تفسير سورة الفتح [27-29]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].

سبق في بداية السورة أن سبب نزولها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمؤمنين: لقد رأيت رؤيا وهي: أنكم ستدخلون المسجد الحرام آمنين معتمرين محلقين ومقصرين، لا تخافون، أي: لا خوف ولا اضطراب، وكانت هذه الرؤيا في معاهدة الحديبية من أسباب الفتنة، فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الصلح وعدم القتال منذ أن بركت ناقته، فقال الناس: خلأت القصوى، أي: حرنت القصوى، فقال رسول الله: (ليس ذلك لها بخلق وما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل) وهو الله الذي حبس الفيل عن هدم الكعبة عندما جاء أبرهة وجيشه في عام الولادة النبوية ليهدموا الكعبة، وهو أيضاً أمر الناقة ألا تدخل مكة هذا العام، وهكذا تبادل السفراء مع كفار مكة إلى أن حضر كاتب العهد سهيل بن عمرو العامري ، فعندما حضر وأخذ يكتب هو عن نفسه وعلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضج عمر وفقد صبره، وقال لـأبي بكر : (أليس رسول الله رسول الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا المؤمنين حقاً؟ قال: بلى، قال: فلمَ نعط الدنية في ديننا؟! قال: لا يختار الله لنبيه إلا خيراً، ثم عاد فقال له: ألم يقل لنا سندخل مكة آمنين محلقين رءوسنا ومقصرين لا نخاف، أين ذلك؟ هانحن أولاء في الأبواب ومنعنا من الدخول فلا حلق ولا تقصير، قال: هل قال رسول الله في أي عام؟ قال: لا، قال: الزم غرزه فستدخل مكة، وستعتمر وستحلق أو تقصر غير خائف، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ألست رسول الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا المؤمنين حقاً؟ قال: بلى، قال: ألم تعدنا بأن ندخل مكة غير خائفين آمنين محلقين رءوسنا ومقصرين، قال: أقلت لكم في هذا العام؟ قال: لا، قال: ستدخل مكة معتمراً محلقاً أو مقصراً آمناً غير خائف) .

وهكذا يقول تعالى في هذه السورة التي نزلت بعد الحديبية وقبل العمرة من السنة القابلة، ونزلت على رسول الله في الطريق بين مكة والمدينة: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح:27]، ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، فعندما قال النبي للمؤمنين: (رأيت أنا داخل مكة غير خائفين محلقين ومقصرين) علموا أن هذا سيكون قطعاً ويقيناً، ولكنه لم يقل لهم في هذا العام، ولم يحدد الوقت والزمن، والأمر سيكون كذلك؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالله يؤكد هنا لرسوله رؤياه وأنها حق، وأن الله تعالى سيجعلها صدقاً، فسيعتمرون وسيدخلون مكة محرمين، وبعد ذلك سيحلقون أو يقصرون غير خائفين ولا وجلين.

قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27] قال المفسرون: هذه حكاية لقول رسول الله لقومه، وهو أنه قد سبق أن قال لهم: لتدخلن المسجد الحرام، فهو قول رسول الله حكاه وأعاده الله في الآية.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ [الفتح:27] أي: إذ يقول محمد لتدخلن، ومن هنا جاءت إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] فالاستثناء من رسول الله، وهذا من باب التأدب مع الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، فوعد الله سيقع حقاً، والمشيئة قد تعلقت، ولكن من يدري من سيموت من هؤلاء ومن سيعيش، ولذلك تعلقت المشيئة بالأحياء، وأما الذي مات فقد انتهى عمله.

وقال آخرون: القول قول الله، و(إن شاء الله) بمعنى (إذ) فليست هي شرطية، إذ شاء الله أي: شاء وسبق في علمه ذلك.

قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [الفتح:27] اللام هنا: لام التوكيد الموطئة للقسم، والمؤكدة بالنون الثقيلة، فقوله: (لتدخلن المسجد الحرام) بمثابة: والله لتدخلن المسجد الحرام.

قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] فلا خوف ولا وجل.

قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27] فأكد الأمن بقوله: (لا تخافون) فذكر المنطوق والمفهوم تأكيداً على الأمن والسلام وعدم الخوف والوجل.

المقصود بالفتح في هذه الآية

قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [الفتح:27] من المعاهدة، وأنها في حقيقتها وفي ما كتب من موادها لصالحكم، فقد لعبتم بأعدائكم وخدعتم أعداءكم؛ لأنهم لم يفهموا أسرارها، ولم يفهموا عواقبها، ولكن الله قد علم أن المعاهدة كانت في صالحكم، وكانت نصراً عزيزاً مؤزراً لكم، كانت قضاء مبرماً على عدوكم، وقد ذكرت أسرارها في بداية السورة، فلم يكن كفار مكة معترفين برسول الله صلى الله عليه وسلم طرفاً موازياً، فأصبحوا يعتبرون أنفسهم في جانب، ومحمداً وصحبه في جانب صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقال له اليوم: الاعتراف السياسي، فقد اعترفوا به ككتلة وجماعة قائمة بنفسها، وليس هذا بالشيء القليل، وقد كانوا من قبل يقولون له: الصابئ، خرج عن دين قومه، وتآمروا لقتله، وتآمروا لسجنه، وتآمروا لنفيه، وإذا بهم الآن يعاملونه معاملة الند للند، فهذا سفير منهم وسفير من رسول الله، ومواد لهم ومواد في المعاهدة عليهم، وهنا يشير الله لها بقوله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]؛ ولذلك استحقت المعاهدة أن ينزل عقبها ليلاً والنبي عائد إلى المدينة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]، وعندما تلا رسول الله هذه الآيات لـعمر عجب وقال: (أفتح هو يا رسول الله؟! قال: إي والله إنه لفتح)، ومن ذلك اليوم وعمر يقول: لقد أكثرت من الصدقات، ومن عتق الرقاب، ومن التوبة والاستغفار، لعل الله يغفر لي موقفي ذاك من المعاهدة، وأنا إلى يومي هذا -وكان قد أصبح خليفة- أدعو الله ألا يؤاخذني، وأن يغفر لي زلتي وخطيئتي، وهو ما قال الله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا .

وكان من هذه المواد - وهي المادة التي أقامت الأصحاب وأقعدتهم -: أن من جاء من المسلمين إلى رسول الله رده إليهم، ومن جاء من رسول الله إلى الكفار لا يردونه، وبالفعل فقد جاء أبو بصير -وهو رجل قرشي، جاء مسلماً- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (بيني وبين القوم عهد ولن أغدر) وإذا بقرشيين يقفان على رأس رسول الله ويقولان: يا رسول الله! العهد، فمكنهم منه وذهبوا به، وإذا به وهم بذي الحليفة في البئر التي نحرم منها يرى سيفاً في يد أحدهما فيقول: سيفك سيف بتار أرنيه، فاغتر ذاك ومكنه من سيفه مسلولاً، فأخذه وضربة على عنقه ففصل رأسه عن جسده، وفر الآخر وذهب إلى رسول الله وقال: قد قتل صاحبي، وإذا بـأبي بصير يأتي فيقول له رسول الله: (ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال) أي: يا ويله! سيسعر الحرب بيني وبين أعدائي، لو وجد من يرشده ومن ينصحه، والنبي لم يرد أن يزيد على هذا؛ لكي لا ينقض العهد، وإذا بـأبي بصير يتأكد بأن النبي مسلمه إلى الأعداء مرة ثانية فذهب إلى شاطئ البحر في طريق قوافل مكة للشام، وأقام هناك فسمع به المستضعفون من المؤمنين بمكة فاجتمعوا حوله إلى أن بلغوا سبعين رجلاً، وإذا بهم يقفون في الشاطئ لا تمر قافلة، ولا يمر قرشي بسلعة أو بتجارة من الشام أو من مكة إلى الشام إلا قتلوه وسلبوه، إلى أن جاءت قريش بكبارها وقادتها يرجون رسول الله أن يضمهم إليه مقابل تنازلهم عن هذه المعاهدة، فتبين بأسرع وقت أن المعاهدة كانت لهم لا عليهم؛ ولذلك يقول الله تعالى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].

لقد كان الفتح الأول هو فتح الحديبية وكتابة هذه المعاهدة، وكان الفتح الآخر هو فتح مكة، وكان ذلك بعد عامين من صلح الحديبية الذي وقع في السنة السادسة للهجرة، وفي السابعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حسب العهد والسيوف في أغمادها، وعندما دخلوا مكة اختفى الرجال واختفى القادة حقداً وعداوة وبقي الأطفال والنساء والعجزة والكبار، فرأوا أصحاب رسول الله بين متعب وبين جار قدمه، وبين من يمشي وهو يكاد يقع، فذهب الغلمان والأولاد وقالوا: انظروا، هؤلاء الذين يزعم محمد أنه سيفتح بهم العالم، لا يستطيعون مشياً في الأرض وإنما يزحفون زحفاً، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يسمع ذلك وينتبه له، فيأمر أصحابه بأن يهرولوا عند الطواف في الثلاث الأشواط الأولى، وهو أصل الهرولة في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى؛ ذكرى لهذا اليوم العظيم، وقال لأصحابه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ، فلما خرج الكبار ليستهزئوا بهم وجدوا الكبار والصغار يهرولون ويجرون، فقالوا لأولادهم وغلمانهم: خيبكم الله! أتقولون هذا والقوم يقفزون ويهرولون هرولة الآساد في العرين، والنمور في البراري، أيفعل الشباب مثل هذا؟!

ولذلك فإن الله يثيب المؤمن على ما يغيظ به الكافر ولو بحركة أو نظرة.

وقف عمر في خلافته قبل أن يبتدئ الطواف وقال: كنا نهرول إغاظة للكفار والآن مكة دار إسلام، ثم عاد فقال: شيء صنعناه مع رسول الله لا نغيره، وهرول بدوره، وهي ذكرى، فأكثر أعمال الحج ذكريات إما من أيام إبراهيم، أو من أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأهمها وأعظمها: السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في جمرات منى، إذ كان إبراهيم قد أمر بذبح ولده إسماعيل؛ وكان إسماعيل لا يزال رضيعاً، وبحثت أمه عن الماء لتسقيه فأخذت تسعى بين الصفا والمروة؛ لعلها تجد أحداً مسافراً غادياً أو رائحاً فتأخذ منه شربة ماء لولدها، وإذا بالله الكريم يفجر زمزم تحت قدمي إسماعيل، وإذا بالله الكريم يفدي إسماعيل بكبش، وهو أصل الأضحية والضحايا، فيعيش إسماعيل ويذبح الكبش مكانه، فأصبح رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة ذكرى لإحياء الله إسماعيل، فلم يمت عطشاً، ولم يمت ذبحاً، ولو مات عطشاً ومات ذبحاً لما كان من سلالته محمد سيد البشر إمام الأنبياء بعد ذلك، فإذا مات الأب قبل أن يلد فأين الولد؟! فهي ذكرى لحفظ الله لإسماعيل ليلد إسماعيل أولاداً، وليلد الأولاد أولاداً، وليكون بعد ذلك سليله عظيم الأنبياء وكبير الرسل عليه الصلاة والسلام.

فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27] فكان الفتح الأول: الحديبية، والفتح الثاني: فتح مكة، والثالث: فتح الطائف، فقد كانت فيها قبائل شديدة الحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعركة في بدايتها كانت على المسلمين ثم نصر الله المسلمين وأذل الكافرين وهزمهم، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً.

قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [الفتح:27] من المعاهدة، وأنها في حقيقتها وفي ما كتب من موادها لصالحكم، فقد لعبتم بأعدائكم وخدعتم أعداءكم؛ لأنهم لم يفهموا أسرارها، ولم يفهموا عواقبها، ولكن الله قد علم أن المعاهدة كانت في صالحكم، وكانت نصراً عزيزاً مؤزراً لكم، كانت قضاء مبرماً على عدوكم، وقد ذكرت أسرارها في بداية السورة، فلم يكن كفار مكة معترفين برسول الله صلى الله عليه وسلم طرفاً موازياً، فأصبحوا يعتبرون أنفسهم في جانب، ومحمداً وصحبه في جانب صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقال له اليوم: الاعتراف السياسي، فقد اعترفوا به ككتلة وجماعة قائمة بنفسها، وليس هذا بالشيء القليل، وقد كانوا من قبل يقولون له: الصابئ، خرج عن دين قومه، وتآمروا لقتله، وتآمروا لسجنه، وتآمروا لنفيه، وإذا بهم الآن يعاملونه معاملة الند للند، فهذا سفير منهم وسفير من رسول الله، ومواد لهم ومواد في المعاهدة عليهم، وهنا يشير الله لها بقوله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]؛ ولذلك استحقت المعاهدة أن ينزل عقبها ليلاً والنبي عائد إلى المدينة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]، وعندما تلا رسول الله هذه الآيات لـعمر عجب وقال: (أفتح هو يا رسول الله؟! قال: إي والله إنه لفتح)، ومن ذلك اليوم وعمر يقول: لقد أكثرت من الصدقات، ومن عتق الرقاب، ومن التوبة والاستغفار، لعل الله يغفر لي موقفي ذاك من المعاهدة، وأنا إلى يومي هذا -وكان قد أصبح خليفة- أدعو الله ألا يؤاخذني، وأن يغفر لي زلتي وخطيئتي، وهو ما قال الله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا .

وكان من هذه المواد - وهي المادة التي أقامت الأصحاب وأقعدتهم -: أن من جاء من المسلمين إلى رسول الله رده إليهم، ومن جاء من رسول الله إلى الكفار لا يردونه، وبالفعل فقد جاء أبو بصير -وهو رجل قرشي، جاء مسلماً- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (بيني وبين القوم عهد ولن أغدر) وإذا بقرشيين يقفان على رأس رسول الله ويقولان: يا رسول الله! العهد، فمكنهم منه وذهبوا به، وإذا به وهم بذي الحليفة في البئر التي نحرم منها يرى سيفاً في يد أحدهما فيقول: سيفك سيف بتار أرنيه، فاغتر ذاك ومكنه من سيفه مسلولاً، فأخذه وضربة على عنقه ففصل رأسه عن جسده، وفر الآخر وذهب إلى رسول الله وقال: قد قتل صاحبي، وإذا بـأبي بصير يأتي فيقول له رسول الله: (ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال) أي: يا ويله! سيسعر الحرب بيني وبين أعدائي، لو وجد من يرشده ومن ينصحه، والنبي لم يرد أن يزيد على هذا؛ لكي لا ينقض العهد، وإذا بـأبي بصير يتأكد بأن النبي مسلمه إلى الأعداء مرة ثانية فذهب إلى شاطئ البحر في طريق قوافل مكة للشام، وأقام هناك فسمع به المستضعفون من المؤمنين بمكة فاجتمعوا حوله إلى أن بلغوا سبعين رجلاً، وإذا بهم يقفون في الشاطئ لا تمر قافلة، ولا يمر قرشي بسلعة أو بتجارة من الشام أو من مكة إلى الشام إلا قتلوه وسلبوه، إلى أن جاءت قريش بكبارها وقادتها يرجون رسول الله أن يضمهم إليه مقابل تنازلهم عن هذه المعاهدة، فتبين بأسرع وقت أن المعاهدة كانت لهم لا عليهم؛ ولذلك يقول الله تعالى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].

لقد كان الفتح الأول هو فتح الحديبية وكتابة هذه المعاهدة، وكان الفتح الآخر هو فتح مكة، وكان ذلك بعد عامين من صلح الحديبية الذي وقع في السنة السادسة للهجرة، وفي السابعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حسب العهد والسيوف في أغمادها، وعندما دخلوا مكة اختفى الرجال واختفى القادة حقداً وعداوة وبقي الأطفال والنساء والعجزة والكبار، فرأوا أصحاب رسول الله بين متعب وبين جار قدمه، وبين من يمشي وهو يكاد يقع، فذهب الغلمان والأولاد وقالوا: انظروا، هؤلاء الذين يزعم محمد أنه سيفتح بهم العالم، لا يستطيعون مشياً في الأرض وإنما يزحفون زحفاً، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يسمع ذلك وينتبه له، فيأمر أصحابه بأن يهرولوا عند الطواف في الثلاث الأشواط الأولى، وهو أصل الهرولة في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى؛ ذكرى لهذا اليوم العظيم، وقال لأصحابه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ، فلما خرج الكبار ليستهزئوا بهم وجدوا الكبار والصغار يهرولون ويجرون، فقالوا لأولادهم وغلمانهم: خيبكم الله! أتقولون هذا والقوم يقفزون ويهرولون هرولة الآساد في العرين، والنمور في البراري، أيفعل الشباب مثل هذا؟!

ولذلك فإن الله يثيب المؤمن على ما يغيظ به الكافر ولو بحركة أو نظرة.

وقف عمر في خلافته قبل أن يبتدئ الطواف وقال: كنا نهرول إغاظة للكفار والآن مكة دار إسلام، ثم عاد فقال: شيء صنعناه مع رسول الله لا نغيره، وهرول بدوره، وهي ذكرى، فأكثر أعمال الحج ذكريات إما من أيام إبراهيم، أو من أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأهمها وأعظمها: السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في جمرات منى، إذ كان إبراهيم قد أمر بذبح ولده إسماعيل؛ وكان إسماعيل لا يزال رضيعاً، وبحثت أمه عن الماء لتسقيه فأخذت تسعى بين الصفا والمروة؛ لعلها تجد أحداً مسافراً غادياً أو رائحاً فتأخذ منه شربة ماء لولدها، وإذا بالله الكريم يفجر زمزم تحت قدمي إسماعيل، وإذا بالله الكريم يفدي إسماعيل بكبش، وهو أصل الأضحية والضحايا، فيعيش إسماعيل ويذبح الكبش مكانه، فأصبح رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة ذكرى لإحياء الله إسماعيل، فلم يمت عطشاً، ولم يمت ذبحاً، ولو مات عطشاً ومات ذبحاً لما كان من سلالته محمد سيد البشر إمام الأنبياء بعد ذلك، فإذا مات الأب قبل أن يلد فأين الولد؟! فهي ذكرى لحفظ الله لإسماعيل ليلد إسماعيل أولاداً، وليلد الأولاد أولاداً، وليكون بعد ذلك سليله عظيم الأنبياء وكبير الرسل عليه الصلاة والسلام.

فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27] فكان الفتح الأول: الحديبية، والفتح الثاني: فتح مكة، والثالث: فتح الطائف، فقد كانت فيها قبائل شديدة الحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعركة في بدايتها كانت على المسلمين ثم نصر الله المسلمين وأذل الكافرين وهزمهم، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً.

ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].

يعد الله في هذه الآية المؤمنين الأولين والآخرين فيقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى والنور الذي يبدد الظلمات والباطل؛ ليسود على الأرض ويعم الكون بأسره.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28] أي: ليؤيده وينصره على جميع الأديان: على الديانة النصرانية، والديانة اليهودية، وبقية الأديان الباطلة الوثنية والشيوعية وما إلى ذلك، وقد كان ذلك في عصر من العصور، وسوف يعود النصر والتمكين، وسينشر الله دينه ويخضع له جميع أمم الأرض وجميع شعوبها، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لهذه الآية عندما قال: (والذي نفس محمد بيده لا تنتهي الدنيا حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل -والليل يبلغ الأرض كلها- ولا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم -والنجم مشرف على الأرض كلها- والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ كل حجر ومدر ووبر) وأرض الحجر أرض الحضارة، وأرض المدر أرض القرى والبداوة، والخيام هي أرض البدو الرحل، أي: لا تنتهي الدنيا حتى يعم دين الإسلام جميع طبقات الأرض، وجميع سكان الأرض، فذاك وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

يقول تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] وكأن قائلاً يقول: من يشهد على هذا القول؟ كيف يكون ذلك والكفر ضارب أطنابه، والمسلمون مستذلون في مختلف بقاع الأرض؟! فيقول ربنا: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) فيكفي أن يشهد على هذا خالق الكون، ومدبر الأرض، ورازق العالم، والذي بيده الأمر والخلق جل جلاله، وعز مقامه.