غنى الخالق وفقر المخلوق


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد الذي حمل الرسالة وأداها، وجاهد في الله حق الجهاد، ولم يمت حتى أقر الله عز وجل عينه بنصرة هذا الدين، وبوجود الرجال الأكفاء الذين يحملون من بعده مشعل الحقيقة والإيمان.

أيها الإخوة! نحاول في هذه الكلمة التي أرجو أن تكون قصيرة ومفيدة، أن نلقى فيها الضوء على أنفسنا لنعرف بالضبط من نحن؟ ونلقى فيها الضوء على حقيقة العبودية التي يجب أن ندين فيها لله -جل وعلا-. وسأحاول أثناء الإلقاء أن أوجه إليكم بعض الأسئلة رغبة في حضوركم وشد انتباهكم إلى موضوع هذه الكلمة.

وسيكون موضوع الحديث هو: (فقر الإنسان، وغنى الخالق سبحانه وتعالى) وإننا نجد الله عز وجل يخاطبنا باسم الفقراء، يسمينا الفقراء فيقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] إذاً فحتى حين يملك الإنسان الأموال الطائلة ويتقلب في النعيم، ويملك الزوجات والأولاد، بل حتى حين يتربع الإنسان على عرش الحكم فيكون ملكاً، أو امبراطوراً، أو رئيساً، أو غير ذلك، فإنه لا ينفك عنه هذا الوصف أنه من الفقراء، وقد تعلم الناس ودرسوا على أن الفقر يطلق على من لا يملك المال، وهذا معنى صحيح بلا شك كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].

ولكن هذا المعنى هو جزء من المعنى العام لهذه الكلمة، أما الفقر الحقيقي الذي يطلق على كل إنسان ولا يمكن أن ينفك عنه، فهو فقر الإنسان وحاجته إلى الله عز وجل وبالطبع أنه لا يمكن أن ندرك نحن حقيقة الفقر الذي ركبه الله عز وجل في نفوسنا، إلا إذا قارنا بين ضعفنا وقوة خالقنا.

أسماء الله ليست محصورة بعدد

انظروا أولاً إلى أسماء الله عز وجل وصفاته وقدروها حق قدرها، انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} ولو تأملنا هذه الأسماء التسعة والتسعين، لوجدنا أنها أسماء تدل على أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال والجلال والجمال والعظمة والكبرياء والغنى، فالله عز وجل غير محتاج إلى أحد من خلقه أو إلى شيء من خلقه ألبتة.

والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً} ليس قصر أسماء الله على التسعة والتسعين، ولكن يبين صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً ميزتها أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا فإن لله عز وجل أسماء وصفات لا يعلمها خلقه. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنـزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} إذاً هناك أسماء لله عز وجل استأثر الله عز وجل بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فليست أسماء الله مقصورة على تسعة وتسعين اسماً، إنما هناك تسعٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.

معنى قوله: ( من أحصاها )

وأريد أن أقف وقفة سريعة عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها} ما المقصود: بإحصاء هذه الأسماء التسعة والتسعين؟ نقول: إن الإحصاء يشمل عدة أشياء:

الأمر الأول: هو معرفتها وعدها، بأن يستطيع الإنسان أن يعرف هذه الأسماء التسعة والتسعين، فيقول مثلاً: هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى أن يستغرق تسعة وتسعين اسماً، بشرط أن تكون هذه الأسماء التي عدها من الأسماء التي ثبتت بالكتاب والسنة، أما الأسماء التي يتداولها الناس أو توجد في بعض الكتب دون أن يوجد لها دليل صحيح فلا تعد.

وبالمناسبة قد يسأل البعض ما هي الكتب التي عدت وأحصت أسماء الله عز وجل وصفاته؟ فأقول: هي كثيرة جداً ولكن من أفضلها كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي، وكتاب (التوحيد) للإمام الحافظ ابن مندة، وكتاب(شأن الدعاء) للإمام أبي سليمان الخطابي، وقد ألف عدد من العلماء مؤلفات خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، كـالزجاج، والرازي، وغيرهما.

فالأمر الأول هو أن تستطيع أن تعد الأسماء واحداً واحداً، وتحصيها إحصاء بالأسماء وبالعدد، لكن هذا بطبيعة الحال لا يكفي! فكم من إنسان يردد هذه الأسماء بكرة وعشياً، ولا نستطيع أن نقول: إنه ينال الوعد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دخول الجنة، فلابد أن يترتب على معرفة الأسماء معرفة معنى كل اسم منها.

الأمر الثاني: هو معرفة معنى كل اسم من هذه الأسماء.

فمثلاً: نحن قلنا: من أسماء الله: السلام، ربما لو سألنا معظم الإخوة الحاضرين ما معنى السلام؟ لم يعرف.

ما معنى المؤمن؟ أكثرنا لا يعرف، أيضاً المتكبر، ما معنى المتكبر؟ أكثرنا لا يعرف، وهكذا..

فالأمر الثاني: هو المراد أو مدلول كل اسم من هذه الأسماء الحسنى.

الأمر الثالث: هو الإيمان بهذه الأسماء، وعدم تأويلها أو تحريفها عن معانيها، أو تعطيل الله عز وجل عن الصفات التي تدل عليها.

الأمر الرابع: هو ثمرة هذه الأشياء كلها وهو: التأثر بهذه الأسماء، بحيث لا تكون هذه الأسماء مجرد كلمات في اللسان، أو حتى معاني في العقل، بل تتحول إلى مشاعر في القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} فمن آمن بالله وأسماء الله كان هذا الأمر خير رادع وزاجر له عن معصية الله، فكيف تعصي الله أيها الإنسان وأنت تعرف أن من أسمائه الرقيب المطلع على الأسرار والخفيات؟ وهكذا بقية الأسماء..

فمن آمن بهذه الأسماء وأحصاها حق إحصائها، كانت الأسماء خير رادع وزاجر له عن المعصية، والإيمان بهذه الأسماء يوجب لك معرفة عظمة الله، وكماله، واستغنائه عز وجل استغناءً كاملاً عن كل أحد، وعن كل شيء، وبالمقابل قارن نفسك، ستجد نفسك مخلوقاً ضعيفاً مفتقراً إلى الله عز وجل افتقاراً كلياً في كل لحظة، وفي كل شأن.

انظروا أولاً إلى أسماء الله عز وجل وصفاته وقدروها حق قدرها، انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} ولو تأملنا هذه الأسماء التسعة والتسعين، لوجدنا أنها أسماء تدل على أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال والجلال والجمال والعظمة والكبرياء والغنى، فالله عز وجل غير محتاج إلى أحد من خلقه أو إلى شيء من خلقه ألبتة.

والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً} ليس قصر أسماء الله على التسعة والتسعين، ولكن يبين صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً ميزتها أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا فإن لله عز وجل أسماء وصفات لا يعلمها خلقه. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنـزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} إذاً هناك أسماء لله عز وجل استأثر الله عز وجل بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فليست أسماء الله مقصورة على تسعة وتسعين اسماً، إنما هناك تسعٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.

وأريد أن أقف وقفة سريعة عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها} ما المقصود: بإحصاء هذه الأسماء التسعة والتسعين؟ نقول: إن الإحصاء يشمل عدة أشياء:

الأمر الأول: هو معرفتها وعدها، بأن يستطيع الإنسان أن يعرف هذه الأسماء التسعة والتسعين، فيقول مثلاً: هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى أن يستغرق تسعة وتسعين اسماً، بشرط أن تكون هذه الأسماء التي عدها من الأسماء التي ثبتت بالكتاب والسنة، أما الأسماء التي يتداولها الناس أو توجد في بعض الكتب دون أن يوجد لها دليل صحيح فلا تعد.

وبالمناسبة قد يسأل البعض ما هي الكتب التي عدت وأحصت أسماء الله عز وجل وصفاته؟ فأقول: هي كثيرة جداً ولكن من أفضلها كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي، وكتاب (التوحيد) للإمام الحافظ ابن مندة، وكتاب(شأن الدعاء) للإمام أبي سليمان الخطابي، وقد ألف عدد من العلماء مؤلفات خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، كـالزجاج، والرازي، وغيرهما.

فالأمر الأول هو أن تستطيع أن تعد الأسماء واحداً واحداً، وتحصيها إحصاء بالأسماء وبالعدد، لكن هذا بطبيعة الحال لا يكفي! فكم من إنسان يردد هذه الأسماء بكرة وعشياً، ولا نستطيع أن نقول: إنه ينال الوعد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دخول الجنة، فلابد أن يترتب على معرفة الأسماء معرفة معنى كل اسم منها.

الأمر الثاني: هو معرفة معنى كل اسم من هذه الأسماء.

فمثلاً: نحن قلنا: من أسماء الله: السلام، ربما لو سألنا معظم الإخوة الحاضرين ما معنى السلام؟ لم يعرف.

ما معنى المؤمن؟ أكثرنا لا يعرف، أيضاً المتكبر، ما معنى المتكبر؟ أكثرنا لا يعرف، وهكذا..

فالأمر الثاني: هو المراد أو مدلول كل اسم من هذه الأسماء الحسنى.

الأمر الثالث: هو الإيمان بهذه الأسماء، وعدم تأويلها أو تحريفها عن معانيها، أو تعطيل الله عز وجل عن الصفات التي تدل عليها.

الأمر الرابع: هو ثمرة هذه الأشياء كلها وهو: التأثر بهذه الأسماء، بحيث لا تكون هذه الأسماء مجرد كلمات في اللسان، أو حتى معاني في العقل، بل تتحول إلى مشاعر في القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} فمن آمن بالله وأسماء الله كان هذا الأمر خير رادع وزاجر له عن معصية الله، فكيف تعصي الله أيها الإنسان وأنت تعرف أن من أسمائه الرقيب المطلع على الأسرار والخفيات؟ وهكذا بقية الأسماء..

فمن آمن بهذه الأسماء وأحصاها حق إحصائها، كانت الأسماء خير رادع وزاجر له عن المعصية، والإيمان بهذه الأسماء يوجب لك معرفة عظمة الله، وكماله، واستغنائه عز وجل استغناءً كاملاً عن كل أحد، وعن كل شيء، وبالمقابل قارن نفسك، ستجد نفسك مخلوقاً ضعيفاً مفتقراً إلى الله عز وجل افتقاراً كلياً في كل لحظة، وفي كل شأن.

دعونا نسير مع الإنسان مرحلة مرحلة، وخطوة خطوة في مراحل حياته، ننظر إلى أنفسنا ونتأمل كل واحد منا، بل كل واحد من الخلق، حتى الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كان الواحد منا يوماً من الأيام جنيناً في بطن أمه مفتقراً إلى كل شيء، إلى الطعام، وإلى الشراب الذي يأتيه عن طريق الأم، وإلى الهواء، إلى كل شيء، ثم يولد ضعيفاً صغيراً مفتقراً إذا هبت عليه الريح أزعجته، ومعرض للموت والفناء لأدنى سبب من الأسباب، ويظل غير قادر على أن يعيش بنفسه، ولا أن يشرب بنفسه، ولا أن يأكل بنفسه، ولا أن يقعد.. وهكذا.

وسبحان الله! يبدأ الإنسان يتدرج شيئاً فشيئاً، خطوات بعضها يتلو بعض، ثم يكبر، ويوماً بعد يوم حتى يصبح قادراً على القعود، ثم قادراً على الحبو، ثم على الوقوف، ثم على المشي، وما يزال يترعرع ويكبر، والذين من حوله يلاحظون تطوره شيئاً فشيئاً، ويستبشرون ويفرحون بكل مرحلة جديدة ينتقل إليها، حتى يكبر الإنسان ويبلغ مبلغ الشباب، -فيا سبحان الله!- حينئذٍ تجد هذا الإنسان قد نسي المراحل التي مر بها، وشعر بنوع من الاستغناء والكمال، وغفل عن الطفولة التي كانت مرحلة من مراحل الضعف التي مر بها، يشعر بكمال واستغناء، بل ربما يصل به الحال إلى الشعور بالكبرياء والغطرسة، ولو التفت الإنسان التفاتة سريعة إلى الوراء، وتذكر أنه كان في المهد يوماً من الأيام، وأنه كان بحالة معروفة من العجز في صغره، والحاجة الكاملة إلى غيره؛ لأدرك أنه لا يليق به وبمثله أن يتكبر، ويتغطرس، ويستعلي، بل يدرك أنه مخلوق ضعيف ومحتاج ومفتقر إلى غيره.

الافتقار حتى في مرحلة الشباب والقوة

والإنسان في مرحلة الشباب، وهي: مرحلة القوة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54] حتى في هذه المرحلة، يجب على الإنسان أن يدرك أنه وإن كان في مرحلة قوة إلا أنه مفتقر ومحتاج إلى الله عز وجل، وذلك في عدة أشياء:

الأمر الأول: الذي يجعله مفتقراً إلى الله: أن هذه المرحلة ليست دائمة، حتى لو استمرت وقطعها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكبر والشيخوخة، ولذلك قال الله عز وجل: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54].

الأمر الثاني: أن كثيراً من الناس حتى في مرحلة الشباب يقدر الله ألا يستكملوا هذه المرحلة، فيصيبهم الله عز وجل بالأمراض وغيرها من الأشياء التي تقعدهم عن العمل والحركة والنشاط؛ بل قد يتعدى ذلك إلى الوصول إلى مرحلة الموت.

الإنسان أمام الموت ضعيف جداًًً

إذاً أيها الإنسان! مادمت مدركاً أن وراءك الموت إذا سلمت من الآفات والأمراض، والموت سر من أسرار الله عز وجل في هذا الكون لا يستطيع أحد أن يدركه أو يتخلص منه، فالصغير، والكبير، والملك، والمملوك، والذكر، والأنثى، والغني، والفقير، كلهم أمام هذا القدر يقفون مكتوفي الأيدي.

ومن حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت في هذه الحياة، أن يتذكر الإنسان دائماً أنه ضعيف، وقد يتجبر الإنسان، ويبطر، ويستعلي، فإذا تذكر أنه يوماً من الأيام أنه على رغم كل هذا سوف يقع طريح الفراش مكبلاً عاجزاً عن النطق، عاجزاً عن الحركة، فإن هذا يطاطئ من غرور الإنسان وكبريائه، ولذلك ثبت عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- أنه كان يقول: [[والله إني لأعجب من الناس العقلاء الذين يشاهدون الموت، أويعاينون الموت ويحتضرون، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت!]]. يتعجب هذا الصحابي الجليل من الناس الذين احتضروا وعاينوا الموت، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت! ويخبرون ما حقيقة هذا الموت، فلما صار هذا الصحابي الجليل محتضراً، كانت له حالة من الأحوال رواها لنا مسلم في صحيحه، أنه لما حضره الموت بكى رضي الله عنه وأرضاه وحول وجهه إلى الجدار، وكان عنده ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا ابتي لم تبكي؟! ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.. وكذا؟! وظل يذكره بالفضائل التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليه أبوه عمرو بن العاص وقال له: والله إني كنت في حياتي على أطباق ثلاث -يقول: مررت في حياتي بثلاث مراحل-:

أولاً: لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنت من أشد أعدائه، حتى لو استطعت أن أقتله قتلته، ولم يكن أحد أبغض إلي منه في ذلك الوقت، فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، قال: { ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمددت يدي إليه، وقلت له: ابسط يدك أبايعك يا رسول الله! قال: فبسط يده فلما بسط يده إليّ قبضت يدي، فقال: "مالك يا عمرو؟" قلت أريد أن أشترط، قال: " تشترط ماذا؟" قلت: أشترط أن يغفر الله لي ما أسلفت، قال لي صلى الله عليه وسلم:يا عمرو بايع أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الهجرة تهدم ما قبلها" قال: فبسطت يدي فبايعته، فلا والله لم يكن أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعظم في عيني منه، حتى أني لم أكن أستطيع أن أملأ عيني منه إجلالاً له} أي: لم يستطع أن يشد النظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاماً وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.

الحالة الثالثة هي: أنه تولى مناصب لا يدري ما حاله فيها.

يقول: بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دخلنا في أمور من أمور طلب الإمارة وغيرها، لا أدري ما حالي فيها، يقول: فإذا مت ووضعتموني في قبري فشنوا عليّ التراب شناً، ثم انتظروا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أنظر ماذا أراجع به رسل ربي.

وهذا الحديث كما ذكرت لكم رواه مسلم، فلما صار عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- في هذه الحالة وهي: حالة الاحتضار، سأله ابنه عبد الله، فقال: يا أبتاه! لقد كنت في حال حياتك تقول: إنني أعجب من العقلاء الذين يحتضرون كيف لا يستطيعون أن يصفوا لنا الموت، فهل تستطيع يا أبتاه! أن تصف لنا الموت الآن؟! فماذا قال هذا الرجل البليغ الفصيح: قال: يا بني! أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأصف لك ما حالي، أحس أن جبل رضوى على عنقي، وجبل رضوى جبل ضخم بـالمدينة.

فيقول: إنني في حالة الموت الآن أحس أن هذا الجبل الضخم موضوع على رأسي، وأحس أن جوفي يشاك بالسلاح، يحس كأن السلاح يختلف في بطنه وجوفه، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ولكم أن تتصوروا حالة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهي حالة كل إنسان، بل حالة المؤمنين إذا احتضروا، كأن جبل رضوى على رأسه، وكأن الأسلحة مسددة إلى جوفه وصدره، وكأن روحه تخرج من ثقب إبرة! فهذا المصير كيف يلذ لنا، ويطيب لنا أن ننساه ونتجاهله، وتتغافل عن هذا المصير؟! لأننا نريد أن نتمتع بحياتنا، لكن هذا النسيان، وهذه الغفلة، لا يمكن أن تحقق الهدف الذي نرجوه، فمهما نسيناه فهو لا يمكن أن ينسانا، ولذلك قال الله عز وجل لنا: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].

وقال: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أي: يفر ويهرب، فكل واحد منا يكره الموت ويفر منه، بل وربما يستاء من سماع الحديث عنه، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، ولذلك أقول: إن من حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت إشعار الإنسان بالفقر الكلي إلى الله عز وجل، والحاجة الدائمة إليه سبحانه وتعالى، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت.

فالإنسان الذي يؤمن بالموت حق الإيمان هو الذي يكون في جميع الأحوال مستعداً له، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها الإيمان بالموت} ويعني ذلك الاستعداد له، وأن يكون الإنسان في كل أحواله كأنه ينتظر الموت، وهذا يجعل الإنسان شاعراً بفقره وحاجته وإعوازه إلى الله عز وجل.

والإنسان في مرحلة الشباب، وهي: مرحلة القوة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54] حتى في هذه المرحلة، يجب على الإنسان أن يدرك أنه وإن كان في مرحلة قوة إلا أنه مفتقر ومحتاج إلى الله عز وجل، وذلك في عدة أشياء:

الأمر الأول: الذي يجعله مفتقراً إلى الله: أن هذه المرحلة ليست دائمة، حتى لو استمرت وقطعها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكبر والشيخوخة، ولذلك قال الله عز وجل: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54].

الأمر الثاني: أن كثيراً من الناس حتى في مرحلة الشباب يقدر الله ألا يستكملوا هذه المرحلة، فيصيبهم الله عز وجل بالأمراض وغيرها من الأشياء التي تقعدهم عن العمل والحركة والنشاط؛ بل قد يتعدى ذلك إلى الوصول إلى مرحلة الموت.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع