سبل مقاومة المرأة المنكر


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين أما بعد:

فإنني سأتحدث عن موضوع محدد خاص، وأود أن نتفهم هذا الموضوع ونتناقش فيه لنصل فيه إلى مفاهيم واضحة، ونتائج محددة نستفيد منها في حياتنا العملية الخاصة والعامة.

أصل تسمية المعروف والمنكر

المجتمع المسلم الأصل فيه أنه مجتمع المعروف البعيد عن المنكرات، لذلك سمي المجتمع المعروف معروفاً، لأن الناس في ذلك المجتمع الطيب الصالح قد تعارفوا عليه، واشتهر بينهم، وسمى المنكر منكراً -أيضًا- لأنه منبوذ ومكروه ومنكر بينهم لا أحد يقبله ولا يقر به.

فأصل تسمية كلمة معروف وكلمة منكر في الشرع إنما جاءت لأن المجتمع الصالح المسلم يعرف هذا، وينكر ذاك، فيعرف -مثلاً- الطاعة والصلاة والذكر والبر والنصيحة والخير، فتسمى هذه الأشياء معروفاً؛ لأن الناس يعرفونها في المجتمع الطيب.

وبضد ذلك هناك أشياء مكروهة كالفسوق والعصيان والإثم، سواء في ذلك كان إثماً قلبياً أم لسانياً أم عملياً، فهو مكروه منكر بين الناس لا يعرفونه ولا يقرون به ولذلك سمي منكراً، فأصل وضع الكلمتين معروف ومنكر مبنية على أساس وجود مجتمع صالح يعرف الخير ويقر به، وينكر المنكر ولا يرضاه فسمي هذا معروفاً وهذا منكراً.

أمثلة على تسمية المعروف والمنكر في المجتمع

لو أخذنا نموذجاً -ولا شك أنه النموذج الأمثل-: نموذج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المجتمع الأول، ذلك المجتمع الذي يعتبر قدوة للناس عبر العصور، ومن رحمة الله عز وجل أنه وضع ذلك المجتمع بحيث أن الناس يمشون في طريقهم نحو الهداية والاستقامة على مدى الزمان وهم ينظرون إلى هذه المنارة المرتفعة، منارة المجتمع الإسلامي الأول منارة محمد عليه الصلاة والسلام والذين معه، ثم القرون الثلاثة الفاضلة: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} فينظرون إلى ذلك المجتمع، ينظرون إلى الأشياء الشائعة فيه، ويعرفون أن هذه أمور من المعروف، وينظرون إلى الأشياء التي أنكروها ونبذوها فيعرفون أنها من المنكر.

على سبيل المثال أيضًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه، الآن المسلمون منذ عهد خلافة أبي بكر إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكتبون في العقائد أن المؤمنين، وأن أهل السنة والجماعة يعتبرون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهو الأجدر بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع إجماع عندهم.

هذا الإجماع لم يرد نص قرآني ينص عليه، ولم يرد حديث نبوي صريح يحدد هذه القضية بصورة حاسمة، نعم، وردت أحاديث كثيرة أشبه ما تكون بالإيماء والتلميح والإشارة إلى جدارة أبي بكر رضي الله عنه، لكن بعدما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة وتقاولوا وتفاوضوا وتحادثوا، ثم انتهى بهم الأمر إلى الاتفاق والإقرار بولاية أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه عن طواعية واختيار، وجعلوه أميراً للمؤمنين، وسمعوا له وأطاعوه، واستقر الأمر على ذلك، بعد هذا عرفنا؛ بأن ولاية أبي بكر أصبح معروفاً في ذلك المجتمع الأول بدليل أنه وجد بينهم واستقر وقام، فعرفنا بذلك أن ولاية أبي بكر رضي الله عنه وأفضليته وتقدمه على الصحابة هي من الأمور المتفق عليها عند الأمة، ومثل ذلك أشياء كثيرة قد لا تكون النصوص فيها حاسمة بصورة نهائية لكن واقع المجتمع الإسلامي الأول هو المقياس.

أضرب مثالاً آخر -أيضاً- موضوع كتابة الحديث النبوي، هل يكتب الحديث أو لا يكتب؟

الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، ولأن الكُتَّاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، فكان يخشى أن ينشغلوا بكتابة الحديث عن كتابة القرآن الكريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} فنهى عن الكتابة.

ولذلك ذهب جماعة من الصحابة إلى تحريم كتابة شيء من الحديث النبوي، ومن أشهرهم عمر رضي الله عنه حيث كان ينهى عن كتابة الحديث في أول أمره، ولما توفى الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمع القرآن وأمن اختلاطه بالسنة بعد ذلك، ثم وجد الناس في القرن الأول مشكلة وهي خشية ضياع السنة النبوية؛ لأن المشافهة مع أنها وسيلة قوية لكن مع ذلك قد يموت الحفاظ فيضيع شيء من العلم الذي كان عندهم، ولابد من التدوين والكتابة، فاستقروا على جواز كتابة الحديث النبوي حتى أجمعوا على ذلك بلا مخالف، وبدءوا يكتبون الحديث النبوي.

ولاشك أنه يوجد أحاديث اعتمدوا عليها، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب فوالله ما خرج منه - وأشار إلى فمه - إلا حقٌ} ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {اكتبوا لـأبي شاة}.

وهو رجل من أهل اليمن لما سمع الخطبة، قال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: {اكتبوا لـأبي شاة } ومثل قوله عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته: {ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، واحد يقول يكتب، وآخر يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مريض وعندنا كتاب الله حسبنا، فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع} فقاموا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: {ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} قال ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [[ إن الرزية كل الرزية -يعني المصيبة كل المصيبة- ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم الكتاب ]].

فكتابة الحديث النبوي ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة أنها مطلوبة وواجبة، لكن لما واجه المسلمون الأولون ضرورة الواقع رجحوا القول بمشروعيته، بل بوجوب كتابة الحديث النبوي، واتفقوا على ذلك من غير مخالف ولا نكير.

ومقصودي من هذا المثال والذي قبله وغيرها كثير: أن المعروف هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة أنه معروف مطلوب من الشرع، والمنكر هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بالكتاب والسنة أنه مكروه مطلوب تركه.

معيار معرفة المعروف والمنكر

إذاً: المعيار في معرفة المعروف والمنكر ليس أمزجة الناس؛ لأنها تتفاوت، فقد تستحسن القبيح وتستقبح الحسن وكما قيل:

يقضى على المرء في أيام مختلفة      حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

فيشيع عند الناس يوماً من الأيام عادة أو موضة تقليد أي أمر من الأمور، ويتحول إلى أمر مستحسن في أذواقهم وأمزجتهم وهو منبوذ شرعاً ومحرم أو مكروه، إذاً لا عبره بانطباع الناس عن هذا الأمر، إنما العبرة بثلاثة أمور:

الأمر الأول: القرآن: فإذا ثبت في القرآن أن أمراً من الأمور معروف فهو معروف ولا يحتاج إلى كلام فيه.

الأمر الثاني: السنة النبوية: فإذا جاءت الأحاديث عن المصطفى عليه الصلاة والسلام بأن هذا الأمر مطلوب وجوباً أو استحباباً، فهو معروف، وإذا جاءت بأن هذا الأمر مطلوب تركه إما تحريماً أو كراهية فهو منكر.

الأمر الثالث: الذي يتميز به المعروف والمنكر هو واقع المجتمع النظيف السليم، وأخص المجتمع الأول فهو المقياس ولذلك نقول أيضاً في أبواب الاعتقاد عموماً: أن ما كان عليه الجيل الأول هو العقيدة الصحيحة بدون جدال ولا نـزاع يختلف مثل الأشاعرة عن المعتزلة وعن الماتريدية وعن الجبرية وعن القدرية وعن الخوارج، فنقول: إن المقياس في ذلك هو الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول.

ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الفرقة الناجية لما ذكر: {أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي} فجعل المعيار والمقياس في معرفة الطريق الصحيح وهو طريق النجاة في السلوك والقول والعمل والاعتقاد، هو التزام ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ويمكن أن نقول: إن القرون الفاضلة إجمالاً كان رجالاتها وزعماؤها على المنهج وعلى الخط والطريق نفسه، لم يغيّروا ولم يبدلوا ولذلك قال عليه السلام: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم}.

الأصل في المجتمع المسلم

المجتمع النظيف الصالح المسلم الأصل أنه يعرف المعروف وينكر المنكر، لكن هذا لا يعني أن المجتمع يتحول إلى مجتمع صحابة، فالإنسان بشر، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه يقول: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفروه فيغفر لهم}؛ لأن من أسمائه عز وجل أنه غفور رحيم، وإنما غفرانه جل وعلا لعبيده الذين أخطئوا وضلوا عن الطريق، ثم تابوا إليه وأنابوا، أو بدر منهم بوادر غلط فندموا عليها.

حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله في القرآن الكريم عنهم كمثل آدم عليه السلام، وموسى، وغيرهما من الأنبياء، حتى محمد عليه الصلاة والسلام، كان يحدث منهم أمور أقل ما يقال فيها أن الأولى تركها، وبعضها قد يكون ممنوعاً كما حدث لآدم عليه السلام وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] فيقول النبي من الأنبياء: يا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، والله عز وجل أبوابه لا تغلق للتائبين.

وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث صفوان بن عسال قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فنقول ونحن جميعاً من العصاة المذنبين الخطائين: الحمد لله الذي لم يجعل وقوع الواحد منا في زلة أو سقطة سبباً في إغلاق أبواب الرحمة دونه، وبعده وطرده، بل إن الله جل وعلا وهو الغني يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فلك الحمد.

وإن الله جل وعلا كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل -والحديث في صحيح مسلم {- أذنب ذنباً ثم ندم، وقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم المرة الثالثة، فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك}.

لكن علينا ألا نغتر بهذا لأن الله عز وجل قال لهذا الإسرائيلي: افعل ما شئت فقد غفرت لك، وهو أعلم سبحانه أن هذا الرجل قام بقلبه من شدة الانكسار بين يدي الله، وشدة الخوف منه، وشدة الندم على الذنب ما كان سبباً إلى رحمة الله له، وعفوه عنه، لكن أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، ما يدرينا أن يكون قام بقلوبنا ذلك؟

فربما يعصي الإنسان ثم يستغفر، ثم يعصي ثم يستغفر ثم يعصي ثم يستغفر، ويقال له: لا يغفر لك لأنك كذاب مخادع تعاهد الله عز وجل ثم تغش وتنكث.

فلا يغتر الإنسان بهذا الحديث؛ لأن هذا الرجل أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله قال له ذلك؛ لكن نحن من يخبرنا أن الله تعالى قال لنا ذلك، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

ولذلك كان من صفات عباد الرحمن في الجنة أنهم كانوا يخافون عذاب الله عز وجل وقد وصفهم بهذا في مواضع كثيرة قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57] وقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:26-28].

وهم يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] أي: خائفين وجلين فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].

المهم أني أريد أن أشير إلى أن الإنسان من طبيعته أنه قد يخطئ، وكل ابن آدم خطاء، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده حسن: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.

المجتمع المسلم الأصل فيه أنه مجتمع المعروف البعيد عن المنكرات، لذلك سمي المجتمع المعروف معروفاً، لأن الناس في ذلك المجتمع الطيب الصالح قد تعارفوا عليه، واشتهر بينهم، وسمى المنكر منكراً -أيضًا- لأنه منبوذ ومكروه ومنكر بينهم لا أحد يقبله ولا يقر به.

فأصل تسمية كلمة معروف وكلمة منكر في الشرع إنما جاءت لأن المجتمع الصالح المسلم يعرف هذا، وينكر ذاك، فيعرف -مثلاً- الطاعة والصلاة والذكر والبر والنصيحة والخير، فتسمى هذه الأشياء معروفاً؛ لأن الناس يعرفونها في المجتمع الطيب.

وبضد ذلك هناك أشياء مكروهة كالفسوق والعصيان والإثم، سواء في ذلك كان إثماً قلبياً أم لسانياً أم عملياً، فهو مكروه منكر بين الناس لا يعرفونه ولا يقرون به ولذلك سمي منكراً، فأصل وضع الكلمتين معروف ومنكر مبنية على أساس وجود مجتمع صالح يعرف الخير ويقر به، وينكر المنكر ولا يرضاه فسمي هذا معروفاً وهذا منكراً.

لو أخذنا نموذجاً -ولا شك أنه النموذج الأمثل-: نموذج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المجتمع الأول، ذلك المجتمع الذي يعتبر قدوة للناس عبر العصور، ومن رحمة الله عز وجل أنه وضع ذلك المجتمع بحيث أن الناس يمشون في طريقهم نحو الهداية والاستقامة على مدى الزمان وهم ينظرون إلى هذه المنارة المرتفعة، منارة المجتمع الإسلامي الأول منارة محمد عليه الصلاة والسلام والذين معه، ثم القرون الثلاثة الفاضلة: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} فينظرون إلى ذلك المجتمع، ينظرون إلى الأشياء الشائعة فيه، ويعرفون أن هذه أمور من المعروف، وينظرون إلى الأشياء التي أنكروها ونبذوها فيعرفون أنها من المنكر.

على سبيل المثال أيضًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه، الآن المسلمون منذ عهد خلافة أبي بكر إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكتبون في العقائد أن المؤمنين، وأن أهل السنة والجماعة يعتبرون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهو الأجدر بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع إجماع عندهم.

هذا الإجماع لم يرد نص قرآني ينص عليه، ولم يرد حديث نبوي صريح يحدد هذه القضية بصورة حاسمة، نعم، وردت أحاديث كثيرة أشبه ما تكون بالإيماء والتلميح والإشارة إلى جدارة أبي بكر رضي الله عنه، لكن بعدما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة وتقاولوا وتفاوضوا وتحادثوا، ثم انتهى بهم الأمر إلى الاتفاق والإقرار بولاية أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه عن طواعية واختيار، وجعلوه أميراً للمؤمنين، وسمعوا له وأطاعوه، واستقر الأمر على ذلك، بعد هذا عرفنا؛ بأن ولاية أبي بكر أصبح معروفاً في ذلك المجتمع الأول بدليل أنه وجد بينهم واستقر وقام، فعرفنا بذلك أن ولاية أبي بكر رضي الله عنه وأفضليته وتقدمه على الصحابة هي من الأمور المتفق عليها عند الأمة، ومثل ذلك أشياء كثيرة قد لا تكون النصوص فيها حاسمة بصورة نهائية لكن واقع المجتمع الإسلامي الأول هو المقياس.

أضرب مثالاً آخر -أيضاً- موضوع كتابة الحديث النبوي، هل يكتب الحديث أو لا يكتب؟

الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، ولأن الكُتَّاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، فكان يخشى أن ينشغلوا بكتابة الحديث عن كتابة القرآن الكريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} فنهى عن الكتابة.

ولذلك ذهب جماعة من الصحابة إلى تحريم كتابة شيء من الحديث النبوي، ومن أشهرهم عمر رضي الله عنه حيث كان ينهى عن كتابة الحديث في أول أمره، ولما توفى الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمع القرآن وأمن اختلاطه بالسنة بعد ذلك، ثم وجد الناس في القرن الأول مشكلة وهي خشية ضياع السنة النبوية؛ لأن المشافهة مع أنها وسيلة قوية لكن مع ذلك قد يموت الحفاظ فيضيع شيء من العلم الذي كان عندهم، ولابد من التدوين والكتابة، فاستقروا على جواز كتابة الحديث النبوي حتى أجمعوا على ذلك بلا مخالف، وبدءوا يكتبون الحديث النبوي.

ولاشك أنه يوجد أحاديث اعتمدوا عليها، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب فوالله ما خرج منه - وأشار إلى فمه - إلا حقٌ} ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {اكتبوا لـأبي شاة}.

وهو رجل من أهل اليمن لما سمع الخطبة، قال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: {اكتبوا لـأبي شاة } ومثل قوله عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته: {ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، واحد يقول يكتب، وآخر يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مريض وعندنا كتاب الله حسبنا، فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع} فقاموا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: {ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} قال ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [[ إن الرزية كل الرزية -يعني المصيبة كل المصيبة- ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم الكتاب ]].

فكتابة الحديث النبوي ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة أنها مطلوبة وواجبة، لكن لما واجه المسلمون الأولون ضرورة الواقع رجحوا القول بمشروعيته، بل بوجوب كتابة الحديث النبوي، واتفقوا على ذلك من غير مخالف ولا نكير.

ومقصودي من هذا المثال والذي قبله وغيرها كثير: أن المعروف هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة أنه معروف مطلوب من الشرع، والمنكر هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بالكتاب والسنة أنه مكروه مطلوب تركه.

إذاً: المعيار في معرفة المعروف والمنكر ليس أمزجة الناس؛ لأنها تتفاوت، فقد تستحسن القبيح وتستقبح الحسن وكما قيل:

يقضى على المرء في أيام مختلفة      حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

فيشيع عند الناس يوماً من الأيام عادة أو موضة تقليد أي أمر من الأمور، ويتحول إلى أمر مستحسن في أذواقهم وأمزجتهم وهو منبوذ شرعاً ومحرم أو مكروه، إذاً لا عبره بانطباع الناس عن هذا الأمر، إنما العبرة بثلاثة أمور:

الأمر الأول: القرآن: فإذا ثبت في القرآن أن أمراً من الأمور معروف فهو معروف ولا يحتاج إلى كلام فيه.

الأمر الثاني: السنة النبوية: فإذا جاءت الأحاديث عن المصطفى عليه الصلاة والسلام بأن هذا الأمر مطلوب وجوباً أو استحباباً، فهو معروف، وإذا جاءت بأن هذا الأمر مطلوب تركه إما تحريماً أو كراهية فهو منكر.

الأمر الثالث: الذي يتميز به المعروف والمنكر هو واقع المجتمع النظيف السليم، وأخص المجتمع الأول فهو المقياس ولذلك نقول أيضاً في أبواب الاعتقاد عموماً: أن ما كان عليه الجيل الأول هو العقيدة الصحيحة بدون جدال ولا نـزاع يختلف مثل الأشاعرة عن المعتزلة وعن الماتريدية وعن الجبرية وعن القدرية وعن الخوارج، فنقول: إن المقياس في ذلك هو الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول.

ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الفرقة الناجية لما ذكر: {أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي} فجعل المعيار والمقياس في معرفة الطريق الصحيح وهو طريق النجاة في السلوك والقول والعمل والاعتقاد، هو التزام ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ويمكن أن نقول: إن القرون الفاضلة إجمالاً كان رجالاتها وزعماؤها على المنهج وعلى الخط والطريق نفسه، لم يغيّروا ولم يبدلوا ولذلك قال عليه السلام: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم}.

المجتمع النظيف الصالح المسلم الأصل أنه يعرف المعروف وينكر المنكر، لكن هذا لا يعني أن المجتمع يتحول إلى مجتمع صحابة، فالإنسان بشر، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه يقول: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفروه فيغفر لهم}؛ لأن من أسمائه عز وجل أنه غفور رحيم، وإنما غفرانه جل وعلا لعبيده الذين أخطئوا وضلوا عن الطريق، ثم تابوا إليه وأنابوا، أو بدر منهم بوادر غلط فندموا عليها.

حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله في القرآن الكريم عنهم كمثل آدم عليه السلام، وموسى، وغيرهما من الأنبياء، حتى محمد عليه الصلاة والسلام، كان يحدث منهم أمور أقل ما يقال فيها أن الأولى تركها، وبعضها قد يكون ممنوعاً كما حدث لآدم عليه السلام وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] فيقول النبي من الأنبياء: يا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، والله عز وجل أبوابه لا تغلق للتائبين.

وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث صفوان بن عسال قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فنقول ونحن جميعاً من العصاة المذنبين الخطائين: الحمد لله الذي لم يجعل وقوع الواحد منا في زلة أو سقطة سبباً في إغلاق أبواب الرحمة دونه، وبعده وطرده، بل إن الله جل وعلا وهو الغني يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فلك الحمد.

وإن الله جل وعلا كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل -والحديث في صحيح مسلم {- أذنب ذنباً ثم ندم، وقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم المرة الثالثة، فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك}.

لكن علينا ألا نغتر بهذا لأن الله عز وجل قال لهذا الإسرائيلي: افعل ما شئت فقد غفرت لك، وهو أعلم سبحانه أن هذا الرجل قام بقلبه من شدة الانكسار بين يدي الله، وشدة الخوف منه، وشدة الندم على الذنب ما كان سبباً إلى رحمة الله له، وعفوه عنه، لكن أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، ما يدرينا أن يكون قام بقلوبنا ذلك؟

فربما يعصي الإنسان ثم يستغفر، ثم يعصي ثم يستغفر ثم يعصي ثم يستغفر، ويقال له: لا يغفر لك لأنك كذاب مخادع تعاهد الله عز وجل ثم تغش وتنكث.

فلا يغتر الإنسان بهذا الحديث؛ لأن هذا الرجل أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله قال له ذلك؛ لكن نحن من يخبرنا أن الله تعالى قال لنا ذلك، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

ولذلك كان من صفات عباد الرحمن في الجنة أنهم كانوا يخافون عذاب الله عز وجل وقد وصفهم بهذا في مواضع كثيرة قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57] وقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:26-28].

وهم يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] أي: خائفين وجلين فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].

المهم أني أريد أن أشير إلى أن الإنسان من طبيعته أنه قد يخطئ، وكل ابن آدم خطاء، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده حسن: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع