تفسير سورة الفتح [1-3]


الحلقة مفرغة

سورة الفتح سورة مدنية، فقد نزلت بين مكة والمدينة عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية وقد كان في مشارف مكة المكرمة.

وقد روى بعض الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جابر بن عبد الله والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نزلت علي سورة لهي أحب إلي من حمر النعم)، وفي رواية: (لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) ، وفي رواية: (لهي أحب إلي مما على وجه الأرض) .

وهذه السورة مشتملة على تسع وعشرين آية، وقد نزلت ليلاً في الطريق بين مكة والمدينة، وما كان كذلك فهو ينسب إلى أقربها نزولاً: مكة أو المدينة.

وسبب نزول السورة هو صلح الحديبية، وذلك عندما أخبر نبي الله عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار بأنه يريد أن يدخل مكة المكرمة للحج والعمرة، وكانت مكة لا تزال دار كفر، ولا يزال كفار مكة الوثنيين هم أهلها وسكانها والمتسلطين عليها.

فنادى النبي صلى الله عليه وسلم البدو والحضر فتأخر من تأخر وحضر أربع عشرة مائة من الرجال سيوفهم في قرابها، وأخذ طريقه إلى مكة يريد الحج والعمرة، وأعلن للناس أنه لا يريد حرباً ولا قتالاً بأن جعل السيوف في قرابها، وساق معه الهدي، فلما وصل إلى عسفان إذا به يجد رجلاً مقبلاً من جهة مكة فقال له: ما وراءك؟ قال: إن قريشاً بلغهم مسيرك وخروجك وقد استقبلوك بالعوذ المطافيل يريدون منعك من دخول مكة، ويريدون صدك عن البيت.

والعوذ جمع عائذ، والعائذ: الناقة الحديثة الإنتاج، والمطافيل: ذوات الأطفال والصغار من الإبل خرجوا بها كذلك، حتى إذا طال بهم العهد وناجزوا الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مانعيه من الطواف ومن دخول مكة فإنهم يجدون هذا اللبن زاداً لهم، فلا يحتاجون إلى الرجوع إلى مكة، فعندما قال الرجل هذا الكلام إذا برسول الله عليه الصلاة والسلام يقول لمن معه: (أيكم يغير لنا الطريق فنحيط بهؤلاء قبل وصولي إلى مكة؟) فقال رجل خبير بالطريق: أنا يا رسول الله! فذهب بهم إلى طريق وعرة صعبة ذات حجارة وصخور، لقي الأصحاب منها عناء ومشقة، ولكنهم أحاطوا بأولئك الذين خرجوا مانعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما خرجت كوكبة من الخيل يقودها خالد بن الوليد وكان لا يزال على كفره، وفرقة أخرى يقودها ابن أبي جهل ، وكان هذا في شهر ذي القعدة في العام السادس من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هذا في شهر ذي القعدة، وإذا بهؤلاء العوذ المطافيل وركابها والخيل وقائديها عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد يقال لهم: محمد قد سبقكم إلى داخل مكة بجيش عرمرم، وإذا بهم يسرعون فارين إلى مكة خائفين من الإحاطة بهم والقضاء عليهم، ومناجزتهم وهم قله.

فوصل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية وهي في مداخل الحرم، وعلم من أعلام الحرم ولا يزال فيها إلى الآن علامة بناء يبينها ويظهرها عند مدخل حرم مكة، وإذا بناقته القصواء عليه الصلاة والسلام تبرك، فحاول تحريكها فلم تفعل، فقال الصحابة خلأت الناقة -أي: حرنت- فلم تبرح من مكانها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكنه حبسها حابس الفيل) وصاحب الفيل: هم الحبشة الذين جاءوا في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم لهدم الكعبة، فمنعهم الله وسلط عليهم الطير الأبابيل فجعلتهم كعصف مأكول.

فمنع الله القصواء من الدخول إلى مكة لحكمة هو يعلمها، ثم عاد فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما عرضت علي قريش أمراً فيه احترام المقدسات وتقدير الحرمات إلا وأجبتهم إليه) فقد كان يظن من معه أنهم إذا منعوا من أداء العمرة قاتلوا ودخلوا عنوة، والنبي لا يريد ذلك، وإنما يريد عمرة، ويريد ما نقوله في حكمة عقد صلح الحديبية بعد تمام القصة.

وصل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأمر بالنزول عند شجرة سمر هناك في الحديبية، فقالوا: يا رسول الله! ما هذا لنا بمنزل؛ لا ماء يكفي الناس، وكانت هناك آبار قليلة لا تكاد تكفي أفراداً من الناس، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى بئر منها وأخذ ماءً وتمضمض به ومجه فيه ووضع سهماً، وإذا بالبئر تجيش وتفور وكأنها العين الفوارة.

قيل لـجابر راوي هذه القصة: كم كنتم؟ قال: كنا 1400 رجلاً، وقد كفتنا جميعاً، قالوا: وكيف كفتكم؟ قال: والله لو كنا مائة ألف لكفتنا شرباً وطبخاً ووضوءاً ولكل ما نحتاج له من الماء، وكان ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي رآها كل من معه، وكان عددهم 1400 رجلاً.

لقد بعثت قريش سهيل بن عمرو ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: (قد سهل لكم أمركم) ، ثم اتفقا على قواعد الصلح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب الكتاب، فأملى عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبسم الله الرحمن الرحيم في لغة الإسلام تساوي باسمك اللهم، أي: باسمك يا ألله! أفتتح كتابي، وماذا يضر لو بدّل بسم الله الرحمن الرحيم ببسمك اللهم؟ فتلك كانت معارضة حرفية من قريش لا تدل على فهم ووعي، وكان ذلك من سعة صدر رسول الله عليه الصلاة والسلام وفهمه الأمور كما هي، وكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر علياً بذلك، فامتنع علي ، وهذا فيه أنه التزم الأدب ولم يلتزم الطاعة، وهكذا عند أصحاب الرقائق وأصحاب الآداب إذا اجتمع أدب وطاعة يقدّمون الأدب على الطاعة، ثم محاها رسول الله بيده.

وكون قريش والدنيا كلها لم تعترف بمحمد رسول الله ماذا عسى أن يكون؟ فهو رسول الله حقاً أكد ذلك الله جل جلاله وصدّقه، وأرسل معه ملائكته وعززه بجبريل، وأوحى إليه بالقرآن وسانده وعززه وقواه ونصره على أعدائه، فلا يضيره ولا يضير المسلمين ألا يعترف سفير قريش بأنه رسول الله، وفي مستقبل الأيام سيسلم هذا السفير وسيكون أحد كبار الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله.

قالوا له: من جاءك أرجعته ومن جاءنا لا نرده، أي: من جاء رسول الله فإن الرسول يرده، والمسلم مسلم حيث أسلم في أي بقاع الأرض، وما دام قد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله سواء كان في مكة أو كان في المريخ أو كان في الأرض السابعة فهو مسلم، وسواء اجتمع برسول الله وسمع منه أو لم يسمع.

وهانحن - ولله الحمد - جئنا بعد رسول الله بألف وأربعمائة عام وكوننا لم نجتمع برسول الله ما ضر هذا ديننا ولا إسلامنا ولا اعترافنا، فنحن مسلمون مؤمنون وملتزمون بالشهادتين، ثبتنا الله على ذلك إلى لقائه.

ومن جاء من عند رسول الله لا يردونه؛ لأنه لا يترك الجيش النبوي ويذهب إلى المشركين إلا مرتد، وماذا عسى أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد ارتد؟ فلو عاد إلى المسلمين فإما أن يُجبر على الإسلام أو يُقتل ولا يستفيد المسلمون منه شيئاً.

إذاً: فالمعاهدة كانت ضحكاً على قريش واستهتاراً بهم واستبلاداً لهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد النظر جداً فلم يرد أن يذكر أسرارها، وقد خفيت على أصحابه، فلو كشفها لسمعها أعداؤه وزالت فائدتها ونتيجتها وحكمتها وما يراد منها.

وفي المعاهدة: أن الهدنة بين المسلمين والكفار كانت عشر سنوات، وأنه يدخل مع محمد من شاء من القبائل ومع قريش كذلك، فأفسح المجال في هذه المدة ولم تمض على المعاهدة إلا سنتان حتى غدرت قريش، وكانت الكارثة عليها في هاتين السنتين، فقد انتشر الإسلام فيها انتشاراً عظيماً لم ينتشر قبله منذ بدء الإسلام: منذ اثني عشر عاماً في مكة وست سنوات في المدينة، أي: منذ (18 سنة)، فعدد الذين أسلموا في تلك السنتين كان أكثر من جميع من أسلم خلال السنوات الطوال الماضية.

قال ابن إسحاق : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للعمرة ومعه (1400) رجل، وفي السنة الثامنة بعد أن غدرت قريش بخزاعة التي كانت من أحلاف رسول الله، وكان ذلك منهم غدراً ونكثاً للعهد، دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً بعشرة آلاف مقاتل، ومعظمهم من الذين آمنوا خلال هاتين السنتين من معاهدة الحديبية إلى سنة فتح مكة.

فقد أُفسح المجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله بلا صد ولا معارضة.

وأما العمرة فلم تكن واجبة ولم تكن فريضة، وكون النبي لم يعتمر تلك السنة فقد اعتمر في السنة الثانية، فنشأ عن هذه المعاهدة نصر للمسلمين ولرسول الله معزز مؤزر لم يكن في جميع المعارك التي مضت حتى ولا في غزوة بدر.

والشرط الذي قالوا: من جاء إلى رسول الله فإنه يرجعه، فكان نتيجة ذلك أن انقلب هؤلاء عليهم وقطعوا الطريق عليهم وحاربوهم ورسول الله غير مسئول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم من حيث المعاهدة ما زالوا على عهدة قريش، وقد فروا منهم وليس رسول الله مسئولاً عنهم.

فكانت معاهدة الحديبية أول معاهدة عاهد فيها رسول الله أعداءه، فكشفهم واستصغر عقولهم، وكانوا بلداء في الفهم قصيري النظر في الإدراك، وكان رسول الله أعظمهم فهماً وبياناً.

وقبل سنوات دُعيت إلى القاهرة لإلقاء سلسلة من المحاضرات في الدبلوماسية والسياسة النبوية في حروبه ودولته وجيوشه، فتكلمت عن هذه المعاهدة أياماً طوالاً، وكان يحضرها السفراء والوزراء المفوضون والدبلوماسيون من رتب كبيرة وصغيرة فبُهتوا وفتحوا أفواههم، هل هذا يوجد في المعاهدات النبوية؟ فهم لم يدركوا ذلك، ولن يدركوه؛ لأن الإسلام ما عاد يُدرك في الجامعات ولا المعاهد، ولا في معاهد العسكريين والسياسيين، فقد قطعوا بينهم وبين الإسلام البتة؛ ليسهل عليهم تنقيص الإسلام في صدورهم، وإبعادهم عن دينهم وعن نبيهم، فقد أصبحوا جهلاء في دينهم وتاريخهم، وأصبحوا أكثر جهلاً من أعداء الإسلام يهوداً ونصارى ومنافقين.

هذه المعاهدة وأسرارها لا تنتهي وستبقى المثال العالي لكل سفير مسلم، ولكل وزير مفوض مسلم، ولكل سياسي مسلم.

وفي هذه الأيام العصيبة على المسلمين احتج بهذه المعاهدة بالذات منافقون من أدعياء الإسلام ومن أدعياء العلم واتخذوها حجة في الصلح مع اليهود، وقالوا: رسول الله قد صالح كفار مكة!

فهذا كلام رجل منافق وجاهل ومضلل، وكلام قوم لم يمتوا للإسلام بصلة فضلاً عن العلم، والرد عليهم بما يلي:

أولاً: مكة كانت دار هؤلاء وكان النبي واحداً من قريش، وهو الذي قام من بينهم وجاء بدين جديد عن أمر ربه، فزيّف أصنامهم وآلهتهم ومجتمعهم وحياتهم، وأما الصلح مع إخوان القردة والخنازير في أرض هي أرض المسلمين منذ جاء الإسلام منذ (1400) عام، فتحها واستلم مفاتيحها عمر بن الخطاب والصحب الكرام، وهي للعرب قبل ذلك بقرون، وكون أنبياء بني إسرائيل أقاموا فيها زمناً، وأنبياء بني إسرائيل هم أنبياء الله، فلا صلة لهم بهؤلاء القردة والخنازير، وهم برآء منهم؛ لأنهم كفروا بهم، وقذفوهم، ولأنهم قالوا عنهم الأقاويل.

ثانياً: جاء رسول الله عزيزاً مكرماً وأراد أن يأتي بعمرة فصدوه على أن يأتي مرة ثانية، فأخذ معهم معاهدة كان ذلها ووبالها عليهم، وكانت النتيجة أن أسلم جميع أهل مكة يوم فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه المعاهدة بسنتين، ومن فر عن الإسلام عاد إليهم مغتبطاً مسلماً، حتى لقد أجمع أهل السير أنه لم يبق في قريش كافر ولا منافق.

وأما اليهود الذين احتلوا بيت المقدس فقد كذبوا على الله وافتروا عليه، وقد أتى بهم الاستعمار الحديث فأدخلوهم قهراً للمسلمين، وحرباً عليهم، وتشتيتاً لوحدتهم، وبذر السوء والألغام في أوساطهم، وما يجري اليوم هو أثر ذلك.

ثالثاً: إن اليهود احتلوا أرضاً مسلمة فيها القبلة الأولى، والمسجد الثالث الفاضل في الإسلام، ومليئة بأبناء الصحابة مهاجرين وأنصاراً، والعلماء والأولياء من كل لون في جميع القرون، فتنازل عنها حكام العرب وأعطوها للقردة والخنازير، وذهبوا إليهم وقالوا: قد جئناكم في عقر داركم، فمتى كانت القدس دارهم لتكون عقر دارهم؟ ثم بعد ذلك لم يقف الأمر عند المسالمة بل التحالف، فقد فتحت مصر أرضها للسفارة اليهودية، وهي البلاد ذات العلماء الصالحين وذات التاريخ العظيم في تاريخ الإسلام، وحُرِّف تاريخ الإسلام في مصر وأصبحوا يتحدثون عن فلسطين أنها أرض اليهودية، وأن قومها حرروها، وأن العرب والمسلمين كانوا فيها مستعمرين فكذبوا على الله، وارتدوا عن دين الإسلام، وتهودوا وخرجوا عن الدين الحق، وزيفوا الحقائق واخترعوا الأباطيل وقاموا بالهراء من القول.

وأما احتجاجهم بمعاهدة المدينة المنورة: فلم تكن معاهدة مع يهودها فقط، بل كانت مع جميع ساكنيها من الأوس والخزرج واليهود ومن إلى ذلك، فكان هؤلاء أبناء البلد، وكانوا عرباً وليسوا طارئين ولم يكونوا أجانب عن ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي هاجر إلى المدينة وهو الذي جعلها دار نبوته ودار رسالته ودار دولته، وغدر اليهود فلم يحالفهم، ولم يرفع رايتهم في داخل البلاد، ولم يلفظ باسمهم، ولم يفتح لهم الأبواب، ولم يسلم المسلمين إليهم.

فالتجاوز في الصلح والسلام قد يكون ردة إلى اليهودية وإلى اللعنة وإلى غضب الله.

فالمعاهدة كانت نصراً مبيناً وفتحاً عظيماً، وقد كان عمر رضي الله عنه الذي عارض بعض بنود الصلح عن عدم فهم يقول: لا زلت طوال أيامي أستغفر الله، وأتوب إليه، وأتصدق من مالي، وأُعتق من رقابي؛ لعل الله يغفر لي ذلك الموقف الذي فعلته عند المعاهدة، وهذا نتيجة عدم فهمي وعدم إدراكي وعدم وعيي.

لقد كانت المعاهدة نصراً للإسلام عزيزاً مؤزراً؛ ومن هنا كان نزول قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] أي: إنا قضينا قضيتك، وجعلناها فتحاً مبيناً لك، فتحت لك بها القلوب والأمصار، وتمت نعمة الله عليك، وكان فتح مكة قبل صلح الحديبية بعامين.

قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2].

أي: ليغفر الله لنبيه ما صدر عنه من خلاف الأولى مما عوتب عليه في شأن عبد الله بن أم مكتوم ، وفي شأن أخذ الفداء من أسرى بدر، وما يشبه ذلك.

وهذا لم يكن لأحد ممن مضى لا الأنبياء والرسل ولا غيرهم من الخلق، وكل ما ورد في أن الله يغفر من الذنوب ما مضى منها وما هو آت لم يصح بذلك حديث.

فمعنى قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] أي: من ذنب أبويك آدم وحواء، ومن ذنب المذنبين من أمتك.

قال الله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:2] أي: ليكون ذلك تمام نعمة الإسلام والنبوة والرسالة والأحكام والدولة، فقد أتم الله على نبيه ما أرسل من أجله، وما دعا الخلق إليه، ففرضت جمع الأركان، وتم النصر المبين، وخضعت مكة والجزيرة، ورُعبت الروم وفارس، ونصر الله نبيه مسيرة شهرين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وسحق أعداءه، ونشر دينه، ونصر الأنصار والمهاجرين وجعلهم سادة الأرض وأئمتها، وأتم الله عليه نعمته، وأتم عليه رسالته بتحقيق أحكامها وأهدافها وغاياتها، وما يتعلق بالنعمة في دار الدنيا وفي الآخرة.

قال الله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2] أي: ويزيد الله هدايتك للطريق المستقيم فيما يشرّعه لك من أحكام مدنية وعسكرية وعبادات ومعاملات داخل دولتك وأمتك، وخارجهما مع أعدائك ومع الناصبين لك العداء.

قال الله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3].

نصر الله بمعاهدة صلح الحديبية نبيه والمسلمين، نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3] أي: نصراً عظيماً لا يُنال مثله ولا يوصل لمثله، فكان العز والنصر والتأييد في ركاب رسول الله والمؤمنين من أصحابه، فقال الأصحاب: هنيئاً لك مريئاً يا رسول الله نزول هذه الآية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، هذا لك، فما أعد الله لنا؟ قال: أعد لكم: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح:5] ، فكذلك المؤمنون أكرمهم الله بدخول الجنان، وبتكفير السيئات، وبالفوز العظيم عند الله في الدنيا والآخرة، فالله أكرم الأكرمين، ومن هنا كانت بشارة المصطفى لأصحابه بأن بشر جميع أهل شجرة الرضوان بالجنة، وقال لهم: أنتم أفضل أهل الأرض ممن على وجه الأرض إذ ذاك، فهم من باب أولى أفضل ممن سيأتي بعدهم.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الفتح [4-9] 2064 استماع
تفسير سورة الفتح [15-16] 1875 استماع
تفسير سورة الفتح [21-25] 1808 استماع
تفسير سورة الفتح [17-20] 1664 استماع
تفسير سورة الفتح [10-15] 1659 استماع
تفسير سورة الفتح [27-29] 1042 استماع