خطب ومحاضرات
سلسلة مقتطفات من السيرة [3]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
تحدثنا في الحلقة السابقة وقلنا: لم اختار الله سبحانه بفضله العرب ليبعث فيهم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم؟ وذكرنا أنهم لم يتصفوا بصفات شاعت بين الفرس وبين الروم، وإنما هم أناس أميون بسطاء فيهم أخلاق طيبة؛ لأنه لو كان العرب متعلمين مثل الفرس أو مثل الروم، لادعى مدع وقال: هذا تطور علمي، لكن جاء هذا الرسول بهذا الدين في أمة أمية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] ومعجزته أيضاً أنه كان أمياً صلى الله عليه وسلم، لكنه الأمي الذي علمه الله، فما بالك بإنسان علمه رب العباد سبحانه!
فالسيرة النبوية العطرة لها فوائد جمة كثيرة.
أول فائدة: أننا نعيش في رحاب رسول الله، نعيش معه في بيته، وفي حربه، وفي غزواته، وفي سماحته، وفي حلمه، وفي خلقه، وفي غضبه، وهو فقير، وهو غني، نعيش معه وهو أب، وهو زوج، وهو عارف، وهو متعلم، يجلس أمام جبريل ليتعلم منه ليعلمنا كيف التواضع صلى الله عليه وسلم.
والله عز وجل قد وصفه بأجل وصف وأعظم وصف: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وكفى بها كلمة، ليس بعد كلام الله كلام، عندما يقول الله عز وجل عن شخص: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فليس لأحد أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الفائدة الأولى: أن نقترب ممن نسير خلفه.
الفائدة الثانية: المشاكل التي تواجهنا في الحياة:
والحياة صارت لنا كلها مشاكل لسبب واحد ألا وهو: بعدنا عن الله عز وجل، وبافترائنا على أنفسنا أو على غيرنا، وأننا على صواب والباقي على خطأ، وهذه كارثة، كل واحد منا واضع في ذهنه أنه على الصواب، بدليل أن إخواننا الذين يجلسون على المقاهي وفي النوادي يعتبرون أصحاب المساجد ومرتاديها خائبين، مع أن البعيد عن رحمة الله هو الخائب الحقيقي، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] اللهم اجعلنا منهم يا رب.
إذاً: المؤمن الذي عرف طريق الله هو المفلح، فعندما يفتري عليك مفتر فاعلم أن هذه سنة الله في الخلق، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] يعني: المجرم يضحك من المؤمن: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ .
فإذاً: لا تحزن؛ فهذه سنة الله في الأرض، بل لا يوجد أحد عانى من الكفار والفجار والمنافقين واليهود أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنا فيه العبرة ولنا فيه الأسوة.
الفائدة الثالثة: كيف تصبر على زوجتك في البيت؛ لأن امرأتك مادامت على الطريق فاسأل الله السلامة، وإذا لم تكن امرأتك على الطريق فاعلم أنك تزوجت حريقاً مشتعلاً ليل نهار، واسأل الله أن يهديها. قال فيها عمر بن الخطاب : إن أحسنت لم تشكرك، وإن أسأت لم تغفر لك إساءتك.
وكان سيدنا عمر يستعيذ من زوجة ومن جار، إن رأى الواحد منهم حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها.
والحسن البصري عندما لقيه جاره وقال له: إن فلاناً يقول عنك كذا وكذا، يعني: خبراً ليس بجيد؛ فقال له الحسن : ألم يجد الشيطان أحداً غيرك لينقل لي ما يقول فلان؟
وإذا عرفت زوجتك دروس العلم وعرفت حقوق الزوج فتلك نعمة يجب أن تحمد الله عليها، فمن عنده زوجة صالحة إن نظر إليها سرته، تتعامل معه برفق ولين، وجاء في الحديث: (إذا أراد الله ببيت أو بأهل بيت خيراً رزقهم الرفق واللين).
فمعرفة السيرة مهمة، فبدراستها تعرف كيف تتعامل مع أهلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج)، ولا يعني ذلك أن المرأة عوجاء، بل تكوينها هكذا؛ لأن الضلع لو عدلته ينكسر؛ لأن الله خلقه هكذا، فكيف تعاملها؟ قال: عاملها على عوجها، فالمرأة تكون عصبية في بعض الأيام، وخاصة في أيام الدورة تكون حالتها سيئة للغاية، فتركيبتها تتغير، ولا تتحمل، فالمسلم يجب أن يراعي حال زوجته، ويصبر عليها، وإذا دخل بيته سلم على زوجته وصافحها برفق وحنان من قلبه.
فإذا أحب الله بيتاً أدخل عليهم الرفق واللين، إذا مررت بجانبه لا تسمع فيه صوتاً، فتقول: هذا بيت فلان ألا يوجد به أولاد؟ يقال لك: بلى إن عنده خمسة أولاد، ولكن لا يوجد صوت؛ لأن الأب متصل بالله والأم متصلة بالله، والله رزقهم السكن والمودة والرحمة والرفق واللين فلا تسمع لهم صوتاً، وجاره لا يوجد معه إلا ولد، فتسمع المرأة تصيح والرجل يصيح، والولد يكسر ويفسد، والجيران وجيران الجيران يسمعون هذا، فهل هذا البيت فيه المودة والرحمة؟!
أيضاً: من فوائد دراسة السيرة: أنها تعلمنا كيف كان يتعامل صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، وكيف كان الصحابة مع زوجاتهم، كيف كان أبو ذر مع زوجته، وكيف كان عبد الله بن رواحة مع امرأته، وكيف كان عبد الله بن مسعود مع امرأته زينب ، كيف كان يعامل هؤلاء أزواجهم؟ هؤلاء تلاميذ الحبيب عليه الصلاة والسلام.
كذلك من فوائد دراسة السيرة: أننا نعيش في شظف العيش وغلاء المعيشة وكثرة البلايا والابتلاءات وأصبحت الصدور ضيقة، فما أن يتحدث متحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وينشرح الصدر.
نتحدث الآن عن مولده صلى الله عليه وسلم، فهل يا ترى حملت به أمه حملاً عادياً؟ مهما يبحث الإنسان في قاموس الكلمات يعجز، والعجز عن الإدراك إدراك، كما قال فيه الشاعر:
فمثلك قبل لم تر قط عيني ومثلك قبل لم تلد النساء
فهو شخص بسببه تغير الكون كله، ولو اهتدى الكون كله والناس أجمعون إلى تعاليم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لانحلت مشاكل الساعة كلها، لكن القضية إما ضعيف يحب الرسول أو قوي لا يحب الرسول، فالضعيف الذي يحب الرسول لا يؤدي مهمة، والقوي الذي لا يحب الرسول كذلك لا يؤدي مهمة، نحن نريد قوياً يحب الرسول، نريد أمة قوية تحب رسول الله ولا تنافق، لكن من ينظر إلى زعامات الأمة يجد أن مصلحة الأمريكان التقت مع مصلحتهم، ونحن نقول: إن مصلحة اليهودي والمسيحي والكافر لا تلتقي مع مصلحة المسلم، أنا أقول: لا إله إلا الله، وهو يقول: إن عيسى هو الله وابن الله، فكيف تلتقي مصالحنا؟! هو يريد أن يتوسع ويسيطر على مصادر الثروات، وأنا أريد أن أعيش في أمان وفي سلام، وأريد أن أنشر المحبة في العالم.
إذاً: لا تلتقي مصالحنا مع مصالحهم أبداً.. أبداً.
وكما قيل: الحق صديقي وأستاذي صديقي، فإذا اختلف الحق مع أستاذي أمشي وراء الحق، ولذلك قال أبو حنيفة : مذهبي هو الحديث الصحيح، فإن رأيتم مذهبي يخالف الحديث الصحيح فدعوا مذهبي واعملوا بالحديث الصحيح.
يعني: الذي بيننا وبين أي عالم الكتاب والسنة، والجدال لا يستحب إلا بين عالم وعالم، والجدال يكون بالكتاب والسنة: إذا كانت الآية تقول كذا فسمعاً وطاعة يا رب، والآيات التي تتكلم عن ولاية المسلم لغير المسلم لا تحتاج إلى تفسير ولا تأويل، واقرأ إن شئت في البقرة وفي آل عمران وفي المائدة، وكل سور القرآن تتحدث بوضوح عن هذا الأمر، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].
مكان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم
واكتشف العلماء بالقمر الصناعي من فوق الأرض أن الكرة الأرضية البيضاوية مركزها الكعبة المشرفة.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر التفت إلى مكة وقال: (يا مكة تعلمين أنك والله أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت أبداً).
عاش فيها ثلاثاً وخمسين سنة، أربعين قبل البعثة وثلاث عشرة سنة بعد البعثة، واضطر صلى الله عليه وسلم أن يخرج منها مهاجراً إلى يثرب، وبعدما فتح مكة ظن الصحابة أنه سوف يمكث فيها، ولكن قال: (عودوا إلى المدينة؛ لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية) وعاد بالصحابة إلى المدينة، حتى عمه العباس بن عبد المطلب عاد أيضاً معه رضوان الله عليه إلى المدينة.
زمن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل: إن هذا الهاتف كان يأتي لكل أم أنجبت نبياً.
إذاً: ألا تفرح المرأة بالحمل؟!
كذلك من فوائد دراسة السيرة: أن أمهات الصحابة وزوجاتهم في بيت واحد، سيقال: وهل يعقل أن امرأة تعيش مع أم زوجها وتصبر؟ هناك من النساء إلى يومنا هذا تعيش مع أم زوجها وتصبر، ونسأل الله أن يبارك في النساء الصالحات؛ لأنها تعرف أن إكرامها لأم زوجها إكرام لزوجها، والزوج عندما ينظر أن امرأته تكرم أمه سيكرمها.
فأتمنى من الزوجات الأخوات اللاتي يصلين عندنا دائماً بفضل الله ألا أسمع عنهن إلا كل خير، فأنا أريدهن أن يكن عنواناً للزوجة الصالحة؛ لأنهن إذا لم يكن عنواناً صالحاً، فمن سيكون؟!
ذكر الأشخاص الذين لهم تعلق بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم
وعندما ولد صلى الله عليه وسلم وجدوا الحبل السري مقطوعاً، ووجدوه مختوناً، فقد نزل مطهراً مكتملاً؛ حتى لا يرى سوأته أحد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف كانت قابلته، يعني: تلقته بيديها، هنيئاً لك يا شفاء يا أم عبد الرحمن فقد كان أول ما استهل على يديها، والشفاء اسمها جميل؛ لأنها تلقت الشفاء، وأضيئت الحجرة عند ولادته إلى درجة أن الشفاء أغمضت عينيها من شدة الضوء، ونزل صلى الله عليه وسلم على يديه ورجليه رافعاً رأسه إلى السماء، وتقول الشفاء : سمعت قائلاً يقول: يرحمك الله. فهو نزل بالرحمة وهو رحمة.
وجاء عبد المطلب وحضنه، وأخذه وطاف به حول البيت سبعاً، فقيل له: ما أسميته يا عبد المطلب ؟ قال: سميته محمداً، فقيل له: ما هذا الاسم الغريب يا عبد المطلب ؟ قال: لكي يحمده الله في السماء ويحمده الناس في الأرض.
فهو محمد في السماء ومحمود في الأرض، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا محمد وأحمد؛ والماحي الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس بين يديه، والعاقب فلا نبي بعدي) صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي التي رأتها) فهو دعوة إبراهيم عندما قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129].
وبشرى عيسى عندما قال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].
ورؤيا أمه، فقد رأت أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام.
لقد بحث العلماء في النسب الشريف من ناحية أبيه وجده وجد جده إلى عدنان الجد الأعلى، إلى سيدنا إبراهيم، ومن ناحية أمه آمنة بنت وهب فوجدوا أنها تلتقي مع عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم في جدهم كلاب الذي هو والد قصي بن كلاب بن مرة فـكلاب هذا هو الجد الأعلى لـآمنة وعبد الله ، وأم السيدة آمنة من بني زهرة، وأم عبد المطلب من بني مخزوم، وأم كعب جده الأعلى من خزاعة، فهو من خير بطون العرب من جميع الاتجاهات.
والسيدة آمنة أرضعته ثلاثة أيام، وثويبة مولاة أبي لهب التي أعتقها أبو لهب فرحاً بابن أخيه يوم الإثنين، فلما أعتقها خفف الله عنه الحساب كل يوم إثنين في النار؛ إكراماً لفرحته بمقدم رسول الله، فكيف بالذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم محبة ليس لها نظير؟
قال سيدنا الشافعي : يا رب قلت لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] لمن قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فماذا تصنع بمن قال: سبحان ربي الأعلى.
وجاء شخص إلى هارون الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك وأنصحك وأغلظ عليك في النصيحة، فقال له هارون الرشيد : لا تفعل، فقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شر مني، فقال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] فكيف تغلظ علي في النصيحة؟!
وأوقف رجل عبد الملك بن مروان وهو يمشي بالموكب، فقال له الحرس: ابتعد يا رجل، فقال له: يا أمير المؤمنين إن نملة استوقفت سليمان فكلمته فكلمها، وتبسم ضاحكاً من قولها، ولست أنت عند الله أعظم من سليمان، ولست أنا عند الله أحقر من النملة.
انظروا إلى طريقة ترتيب الكلام، وتعلمون قصة الأعرابي الذي كان لا يعرف في القرآن شيئاً، لكنه لما صلى وراء الإمام وقرأ الإمام الآية وأخطأ في نهايتها، قرأ قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، فقال الإمام: والله غفور رحيم، فالأعرابي الذي لا يحفظ القرآن، قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38] فالإمام تذكر وأكمل الآيات بعد ذلك، فبعد ذلك قال الإمام: من رد عليّ جزاه الله خيراً، قال له الأعرابي: أنا، قال له: بارك الله فيك، أتحفظ القرآن؟ قال له: لا، قال: أتحفظ هذه السورة؟ قال: لا، قال: أتحفظ هذه الآية؟ قال له: هذه أول مرة أسمعها، قال: فكيف عرفت؟ قال: يتحدث الله عن السارق والسارقة ويتحدث عن الحد وقطع اليد، ولو كان الله عز وجل غفوراً رحيماً في هذه المسألة بالذات لما حكم على السارق والسارقة بقطع اليد، لكنه لما عز في عليائه حكم على السارق بقطع اليد، فتكون نهاية الآية: عَزِيزٌ حَكِيمٌ وليس غفوراً رحيماً؛ فالأعرابي يفهم اللغة بالسليقة.
يقول الجاحظ : دخلت على معلم فوجدته يعلم طفلاً: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ [لقمان:13]، قال: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ [يوسف:5]، فقلت له: لقد أدخلت آية في آية، ما الذي جاء بيوسف إلى لقمان؟ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، والشيخ يقول له: لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ [يوسف:5] أدخل يوسف في لقمان، فقال الشيخ: إن أباه يدخل شهراً في شهر ولا يدفع الأجرة، وأنت تعيب علي إدخال سورة في سورة؟!
فإذاً: ثويبة أرضعته بعدما أرضعته أمه ثلاثة أيام ويقال: خمسة أيام، فـثويبة أرضعته إلى أن جاءت حليمة ، وأم أيمن من اليُمْن وهي التي حضنته، وكان عمرها ثمانين سنة، وكانت لا تترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج في غزوة من الغزوات إلا وخرجت معه، فكانت إذا رأت بعض الصحابة تزحزحوا قليلاً إلى الوراء، قالت: اسبتوا سبت الله أقدامكم -بالسين- كانت لا تخرج لسانها؛ لأنها كانت أعجمية لم تكن عربية، فيقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا
وبعد ذلك جاءت حليمة السعدية وأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضعته، وأرضعت معه الحمزة عمه، وأبا سلمة المخزومي ابن عمته.
فالسيدة حليمة عندما أتت مع غيرها أخذت كل واحدة منهن ولداً وتركن اليتيم صلى الله عليه وسلم، وبقيت حليمة لم تجد ولداً لترضعه فقالت لزوجها: ما رأيك أن نأخذ هذا اليتيم، ربما يجعل لنا فيه خير، بدل أن نرجع بدون ولد، فأخذت الرضيع وما أحسن حظ حليمة فمجرد أن وضعته على الأتان، فإذا بها تسرع وتسبق الدواب، وقد كانت قبل ذلك ضعيفة؛ لأن البركة بدأت، وإذا بظلة مظللة لها ورضيعها وهم في عز الظهيرة، فقالوا: إن هذا الأمر ليس أمراً عادياً، وهم عائدون كانت أرضهم جدباء، ولم يصبحوا الصبح إلا والمطر ينزل والعشب ينبت، وكانت غنم حليمة هزيلة لا يوجد في ضرعها ولا نقطة لبن، وإذا بغنم حليمة مليئة باللبن، ثم بعد ذلك هذا الطفل اليتيم لا يبكي كما يبكي الأطفال، إنه ليس طفلاً عادياً، بل كلما نظرت إليه السيدة حليمة تجده باسماً.
فالسيدة حليمة تلحظ الخير كله في وجود هذا الطفل الهاشمي، أكمل ثلاث سنوات عندها، فجاء أخو سيدنا الحبيب من الرضاعة الذي هو ابن السيدة حليمة وقال: يا أماه جاء رجلان فأخذا محمداً فأضجعاه تحت الشجرة وشقا صدره وأخرجا منه شيئاً وغسلاه بشيء كان في الطست، ثم غادراه بعد أن أغلقا صدره وهو ممتقع اللون تحت الشجرة، فالسيدة حليمة خافت عليه فقامت بإرجاعه إلى أهله، فهذه هي حادثة شق الصدر، قال الله عز وجل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1].
قد يقول قائل: ماذا أخرج منه جبريل؟ لقد أخرج منه الحقد والحسد وحب الدنيا وملأه بالحكمة والإيمان، وكان من الممكن أن الله عز وجل يشرح صدره من غير شق، لكن فُعل به ذلك؛ ليُعلم أنه ليس مخلوقاً عادياً، وليس هذا فحسب، بل كان بين كتفيه خاتم النبوة، وخاتم النبوة كحبة الخردل أو كالدينار، وهو دائرة مكتوب فيها بنفس لون جلد الحبيب صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
فخافت السيدة حليمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعته لأمه؛ لأن هذه أمانة، وهو من خير أبناء قريش، فلقد ورث كما يرث أي إنسان، وكل إنسان يرث ثلاثة أنواع من الوراثة: وراثة خَلقية، ووراثة خُلقية، ووراثة عامة أو خاصة، أما الوراثة الخلقية كأن يخرج الولد شبيهاً بأبيه، وتخرج البنت شبيهة بأمها، أو يخرج الولد فيشبه الأم في عينيه ويشبه الأب في شعره، وهذه تسمى الوراثة النسبية.
وهناك وراثة خُلقية، كأن يرث الولد عن أبيه الكرم، أو يرث عن أبيه الفداء والتضحية والجهاد، أو يرث عن أبيه البخل، والعياذ بالله، أو يرث عن أبيه حب الخير، أو يرث عن أبيه الكلمات الطيبة.
ويحكى أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يمزح أحياناً، فدخل عليه رجل فقال له عمر : ما اسمك يا رجل؟! قال: اسمي بحر ، قال: ابن من؟ قال: ابن صياد ، قال: وما كنيتك؟ قال: أبو الندى ، قال: لا أستطيع أن أصل إليك إلا بزورق.
ودخل ذات مرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد رجلاً ينقر الصلاة، وأخذ يقول وهو رافع يديه: اللهم ارزقني من الحور العين، فأمسك سيدنا عمر رضي الله عنه بيده، وقال له: أقللت المهر وأغليت العروس، يعني: أين المهر الذي سوف تأخذ به الحور العين هذه؟!
ولذلك فإن المسلم يكون طيباً بشوشاً متبسماً فيه شيء من الدعابة، ولكنه لا ينخرط مع السفهاء والجاهلين، قال الله عن عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
وهناك وراثة عامة أو خاصة، كأن يقال لك: أهل هذه البلدة بخلاء، وأهل مصر عاطفيون، فهناك صفات عامة تستطيع أن تجمع تحتها أمماً بأسرها، يعني: قولك: هذا عربي يدل على الكرم.
ويحكى أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور ابتعد عن حاشيته، ودخل عند أعرابي، فقال له: اسقني أيها الأعرابي! فذهب الأعرابي وأتى له بالماء فشرب أبو جعفر المنصور وقال له: أتعرف من أنا؟ قال له: من أنت؟ قال له: أنا خادم عند وزير أمير المؤمنين، فقال الأعرابي: مرحباً بك، اجلس، وذهب وأتى له بماء بارد من القربة التي بالداخل، فشرب منها ثم قال له: أتدري من أنا؟ قال له: ألم تقل: إنك خادم عند وزير أمير المؤمنين، قال له: لا، أنا وزير أمير المؤمنين، فذهب وأعطاه قليلاً من اللبن، فشرب اللبن ثم قال له: أتدري من أنا؟ قال له: قلت: إنك خادم وزير أمير المؤمنين فأكرمناك، ثم قلت: إنك وزير أمير المؤمنين فرحبنا بك وأكرمناك، فقال له: أنا أمير المؤمنين، فذهب الأعرابي وأتى بالقربة كلها وقال: خذ لكي لا تدعي أنك رسول الله، وبينما هو كذلك إذ وجد حاشيته؛ وعرف الأعرابي أنه أمير المؤمنين، فارتاع مما حدث، فقال له أبو جعفر المنصور : لا عليك! وكان هؤلاء الخلفاء فيهم الأدب والتواضع وحسن الإمرة، اللهم ارزقنا حكاماً صالحين، وأبعد عنهم قرناء السوء ورفقة السوء وبطانة السوء يا أكرم الأكرمين!
إذاً: هذه وراثة عامة، أما الوراثة الخاصة: فهو أن يرث الولد الصفات الطيبة من الأب ومن الأم، ويرثها من البيئة الضيقة التي أحاطت به.
مكان ميلاد رسول الله مكة، ومكة أشرف الأماكن على وجه الأرض؛ ففيها الكعبة، والكعبة تحت البيت المعمور، ولو وقع حجر من البيت المعمور لسقط على سقف الكعبة، والبيت المعمور تطوف حوله الملائكة، ورآه الحبيب ليلة المعراج، وأخبر أنه يدخل فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يسبحون بحمد ربهم لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة، وأبونا آدم قبل أن ينزل إلى الأرض كان يطوف حول البيت المعمور ويسبح مثل الملائكة، فلما أهبط إلى الأرض، قال: يا رب اجعل لي مكاناً في الأرض كالبيت المعمور أطوف حوله مسبحاً بحمدك، فدلته الملائكة على مكان الكعبة.
واكتشف العلماء بالقمر الصناعي من فوق الأرض أن الكرة الأرضية البيضاوية مركزها الكعبة المشرفة.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر التفت إلى مكة وقال: (يا مكة تعلمين أنك والله أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت أبداً).
عاش فيها ثلاثاً وخمسين سنة، أربعين قبل البعثة وثلاث عشرة سنة بعد البعثة، واضطر صلى الله عليه وسلم أن يخرج منها مهاجراً إلى يثرب، وبعدما فتح مكة ظن الصحابة أنه سوف يمكث فيها، ولكن قال: (عودوا إلى المدينة؛ لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية) وعاد بالصحابة إلى المدينة، حتى عمه العباس بن عبد المطلب عاد أيضاً معه رضوان الله عليه إلى المدينة.
أما زمن ولادته صلى الله عليه وسلم فقد كان في ربيع الأول، شهر من شهور الله المكرمة عند الله عز وجل، قبل فجر يوم الثاني عشر من ربيع الأول لم تشعر آمنة بآلام الطلق، وهي أيضاً أثناء الحمل لم تشعر بآلامه، أيعقل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ثقيلاً على أحد وأولهم أمه؟ وبعد ذلك قبل أن تضع بأيام سمعت هاتفاً وهي يقظة يقول: لقد حملت بخير خلق الله.
وقيل: إن هذا الهاتف كان يأتي لكل أم أنجبت نبياً.
إذاً: ألا تفرح المرأة بالحمل؟!
كذلك من فوائد دراسة السيرة: أن أمهات الصحابة وزوجاتهم في بيت واحد، سيقال: وهل يعقل أن امرأة تعيش مع أم زوجها وتصبر؟ هناك من النساء إلى يومنا هذا تعيش مع أم زوجها وتصبر، ونسأل الله أن يبارك في النساء الصالحات؛ لأنها تعرف أن إكرامها لأم زوجها إكرام لزوجها، والزوج عندما ينظر أن امرأته تكرم أمه سيكرمها.
فأتمنى من الزوجات الأخوات اللاتي يصلين عندنا دائماً بفضل الله ألا أسمع عنهن إلا كل خير، فأنا أريدهن أن يكن عنواناً للزوجة الصالحة؛ لأنهن إذا لم يكن عنواناً صالحاً، فمن سيكون؟!
استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة مقتطفات من السيرة [15] | 2692 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [23] | 2533 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [16] | 2144 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [12] | 2126 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [8] | 2057 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [17] | 2053 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [19] | 2035 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [18] | 2014 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [24] | 1981 استماع |
سلسلة مقتطفات من السيرة [11] | 1946 استماع |