شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [20]


الحلقة مفرغة

ذكر الشيخ فيما مضى قصة نسبت إلى مالك ، وذكر فيها شيئاً من التوسل البدعي الذي لا يمكن أن يكون من مالك رضي الله عنه حينما قال أبو جعفر كما يزعمون: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فزعموا أن مالكاً قال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام يوم القيامة! بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله ثم تلا الآية..

هذه القصة مكذوبة، والشيخ في صدد تفنيدها ونفيها عن مالك وإثبات أنه ورد عن مالك وصح عنه ما يناقضها.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:

أحدها: قوله: (أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو؟ فقال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له.

هذا قول أكثر العلماء كـمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.

وعند أصحاب أبي حنيفة ، لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضاً.

ثم منهم من قال: يجعل الحجرة عن يساره، وقد رواه ابن وهب عن مالك ويسلّم عليه ].

مبالغة الأئمة في سد ذريعة التوسل البدعي

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه ].

وانظر كيف بالغ بعض أئمة المذاهب رحمهم الله، وأظنه يقصد الأحناف الأولين، أما المتأخرون فقد وقعوا في أشد من هذه البدع، مع أن هذا لا يزال يوجد في كتبهم.

قال: منهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، يعني: يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه في هذه الحال يكون مستقبل القبلة، ويكون القبر خلفه، وهذه مبالغة في سد الذريعة، مع أن عموم السلف يرون أن الإنسان يسلم على الحالة التي هو عليها، أي أنه إذا مر بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم سلّم بدون أن يتعمد أن يكون القبر هنا أو هناك، إلا أن الأولى ألا يكون القبر أمامه والقبلة أمامه حين السلام؛ لأن هذا يشتبه بمن يتوجه للقبر، أما ما عدا ذلك فيسلم على هيئة يكون فيها ماشياً فلا يقف طويلاً أو يستوقف للدعاء، لأن هذا ليس موطناً للدعاء لأن فيه ذريعة لأهل البدع بأن يدعوا غير الله عز وجل أو يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه وهو ماش.

فالذي يهمنا هنا أن بعض هؤلاء الأئمة قال: المشروع أن يستدبر الحجرة ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويكون مستقبل القبلة، وهذه مبالغة منهم في سد الذريعة، وليتهم اطّلعوا على أحوال أتباعهم في هذه العصور ليروا ماذا حدث؟

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر.

لذلك قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي ].

لأن الدعاء مشروع في كل مكان، وخاصة في وقتنا هذا لا يشرع لمن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أن يقف إلا وقفة بقدر السلام؛ لأنه أحياناً قد لا يتأتى لك السلام مع الزحام، بل تقف بقدر أداء السلام الشرعي ثم تمضي، وإذا سلّمت ولم تقف فهذا هو الأولى سداً للذريعة، لأن أهل البدع الآن صاروا يظنون كل من وقف أنه يدعو بتوسلاتهم البدعية، وأنه لم يقف مسلِّماً مقتصراً على المشروع.

كيفية تسليم السلف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته والرد على المبتدعة في ذلك

قال رحمه الله تعالى: [ وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي، ثم ينصرف.

ورئي واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه.

قال: وعن ابن أبي قسيط والقعنبي ، كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون.

قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه -يعني ابن عمر - كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر .

وعند ابن القاسم والقعنبي : ويدعو لـأبي بكر وعمر .

قال مالك في رواية ابن وهب : يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

وقال في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر .

قال أبو الوليد الباجي : وعندي أن يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولـأبي بكر وعمر بلفظ السلام؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف.

وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب ، قال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر.

فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره، وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره، قال: وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء، وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو له ولـأبي بكر وعمر .

قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر، فيسلّمون ويدعون ساعة، فقال مالك : لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويُكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده ].

وفي هذا رد على كثير من أهل البدع الذين يزعمون أن السلف تركوا الناس على اجتهاداتهم، وأن في التوسل البدعي سعة، وأن هناك من يفعل هذه الأمور والسلف يسكتون عنه، وإن لم يفعلوا فإنهم لم ينكروا، ففي مثل هذا الكلام رد عليهم، فإن الإمام مالكاً رحمه الله نبّه على مثل هذه الظواهر التي فيها مبالغة أو فيها توسلات بدعية أو فيها فعل ما لم يُشرع، فإنه لم يسكت، وبيّن أن هذا لم يكن من عمل فقهاء البلد، ولذلك حذّر وقال: لا يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

التفريق بين أهل المدينة وغيرهم في إتيان القبر النبوي

قال رحمه الله تعالى: [ قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلموا، قال: ولذلك رأي.

قال أبو الوليد الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم ].

هذه مسألة الخلاف فيها كبير، وهو أن بعض الناس قد يقصد بالسفر إلى المدينة زيارة القبر، أو السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة خلافية لكن الراجح فيها قول عامة أئمة السلف بأنه لا يجوز شد الرحال إلا من أجل المسجد لا من أجل القبر، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن كثيراً من الناس قد يعمل بالسنة، فيشد الرحال للمدينة من أجل المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فالمسلم إذا شُرع له أن يرحل إلى مسجد المدينة فلا أظنه يستطيع أن يخلي قلبه من أن يكون قصده إذا وصل إلى المسجد أن يذهب ويسلّم، هذه مقاصد يصعب نزعها، لكن يبقى أصل شد الرحل المشروع يكون إلى المسجد، ويكون في نية المسلم أنه إذا وصل المسجد يسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، ويسلّم على من يحق السلام لهم، ويذهب أيضاً إلى الزيارات المشروعة مثل زيارة قباء، وزيارة المقابر التي تشرع زيارتها.. فهذه المقاصد تتداخل، فربما يكون قصد أبي الوليد الباجي هذا، أو يكون قصده فعلاً الرأي المرجوح من أنه يجوز شد الرحال لغرض السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، هذه مسألة خلافية في تفسير الحديث، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) بعض أهل العلم المعتبرين تأولها تأولاً يخالف ما عليه أئمة السلف.

بيان ما يقصد بإتيان القبر النبوي وسد ذرائع البدع

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً).

قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر: لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلاً.

وفي العتبية -يعني: عن مالك - يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف، قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت.

فهذا قول مالك وأصحابه، وما نقلوه عن الصحابة يبيّن أنهم لم يكونوا يقصدون القبر إلا للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له، وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي صلى الله عليه وسلم.

فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه لنفسه؟

وأما دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لو كان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟

فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: استقبله واستشفع به، كذب على مالك ، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء، إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يا رسول الله اشفع لي أو ادع لي، أو يشتكي إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلّمون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبلّغ سلام البعيد ].

نقف عند هذا؛ لأنه ورد في هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله يبلّغه سلام البعيد والقريب، وهذا سيأتي ذكره فيما بعد، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه ].

وانظر كيف بالغ بعض أئمة المذاهب رحمهم الله، وأظنه يقصد الأحناف الأولين، أما المتأخرون فقد وقعوا في أشد من هذه البدع، مع أن هذا لا يزال يوجد في كتبهم.

قال: منهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، يعني: يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه في هذه الحال يكون مستقبل القبلة، ويكون القبر خلفه، وهذه مبالغة في سد الذريعة، مع أن عموم السلف يرون أن الإنسان يسلم على الحالة التي هو عليها، أي أنه إذا مر بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم سلّم بدون أن يتعمد أن يكون القبر هنا أو هناك، إلا أن الأولى ألا يكون القبر أمامه والقبلة أمامه حين السلام؛ لأن هذا يشتبه بمن يتوجه للقبر، أما ما عدا ذلك فيسلم على هيئة يكون فيها ماشياً فلا يقف طويلاً أو يستوقف للدعاء، لأن هذا ليس موطناً للدعاء لأن فيه ذريعة لأهل البدع بأن يدعوا غير الله عز وجل أو يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه وهو ماش.

فالذي يهمنا هنا أن بعض هؤلاء الأئمة قال: المشروع أن يستدبر الحجرة ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويكون مستقبل القبلة، وهذه مبالغة منهم في سد الذريعة، وليتهم اطّلعوا على أحوال أتباعهم في هذه العصور ليروا ماذا حدث؟

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر.

لذلك قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي ].

لأن الدعاء مشروع في كل مكان، وخاصة في وقتنا هذا لا يشرع لمن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أن يقف إلا وقفة بقدر السلام؛ لأنه أحياناً قد لا يتأتى لك السلام مع الزحام، بل تقف بقدر أداء السلام الشرعي ثم تمضي، وإذا سلّمت ولم تقف فهذا هو الأولى سداً للذريعة، لأن أهل البدع الآن صاروا يظنون كل من وقف أنه يدعو بتوسلاتهم البدعية، وأنه لم يقف مسلِّماً مقتصراً على المشروع.