أخبار عيسى في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

لقد كان في القرآن الكريم ذكرٌ كثيرٌ لهذا النبي في عددٍ من السور، وفي عددٍ من المناسبات، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض -إن شاء الله- في هذه الليلة لطائفة من أخبار هذا النبي الكريم عيسى في أحاديث محمد عليهما الصلاة والسلام.

دعوة جدة عيسى له ولأمه

لقد كانت بداية عيسى عليه السلام قديمة لما كانت جدته -أم مريم امرأة عمران - تدعو الله سبحانه وتعالى لمن في بطنها ولذريته أن يقيهم الله عز وجل من الشيطان الرجيم، فلما حملت امرأة عمران توجهت إلى الله سحبانه وتعالى بالدعاء قائلة: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36].

فكانت دعوة الجدة لحفيدها ساريةً من ذلك الجيل إلى الجيل الذي بعده، وظهرت آثارها في مريم وفي ولدها عيسى، وصلاح الأجداد له علاقة بالأولاد كما قال الله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فلصلاح الأب حفظ الله مال ذريته، وكذلك بصلاح امرأة عمران حفظ الله بنتها وابن بنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة : [واقرءوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ] لقد كانت تلك الدعوة الصالحة التي وقعت من تلك المرأة الكريمة فأثرت تأثيراً بالغاً، فما من بني آدم مولودٌ إلا يمسه الشيطان حين يولد غير مريم وابنها لم يستطع الشيطان أن يمسهما.

فضل مريم بنت عمران

خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وكان أحد الخطوط يشير إلى مريم بنت عمران عليها رضوان الله، ثم قال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون) هذه الأم الطيبة، وتلك الجدة الطيبة جدة عيسى عليه السلام، ولم تكن أخت هارون -أي: شقيقة- أخو موسى، وقد حصل عند بعض الصحابة شيءٌ حول هذا فأزال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم اللبس، فجاء حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران) والحديث في صحيح مسلم وكانوا نصارى والمغيرة ذهب ينقل إليهم رسالة من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلت فيهم آيات طويلة من سورة آل عمران فيها محاجة ومناقشة أهل الكتاب، فقال نصارى نجران مستشكلين للمغيرة: (أرأيت ما تقرءون: (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا) قال النصارى في نجران للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرءون في كتابكم: (يا أخت هارون) وهي مريم عليها السلام، كيف تقولون: عن مريم أخت هارون وبين مريم وموسى وهارون كذا وكذا من آلاف السنين؟ قال: (فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم).

يعني: هذا كما يقول العامة عندنا " اسم على اسم" وكانت بنو إسرائيل يتسمون بأسماء الأنبياء تيمناً بالأنبياء، فيتسمون موسى وهارون كثيراً، ومريم أخوها هارون ليس هو هارون أخو موسى وإنما هارون آخر اسمه على اسم هارون النبي تيمناً به، فهذا هو زوال الإشكال، فمريم لما جاءت لقومها تحمل عيسى قالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28].

أمها امرأة صالحة وهي زوجة عمران، فلما وضعت مريم ودعت لها أنجبت بعد ذلك عيسى عليه السلام، وكانت مريم بنت عمران امرأة كاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.

حقيقة كون عيسى كلمة الله وروح الله

من مريم خرج عيسى عليه السلام بدون أب، أم صالحة وجدة صالحة: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ولأن عيسى مخلوق بكلمة الله: (كن) سمي بـ(كلمة الله) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه البخاري .

فإذاً: عيسى خلق بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك يسمى عيسى بـ(كلمة الله).

ولماذا يسمى روح الله؟

سمي بذلك من باب إضافة التشريف وإضافة المخلوق إلى الخالق، كما نقول: (ناقة الله، بيت الله) ولأن عيسى نفس منفوسة خلقها الله عز وجل بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك عيسى كلمة الله وروح الله.

وقد جاء في الحديث روح الله، فما معنى: وروحٌ منه؟

معناه: أن عيسى روحٌ من الله.

ومن هنا: من أين أتى عيسى؟ خلقه الله، فإذاً لما خلق الله لنا السماوات والأرض منه فهذا يعني أنها منه لا من غيره، وأنه هو الموجد، وكذلك عيسى روحٌ منه، يعني: أن الله عز وجل هو مصدر الإيجاد.

عيسى من أين خلق؟ خلقه الله عز وجل، فلذلك يسمى عيسى كلمة الله، وروح الله، وروحٌ من الله، وليست: (من) هنا للتبعيض، أي: أن عيسى جزء من الله تعالى الله عن ذلك.

والنصارى قد يدخلون هذه الشبهة ويحاجون بها، كما حصل في مجلس بعض الخلفاء: أن أحد النصارى قال له الخليفة: لماذا لا تسلم؟ قال: أنا مقتنع بالإسلام والقرآن، ولكن هناك آية التبست عليَّ، وأنا أرى أن فيها تأييداً لنا ولعقيدتنا نحن النصارى.

قالوا: ما هي؟

قال: إن عيسى عندكم في القرآن مكتوب عنه: " وروحٌ منه" فهو جزء من الله وهذا ما نحن نقوله: (ابن الله).

فالتفت الخليفة إلى من عنده من العلماء، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! إن الله يعلم أن هذا الرجل سيستشهد بهذه الآية، وسيأتي بهذه الآية ليستشكل، والأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثـية:13] فهل الأرض جزء من الله؟!

و(منه) هي سؤال عن مصدر خلقها وإيجادها، وكذلك عيسى مصدر خلقه هو الله عز وجل، وكلمته لأنه مخلوق بكلمة (كن)؛ ولأنه حجة الله على عباده، وآية من آيات الله.

كيفية حمل مريم بعيسى عليهما السلام

خلق الله بني آدم على أربعة أنواع: فمنهم من خلقه من أبٍ وأم كسائر البشر، ومنهم من خلقه بلا أبٍ ولا أم: وهو آدم، ومنهم من خلقه من أمٍ بدون أب: وهو عيسى، ومنهم من خلقهم من ذكرٍ بلا أنثى: وهي حواء.

فإذاً: كان عيسى نموذجاً فريداً في البشرية أن يخلق بغير أب، وليس المقصود بغير أب يعني بغير زوج أو بغير زواج شرعي أو لا يعرف من أبوه، لا. فلا يوجد هناك ذَكر في الموضوع أصلاً؛ لذا قالت مريم: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47] لا بالحلال ولا بالحرام، فجاء جبريل فتمثل لها في هيئة البشر، وكانت قد انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، قيل: أصابها الحيض فخرجت عن المسجد، حتى لا تقذر المسجد، والحائض لا تقرب المسجد، فانتبذت مريم مكاناً في شرقي المسجد، فأتاها جبريل على هيئة بشر، وكانت امرأة عفيفة فلما رأت أمامها رجلاً فزعت واستعاذت بالله منه: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً [مريم:18] إن كنت تخاف الله ابتعد عني: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً [مريم:19-20] لست بغياً ولا بذات زوج، فمن أين يأتي الولد؟!

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] فماذا فعل جبريل؟ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء:91] فالنفخة خرجت من جبريل، وأين نفخ؟ في جيب درعها -فتحة الفستان أو القميص عند الرقبة- فولجت النفخة إلى الرحم بقدرة الله فحملت، وهذا على الله يسير، فالذي خلق كل هذا الكون لا يعجزه أن يخلق إنساناً بغير أب، وهكذا خلقه من أنثى بغير ذكر، فهذا هو عيسى عليه السلام.

و لما استدعى النجاشي المسلمين الذين جاءوا إليه وسألهم ماذا تقولون في عيسى؟

قال له جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا؛ هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض -أي: أخذ منها عوداً- ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.

و هذا من إيمان النجاشي ، قال: ما وصفتم به عيسى هو الحق، وما تعديتم الحق، فتناخرت بطارقته حوله حينما قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، هذا النجاشي رحمه الله.

حماية الله لعيسى من الشيطان بدعوة جدته

لقد ولد عيسى مبرأ بعيداً عن مس الشيطان، ولم يستطع أن يصل إليه بسوء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها عيسى عليهما السلام) وفي رواية : (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة : [واقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]].

وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب) ما معنى هذا الحديث؟ الشيطان له أصبع كما هو ثابت في الحديث، كما أن له قرنان، والشمس تطلع بين قرني شيطان، وله لسان، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام خنقه في الصلاة حتى وجد برد لسانه على يده، وكل مولود يولد يتعرض له إبليس بالأذى، نكاية في بني آدم، فماذا يفعل الشيطان؟ يطعن في خاصرة كل مولود بأصبعه، فيصرخ الولد، لماذا؟ يقول الأطباء لا يوجد سبب للصراخ، لكن عندنا جواب في السنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا ويمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً) فإذا انطعن بأصبع إبليس يصرخ المولود من مس الشيطان، والاستثناء حصل على مريم وولدها لأن الأم الصالحة قالت في الدعاء: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فأعاذ الله مريم وولدها من الشيطان الرجيم، وما طعن مريم ولا ولدها، وإنما ذهب يطعن فطعن في الحجاب، قال ابن حجر في فتح الباري : أي في المشيمة التي ولد فيها الولد، قال القرطبي رحمه الله: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها حيث قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى.

فإذاً: استهلال الولد صارخاً هو من نخسة الشيطان، فسبب صراخ الصبي أول ما يولد هو ما يجده من الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال هو: الصياح، وجعل الله تعالى دون الطعنة حجاباً فأصاب إبليس الحجاب ولم يصبهما، هذه البداية.

ولد عيسى عليه السلام مبرأ محفوظاً من الشيطان، ولم يستطع أن يتسلط عليه كما يتسلط على أطفال بني آدم، وحدثت المعجزة في ولادته من غير أب، ثم حدثت المعجزة التالية عندما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، وكان رضيعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر منهم: عيسى بن مريم) فجاءت به تحمله، واستنكر قومها عليها ذلك، من أين جاءت بولدٍ وليست بذات زوج وأسرتها أسرة طيبة .. كيف خرجت هذه المرأة هكذا؟!!

فأشارت إليه فاستغربوا، فتكلم عيسى وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:30-31].

لقد كانت بداية عيسى عليه السلام قديمة لما كانت جدته -أم مريم امرأة عمران - تدعو الله سبحانه وتعالى لمن في بطنها ولذريته أن يقيهم الله عز وجل من الشيطان الرجيم، فلما حملت امرأة عمران توجهت إلى الله سحبانه وتعالى بالدعاء قائلة: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36].

فكانت دعوة الجدة لحفيدها ساريةً من ذلك الجيل إلى الجيل الذي بعده، وظهرت آثارها في مريم وفي ولدها عيسى، وصلاح الأجداد له علاقة بالأولاد كما قال الله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فلصلاح الأب حفظ الله مال ذريته، وكذلك بصلاح امرأة عمران حفظ الله بنتها وابن بنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة : [واقرءوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ] لقد كانت تلك الدعوة الصالحة التي وقعت من تلك المرأة الكريمة فأثرت تأثيراً بالغاً، فما من بني آدم مولودٌ إلا يمسه الشيطان حين يولد غير مريم وابنها لم يستطع الشيطان أن يمسهما.

خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وكان أحد الخطوط يشير إلى مريم بنت عمران عليها رضوان الله، ثم قال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون) هذه الأم الطيبة، وتلك الجدة الطيبة جدة عيسى عليه السلام، ولم تكن أخت هارون -أي: شقيقة- أخو موسى، وقد حصل عند بعض الصحابة شيءٌ حول هذا فأزال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم اللبس، فجاء حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران) والحديث في صحيح مسلم وكانوا نصارى والمغيرة ذهب ينقل إليهم رسالة من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلت فيهم آيات طويلة من سورة آل عمران فيها محاجة ومناقشة أهل الكتاب، فقال نصارى نجران مستشكلين للمغيرة: (أرأيت ما تقرءون: (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا) قال النصارى في نجران للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرءون في كتابكم: (يا أخت هارون) وهي مريم عليها السلام، كيف تقولون: عن مريم أخت هارون وبين مريم وموسى وهارون كذا وكذا من آلاف السنين؟ قال: (فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم).

يعني: هذا كما يقول العامة عندنا " اسم على اسم" وكانت بنو إسرائيل يتسمون بأسماء الأنبياء تيمناً بالأنبياء، فيتسمون موسى وهارون كثيراً، ومريم أخوها هارون ليس هو هارون أخو موسى وإنما هارون آخر اسمه على اسم هارون النبي تيمناً به، فهذا هو زوال الإشكال، فمريم لما جاءت لقومها تحمل عيسى قالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28].

أمها امرأة صالحة وهي زوجة عمران، فلما وضعت مريم ودعت لها أنجبت بعد ذلك عيسى عليه السلام، وكانت مريم بنت عمران امرأة كاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.

من مريم خرج عيسى عليه السلام بدون أب، أم صالحة وجدة صالحة: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ولأن عيسى مخلوق بكلمة الله: (كن) سمي بـ(كلمة الله) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه البخاري .

فإذاً: عيسى خلق بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك يسمى عيسى بـ(كلمة الله).

ولماذا يسمى روح الله؟

سمي بذلك من باب إضافة التشريف وإضافة المخلوق إلى الخالق، كما نقول: (ناقة الله، بيت الله) ولأن عيسى نفس منفوسة خلقها الله عز وجل بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك عيسى كلمة الله وروح الله.

وقد جاء في الحديث روح الله، فما معنى: وروحٌ منه؟

معناه: أن عيسى روحٌ من الله.

ومن هنا: من أين أتى عيسى؟ خلقه الله، فإذاً لما خلق الله لنا السماوات والأرض منه فهذا يعني أنها منه لا من غيره، وأنه هو الموجد، وكذلك عيسى روحٌ منه، يعني: أن الله عز وجل هو مصدر الإيجاد.

عيسى من أين خلق؟ خلقه الله عز وجل، فلذلك يسمى عيسى كلمة الله، وروح الله، وروحٌ من الله، وليست: (من) هنا للتبعيض، أي: أن عيسى جزء من الله تعالى الله عن ذلك.

والنصارى قد يدخلون هذه الشبهة ويحاجون بها، كما حصل في مجلس بعض الخلفاء: أن أحد النصارى قال له الخليفة: لماذا لا تسلم؟ قال: أنا مقتنع بالإسلام والقرآن، ولكن هناك آية التبست عليَّ، وأنا أرى أن فيها تأييداً لنا ولعقيدتنا نحن النصارى.

قالوا: ما هي؟

قال: إن عيسى عندكم في القرآن مكتوب عنه: " وروحٌ منه" فهو جزء من الله وهذا ما نحن نقوله: (ابن الله).

فالتفت الخليفة إلى من عنده من العلماء، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! إن الله يعلم أن هذا الرجل سيستشهد بهذه الآية، وسيأتي بهذه الآية ليستشكل، والأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثـية:13] فهل الأرض جزء من الله؟!

و(منه) هي سؤال عن مصدر خلقها وإيجادها، وكذلك عيسى مصدر خلقه هو الله عز وجل، وكلمته لأنه مخلوق بكلمة (كن)؛ ولأنه حجة الله على عباده، وآية من آيات الله.