مقدمة كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - ابن قيم الجوزية
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الذى ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ذاته ولا صفاته ولا في أفعاله، بل هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به أحد من خلقه في إكثاره وإقلاله، لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله..
الأول الذي ليس قبله شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، ولا يحجب المخلوق عنه تستره بسر باله، الحي القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المنفرد بالبقاء، وكل مخلوق ينتهي إلى زوال، السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله، البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو جباله.
وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده، ومشاهدته لاختلاف أحواله، فإن أقبل إليه تلقاه، وإنما إقبال العبد عليه من إقباله، وإن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه، ولم يدعه في إهماله، بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها، الرفيقة به في حمله ورضاعه وفصاله، فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطع أوصاله، وإن أصر على الإعراض، ولم يتعرض لأسباب الرحمة، بل أصر على العصيان في إدباره وإقباله، وصالح عدوه وقاطع سيده، فقد استحق الهلاك، ولا يهلك على الله إلا الشقي الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره: {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11].
وأشهد أن محمد عبده ورسوله القائم له بحقه، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه..
وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمه باسمه، فلا يذكر إلا ذكر معه، كما في: ( التشهد ، والخطب، والتأذين).
فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائمًا بأمر الله لا يرجه عنه راد، مشمرًا في مرضاة الله لا يصده عن ذلك صاد، إلى أن أشرقت الدنيا برسالته ضياءً وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا (أفواجًا)، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار، ثم استأثر الله به لينجز له ما وعده به في كتابه المبين، بعد ما بلغ رسالته، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الدين، وترك أمته على البيضاء الواضحة البينة للسالكين..
وقال: {هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].