شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه:

[ فصل في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل.

وذلك ببيان وتحرير أصل العلم والإيمان، كما قد كتبته أولاً في بيان أصل العلم الإلهي والذي أكتبه هنا: بيان الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني العلمي الصلاحي، والمنهاج الصابئ الفلسفي، وما تشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي المخالف لسبيل الأنبياء وسنتهم ].

يلاحظ أن الشيخ بدأ بالتفريق بين المنهجين في التعبير عنهما، تلاحظون قوله: (بيان الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني)، على هذا فإن منهاج المخالفين ليس إيمانياً، ولم يصفه بأنه إيماني، فعلاً هو ليس إيماناً؛ لأن الإيمان هو استنارة القلب بنور الوحي، هذا هو الإيمان، وما عداه فليس بإيمان، فسمى المنهج الرباني الإلهي منهج النبوة، منهج السلف الصالح: المنهاج النبوي الإيماني.

فقوله: (بيان الفرق بين المنهاج النبوي) يعني: منهاج أهل السنة هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهداية الله عز وجل التي أرسلها إلى عباده، وهو هذا الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المتمثل بالكتاب والسنة، فسماه نبوياً، بينما منهج المتكلمين ليس نبوياً، وسماه إيمانياً.

والإيمان هو هداية القلب، وهداية القلب لا تحصل بالمنهج الفلسفي، إنما تحصل بالوحي.

ثم سماه: العلمي، أي: ما جاء به القرآن والسنة هو العلم الذي مدحه الله عز وجل، ومدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من يسلكه، هو العلم الشرعي المستمد من الكتاب والسنة، بينما منهج المتكلمين ليس علمياً على المصطلح الشرعي، فلا هو من علوم الدنيا الصحيحة، ولا من علوم الدين الصحيحة، منهج المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات ليس بعلم؛ لأنه لا يسمى علماً إلا إذا كان علماً شرعياً، وقد يسمى علماً مقيداً لو كان علماً دنيوياً، مثل: علم الرياضيات، كما سيتكلم الشيخ عنه فيما بعد.

فالرياضيات مثلاً علم، لكنه علم استقرائي تطبيقي نظري صحيح، مثل أن نقول:

هذا لا شك أنه علم، لكنه علم مستنبط من الدلالة العقلية، وكذلك علم الحس.

بينما علم الفلاسفة والمتكلمين ليس بعلم لا على النحو الشرعي ولا على النحو الدنيوي والاستقراء.

ثم سماه الصلاحي، أي: الذي تصلح به قلوب الناس وأعمالهم ودنياهم وآخرتهم، وهو منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقيدة، أما منهج المتكلمين فلا يحصل به صلاح لا للقلب ولا للعمل ولا للسان، ولا صلاح في الدنيا ولا في الآخرة.

ولذلك نجد الفلاسفة عموماً يظهر هذا على تصرفاتهم وسلوكهم، لا تجد فيلسوفاً مغرقاً في الفلسفة، أو متكلماً مغرقاً في علم الكلام، لا تجده ناجحاً في دنياه، فضلاً عن دينه وآخرته، أغلب الفلاسفة لا يجيد التصرف في الدنيا، ولا يجيد المعاملة مع الناس، تأملوا هذا في تاريخ الفلاسفة، اقرءوا سيرهم، لا يجيد التعامل في أمور الدنيا؛ لأنه مثالي، لا يبني أسرة مستقرة، ولا يبني عملاً دنيوياً مستقراً، ولا يبني ديناً، فلا هم أهل دنيا ولا أهل دين، هذا هو الغالب عليهم، تأملوا أحوالهم وستجدون ذلك، وهذا هو معنى قول الشيخ: (الصلاحي) أي: أن المنهج الحق صلاحي، تصلح به أحوال الأفراد والأمة والأسر والجماعة والقلوب والأعمال، وتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة.

ثم قال: (والمنهاج الصابئ الفلسفي) يعني: يشير بذلك إلى منهاج المتكلمين، وأنه ليس منهجاً نبوياً ولا إيمانياً وإنما هو منهج الصابئة المشركين والفلاسفة الدهرية أو غير الدهرية، الفلاسفة المشركة الذين ليس عندهم علم صحيح ولا دين ولا عقيدة مستقيمة.

والفلسفة التي تأثر بها المسلمون الغالب أنها فلسفة الصابئة.

ثم قال: (وتشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي)، (الكلامي) يعني: العقدي، (والعبادي) يعني: منهج العبادة، فمنهج العقيدة عند أهل المنهاج النبوي: هو المنهج السليم الصالح المفيد، وكذلك منهج العبادة عند أصحاب المنهج النبوي: هو المنهج المفيد الموصل إلى رضا الله عز وجل، الذي يتحقق به صلاح القلوب، وصلاح الأحوال للعباد.

بينما منهج هؤلاء الصابئية الفلاسفة أهل الكلام منهج منحرف في العقيدة، ومنحرف في العبادة ومخالف لسبيل الأنبياء وسننهم.

دعوة الأنبياء إلى عبادة الله بالقلب واللسان

قال رحمه الله تعالى: [ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام دعوا الناس إلى عبادة الله أولاً بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته وذكره ].

هذه القاعدة الأولى، وهي قاعدة ذهبية ومعلومة بالضرورة وبدهية جداً، وهي: أن الأنبياء عليهم السلام بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعوا الناس إلى عبادة الله، وهؤلاء الفلاسفة والمتكلمون ما دعوا الناس إلا إلى أمور نظرية فلسفية معقدة لا أصل لها، وتنفر منها الفطرة والعقل السليم، غاية دعوتهم أن يؤمن الناس بوجود الله، والناس ليس عندهم مشكلة في هذا الأمر، وأن الله واحد، وأن الله هو الرب، وليس عند الناس مشكلة في هذا الأمر.

ولا يعرجون على توحيد العبادة، ومن شاء فليقرأ كتبهم؛ حتى لا يظن أنا نفتري أو نفتئت عليهم، فمن شاء فليقرأ أي نموذج من نماذج كتب المتكلمين خاصة، فإنه سيجد فيها إعراضاً عن دعوة الأنبياء إلى عبادة الله، ولا يعرج على هذه المسألة إلا عندما يتكلم عما يسميه التصوف، أو عن أمور عارضة ليست هي الأصل عنده، أما ما يرى أنه واجب فإنما هو توحيد الربوبية فقط، ونحن نقرُّ بأن هذا واجب، لكن نعلم أن الله عز وجل كفانا أمرهم بفطر العقول على ذلك والنفوس والقلوب، وبتقرير ذلك أيضاً في الكتاب والسنة دون عناء ولا كلفة.

ثم قال: (أولاً بالقلب) يعني: عبادة الله بإصلاح القلوب، وإصلاح الألسن الذي ينتج عنه صلاح الأعمال كما سيأتي.

أصل علم الأنبياء وعملهم

قال رحمه الله تعالى: [ فأصل علمهم وعملهم: هو العلم بالله، والعمل لله، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع في موضعين أو ثلاثة ].

هذه القاعدة الثانية: أن أصل علم الأنبياء وعملهم:

أولاً: العلم بالله عز وجل، وذلك بمعرفة أسمائه وصفاته وحقوقه، وما يجب له من المحبة والتعظيم والعبادة، والسعي إلى رضاه عز وجل.. إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه العباد.

ثانياً: العمل بذلك لله، وذلك بالتوجه بالعبادات والفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم لله وحده لا شريك له.

أصل العلم الإلهي فطري ضروري

قال رحمه الله تعالى: [ وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي؛ كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي؛ كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة، وبسط هذا له موضع غير هذا ].

القاعدة الثالثة: قوله: (وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري)، يعني: العلم بالله وكماله على جهة الإجمال فطري وضروري، لا يقصد بذلك على جهة التفصيل، ولا يقصد بذلك تفصيل الشرائع؛ فإن هذا أمر لا يستغني فيه الإنسان عن الشرع والوحي، لكن يقصد الأصل الذي تكلم فيه أهل الكلام، الأصل الذي ضيعوا أوقاتهم وأشغلوا أنفسهم، وأشغلوا المسلمين عن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمناظرات وجدل وشقاق، مع أنه أمر إلهي وفطري وضروري، أي: العلم بالله وكماله، ولا يقصد بذلك التشريع التفصيلي، أما التفصيل فلابد فيه من الوحي.

فتوحيد الربوبية أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي، كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ هذه بدهيات، يعني: أن ما يسعون إليه ويتعبون أنفسهم فيه هو مثل هذه القضايا الرياضية والعلمية المحسوسة، التي لا يمكن أن يتنازع عليها العقلاء، ورغم أن هذه بدهيات، إلا أنه مع ذلك لا يفطن لها كثير من الناس؛ لأنه ليس بحاجة إليها.

كذلك البدهية في توحيد الربوبية هي فطرية، قد لا يستحضرها المسلم دائماً عند عبادته؛ لأنها بدهية، مثلما نكون في النهار والشمس طالعة فلا نحتاج أن يأتي شخص ويرفع صوته ويعلن وينذر ويقول لنا: الشمس طالعة؛ لأننا لا نصل بذلك إلى نتيجة، بل بالعكس قد يكون عند هذا الشخص اضطراب بسبب هذا الإعلان.

فإذاً: هذه العلوم الضرورية فيما يتعلق بالله عز وجل أمر مركوز في الفطر، لا حاجة إلى أن نذكر الناس به بهذه الطريقة الفلسفية التي سلكها المتكلمون، والتي تنفر منها الطباع والعقول السليمة.

العلم بالله وذكره والعمل له أصل كل الأمور وجامعها

قال رحمه الله تعالى: [ وإنما الغرض هنا أن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات، فهو الأصل الجامع؛ فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه.

وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، وإذا حصل لهم ذلك؛ فما سواه إما فضل نافع، وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر ].

أي: أن الله عز وجل هو الذي خلق الكائنات، وهو الذي تصير إليه الحادثات، والعلم بالله عز وجل على الوجه الشرعي هو الأصل الجامع، العلم بالله بأسمائه وصفاته وأفعاله وبحقه عز وجل، والعلم بما يجب له من العبادة والإذعان والطاعة، هذا هو الأصل الجامع، وهو أصل كل علم، ثم فرع هذا الأصل وأنه ينقسم إلى علم وعمل من ناحية، ومن ناحية أخرى: أنه هو العلم الفاضل، وغيره مفضول، أو فضلة: إما نافع وهو العلوم الدنيوية التي تصلح بها أحوال الناس، وإما غير نافعة وهي العلوم التي لا تؤدي مصلحة للعباد في دنياهم، وليست من مطالب دينهم؛ مثل ما يشتغل به علماء الكلام من الأمور البدهية الفطرية في تحقيق الربوبية، والمبالغة في ذلك من فضول العلم؛ لأنه مضر للخلق، والذي لا يضر منه لا ينفع.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم من العلم به ].

يعني: من العلم بالله عز وجل وحقوقه وما يجب له تتشعب أنواع العلوم الأخرى.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والإيمان، وإما في السلامة عن الجهل والكفر.

وبهذا جاءت النصوص الإلهية في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن -وهو المقر بربه علماً وعملاً- بالحي، والبصير، والسميع، والنور، والظل.

وضرب مثل الكافر بالميت، والأعمى، والأصم، والظلمة، والحرور.

وقالوا في الوسواس الخناس: هو الذي إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس.

فتبين بذلك أن ذكر الله أصل لدفع الوسواس، الذي هو مبدأ كل كفر وجهل وفسق وظلم ].

المقصود بالوسواس هنا: كل عمل الشيطان، الوسواس بمفهومه الشامل، لا يظن أن الوسواس هو وسواس الطهارة أو العبادة، لا، هذا جزء من الوسواس، وليس هو الوسواس الأخطر، إنما الوسواس الأخطر هو ما يتعلق بالعقيدة أولاً، ومن الوساوس تلك الأوهام والتخرصات التي أحدثها الفلاسفة والمتكلمون، وأدخلوها على المسلمين وصاروا يتكلمون فيها على أنها هي المنهج الأمثل لتقرير التوحيد، وجاءوا بقضايا العرض، والجوهر، والمباينة، والمفاصلة، وعرضوا أسماء الله عز وجل وأفعاله على مدارك عقولهم القاصرة، وعرضوا الغيبيات على مدارك عقولهم القاصرة؛ كل هؤلاء أصحاب وسواس، ليست وساوس العبادات التي تصرف الناس عن بعض أحكام الطهارة.. ونحوها، بل وسواس الشبهات، وسواس العقائد الذي يصرف الناس إما عن الدين بالكلية، وإما عن السنة إلى البدع، وهذا ما أراده الشيخ.

وكأنه يشير إشارة واضحة إلى أن كل مناهج الفلاسفة والمتكلمين التي خرجوا بها عن مقتضى السنة كلها من باب الوسواس، وهذا مما لا شك فيه.

قال رحمه الله تعالى: [ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام دعوا الناس إلى عبادة الله أولاً بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته وذكره ].

هذه القاعدة الأولى، وهي قاعدة ذهبية ومعلومة بالضرورة وبدهية جداً، وهي: أن الأنبياء عليهم السلام بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعوا الناس إلى عبادة الله، وهؤلاء الفلاسفة والمتكلمون ما دعوا الناس إلا إلى أمور نظرية فلسفية معقدة لا أصل لها، وتنفر منها الفطرة والعقل السليم، غاية دعوتهم أن يؤمن الناس بوجود الله، والناس ليس عندهم مشكلة في هذا الأمر، وأن الله واحد، وأن الله هو الرب، وليس عند الناس مشكلة في هذا الأمر.

ولا يعرجون على توحيد العبادة، ومن شاء فليقرأ كتبهم؛ حتى لا يظن أنا نفتري أو نفتئت عليهم، فمن شاء فليقرأ أي نموذج من نماذج كتب المتكلمين خاصة، فإنه سيجد فيها إعراضاً عن دعوة الأنبياء إلى عبادة الله، ولا يعرج على هذه المسألة إلا عندما يتكلم عما يسميه التصوف، أو عن أمور عارضة ليست هي الأصل عنده، أما ما يرى أنه واجب فإنما هو توحيد الربوبية فقط، ونحن نقرُّ بأن هذا واجب، لكن نعلم أن الله عز وجل كفانا أمرهم بفطر العقول على ذلك والنفوس والقلوب، وبتقرير ذلك أيضاً في الكتاب والسنة دون عناء ولا كلفة.

ثم قال: (أولاً بالقلب) يعني: عبادة الله بإصلاح القلوب، وإصلاح الألسن الذي ينتج عنه صلاح الأعمال كما سيأتي.

قال رحمه الله تعالى: [ فأصل علمهم وعملهم: هو العلم بالله، والعمل لله، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع في موضعين أو ثلاثة ].

هذه القاعدة الثانية: أن أصل علم الأنبياء وعملهم:

أولاً: العلم بالله عز وجل، وذلك بمعرفة أسمائه وصفاته وحقوقه، وما يجب له من المحبة والتعظيم والعبادة، والسعي إلى رضاه عز وجل.. إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه العباد.

ثانياً: العمل بذلك لله، وذلك بالتوجه بالعبادات والفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم لله وحده لا شريك له.

قال رحمه الله تعالى: [ وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي؛ كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي؛ كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة، وبسط هذا له موضع غير هذا ].

القاعدة الثالثة: قوله: (وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري)، يعني: العلم بالله وكماله على جهة الإجمال فطري وضروري، لا يقصد بذلك على جهة التفصيل، ولا يقصد بذلك تفصيل الشرائع؛ فإن هذا أمر لا يستغني فيه الإنسان عن الشرع والوحي، لكن يقصد الأصل الذي تكلم فيه أهل الكلام، الأصل الذي ضيعوا أوقاتهم وأشغلوا أنفسهم، وأشغلوا المسلمين عن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمناظرات وجدل وشقاق، مع أنه أمر إلهي وفطري وضروري، أي: العلم بالله وكماله، ولا يقصد بذلك التشريع التفصيلي، أما التفصيل فلابد فيه من الوحي.

فتوحيد الربوبية أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي، كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ هذه بدهيات، يعني: أن ما يسعون إليه ويتعبون أنفسهم فيه هو مثل هذه القضايا الرياضية والعلمية المحسوسة، التي لا يمكن أن يتنازع عليها العقلاء، ورغم أن هذه بدهيات، إلا أنه مع ذلك لا يفطن لها كثير من الناس؛ لأنه ليس بحاجة إليها.

كذلك البدهية في توحيد الربوبية هي فطرية، قد لا يستحضرها المسلم دائماً عند عبادته؛ لأنها بدهية، مثلما نكون في النهار والشمس طالعة فلا نحتاج أن يأتي شخص ويرفع صوته ويعلن وينذر ويقول لنا: الشمس طالعة؛ لأننا لا نصل بذلك إلى نتيجة، بل بالعكس قد يكون عند هذا الشخص اضطراب بسبب هذا الإعلان.

فإذاً: هذه العلوم الضرورية فيما يتعلق بالله عز وجل أمر مركوز في الفطر، لا حاجة إلى أن نذكر الناس به بهذه الطريقة الفلسفية التي سلكها المتكلمون، والتي تنفر منها الطباع والعقول السليمة.