير إلى أن زمن التدثر والخلود إلى الراحة، والأنس والسكينة، والجلوس في البيت مع الزوجة والأولاد والأبناء قد ولى، وجاء زمن المجاهدة بكل أبعاده المادية والمعنوية.

والإنسان -أيها الإخوة- يشعر بعظم المسئولية وضخامة الرسالة التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قاس نفسه وهو يجد الصعوبة ويفشل -أحياناً- في تربية أولاده في بيته، إذا كان عنده ولدان أو ثلاثة أو أربعة ومثلهم بنات، ثم يجد أن هذا فشل في تربيته، وتلك فشل في تربيتها، فيشعر بالمسئولية الكبيرة التي أنيطت بالنبي صلى الله عليه وسلم في هداية العالمين.

ليس في تربية بيته، ولا هداية قبيلته، ولا هداية مدينته، ولا الجزيرة العربية ، وإنما وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فيكلف بهذه الرسالة ثم يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فيربيه الله عز وجل ويؤهله حتى يؤديها، ويستطيع القيام بها من أول لحظة، وهو يقول: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] انتهى، لا يوجد تدثر ولا جلوس الآن.

الأمر بالإنذار وعدم ذكر التبشير

(قم): والقيام هنا قيام حسي وقيام معنوي، وهذا فيه إشارة إلى تكليفه بأمر الدعوة للناس كافة.. قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] والرسل عليهم الصلاة والسلام وظيفتهم البشارة والنذارة، كما قال عز وجل في سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:163-165] فالله عز وجل وضَّح أن الرسل كلهم من نوح إلى محمد وظيفتهم مبشرين ومنذرين، لكن هنا يقول الله: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] ولم يذكر البشارة، لماذا؟

يوجد هناك سر، رغم أن النبوة تتضمن البشارة والنذارة؛ البشارة بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة من العذاب والنار والدمار في الدنيا والآخرة، لكن حالة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة تقتضي النذارة فقط؛ وذلك لما كان عليه الناس من الشرك، فقد أمعنوا في الكفر، وتجاوزوا الحدود في الضلالات، فإذا جاء ليعطيهم بشارات قد لا يستجيبون، لكن تقريعهم وتخويفهم من عذاب الله بالنذارة، كان هذا أدعى إلى الاستجابة؛ ولهذا خصها بالذكر، رغم أن بعض أهل العلم يقول: إن النذارة تتضمن البشارة، فهو ينذر من عذاب الله ويبشر بنعيم الله الذي يلحق المؤمن إذا هو استجاب لأمر الله وترك طريق الشيطان.

قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:2-3] وفي هذه العبارة الصغيرة، إشارة إلى أنه ليس في الوجود أكبر من الله خالق الوجود.. خالق الإنسانية.. خالق الكون والحياة، فيجب أن يُعَظِّم إذ لا خالق إلا هو، وما دام أنه لا خالق إلا هو، فليس هناك من يستحق التقدير والتعظيم والتمجيد والتقديس والعبادة إلا هو، فتعظيم غيره ظلم.. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

ولذا على الناس أن يعلموا هذه الحقيقة ليتواضع الناس كلهم للكبير المتعال، وفي هذا التوحيد المطلق، يوم أن تعلم أن الله هو الكبير فتوحده، وتخضع لأمره، وتستجيب له دونما سواه، وترفض كل أمر يتعارض مع أمره، فأنت بهذا توحد الله وتعلن العبودية الخالصة له سبحانه وتعالى.

الأمر بتطهير الثياب والغرض منه

بعد هذا يقول عز وجل : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وفي هذا إشارة إلى أن الداعية الذي يريد أن يكون مؤثراً في الناس؛ لا بد له أن يبدأ بتطهير نفسه ظاهراً وباطناً، حساً ومعنىً؛ حتى يكون مثالاً لمن يدعوهم إلى الطهارة بكل معانيها، إذ من غير المعقول والمقبول أن تدعو الناس إلى شيء وأنت تخالفه، يقول الشاعر:

يا أيها الرجل المعلم غيره     هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقـام وذي الـضنا     كيما يصح به وأنت سقيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الصف:2-3] أي: عظم إثماً عند الله: أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].

ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال.. الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان.. لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان.

هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله!

والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة.. تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن.

وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟!

لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] وعلى حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا. لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها.

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.

الأمر بهجران الذنوب والمعاصي

قال عز وجل: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] الرجز: الشرك والمعاصي والذنوب والآثام، وفي هذه العبارة إشارة إلى أن توحيد الخالق يقتضي ويتطلب عدم تعظيم أو تقديس أي شيء لا يخضع لخالق الكون والحياة، ولا يعترف بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات لله، وأن المسلم ينبغي له أن يهجره.

ثم قال عز وجل : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] وفي هذا إشارة إلى أن ما خص به من منع إعطاء الشيء ابتغاء شيء أكثر هو أنه مقرون بأجمل الأخلاق وأشرف الآداب، ليكون مثلاً أعلى للبشرية؛ لأنه يدعوها إلى مكارم الأخلاق، ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

وقد أوتي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق أرفع قدر وأعلى نسبة، فإن الكمالات البشرية الموزعة على جميع الأنبياء والرسل وعلى جميع الناس، لم تجمع لشخص واحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله له بشهادة ربانية عالمية: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] من قائل هذا الكلام؟ إنه الله، الله يشهد له ويقول: يا محمد! إنك لعلى خلق عظيم، عظيم عندي وعندك، ليس عند الله فقط، فيا لها من شهادة! ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: (كان خلقه القرآن) من أراد أن يعرف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فليقرأ القرآن، القرآن يحتوي على أفضل الكمالات، وهي مترجمة كاملة في تطبيق وسلوك وأخلاق وتعامل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأمر بالصبر عند التبليغ

في ختام هذه الأمور الهامة التي ترسم معالم الدعوة، ويصل بها الإنسان إلى نصرة الحق والدين، هذه الحقيقة التي هي تحمّل لأمانة الدعوة، كان لابد من توجيه يحفظ له هذا الأمر، وهو الأمر بالصبر، فقال الله عز وجل له: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] إذ أن من يتصدى للدعوة لابد أن يتعب، ولابد أن ينصب، ولا بد له من الابتلاء؛ ولهذا لا بد له أن يتسلح بسلاح الصبر؛ ولهذا قدم هنا الجار والمجرور: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] قدم الجار والمجرور على العامل المتعلق به وهو الصبر، ما قال: اصبر لربك، التقديم هنا للاختصاص، أي: اجعل الصبر مختصاً بالله؛ لأنه يمكن أن تصبر لربك ولغير ربك؛ لكن لا اجعل الصبر خالصاً لله.. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] أي: احتسب كل ما ينالك في سبيل الدعوة عند الله عز وجل.

استجابة الرسول لأوامر ربه وقيامه بالدعوة سراً

لما وجهت هذه التوجيهات الربانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عظمتها، ونهض من فراشه، وأخذ يدعو إلى دين ربه ثلاث سنوات متتاليات سراً، وكان قد أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهاره بعد ثلاث سنين، كما يذكر ابن إسحاق في السير، ومما يدل على السرية في الدعوة ما جاء في خبر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، حيث قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو في مكة وهو حينئذ مستخفٍ) أي: مستخف بالدعوة، وهذا الحديث في صحيح مسلم ، وكان تحركه في بداية دعوته في الوسط الذي يربطه؛ في أسرته، مثل زوجته وأبنائه، ومواليه، وأصدقائه المباشرين الذين كان يطمئن إليهم، ويثق فيهم.

أوائل المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم

لهذا يلحظ أن من أوائل من استجابوا إلى الدعوة هم هؤلاء، أول واحدة استجابت زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، صاحبة العقل الكبير، وصاحبة المواقف العظيمة والأيادي البيضاء، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخاها حينما تزوج بها، فما تزوج بها لأي غرض إلا لهذا الغرض؛ العقل والخلق والنظر البعيد، ولهذا اختارها وعمرها أربعون عاماً وهو في سن الخامسة والعشرين، صلوات الله وسلامه عليه، فكانت أول من آمنت به وبرسالته، كما هو مشهور، وقد هونت عليه من أمر الدعوة، وكانت بذلك أول من أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبشيره بالجنة، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب) وهذا الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم.

وأقرأها الله السلام، وبشرها أن لها في الجنة قصراً من ذهب، لا صخب فيه ولا نصب رضي الله عنها وأرضاها.

ومن المستجيبين في بداية الدعوة السرية: علي بن أبي طالب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه، والختن: هو زوج البنت، زوج بنته فاطمة البتول ، وأبو الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين..

علي بن أبي طالب كان أول المستجيبين من الشباب، وكان يتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولاد أبي طالب كثير، فقد كان ذو عيال، فطلب منه أن يكون علي معه، فكان في حجره وفي تربيته، وتحت كنفه، فكان علي أول من أسلم من الشباب الصغار.

ومن المستجيبين في المرحلة الأولى: المولى زيد بن حارثة ، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء أبوه يطلبه: (إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ببنوته؛ لأن أصل زيد ليس عبداً مملوكاً بل هو حر، لكن أمه أخذته وذهبت من بيت زوجها حارثة إلى بيت أهلها في غضب عائلي، أي: خلاف منزلي؛ لأن بعض النساء جاهلات ما أن يحصل بينها وبين زوجها أي خلاف إلا وتخرج، وهذا من نقص العقل، فلا تخرج المرأة من بيت زوجها إذا حصل شجار، يخرج الرجل ولا تخرج المرأة؛ لأنه إذا خرج يستطيع أن يعود، لكن أنتِ إذا خرجتِ، فمن يرجعك؟ وأهلها يقولون: لا ترجعي حتى يأتي هو يأخذك، وإذا اتصلوا به تعال خذها، قال: لا، الذي ذهب يرجع، والله ما آتي آخذها، وتبقى هي الضحية.. فلا تفكر المرأة بالخروج من بيت زوجها أبداً بأي خلاف، إلا إذا قررت أن لا حياة مع الزوج، بعد أن تدرس الموضوع دراسة متأنية، وتصدر قراراً نهائياً تعرف فيه أن هذا الزوج لا يمكن أن يكون لها زوجاً، أما لمجرد أي خلاف، خلاف عائلي يسير على مسألة البيت، على مسألة مع الأولاد، وعلى الفور أخذت عباءتها وفتحت (الشنطة) وأخذت أغراضها وخرجت، فمن الذي يرجعها؟!

وبعض الأزواج -والعياذ بالله- سيئ الخلق فما أن يحصل بينه وبين زوجته شيء إلا ويقول: الباب يمشي منه الجمل، أي: إن كنتِ مثل الجمل اخرجي، هذا نوع من امتهان المرأة، فلا تريها الباب، اخرج وبعد ذلك ارجع، ومن أعظم الوسائل للقضاء على الخلافات المنزلية خروج الزوج، إذا رأيت الأمر محتدماً والنار مشتعلة بينك وبين العيال، فخذ (غترتك) وامش ويزول الخلاف، وسوف تدخل وإذا هي تضحك وأنت تضحك، لكن إذا جلست منك كلمة ومنها كلمة، وبعض النساء مسكينة ليس معها إلا أن تدافع عن نفسها بلسانها، لا تستطيع أن تضربك ولا أن تطلقك ولا أن تخرجك، فما عندها إلا هذا اللسان، وبعض الأزواج أناني يريد كل شيء له، يقول: اجعلي آخر كلمة لي أنا، لا تردين عليَّ، آخر كلمة أقولها إذا رديتِ أرد، وترد ويرد، وبعد ذلك يجد أن ليس عنده إمكانية، كلما قال كلمة قالت كلمة، فيريد أن يضربها، فإذا ضربها فبعض النساء تضارب، فإذا رأى أن السلاح عندها وعنده سواء، استعمل السلاح النووي وهو الطلاق، فتتحطم الأسرة، ويتشرد الأبناء، وينفرط عقد الحياة.. لماذا ؟ لو فكر الإنسان لوجد السبب تافهاً، لكن أفضل الأمور إذا سمعت بمشكلة حصلت في البيت -وليس هذا انهزام، بل هو رجولة- فاخرج وسيخرج الشيطان، ثم عندما تدخل تقول: السلام عليكم، ذهب الخلاف واضحك وابتسم، (خيركم خيركم لأهله) وهذا ليس عاراً عليك، أفضل الناس الذي يعامل أهله بهذه الأخلاق.

فهذه أم زيد خرجت، وفي الطريق لقيها بعض الناس فضربوها وأخذوا ولدها وباعوه في السوق بيع الرقيق، واشترته خديجة من سوق مكة ، ولما تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وبقي أهل زيد يبحثون عنه حتى علموا أنه بيع في مكة ، وأتوا يسألون حتى وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، وجاء القافّ الذي يعرف الأثر، وقال: هذا الرجل من هذا الرجل، وكانت العرب تعرف بالقيافة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا هو معكم إن أردتموه فهو لكم) وهذا من كرم الأخلاق، لم يقل: هذا عبدي مملوك عندي، لا. إن كان يريد أن يذهب معكم فخذوه، فجاء زيد وخيره النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: (إن شئت أن تقيم عندي وإن شئت أن تنطلق مع أبيك، قال: ما أنا بالذي أختار عليك يا رسول الله! فقال له أبوه: ويحك يا زيد ! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم. ما كنت لأختار على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما قال هذا الكلام أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم عليه بقضية التبني، وخرج به على ملأ من قريش ونادى: إن هذا زيد بن محمد من هذا اليوم وليس زيد بن حارثة ، ثم أبطل الله تبارك وتعالى هذا الشيء وأنزل: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] .. ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] فنادى صلى الله عليه وسلم وأخبر أن زيداً بن محمد قد عاد كما هو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، هذا أول من أسلم من الموالي، وقد نزل فيه قوله عز وجل: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] رضي الله عنه وأرضاه.

وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة، حين أمرّه النبي صلى الله عليه وسلم على المعركة، فكان زيد بن حارثة أميراً على الغزوة وهو مولى، وتحت إمرته جعفر بن أبي طالب ، وجعفر ابن عم الرسول، فقال: (إن مات زيد فيأخذ الراية جعفر، وإن مات جعفر فيأخذ الراية: عبد الله بن رواحة، وإن مات عبد الله فالأمر شورى بين المسلمين) وفعلاً ماتوا الثلاثة في غزوة مؤتة وأخذ الراية بعدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموتهم وهو في المدينة يخطب يوم الجمعة، فقال: (قتل زيد وأخذ الراية جعفر ثم قال: ثم قتل جعفر وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم قال بعدها: قتل عبد الله وأخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ).

كان زيد هذا من أوائل الذين أسلموا في العهد الأول في الفترة السرية التي كانت في أول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أبو بكر الصديق وحادثة الإسراء

من الأوائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسمي الصديق لأنه يصدق من غير تردد، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا ودعوته فأخذ وفكر إلا أبا بكر ) لا يعرف التردد، فما يقول الرسول شيئاً إلا وصدقه، وسمي بـالصديق لكثرة تصديقه، ولقوة يقينه، وأطلق عليه ذلك اللقب بعد حادثة الإسراء؛ لأنه صدق بشيء لا يصدق إلا بالإيمان.

حادثة الإسراء كانت حادثة ذات منعطف خطير في حياة الدعوة؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ، أسري به ثم عرج به يقظة لا مناماً بجسده وروحه، هذا هو المحقق عند العلماء من أهل السنة ، أنه أسري به جسداً وروحاً وليس رؤيا منامية، الله يقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] والعبد يقتضي الروح والجسد، وما قال: أسرى بروح عبده وأسري به من أين؟ من مكة المكرمة ، إلى أين؟ إلى المسجد الأقصى الأسير الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخلصه من أيدي اليهود.

والمسافة من مكة إلى الأقصى شهر بالقوافل وأسري به صلى الله عليه وسلم إليه في طرف ليل، وكان يمتطي البراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون الفرس، لكن خطوته عند منتهى بصره، مثل البرق، حتى وصل، وهناك صلى بالأنبياء ثم صعد في المعراج وعرج به إلى أن بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه هناك الصلوات الخمس، ثم عاد وركب البراق ووصل مكة في نفس الليلة.

وحينما نحدث به اليوم يمكن أن نقبله؛ فقد ابتكرت من وسائل النقل ما يقارب هذه، بإمكان الواحد أن يذهب بالطائرة من جدة إلى الرياض أو من جدة إلى بيت المقدس ويعود في نفس الليلة وينام في داره.

لكن لو حدثنا بهذا قبل زمن، هل يمكن أن تصدق لو قيل لك: هناك حديدة طويلة يركب فيها أربعمائة من الرجال بعفشهم وعوائلهم وترتفع في الليل من الأرض وتصل إلى الرياض خلال ساعة، هل تصدق؟ والله لو ما ركبنا فيها ما صدقنا، فكيف يكون هذا الحديث كأنها مربوطة بحبل وتنظر في الليل وترى الجبل والسهل، لا تعلم عن شيء إلا وأنت قد وصلت، لكن هذا حصل، فلو حدث الناس في هذا الوقت بهذا الأمر يمكن يُقبل، لكن الناس في ذلك الوقت لا يعرفون من وسائل الاتصال والنقل إلا البعير والحصان والحمار والجمل، وهذه الوسائل البدائية التي تقطع الطريق شهراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إني ذهبت وعدت في نفس الليلة، وليست الرحلة فقط في الأرض، بل قال: ثم إلى السماء، فلما أخبر الصحابة والناس في الصباح حصل نوع من الرجة، وسمع المشركون وقالوا: والله ما بقي إلا هذه، نقطعها شهراً ذهاباً وشهراً إياباً وأنت تأخذها في ليلة! ثم جاءوا يشككون الصحابة وكل واحد وقف، وجاءوا إلى أبي بكر الصديق وأرادوا أن يهزوه؛ لأن اهتزاز أبي بكر يعني هزة الجميع، وثبات أبي بكر يعني ثبات الجميع.. قالوا: أو ما سمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه أسري به البارحة من بيت أم أيمن في مكة إلى بيت المقدس ، وعرج به إلى السماء حتى وصل السماء السابعة، ثم نزل وأصبح في بيت أم أيمن ، قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] اللهم صلِّ على رسول الله.

إنها قضية تجرد، قضية تسليم العقل إذا وجد التعارض، ما دام قال الرسول الصادق إذاً صدق ولو لم يصدقه عقلي، فسمي من ذلك اليوم بـ(الصديق ).

وحتى لا يهتز ذوو الإيمان الضعيف كان هناك دلائل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فقد جاء المشركون في عملية زعزعة وقالوا له: صف لنا بيت المقدس ، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت رحلته قصيرة، ومهمته محدودة، صلى بالأنبياء وصعد، وما جلس يتفقد بيت المقدس .. يعني: أنتم الآن في هذا المجلس كل شهر وأنتم تحضرون، لو سألتكم: كم عدد الأعمدة في هذا المسجد؟ ربما لا تعلمون، وكذلك كم فيه نوافذ؟ كم فيه أبواب؟ ونحن شهود جالسون؛ لأن هذا لا يسترعي انتباهنا حتى نجلس نحدده، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجل أن يكشف على المسجد، ويستعرض الأبواب والنوافذ والأعمدة، جاء ليؤدي رسالة وصعد، فقالوا له من باب الامتحان: صف لنا بيت المقدس ، فالله عز وجل طوى له الأرض وكشف له بيت المقدس أمامه وهو في مكة ، فجلس يصفه عموداً عموداً، واسطوانة اسطوانة، وباباً باباً، ونافذةً نافذةً، كأنما يراه، عامل المكان اختصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤمنوا، بل قام أحدهم قال: عندما ذهبت في الليل هل رأيت قافلتنا الآتية من الشام؟ كيف أراها وأنا ذاهب في الليل؟! الذي في الليل لا يري الذي في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (نعم رأيتها، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان حمراوان، تأتيكم يوم كذا قبل صلاة المغرب وبعد العصر، ورأيتها في المكان الفلاني) كيف رآها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الله أوحى إليه في اللحظات التي كانت في ذاك المكان، ولما كانوا ينتظرون بالدقيقة والساعة إذا بالقافلة آتية والجمل أمامها، وسألوا الذي مع القافلة في تلك الليلة أين كنتم؟ قالوا: كنا في المكان الفلاني، الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل آمنوا؟! لا. يقول الله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146]لم تكن البراهين والدلائل غير كافية، بل لقد كانت كافية لكن الذي لا يريد أن يستمع كيف تفعل به؟ عندما تقول لشخص: هذا (ميكرفون) فيقول لك: لا، هذه سيارة.. حيرتني، هذا -يا أخي- (ميكرفون) وليست سيارة، فيقول: انظر هذا الكفر حقها وهذا.. فكيف تقنعه؟ فما ينبغي للإنسان أن يكابر، ولهذا سمي الكفار كفاراً؛ لأنهم يغالطون ويغطون الحقائق؛ فإن الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، فالكافر يغطي الحقيقة ويكتمها و

لقد لخصت هذه الآيات مضمون الدعوة التي أنيط بالنبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى الناس، ولا تكاد جميع السور المكية تخرج عن إطار هذه الآيات التي جاءت في أول سورة المدثر.

ففي قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المدثر: الذي أخذ دثاره وتلحف بثيابه، وجلس يريد الراحة والسكينة، ويريد الجلوس والأنس، جاءت هذه الآيات لتشير إلى أن زمن التدثر والخلود إلى الراحة، والأنس والسكينة، والجلوس في البيت مع الزوجة والأولاد والأبناء قد ولى، وجاء زمن المجاهدة بكل أبعاده المادية والمعنوية.

والإنسان -أيها الإخوة- يشعر بعظم المسئولية وضخامة الرسالة التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قاس نفسه وهو يجد الصعوبة ويفشل -أحياناً- في تربية أولاده في بيته، إذا كان عنده ولدان أو ثلاثة أو أربعة ومثلهم بنات، ثم يجد أن هذا فشل في تربيته، وتلك فشل في تربيتها، فيشعر بالمسئولية الكبيرة التي أنيطت بالنبي صلى الله عليه وسلم في هداية العالمين.

ليس في تربية بيته، ولا هداية قبيلته، ولا هداية مدينته، ولا الجزيرة العربية ، وإنما وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فيكلف بهذه الرسالة ثم يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فيربيه الله عز وجل ويؤهله حتى يؤديها، ويستطيع القيام بها من أول لحظة، وهو يقول: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] انتهى، لا يوجد تدثر ولا جلوس الآن.

(قم): والقيام هنا قيام حسي وقيام معنوي، وهذا فيه إشارة إلى تكليفه بأمر الدعوة للناس كافة.. قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] والرسل عليهم الصلاة والسلام وظيفتهم البشارة والنذارة، كما قال عز وجل في سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:163-165] فالله عز وجل وضَّح أن الرسل كلهم من نوح إلى محمد وظيفتهم مبشرين ومنذرين، لكن هنا يقول الله: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] ولم يذكر البشارة، لماذا؟

يوجد هناك سر، رغم أن النبوة تتضمن البشارة والنذارة؛ البشارة بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة من العذاب والنار والدمار في الدنيا والآخرة، لكن حالة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة تقتضي النذارة فقط؛ وذلك لما كان عليه الناس من الشرك، فقد أمعنوا في الكفر، وتجاوزوا الحدود في الضلالات، فإذا جاء ليعطيهم بشارات قد لا يستجيبون، لكن تقريعهم وتخويفهم من عذاب الله بالنذارة، كان هذا أدعى إلى الاستجابة؛ ولهذا خصها بالذكر، رغم أن بعض أهل العلم يقول: إن النذارة تتضمن البشارة، فهو ينذر من عذاب الله ويبشر بنعيم الله الذي يلحق المؤمن إذا هو استجاب لأمر الله وترك طريق الشيطان.

قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:2-3] وفي هذه العبارة الصغيرة، إشارة إلى أنه ليس في الوجود أكبر من الله خالق الوجود.. خالق الإنسانية.. خالق الكون والحياة، فيجب أن يُعَظِّم إذ لا خالق إلا هو، وما دام أنه لا خالق إلا هو، فليس هناك من يستحق التقدير والتعظيم والتمجيد والتقديس والعبادة إلا هو، فتعظيم غيره ظلم.. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

ولذا على الناس أن يعلموا هذه الحقيقة ليتواضع الناس كلهم للكبير المتعال، وفي هذا التوحيد المطلق، يوم أن تعلم أن الله هو الكبير فتوحده، وتخضع لأمره، وتستجيب له دونما سواه، وترفض كل أمر يتعارض مع أمره، فأنت بهذا توحد الله وتعلن العبودية الخالصة له سبحانه وتعالى.

بعد هذا يقول عز وجل : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وفي هذا إشارة إلى أن الداعية الذي يريد أن يكون مؤثراً في الناس؛ لا بد له أن يبدأ بتطهير نفسه ظاهراً وباطناً، حساً ومعنىً؛ حتى يكون مثالاً لمن يدعوهم إلى الطهارة بكل معانيها، إذ من غير المعقول والمقبول أن تدعو الناس إلى شيء وأنت تخالفه، يقول الشاعر:

يا أيها الرجل المعلم غيره     هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقـام وذي الـضنا     كيما يصح به وأنت سقيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الصف:2-3] أي: عظم إثماً عند الله: أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].

ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال.. الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان.. لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان.

هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله!

والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة.. تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن.

وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟!

لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] وعلى حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا. لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها.

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع