شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

ففي الفصل الذي سنقرؤه الآن وقفة من شيخ الإسلام ابن تيمية جيدة، تزيل اللبس عند بعض الذين التبست عليهم بعض ألفاظ ومصطلحات السلف، التي تشبه ألفاظ ومصطلحات أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من الفلاسفة والزنادقة، والتي تشبه أيضاً مصطلحات الصوفية، وذلك فيما أثر عن بعض السلف وعن بعض العباد وعن بعض الصالحين، وإن لم يكونوا على نهج سليم مرضي من كل وجه، لكنهم ليسوا من أهل البدع المغلظة ولا الانحرافات الكبرى، وهؤلاء أثر عنهم عبارات ومصطلحات استعملوها على وجه قد يسوغ شرعاً مع التكلف، وهي تشبه مصطلحات الملاحدة والزنادقة وغلاة الصوفية، ومن ذلك ما يتعلق بمعنى الحلول ومعنى الاتحاد ومعنى الكشف.. ونحو ذلك من المعاني، التي قد تستعمل في التعبيرات عن الأحوال القلبية السليمة، وهي تشبه ألفاظ أولئك المبطلين الذين استعملوها على وجه أرادوا به الكفر والزندقة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

[ فصل.

فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل، وهو حق، وإن سمي حلولاً أو اتحاداً ].

يعني: أنه قد يرد عن بعض السلف استعمال بعض هذه العبارات على مصطلحات شرعية، لكن هذه حالات نادرة، وليست هي النهج السليم، لكن الذين أطلقوها لكلامهم تأول قد نعذرهم، لكنا لا نسلك هذا الطريق؛ لأن استعمال بعض المصطلحات الشرعية بما يشبه المصطلحات البدعية هذا طريق لا يجوز، لكن إن حدث من بعض الصالحين على وجه يريد به حقاً، فإنا نقبل هذا الحق بغير لفظه.

قال رحمه الله تعالى: [ وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف؛ بدلالة الكتاب والسنة.

أما الحلول ].

الآن سيبدأ بنماذج للألفاظ التي قد تستعمل أحياناً على وجه مخالف، فكلمة الحلول بعدما اشتهرت إذا أطلقت فأول ما يتبادر إلى الذهن إلى الحلول البدعي، وهذا هو الأصل، لكن مع ذلك فإنه قد تطلق الحلول على المعنى الجائز كما سيأتي بيانه.

مستقر الإيمان في القلب

قال رحمه الله تعالى: [ أما الحلول فلا ريب أن من علم شيئاً فلا بد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول؛ فإن المستعلي إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول؛ بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان ].

لا يزال يبدو لي أن الكلام فيه غموض، لكن سيشرحه الشيخ بعد كلام طويل قد ينفصل المعنى في ذهن القارئ.

فالشاهد أن الشيخ ذكر أن الحلول أحياناً يستعمل استعمالاً بعيداً، بمعنى حلول المعاني الشرعية في قلب المسلم، وحلول الأحوال القلبية في قلب المسلم، حلول العلم، اليقين، الصدق، والتصورات التي تنتج عن العلم.. هذه أمور يقال: إنها حلت في قلب المسلم، لكن ليس معنى هذا أننا نقر كلمة حلول على إطلاقها، إنما نقول: إذا قصد بالحلول هذا المعنى، فهو وإن كان معنى غير مستعمل فإنه يرجع إلى قصد القائل، وبعض السلف قد يستعمل هذه المعاني بمعنى حلول الأحوال القلبية في القلب، حلول الإيمان، حلول اليقين، حلول الصدق.. ونحو ذلك، فهذا قد يسمى حلولاً من باب التجوز، أو يستعمله بعض السلف على هذا المعنى لا على المعنى البدعي الذي هو الحلول الإلهي، أو حلول الرب في خلقه تعالى الله عما يزعمون.

قال رحمه الله تعالى: [ فإذا ذكره بلسانه كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه كان ذلك أعظم وأعظم ].

يتبين هذا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح، قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).. إلى آخر هذه المعاني، فهذا قد يعبر عنه بعض السلف بأنه حلول، لكن ليس حلول الله، وإنما حلول توفيق الله عز وجل للعبد، بمعنى أنه يحل الإيمان واليقين الذي ينتج عنه العون من الله عز وجل والحفظ والرعاية والتوفيق من الله لعبده إذا تقرب بالنوافل، على هذا النحو الذي ذكره في الحديث القدسي، فهذا قد يعبر عنه بأنه حلول التوفيق؛ حلول الأحوال القلبية التي يمتلئ بها القلب باليقين بالله عز وجل، والإنسان إذا امتلأ قلبه باليقين بالله، وامتلأ قلبه بالإنابة والاعتماد والتوكل على الله كان ذلك بمثابة أن الله عز وجل يسدده التسديد الكامل، ويوفقه إلى كل خير، فهذا ليس حلولاً ذاتياً، ولا حلول الروح بالروح، ومع ذلك فإنا نقول: إن تسمية هذا النوع من التوفيق من الله عز وجل لعبده حلول لا تجوز، بعد وجود استعمال هذه الكلمة على معنى باطل، لوجود اللبس، إنما قد يطلقها بعض السلف ويقصد المعنى الصحيح، فمن هنا ندافع عن هذا الرجل وندفع استدلال أهل الباطل بقوله أو كلامه بأنه أراد المعنى الحق ولم يرد المعنى الباطل.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرك ومدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة كعبادة الله وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة كمحب الإخوان والولدان والنسوان والأوطان.. وغير ذلك من الأكوان.

فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلا بد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله.

والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحاً ].

ورود المعاني من العلم والتصديق واليقين والإيمان، ثم ما ينتج عن هذه المعاني من الأحوال القلبية الأخرى، هذا يسمى حلولاً بالمعنى اللغوي، أي: أن هذه المعاني حلت في القلب ونتج عنها العمل، هذه تسمية لغوية لا ينبغي أن تختلط بالحلول البدعي الذي يقصده أهل الأهواء، مثل ما يسمونه: حلول النور الموروث، أو ما يسمونه: حلول الروح، وأعظم من ذلك وأشنع: الحلول الكفري الذي هو حلول الرب بذاته في المخلوقات.. أو نحو ذلك مما قالوا، تعالى الله عما يزعمون.

قال رحمه الله تعالى: [ قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم، ولهذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له.. ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعاً؛ علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضاً، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه وإنما الغرض.

فصل: وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته ].

المقصود حلول هذه المؤثرات التي تدخل على القلب من العلم واليقين والتصديق والإنابة والتوكل.. ونحو ذلك من الأمور التي تحرك القلب، والمحبة والخوف والرجاء، كل هذه تحل في القلب، ولا شك أنها واردات على القلب، وقد لا ترد على جميع القلوب وإنما ترد إلا على قلوب من هداهم الله عز وجل، ثم إن حلولها في القلوب يتفاوت ما بين إنسان وآخر، حسب توفيق الله عز وجل للعبد، فمن الناس من ترد عليه هذه الواردات حتى تملأ قلبه باليقين والإيمان، وتملأ قلبه بالإنابة إلى الله عز وجل.. وغير ذلك من المعاني القلبية؛ فينتج عنها العمل الصالح الكثير، ومن الناس من يضعف حلول هذه الأشياء في قلبه فتضعف آثارها، إنما القصد أن هذه المعاني التي ترد إلى القلب ورودها يسمى حلولاً من حيث الدلالة اللغوية، لكن ليس هو الحلول البدعي مما يزعمونه كحلول علم الغيب أو العلم اللدني، أو حلول النور، أو حلول يقصدون به أن الإنسان يرد إليه ما يرد إلى الأنبياء، ويرد إليه ما لا يكون إلا من خصائص الرب عز وجل، مثل: علم الغيب، فهذا باطل، أو الحلول الشركي، وهو حلول المدعين بأن الله عز وجل يحل في خلقه، أو في بعض الخلق، أو الخلق يحل في الله أو بعض الخلق يحل في الله.. إلى آخره ما يقسمونه من أقسام كلها ترجع إلى الكفر الصريح والإلحاد، فهذا كله غير مقصود.

فإذاً: ورود هذه الواردات على القلب هو نوع من الحلول، فقد يعبر عنه بعض الصالحين بأنه حلول ولا يقصد الحلول الكفري، ومن هنا تنقطع حجة من استدل بمثل هذه المعاني التي وردت على ألسنة الصوفية الأوائل، أمثال: الحارث المحاسبي والجنيد وأبي طالب المكي والهروي وابن خفيف .. هؤلاء من أئمة السنة، ولهم شطحات في ميلهم إلى المصطلحات الصوفية، واستعملوا مثل هذه العبارات على نحو يريدون به المعنى الحق أحياناً، وقد يريدون منه بعض المعاني المبتدعة، لكن لا يريدون المعنى الكفري الشركي الذي عليه ابن عربي ، وطائفة الفلاسفة الباطنية الذين مر الكلام عنهم.

قال رحمه الله تعالى: [ أما الحلول فلا ريب أن من علم شيئاً فلا بد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول؛ فإن المستعلي إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول؛ بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان ].

لا يزال يبدو لي أن الكلام فيه غموض، لكن سيشرحه الشيخ بعد كلام طويل قد ينفصل المعنى في ذهن القارئ.

فالشاهد أن الشيخ ذكر أن الحلول أحياناً يستعمل استعمالاً بعيداً، بمعنى حلول المعاني الشرعية في قلب المسلم، وحلول الأحوال القلبية في قلب المسلم، حلول العلم، اليقين، الصدق، والتصورات التي تنتج عن العلم.. هذه أمور يقال: إنها حلت في قلب المسلم، لكن ليس معنى هذا أننا نقر كلمة حلول على إطلاقها، إنما نقول: إذا قصد بالحلول هذا المعنى، فهو وإن كان معنى غير مستعمل فإنه يرجع إلى قصد القائل، وبعض السلف قد يستعمل هذه المعاني بمعنى حلول الأحوال القلبية في القلب، حلول الإيمان، حلول اليقين، حلول الصدق.. ونحو ذلك، فهذا قد يسمى حلولاً من باب التجوز، أو يستعمله بعض السلف على هذا المعنى لا على المعنى البدعي الذي هو الحلول الإلهي، أو حلول الرب في خلقه تعالى الله عما يزعمون.

قال رحمه الله تعالى: [ فإذا ذكره بلسانه كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه كان ذلك أعظم وأعظم ].

يتبين هذا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح، قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).. إلى آخر هذه المعاني، فهذا قد يعبر عنه بعض السلف بأنه حلول، لكن ليس حلول الله، وإنما حلول توفيق الله عز وجل للعبد، بمعنى أنه يحل الإيمان واليقين الذي ينتج عنه العون من الله عز وجل والحفظ والرعاية والتوفيق من الله لعبده إذا تقرب بالنوافل، على هذا النحو الذي ذكره في الحديث القدسي، فهذا قد يعبر عنه بأنه حلول التوفيق؛ حلول الأحوال القلبية التي يمتلئ بها القلب باليقين بالله عز وجل، والإنسان إذا امتلأ قلبه باليقين بالله، وامتلأ قلبه بالإنابة والاعتماد والتوكل على الله كان ذلك بمثابة أن الله عز وجل يسدده التسديد الكامل، ويوفقه إلى كل خير، فهذا ليس حلولاً ذاتياً، ولا حلول الروح بالروح، ومع ذلك فإنا نقول: إن تسمية هذا النوع من التوفيق من الله عز وجل لعبده حلول لا تجوز، بعد وجود استعمال هذه الكلمة على معنى باطل، لوجود اللبس، إنما قد يطلقها بعض السلف ويقصد المعنى الصحيح، فمن هنا ندافع عن هذا الرجل وندفع استدلال أهل الباطل بقوله أو كلامه بأنه أراد المعنى الحق ولم يرد المعنى الباطل.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرك ومدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة كعبادة الله وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة كمحب الإخوان والولدان والنسوان والأوطان.. وغير ذلك من الأكوان.

فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلا بد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله.

والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحاً ].

ورود المعاني من العلم والتصديق واليقين والإيمان، ثم ما ينتج عن هذه المعاني من الأحوال القلبية الأخرى، هذا يسمى حلولاً بالمعنى اللغوي، أي: أن هذه المعاني حلت في القلب ونتج عنها العمل، هذه تسمية لغوية لا ينبغي أن تختلط بالحلول البدعي الذي يقصده أهل الأهواء، مثل ما يسمونه: حلول النور الموروث، أو ما يسمونه: حلول الروح، وأعظم من ذلك وأشنع: الحلول الكفري الذي هو حلول الرب بذاته في المخلوقات.. أو نحو ذلك مما قالوا، تعالى الله عما يزعمون.

قال رحمه الله تعالى: [ قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم، ولهذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له.. ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعاً؛ علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضاً، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه وإنما الغرض.

فصل: وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته ].

المقصود حلول هذه المؤثرات التي تدخل على القلب من العلم واليقين والتصديق والإنابة والتوكل.. ونحو ذلك من الأمور التي تحرك القلب، والمحبة والخوف والرجاء، كل هذه تحل في القلب، ولا شك أنها واردات على القلب، وقد لا ترد على جميع القلوب وإنما ترد إلا على قلوب من هداهم الله عز وجل، ثم إن حلولها في القلوب يتفاوت ما بين إنسان وآخر، حسب توفيق الله عز وجل للعبد، فمن الناس من ترد عليه هذه الواردات حتى تملأ قلبه باليقين والإيمان، وتملأ قلبه بالإنابة إلى الله عز وجل.. وغير ذلك من المعاني القلبية؛ فينتج عنها العمل الصالح الكثير، ومن الناس من يضعف حلول هذه الأشياء في قلبه فتضعف آثارها، إنما القصد أن هذه المعاني التي ترد إلى القلب ورودها يسمى حلولاً من حيث الدلالة اللغوية، لكن ليس هو الحلول البدعي مما يزعمونه كحلول علم الغيب أو العلم اللدني، أو حلول النور، أو حلول يقصدون به أن الإنسان يرد إليه ما يرد إلى الأنبياء، ويرد إليه ما لا يكون إلا من خصائص الرب عز وجل، مثل: علم الغيب، فهذا باطل، أو الحلول الشركي، وهو حلول المدعين بأن الله عز وجل يحل في خلقه، أو في بعض الخلق، أو الخلق يحل في الله أو بعض الخلق يحل في الله.. إلى آخره ما يقسمونه من أقسام كلها ترجع إلى الكفر الصريح والإلحاد، فهذا كله غير مقصود.

فإذاً: ورود هذه الواردات على القلب هو نوع من الحلول، فقد يعبر عنه بعض الصالحين بأنه حلول ولا يقصد الحلول الكفري، ومن هنا تنقطع حجة من استدل بمثل هذه المعاني التي وردت على ألسنة الصوفية الأوائل، أمثال: الحارث المحاسبي والجنيد وأبي طالب المكي والهروي وابن خفيف .. هؤلاء من أئمة السنة، ولهم شطحات في ميلهم إلى المصطلحات الصوفية، واستعملوا مثل هذه العبارات على نحو يريدون به المعنى الحق أحياناً، وقد يريدون منه بعض المعاني المبتدعة، لكن لا يريدون المعنى الكفري الشركي الذي عليه ابن عربي ، وطائفة الفلاسفة الباطنية الذين مر الكلام عنهم.

قال رحمه الله تعالى: [ قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور:35].. الآية، قال أبي بن كعب رضي الله عنه: مثل نوره في قلب المؤمن. فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين.

وقد قيل في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات فهو كافر؛ إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب ].

يعني: انعكاس أثر هذه الأشياء على المخلوقات، فالعلم ينعكس أثره في العالم، والحب ينعكس أثره على المحبوب وعلى المحب، وقد يقصد الشيخ معنى التناسب، لكن هذا سيأتي التعبير عنه في مقام آخر بعد قليل، فالذي يظهر لي هنا أن مقصود الشيخ انعكاس المعاني التي تدخل القلب من العلم والحب.. ونحو ذلك على الشخص، وهذا الانعكاس أحياناً يسمى حلولاً وأحياناً يسمى تأثراً، وأحياناً يسمى تناسباً، ويسمى بأسماء كثيرة، قد يراد بها الحق، وقد يراد بها الباطل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب.

والتحقيق: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلاً، وإنما لما كان العلم مطابقاً للمعلوم وموافقاً له غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطابَق والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعاً اشتراك ما واشتباه ما.

وقد قيل في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:27] أنه هذا. ].

ذكر الشيخ هذا المعنى في ردوده على الذين نفوا أسماء الله وصفاته أو بعضها بدعوى أنها تقتضي التشابه، فكأنه يقول: إن قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، يعني: المماثلة في الكيفية لا في المعاني والألفاظ المشتركة؛ لأن قوله عز وجل: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، يعني: أن كل أمر مشترك لفظي بين العباد في أمور الكمال فالله عز وجل له أعلى الوصف في مثل هذه الألفاظ المشتركة، فإذا قلنا مثلاً: الله عز وجل موصوف بالعلم، وبعض العباد أيضاً موصوفون بالعلم، فالعلم لفظ مشترك، والله عز وجل ليس كمثله شيء في علمه، لكن مع ذلك له المثل الأعلى في العلم، ولا يتنافى هذا مع نفي الممثالة؛ لأن الألفاظ المشتركة والمعاني المشتركة تبقى في الأذهان، ولذلك فإن كل معنى مشترك فيه كمال لله عز وجل يطلق على الله، لكن له فيه الكمال المطلق وفي غيره محدود وناقص، وكل كمال فالله أحق وأولى أن يوصف به؛ لكن نظراً لأن الكمالات التي وردت بألفاظ الشرع، وردت بألفاظ تشمل أفضل المعاني وأعظمها في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنا ننكر ما يبتدعه الناس من الألفاظ لا المعاني، فالألفاظ التي عبر بها الناس عن كمال الله إن كانت وردت في الكتاب والسنة أثبتناها، وإن لم ترد في الكتاب والسنة أثبتنا معانيها الحق ورددنا الألفاظ؛ لأن في ألفاظ كلام الله عز وجل الجامعة المحكمة ما يكفي، وفي ألفاظ كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في إثبات الكمال لله.

إذاً: هذا معنى أن قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، له تقييد في قوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27]، لكن ليس تقييداً بمعنى: أنه يستثنى أن هناك مماثلة، إنما يستثنى معنى من معاني المثل في اللفظ المطلق أو في اللفظ المشترك، لا في إطلاق الألفاظ على الأعيان، أما إذا أطلقت الألفاظ على الأعيان فلا يجوز أن يطلق على الله عز وجل أي وصف مما تتصف به الأعيان، أي: المخلوقات.

قال رحمه الله تعالى: [ وفي حديث مأثور: (ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين)، ويقال: القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال: إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه؟ فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه ].

هذا مثال جيد على مسألة حلول المعاني الشرعية في قلب المؤمن، فإن المؤمن يحل في قلبه حب الله عز وجل، ويحل في قلبه خشية الله ورجاؤه، والتوكل عليه والإنابة إليه سبحانه، وهذه كلها معان متعبد بها لله عز وجل، وهي تحل في قلب المؤمن حلولاً معنوياً وحلولاً إيمانياً، ولا يعني ذلك أن الله عز وجل بذاته يحل كما يزعمون؛ لأن أصحاب الحلول الباطل استدلوا بمثل هذه النصوص المجملة، وما عرفوا أن هذا تمثيل جزئي وليس معنى كلياً، مثل الله عز وجل امتلاء قلوب عباده الصالحين بالإيمان به والتصديق والرجاء والخوف بنوع من المثل، وأطلق عليها هذا الإطلاق لا من باب أنه حلول ذاتي أو حلول كلي، لكنه حلول شيء من المعاني المتعلقة بعلاقة العبد بربه.

قال رحمه الله تعالى: [ وروي مرفوعاً من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، رواه أبو يعلى الموصلي وابن أبي الدنيا في كتاب (الذكر)؛ ولهذا قال أبناء يعقوب عليهم السلام: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتاً لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) ].

يعني: هذا يدل على تفاوت المعاني في القلب، وفي الأعمال، وكذلك المعاني الشرعية، فإنها تتفاوت تفاوتاً عظيماً إلى حد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً في رجلين كليهما من المسلمين ومن أهل الخير، لكن قال: (هذا خير) فهو صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً بين إنسانين، هذا يساوي ملء الأرض من مثل هذا، عدد لا يكاد يحصى، فهذا تفاوت بين إنسان وآخر، وهو يدل على أن حلول الأعمال والأحوال القلبية في قلوب العباد تتفاوت.

قال رحمه الله تعالى: [ فصار واحد من الآدميين خيراً من ملء الأرض من بني جنسه؛ وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان.

وإلى هذا المعنى أشار من قال: ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، وهو اليقين والإيمان.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان).

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الصديق رضي الله عنه: (أيها الناس! سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيراً من العافية) رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه .

وقال رقبة بن مصقلة للشعبي : رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه.

وفي كتاب الزهد للإمام أحمد رحمه الله أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أين أجدك؟ قال: يا موسى عند المنكسرة قلوبهم من أجلي؛ أقترب إليها كل يوم شبراً؛ ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم.

وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله ].

هذه العبارات مثال لما ذكره شيخ الإسلام من أن الصالحين وبعض العباد قد يطلقون العبارات الموهمة، وهم يريدون معنى صحيحاً، ولا أظنه يقر بمثل هذه المعاني، لكنه يرى أنها ما دامت أطلقت من أناس قصدوا بها مقاصد حسنة، فإنها تفسر بالتفسير الذي قصدوه، لا أنها أخرى، فكلمة: (ما في قلبي إلا الله) أثرت عن بعض العباد والنساك، لكن ما يقصد الحلول، يقصد أنه لم يعد له هم إلا ما يرضي الله عز وجل، ولم يعد له تفكير إلا فيما يرضي الله عز وجل، فقلبه امتلأ بالصدق واليقين والرجاء والخوف، وامتلأ بالإقبال على الله عز وجل، فهذا التعبير الموهم لا يقصد به الحلول البدعي إنما يقصد كمال اليقين والتوكل.

وكذلك كلمة (ما عندي إلا الله) يعني: لا أشعر بحاجة إلى العباد من حولي من قوة اليقين، فهذه معان صحيحة، لكن التعبير موهم، وأظنها والله أعلم عندما أطلقت في القرن الأول من بعض العباد لم تكن تشكل عند الناس؛ لأنهم يعلمون أن مقاصد أولئك الأوائل كانت حسنة، وإن لم يوافقوه على ذلك، لكن بعدما بدأت هذه العبارات تستعمل على معنى بدعي في آخر القرن الثالث في عهد الحلاج ومن جاء بعده، فإنهم بعد ذلك صاروا يتحسسون من هذه العبارات، وبدأ الأئمة ينكرونها ويبدعون من قالها؛ خوفاً من التباسها بالمعاني البدعية الكفرية التي قال بها أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والفلاسفة والباطنية، وكل مبطل أراد أن يدخل الزندقة من خلال هذه العبارات على عقائد المسلمين.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل: (أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده).

ويقال:

ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره

ويقال:

مثالك في عيني وذكراك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب

وهذا القدر يقوى قوة عظيمة حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف.. ونحو ذلك باتفاق العقلاء ].

هنا أيضاً الشيخ أشار إلى كلمة استعملت في الحق واستعملت في الباطل، وهي كلمة (التجلي) و(الكشف) فبعض العباد استعمل كلمة (التجلي) يقصد قوة صلة القلب بالله عز وجل حتى يعبد الله كأنه يراه، فيسمون هذا تجلياً، ولا يقصدون أنه يتجلى الله عز وجل بذاته لخلقه، إنما قصدهم أنه يتجلى الله للقلب حتى كأنه يراه، فسموا هذا تجلياً، وسموه كشفاً أيضاً؛ لأنه ينكشف للقلب من حقيقة الإيمان والإحسان حتى يتصور أنه يرى الله، من قوة يقينه بالله وامتلاء قلبه بالأحوال القلبية، فهذا سماه بعض الأوائل من العباد كشفاً وسموه تجلياً، لكن فيما بعد أطلقت الصوفية الغالية هذه العبارات على معان بدعية، فزعموا أن الله عز وجل يتجلى لهم بذاته، وزعموا أنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أنه يتجلى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته في اليقظة، وأنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أن الغيب ينكشف لهم بالتجلي والكشف، وتنكشف لهم أحوال الآخرة، وتنكشف لهم أحوال العباد، وينكشف لهم من التشريع ما يحلون به ما حرم الله ويحرمون به ما أحله الله، ويزعمون أن ذلك كشف، فتوسعوا في باب الكشف، لكن الشيخ هنا أراد أن يقول بأنه قد يعبر بعض الصالحين عن قوة صلة القلب بالله عز وجل واليقين والإحسان بالتجلي، بمعنى: أنه يصل قلب المؤمن إلى أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا سموه تجلياً وسموه كشفاً، لكن بعد استعمال العبارة على نحو باطل يجب تجنبها.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف.. ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).

وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى الله أو إلى بعض الأماكن؟

اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته؛ كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99].

وأما حركة روحه إلى مثل السماوات وغيرها من الأمكنة فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاءون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقر بها أهل الفطرة وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام.

وأما القرب من الله إلى عبده هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب؟

هذا فيه كلام ليس هذا موضعه.

ومن لم يثبت إلا الأول فهم في قرب الرب على قولين:

أحدهما: أنه تجليه وظهوره له.

والثاني: أنه مع ذلك دنو العبد منه واقترابه الذي هو بعمله وحركته.

وللقرب معنى آخر: وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال: هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه ].

الراجح والله أعلم من خلال النصوص أن كل هذه المعاني الشرعية واردة حتى على الكلمة الواحدة من القرب، فالله عز وجل ذكر أنه قريب من عباده، وذكر أنه معهم، ذكر المعية والقرب من عباده، وذكرها للعبد الواحد: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، وذكرها للمؤمنين، وذكرها لعموم العباد: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فهذا القرب يشمل هذه المعاني كلها والله أعلم.

كذلك تجليه كما في نزول الباري عز وجل، الذي ورد في أحوال وأوقات وأزمان محددة، فهو قرب على جميع المعاني اللائقة بالله عز وجل، وكذلك قرب العبد نفسه، العبد يقرب من الله بالعبادة، وهو قرب معنوي وقرب حسي أيضاً؛ قرب حسي على نحو لا نعلم كيفيته؛ لأن الله عز وجل أمر عباده بأن يستجيبوا لندائه حتى في الأمور الحسية، مثل الاستجابة لندائه في الحج، كما أمر إبراهيم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قرب في عبادة الله عز وجل يشمل أن الله يتجلى لعباده في هذه الأمور والشعائر والمواسم، وأن العباد يتقربون إليه، وتقرب منه ذواتهم وأعمالهم على نحو يليق بالله سبحانه.

أقول: كل هذه المعاني الشرعية التي أثبتها أهل الحق هي معان متقاربة، وربما تتحقق كلها على الوجه الشرعي اللائق بالله عز وجل، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [19] 3146 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [9] 3044 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [11] 2796 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [20] 2583 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [12] 2432 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [5] 2404 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [17] 2355 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [7] 2178 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [6] 2039 استماع
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [3] 2011 استماع